موسوعة بطل العلقمي

BOOK_NAME : موسوعة بطل العلقمي

author : تأليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
publisher : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤلف

وبه نستعين ونحمده على ماألهمنا من حسن الثناء عليه وأكرمنا بمعرفته ومعرفة نبيه والحجج من آله الميامين، وبصرنا فأبصرنا طريق الحق فأتبعناه، وأوضح لنا منار الرشد فقصدناه، وأبان لنا صراط الهدى فسلكناه، فنحن نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا دائما متواصلا على اختصاصه إيانا بالتصديق بنبيه المصطفى، والاعتصام بكتابه وسنة رسوله الغراء، وموالاة آل رسوله الذين أفترض على الأمة طاعتهم، وأبان على لسان رسوله فرض ولايتهم، فأوجب لهم على البرية الأنقياد، وألزم كافة الأمة بالإذعان لموالاتهم والاعتصام بهم والتمسك بحبلهم حيث جعلهم بمنزلة باب حطة وكسفينة نوح من ركبها نجا ومن حاد عنها غرق.

ونصلي على نبيه محمد (ص) خاتم الأنبياء وخيرته وصفوته من جميع خلقه، أختصه برسالته، وبعثه إلى خلقه داعياً إليه بالحق والصدق بشيرا ونذيرا، فأوضح مناهج الحق، وأبان طرق الخير، ودل على سبل النجاة.

ونسلم كثيرا على الصالحين من أصحابه، وعلى أهل بيته الطاهرين الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وجعل أجر مودتهم عديل أجر رسالته إذ يقول في محكم كتابه: (قل لا أسئلكم عليه أجرا وإلا المودة في القربى) (1).

فلك الحمد ربنا إذ جعلتنا لهم تابعين وبإمامتهم معترفين:

آمين آمين لا أرضى بواحدة حتى أضيف اليها ألف آمينا

لم يزل يختلج في الفكر ويخطر في الذهن إفراد ترجمة هي أوسع مما ترجم به المترجمون «أبا الفضل العباس بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليهما

(1) الشورى: 23

(22)

السلام» ذاك البطل المجاهد، والسيد العظيم المتفادي عن الانقياد للمذلة إنفة وإبا، الناهض بالدفاع عن الدين والمجد معا غيرة وحماسا، الذي أحيا مآثر العروبة الصميمة، وأسس للدفاع عن القومية أسسا محكمة رصينة، وأعطى للمتدينين في الدفاع عن الدين دستورا صحيحا وقانونا واجب الاتباع، وعلم البشر كيفية الإخلاص للعظماء المحقين، ونهج لهم سبيل التفاني أمام أئمة الدين الراشدين، فرأينا من واجب حقه علينا وعلى عموم المسلمين وخاصة الاحرار المشجعين للشعوب على النهضات المحررة لها من الاستعباد، خدمته وخدمة كل بطل ضحى نفسه للشرف، وسمح بحياته لرفع ضغط الاستبداد الصارم، فأبرزنا تأدية لحقه ترجمة حافلة جامعة بين التاريخ والفلسفة والآداب والفقاهة تؤلف كتابا ضخما حاويا لجميع ما يحتاج إليه المؤرخ والفلسفي في ما يختص بهذه الفصول المدرجة فيه، وانتزعنا اسم الكتاب من ألقابه المختصة به، فسميناه «بطل العلقمي» ورتبناه على فصول ثلاثة يكون كل فصل منها جزءا من الكتاب:

الفصل الأول: في نسبه من جهة الآباء والأمهات والأعمام والأخوال والأخوة والأحفاد مع الاقتصاد في التراجم.

الفصل الثاني: في ولادة العباس «عليه السلام» ومقدار عمره وكناه وألقابه وصفاته النفسية والبدنية وما يناسب ذلك.

الفصل الثالث: في مقتله «عليه السلام» وفي ذكر وظائفه والخطط الحربية ومدفنه وكراماته والتعريف بكربلاء القديمة وما يلحق بذلك، باذلين في ذلك الوسع، مؤدين الجهد خدمة للدين والعلم، وقضاء حق واجب لهذا البطل العظيم الذي كانت له مرتبة سامية ومكانة مكينة عند الله ورسوله وأئمة أهل البيت الهداة «عليه السلام» لا من حيث ضحى نفسه في سبيل الدين خاصة وجعل حياته الثمينة ثمنا لشرع سيد المرسلين فقط، وفدى بروحه إمام الحق المفترضة طاعته على الخلق أجمعين فحسب، بل لما كان فيه من السجايا الحميدة والمزايا الفاضلة والخصال المحبوبة، فقد قال رسول الله (ص) لأشج عبد القيس : «فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة».

فإذا عرفت أن الخصلتين من خصال الكمال أوجبتا لهذا الصحابي محبة الله ورسوله، فما ظنك بمن جمع خصالا كثيرة من خصال الفضل وكلها توجب له محبة الله ورسوله (ص) مثل الزهد والعبادة والحلم والشجاعة والحزم والثبات والبصيرة في الدين والشهامة والسخاء وحسن الإيثار والوفاء والفصاحة والصباحة،

(23)

ولا شك أن الصباحة أول مراتب الخير كما سيأتي تفصيله، قال الشاعر العربي:

أنت شرط النبي إذ قال حقا أطلبوا الخير من صباح الوجوه

وقال آخر:

لقد قال الرسول مقال صدق وخير القول ما قال الرسول

إذا الحاجات فرت فأطلبوها الى من وجهه حسن جميل

وقد وسمه الله أيضا بسمات بدنية كمالية غير الصباحة كالقوة والبسطة في الجسم فإنه «عليه السلام» كان أيدا قويا مديد القامة، طوالا عظيم الهامة، وهي سمة السيادة اتفاقا عقلا ونقلا، وقد أمتن الله تعالى على من حباهم هذه الصفات وأختصهم بها فقال تعالى ممتنا على قبيلة عاد العربية الشهيرة بقوله: (وزادكم في الخلق بصطة)(1)، وقد أمتن على طالوت ملك بني إسرائيل بقوله: (وزاده بسطة في العلم والجسم)(2)، وقد أمتن على نبيه موسى بن عمران حاكيا ما أقتصه من خبرة عن ابنه العبد الصالح شعيب: (يأبت استئجره إن خير من استئجرت القوى الأمين)(3)، وقوله في أمين الوحي جبرائيل «عليه السلام»: (ذو مرة فاستوى)(4) فسروها بالقوة.

فالاجتماع هذه المزايا والخصال «لأبي الفضل العباس «عليه السلام» حاز شرفا شريفا وفخرا فاخرا، وفاق أكثر الشهداء وأمتاز على ما عدا أهل العصمة في الدنيا والآخرة، أما الدنيا فهذا مرقده الشريف وقبته المنيفة مقصد الزائرين، وملجأ ذوات الحاجات تقصده الناس من البلاد النائية والأقطار الشاسعة للزيارة وطلب الحوائج في السنة مرات عديدة، فإليه وإلى أبيه وأخيه تشد الرحال من الشرق الأقصى والأدنى: (الصين والهند والحجاز واليمن والافغان وإيران وتركستان وغيرها من الأقطار العربية والهندية والفارسية والتركية).

وأما في الآخرة فقد اخبرنا بمنزلته السامية ومرتبته العظيمة الإمام السجاد علي بن الحسين زين العابدين «عليه السلام» حيث يقول: «إن لعمي العباس درجة يغبطه بها جميع الشهداء» الحديث الآتي، ومن كان يغبطه جميع الشهداء على درجته ومنزلته فهو المقدم بلا أرتياب ولا تشكيك بنص هذا الحديث، وإنما غبطه جميع الشهداء لعلو درجته، وأستوجب علو الدرجة عليهم بأمور انفرد بها عنهم

(1) الأعراف: 96. (2) البقرة:247.

(3) القصص: 26. (4) النجم: 6.

(24(

منها إنه قاسى أكثر مما قاسوه عناء وكابد أشد مما كابدوه محنا وقد جاء في الأثر: «الأجر على قدر المشقة» وقد أختص «عليه السلام» بالإيثار الذي سنذكره وبتضحية أشقائه نصب عينيه الواحد تلو الآخر، وكانوا ثلاثة لأمه شباب لا أعقاب لهم وبتضحية ولديه نصب عينيه أحدهما عقيب الآخر ولم نعلم ان هذين الأمرين أجتمعا لواحد من الشهداء سوى أخيه الحسين «عليه السلام».

أما المحن التي كابدها دون الشهداء فالعطش الذي أصابه يوم القتال، ومداراة نساء مذعرات ترهب هجمات الأعداء آونة فآونة، وترتقب الأسر ساعة فساعة، ومداراة أطفال صغار أرعبهم ضجيج الأعداء ووقع سنابك الخيل، وأرهبهم ومض الأسلحة وبريقها ولمعانها المدهش.

كابد من المحن أن شاهد مصارع الأحبة من إخوته وذوي قرباه الذين لم يسمح الدهر لهم بنظير.

ومن المحن التي شاهدها وقد غطت على كافة المحن أن شاهد وحدة أخيه الحسين «عليه السلام» وندائه: «وا قلة ناصراه! وا غربتاه!».

ومن المحن التي شاهدها وهي مما يؤلم مهجة الغيور، ويقرح قلب الأبي المتحمس صراخ العائلة وهتاف العقائل المخدرات ينادين: «أبا عبد الله! ردنا إلى حرم جدنا»، وهو يقول لسيدتهن زينب الحوراء: «هيهات، جرى القضاء وجف القلم».

فهذه المحن مع تلك الخصائص والخصال قد أوجبت له زيادة فضل على الشهداء، فكان له من مجموع أجر الشهادة وأجر الصبر على الابتلاءات العظيمة درجة يغبطه بها جميع الشهداء.

ومن جهة ثانية إن الشهادة ذات نوعين: شهادة للدعاية في سبيل إشادة الدين والدعوة إلى الإسلام وذاك سبيل الغزاة والمجاهدين، وشهادة للدفاع عن حشاشة المعصومين والمدافعة عن حياته، وهذه سبيل الخلص والخواص وهي بلا ريب أفضل الشهادتين، لأن حفظ النبي والإمام «عليهما السلام» أفضل من جلب رجل إلى الإسلام، ولذلك كانت وقعة بدر أفضل الوقائع، والبدري أفضل من غيره وشهيد بدر أفضل من سائر الشهداء، لأنها لم تكن غزوة في سبيل توسعة الإسلام بل كانت دفاعا عن حشاشة رسول الله (ص)، ووقاية له، ثم وقعة أحد وهي دونها رتبة في الفضل وإنما كانت دونها في الفضل وقد أشتركتا معا في الدفاع عن حشاشة النبي (ص) لأنها كان أكثر عددا وأحسن عددا، فإن من شهد بدرا أقل

(25)

ممن شهد أحدا من الصحابة بالضعف أو أقل منه، ومن شهد أحدا أكثر عددا وأكمل عددا وبالقرب منهم المدينة، وهي حصن حصين وفيها جمع تخلفوا عن الحرب فكانت محنة أهل بدر أعظم وموقفهم أشد حراجة، فإذا كانت المحنة أقوى والشدة أعظم كان الجزاء أوفر والحباء أكبر.

ومما لا يستراب فيه أن محنة شهداء كربلاء أعظم المحن، وبلائهم أشد البلاء من حيث قلة العدد وأنقطاع المدد، وبعد الأهل والوطن وهم في حصار شديد في فلاة قاحلة وبادية جرداء عدم فيها الماء وعزت الأقوات وأدهشهم مع ذلك البلاء المبرم صراخ النسوة وصياح الصبية، كل هذا ونحوه مما لم يبتلى به أهل بدر لإمكان مجيء المدد إليهم لو طلبوه، وحصول النجدة إن أرادوها والأهل والوطن منهم قريب لو أرادوا أنسحابا ووجود الماء عندهم وحصول الأقوات لديهم، فمن أجل أجتماع هذه المحن لأهل كربلاء نالوا بذلك الدرجات العلى، وقد أصاب الشاعر نعتهم بقوله:

هم خير أنصار براهم ربهم للدين أول عالم التكوين

وقوله:

هم أفضل الشهداء والقتلى الأولى مدحوا بوحي في الكتاب مبين

إنتهى بقلم المؤلف

عبد الواحد آل مظفر النجفي

(26)

الفصل الأول

في نسب العباس الأكبر

بن أمير المؤمنين علي بن

أبي طالب «عليهما السلام»

وفيه ذكر آبائه تفصيلا من أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى عدنان، وذكر أمهاته وأخواله وأعمامه وإخوته وأولاده وأحفاده.

سلسلة آبائه الكرام إلى عدنان

أتفق علماء الأنساب وقالوا قولا واحدا في أتصال نسب رسول الله (ص) إلى عدنان، وأختلفوا فيما بين عدنان وآدم «عليه السلام» ونحن نورد ما أتفقوا فيه ونترك ما أختلفوا فيه.

قد ذكر ابن إسحاق برواية ابن هشام في سيرته، والسيد الداوودي في عمدته، وابن قتيبة في معارفه، والمسعودي في مروجه، والقلقشندي في نهايته، وابن واضح في تاريخه، والطبري في تاريخه، والحلبي والدحلاني في سيرتهما، وغيرهم من النسابين، وجميع ما ذكرناه ينسبون رسول الله (ص) ونحن نوصله بالعباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» فنقول:

هو أبو الفضل العباس الأكبر بن وصي رسول الله علي بن أبي طالب بن شيبة الحمد عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ابن فهر بن مالك بن النضير بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

هذا نسب اتفق عليه النسابون، ولكل واحد من هؤلاء الآباء الكرام شرف ورئاسة ومجد ضخم، وكل منهم في عصره سيد قومه وزعيمهم المقدم عليهم بما أمتاز به من كرم الأصل، ومكارم الأخلاق، لأن كل فرد منهم لا يشبه من في عصره لا عربي ولا أعجمي في جميع المكارم وسائر السجايا والشيم فهو الممتاز من حيث الصفة البدنية كالصباحة وحسن الملامح والسيماء التي يتفرس منها كل خير وكما كساه الله الجمال والبهاء كساه المهابة والجلالة وحسن الهيئة وبجله في

(27)

أعين الناظرين وجعل له رهبة في قلوب المنائين، أما من حيث الصفات النفسية النفيسة فقد أربى عليهم وفاقهم كمالا كما راقهم جمالا فلا يدانيه رئيس ولا متوج في جل محامد العرب كالبطولة والنشاط النفسي لاقتناء المكارم نحو الشجاعة والسخاء والفصاحة وسائر المفاخر المنتخبة والمكارم المتخيرة عند عامة العقلاء وكل واحد منهم قاد قومه في الحروب وكان مع تفوقه بفن القيادة مظفرا منصورا، ونحن نختصر لك عظيم منهم ترجمة مختصرة من مطولات آثاره، ونورد موجزا من المبسوط في أحواله مما به الكفاية.

(1) عدنان بن أد:

الجد الأعلى لرسول الله (ص) وإليه ينتهي النسب المتفق عليه.

قال مفتي الشافعية في مكة زيني دحلان في سيرته عن الزبير بن بكار: إن أول من وضع أنصاب الحرم عدنان، قيل: هو أول من كسى الكعبة أو كسيت في زمانه.

وجاء: إنما سمي عدنان من العدن وهو الإقامة، لأن الله أقام ملائكة لحفظه، وسبب ذلك أن أعين الأنس والجن كانت إليه مصروفة وأرادوا قتله وقالوا: لأن تركنا هذا الغلام حتى يدرك مدارك الرجال ليخرجن من ظهره من يسود الناس، فوكل الله به من يحفظه الخ.

وذكر مثله الديار بكري في تاريخ الخميس والمسعودي في إثبات الوصية وزاد بعد قوله «من يحفظه»: فنشأ أحسن أهل زمانه خلقا وخلقا.

وفي تاريخ الخميس: إن الملك الموكل بحفظه علمه ملته، وأن فيه نور رسول الله (ص).

وذكر ابن واضح شرفه وأنه أول من وضع أنصاب الحرم وكسى الكعبة.

وذكر هؤلاء كلهم أن عدنان أصل القبائل العدنانية كلها، ومنه تفرقت شعوبها وقبائلها، وولد له ولدان: عك بن عدنان، وأختلط باليمن فأنتسب إليهم، ومعد بن عدنان وهو الأصل الثاني للقبائل العدنانية الأسماعيلية.

ويقال: إنه الذي حمله أرمياه على البراق، ففي تاريخ الخميس (1) ذكر الزبير بن بكار أن بختنصر لما أمر بغزو بلاد العرب وإدخال الجنود عليهم فيها وقتل مقاتلتهم لانتهاكهم معاص الله وأستحلالهم محارمة وقتلهم أنبيائه وردهم رسالاته،

(1) انظر تاريخ الخميس 1/66.

(28)

أمر أرمياء بن حلقيا – وكان فيما ذكر نبي بني إسرائيل في ذلك الزمان – أن أئت معد بن عدنان الذي من ولده محمد رسول الله (ص) خاتم النبيين فأخرجه عن بلاده وأحمله معك إلى الشام وتولى أمره قبلك، ويقال: بل المحمول عدنان، والأول أكثر.

ذكر ابن خلدون في تاريخه العبر (1) ما لفظه: قال الطبري: لما قتل أهل حضورا شعيب بن ذي مهدم نبيهم أوحى الله إلى أرميا وبرخيا من أنبياء بني إسرائيل بأن يأمرا بختنصر بغزو العرب ويعلماه أن الله سلطه عليهم، وأن يحملا معد بن عدنان إلى أرضهم ويستنقذاه من الهلكة لما أراده الله من شأن النبوة المحمدية في عقبه – كما مر ذلك من قبل - فحملاه على البراق ابن اثنتي عشر سنة وخلصا به إلى حران، فأقام عندهما وعلماه علم كتابهما وسار بختنصر إلى العرب فلقيه عدنان فيمن أجتمع إليه من حضورا وغيرهم بذات عرق فهزمهم بختنصر وقتلهم أجمعين ورجع إلى بابل بالغنائم والسبي والقاهم بالانبار ومات عدنان عقب ذلك وبقيت بلاد العرب خرابا حقبا من الدهر حتى إذا هلك بختنصر خرج معد في أنبياء بني إسرائيل إلى مكة فحجوا وحج معهم ووجد أخويه وعمومته من بني عدنان قد لحقوا بطوائف اليمن وتزوجوا فيهم وتعطف عليهم أهل اليمن بولادة جرهم فرجعتهم إلى بلادهم وسأل عمن بقي من أبناء الحارث بن مضاض الجرهمي فقيل له: بقي جرهم بن جلهمة فتزوج بابنته معانة فولدت نزار بن معد. وذكرها الحافظ ابن كثير في تاريخه(2) كذلك عن الطبري وذكر أن معدا تزوج معانة بنت جوشن من بني دب بن جرهم قبل أن يرجع إلى بلاده ثم عاد بعد ان هدأت الفتن وتمحضت جزيرة العرب وكان برخيا كاتب أرميا قد كتب نسبه في كتاب عنده ليكون في خزانة أرميا فيحفظ نسب معد كذلك.

وفي قصيدة الناشئ الشاعر الشهير وذكرها جماعة من المؤرخين منهم ابن كثير في البداية، يقول فيها:

وما زال عدنان إذا عد فضله توحد فيه عن قرين وصاحب

قال ابن الاثير في الكامل(3) في أخبار بختنصر ما لفظه: وسار إلى العرب بنجد والحجاز فأوحى الله إلى برخيا وأرميا يأمرهما أن يسيرا إلى معد بن عدنان

انظر تاريخ ابن خلدون – الطبعة الثانية – 2/ 1012

(2) البداية النهاية 2/ 194.

(3) الكامل في التاريخ 1/116 الطبعة الأولى.

(29)

فيأخذاه ويحملاه إلى حران، وأعلمهما أنه يخرج من نسله محمد (ص) الذي يختم به الأنبياء فسارا تطوى لهما المنازل والأرض حتى سبقا بختنصر إلى معد فحملاه إلى حران في ساعتهما، ولمعد حينئذ اثنتا عشر سنة، وسار بختنصر فلقي جموع العرب فقاتلهم فهزمهم وأكثر القتل فيهم، وسار إلى الحجاز فجمع عدنان العرب فالتقى هو وبختنصر بذات عرق فأقتتلوا قتالا شديدا فأنهزم عدنان وتبعه بختنصر إلى حصون هناك وأجتمع عليه العرب، وخندق كل واحد من الفريقين على نفسه وأصحابه، فكمن بختنصر كمينا – وهو أول كمين عمل – وأخذتهم السيوف فنادوا بالويل، ونهى عدنان عن بختنصر، وبختنصر عن عدنان فأفترقا، فلما رجع بختنصر خرج معد بن عدنان مع الأنبياء حتى أتى مكة فأقام أعلامها، وحج، وحج معه الأنبياء ثم أتى معد ريشوب وسأل عمن بقي من ولد الحارث بن مضاض الجرهمي، فقيل له: بقي جوشم (1) بن جلهمة فتزوج معد ابنته معانة فولدت له نزار بن معد إنتهى.

ولد عدنان معد وعك

وعن السهيلي: الحارث بن عدنان أيضا والمذهب بن عدنان.

وعن غير السهيلي: الضحاك خامسا، وعدن وأبين ابنا عدنان، نسب هذا القول للطبري، كل هذا حكاه ابن كثير في تاريخ البداية والنهاية على خلاف في الأربعة وأتفاق في معد وعك.

(2) معد بن عدنان:

أشهر العرب في عصره وأعظمهم فخرا، وهو الاصل الثاني للعرب العدنانية حتى كان يقال في تقسيم العرب هكذا: قحطاني ومعدي، وأكثر العرب العراقية اليوم من نسله، فأختارهم بالمجد اليعربي تبعا لمصر، ناشئ عن الجهل والغباوة، وأنا اقول:

أيها الفاخر بالمجد افتخر بأابي المجد معد ذي الفخار

إنما المجد تراث جاءنا من معد وابنه السامي نزار

قد ذكرناه في ترجمة عدنان حمل أرمياه النبي لمعد على البراق حتى نجا من تلك الحرب الطاحنة بين العرب والكلدان التي شبها نبوخذ ناصر المجرم.

(1) في نسخة: جوشن.

(30)

ذكر الحلبي والدحلاني والدياربكري وغيرهم أن معد بن عدنان كان صاحب حروب ومغازي لكن ياقوت الحموي في معجم البلدان يذكر (1) أن غزو بختنصر للعرب كان في زمن يوحنا بن أختيار بن زربابل ابن شليشل من ولد يهوذا بن يعقوب.

وقد ذكرنا أن يوحنا هذا كان بنجران ولعله الأنسب بالمقام حيث أن أرمياء كان بعد زمن موسى بن عمران وقد ذكروا أن معد بن عدنان كان في زمن موسى «عليه السلام» وأنه كان يغزو بني إسرائيل، صرح بذلك جماعة حتى الحلبي نفسه وهذا لفظه في مسيرته: في الطبراني: عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: لما بلغ ولد معد بن عدنان أربعين رجلا وقعوا في عسكر موسى «عليه السلام» فأنتبهوا فدعى عليهم موسى، فأوحى الله إليه لا تدع عليهم فإن منهم النبي الأمي البشير النذير، إنتهى.

وأتفق أهل السير أن الذي أغار على عسكر موسى «عليه السلام» هو معد نفسه سوى الديار بكري فإنه قال: ابنه الضحاك بن معد وهذا لفظه في تاريخ الخميس: الزبير بن بكار عن مكحول قال: أغار الضحاك بن معد في أربعين رجلا من بني معد عليهم دراريع الصوف خاطمي خيولهم بحبال الليف فقتلوا وسبوا وظفروا، فقالت بنو إسرائيل: يا موسى! إن بني معد أغاروا علينا وأنت بيننا فأدعوا الله عليهم، فتوضا وصلى وكان إذا أراد حاجة من الله صلى، ثم قال: يا رب! إن بني معد أغاروا بني أسرائيل فقتلوا وسبوا وظفروا فسألوني أن أدعوك عليهم، فقال الله تعالى: لا تدع عليهم فأنهم عبادي وإنهم ينتهون عند أول أمري وإن فيهم نبيا أحبه وأحب أمته، قال: يارب! ما مبلغ محبتك له؟ قال: أغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: يارب! وما بلغ من محبتك لأمته؟ قال: يستغفرني مستغفرهم فأغفر له، ويدعوني داعيهم فأستجيب له، قال: يا رب! فأجعلهم من أمتي، قال: نبيهم منهم. قال: يارب! فأجعلني منهم، قال تقدمت واستأخروا.

قال الزهري: لما بلغ بنو معد عشرون رجلا أغاروا على عسكر موسى «عليه السلام» فدعا الله عليهم فلم يجب فيهم ثلاث مرات، فقال: يارب! دعوتك على قوم فلم تجبني فيهم بشيء فقال: يا موسى دعوتني على قوم منهم خيرتي آخر الزمان، إنتهى.

ورواية مكحول أقرب إلى العقل من رواية الزهري لأن في رواية الزهري رد

(1) معجم البلدان 3/377.

(31)

لدعاء النبي «عليه السلام» ورواية مكحول سالمة من ذلك لأنه أراد أن يدعوا عليهم فنهاه الله وهذا لا يستلزم رد دعاء النبي (ص) ولا يحتاج لجواب لو صدر بأعتراض معترض، وقال: ما المانع من قبول دعوة موسى في غير من يكون من صلبه النبي محمد (ص)؟ ومع رواية مكحول يسقط هذا الاعتراض.

قال ابن واضح في تاريخه (1): كان معد أول من وضع رحلا على جمل وناقة، وأول من زمها بالنساع، إنتهى.

كان معد بن عدنان شريفا زعيما، قائدا مضفرا منصورا، وبطلا شجاعا، وسخيا جوادا، ومؤمنا موحدا ذا عفه وشهامة وجد وصرامة، مرهوبا مهابا مسدد الرأي، مجدودا موفقا، ذا غارات ومغازي يصاحبه فيها النصر والظفر وكان سر تلك الغلبة هو التأييد الرباني، ومن لحظته العناية الربانية أستعلى، وكان نور النبي (ص) يتلألأ في غرته، وتسطع أنواره في جبينه.

ولما مات أبوه عدنان أحتوى على ميراثه المجدي وحاز تراثه الشرفي من لواء وقوس وأفراس وأسلحة وغيرها وذاك اللواء هو لواء شيث بن آدم أو لواء الخليل إبراهيم على الرأيين التاريخيين، والقوس هي العربية قوس إسماعيل «عليه السلام» وإنما حاز ذلك معد لأنه أكبر إخوته وأنبلهم وأسيرهم ذكرا وأبعدهم صيتا ومغارا وأكثرهم مآثرا وأثارا، فله الصوت الأول في أندية مجد العروبة والصيت الذائع في أرجاء الجزيرة العربية وليس بمستعرب كما يزعمون دون بني يعرب لأمور:

أحدها: إن كان العربي المحض فطر على العربية بتعليم إلهي فقد كان إسماعيل ذلك النبي الذي فتق لسانه بالعربية، ومجاورة العرب له لا تجعله تلميذا لهم، وأختلاف اللغتين دليل على نفيه.

ثانيهما: إن العربي المحض إن كان شرطه أن لا يسبق بأمة من العرب فهذا لا يخص بني إسماعيل بل بنو يعرب كذلك وعليه يصح رأي بعض النسابين في انقسام العرب المستعربة إلى قسمين هما عدنان وقحطان.

ثالثهما: إن علماء الأنساب ذكروا أن العرب العاربة هي البائدة خاصة والتحقيق على اثبته أهل العلم من أن الله تعالى فطر لسان إسماعيل بالعربية، إن أبيت إلا جنوحا لرأي من لم يحقق فقل الباقي من العرب هو القسم المستعرب،

(1) تاريخ اليعقوبي 1/ 183 طبعة النجف.

(32)

سواء في ذلك القحطاني والعدناني، ولهذين الشعبين اليعربي والمعدي تصاول في الشرف ونضال في اكتساب الفضائل، التصاول الحقيقي والنضال الجدي قولياً مرة وفعلياً أخرى، وما أكتسب أحد المتناظرين مكرمة إلا وقام الآخر في تحصيلها.

ولم تزل الشعوب العدنانية تتقدم التقدم المدهش تجري أمام مجدها الخالد جري السيل المنحط من الهضبات الشامخة ومنذ استقل معد بالزعامة مع ما فيه من الكفاءة وأجتماع غرائز الفضل الطبيعية نهض بأعباء الزعامة أحسن نهوض، وقام بشؤون الرئاسة القيام المرضي، فحمل اللواء ونشر علمه المظفر الخافق بالنصر والغلبة، وقاد جيشه المؤلف من أربعين جنديا من ولده وأسرته، فكان يلقى بذلك الجيش الصغير الجيوش الكبيرة ويصدم بذلك العدد النزر الأعداد الكثيرة، فحارب الشعوب القحطانية والإسرائيلية فيكون له الظفر في جميع المعارك الدامية، والمعامع الحربية التي خاضها وأصطلاها بنفسه.

وليس من السهل في أحظار الفكر وأستحضاره لمثل هذه الكتيبة الخشناء النزرة العدد أن تلاقي جيوش التبابعة التي دوخت الأمم من أقصى أفريقية الغربي إلى تخوم الصين الشرقي، وأن من الصعب تصور أن مثل هذه الفئة القليلة أن تخاطر بنفسها على اقتحام مثل هذه الأخطار، وتقتحم أيضا على جيش موسى بن عمران الذي تفوق بأستيلائه على أمم العمالقة والأنباط السائدة في ذلك العصر، لولا أن التاريخ أوقفنا على رمز هذه القضايا ليعلمنا كيفية التجاسر والاقدام على المخاطرة في سبيل إحياء مجدنا، لقلنا أن مثل هذه الحكايات من أساطير الأولين، وغرائب التأليف، وأن عددا مثل هذا العدد أستدعى بهمته أن يلوذ قائد الأمم الإسرائيلية الراجح في ميزان الحرب كفتها وذلك ببركة قائدها النبي العظيم بالالتجاء إلى الدعاء، والاعتصام بالاستغاثة، إن مثل هذا مما يعلمنا قوة اعتضاد القومية وائتلاف الجنسية مما يكشف لنا بغير أرتياب أن الإخلاص في التعاضد والنصح في التعاون القومي من أسباب الأنتصار الوحيد.

قال المسعودي في أثبات الوصية(1): إنما سمي معدا لأنه كان صاحب حروب وغارات على يهود بني إسرائيل، ولم يواقع أحدا إلا رجع منصورا مظفرا، فجمع من المال ما لم يجمعه أحد في زمانه، إنتهى.

(1) إثبات الوصية: ص73 طبع النجف.

(33)

نشأ معد بن عدنان في عصر كيخسرو ملك الفرس وأفريقس الحميري ملك العرب، قاله أبو حنيفة الدينوري في الأخبار الطوال(1).

وقال اديار بكري في تاريخ الخميس (2) بعد أن أمه تسمى الأمينة، قال: وأما معد ابن عدنان ففيه نور رسول الله (ص) ولم تعرف ملته، وإنما سمي معدا لأنه كان صاحب حروب وغارات على بني إسرائيل لم يحارب أحدا إلا رجع بالنصر والظفر... الخ.

وقد تمحل هذا المؤرخ في قوله: «ولم تعرف ملته» وقد صرحوا إنه كان على دين إبراهيم «عليه السلام»، نص عليه الطبري، ورواه عنه الدحلاني (3) ولفظه: روى أبو جعفر في تاريخه عن ابن عباس قال: كان عدنان ومعد وربيعة وخزيمة وأسد على ملة إبراهيم، فلا تذكروهم إلا بخير، الخ.

ولو أستوفينا الأقوال في إثبات إيمانهم لخرجنا عن الموضوع، وفي بائية الناشىئ:

وكان معد عدة لوليه إذا خاف من كيد العدو المحارب

أما ولد معد بن عدنان منهم نزار وقضاعة وقنص وأياد، قاله ابن إسحاق(4).

وتفصيل أحوالهم يستدعي تطويلا، فراجع كتب الأنساب على أن ابن عبد البر في كتاب الإنباه وإن ذكر أنهم ثمانية وسمى بعضهم فقد أنكر أن يكون له غير نزار.

(3) نزار بن معد بن عدنان:

قد كان نزار من سادات العرب وحكمائهم، وقد فاق أهل زمانه جمالا وكمالا، ففي بائية الناشئ:

وحل نزار من رياسة أهله محلا تسامى عن عيون الرواقب

قال ابن واضح في تاريخه(5): كان نزار بن معد سيد بني أبيه وعظيمهم، ومقامه بمكة.

زاد في تاريخ الخميس(6): إن قبره وقبر ابنه ربيعة بذات الجيش قرب المدينة.

(1) الأخبار الطوال: ص16 الطبعة الأولى بمصر.

(2) تاريخ الخميس 1/166 طبعة الأولى بمصر.

(3) السيرة الدحلانية 1/13 بهامش السيرة الحلبية.

(4) سيرة ابن هشام 1/10، طبعة أولى.

(5) تاريخ اليعقوبي 1/183. (6) تاريخ الخميس 1/ 167.

(34)

وفي السيرة الدحلانية(1): إن نزار لما ولد نظر أبوه إلى نور النبي (ص) بين عينيه فرح فرحا شديدا ونحر وأطعم، وقال: إن هذا كله نزر أي قليل في حق هذا المولود فسمي نزارا وكان اجمل أهل زمانه وأكبرهم عقلا.

وفي السيرة الحلبية(2): إنه أول من كتب الكتاب العربي.

وقال المارودي في أعلام النبوة(3) بعد أن ذكر أباه معدا: ثم ازداد العز بولده نزار، وأنبسطت به اليد، وتقدم عند ملوك الفرس وأجتباه بشتاسف ملك الفرس، وكان اسمه خلدان، وكان مهزول البدن، فقال الملك: مالك يا نزار؟ تفسيره في لغتهم يا مهزول، فغلب عليه هذا الأسم فسمي نزارا، وفيه يقول قمعة ابن إلياس ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان:

جديسا خلفناه وطمسا بأرضه فأكرم بنا عند الفخار فخارا

فنحن بنو عدنان خلدان جدنا فسماه يستشف الهمام نزارا

فسمي نزارا بعدما كان إسمه لدى العرب خلدان بنوه خيارا

وقال ابن خلدون في تاريخه(4): فأما قنص بن معد فكان له الإمارة بعد أبيه على العرب، وأراد إخراج أخيه نزار فأخرجه أهل مكة وقدموا عليه نزارا، ولما احتضر قسم ماله بين ولده، الخ.

وقال الأب لويس اليسوعي(5): نزار بن معد بن عدنان هو من العرب المستعربة، ولد له أربعة أولاد وهم مضر وربيعة وأياد وأنمار، تفرع منهم قبائل كثيرة، وقيل: إن نزارا كان في أيام موسى الكليم، وكان رجلا حكيما عاش 90 سنة، إنتهى.

وأتفق علماء النسب إنه لا عقب له غير هؤلاء الأربعة، نزار هو الأصل الثالث للقبائل العدنانية، فيقال: عدناني ومعدي ونزاري ولا جامع لهم بعد نزار.

وقال الطبري في التاريخ (6): قيل إن نزار كان يكنى أبا أياد وقيل: بل كان يكنى أبا ربيعة، أمه معانة بنت جوشم بن جلهمة بن عمرو، وإخوته لأبيه وأمه قنص وقناصة وسنام وحيدان وحيدة وجنيد وجنادة والقحم وعبيد الرماح والعرف وعوف وشك وقضاعة، وبه معد كان يكنى وعدة درجوا، الخ، وفصل أخبارهم البكري.

(1) السيرة الدحلانية 1/11 هامش الحلبية.

(2) السييرة الحلبية 1/19. (3) أعلام النبوة: ص118.

(4) تاريخ ابن خلدون 2/113 الطبعة الثانية.

(5) شرح مجاني الأدب 1/33. (6) تاريخ الطبري 3/190.

(35)