الحركة العلمية

حوزة كربلاء على عهد السيد مهدي الشيرازي وبعد وفاته

Post on 09 تموز/يوليو 2016

حوزة كربلاء على عهد السيد مهدي الشيرازي وبعد وفاته

 في هذا الوقت بدأت زعامة آية الله العظمى السيد الميرزا مهدي الشيرزاي في كربلاء تبرز وتظهر للعيان رويدا رويدا ، حتى أصبحت زعامة لا تنافس خاصة بعد وفاة العالم الكبير والمحقق ألإسلامي الجليل السيد الميرزا هادي الخراساني في الثاني عشر من ربيع ألأول سنة 1368 هـ .

ففي عهد رئاسة السيد الشيرازي إزدهرت الحوزة العلمية في كربلاء وخطت خطوات واسعة إلى ألأمام ، إذ كان سماحته حريصا أيما حرص على تطوير وتدعيم الحركة العلمية والتدريسية ، ومهمة الدعوة ألإسلامية على أوسع نطاق.

وكانت شخصيته العلمية والدينية والخلقية مبعث إعجاب وإحترام الجميع وكان بتقواه وزهده وأدبه الجم وتعامله ألإنساني النموذجي مع الناس من كل الفئات والطبقات ، يضرب من نفسه المثل الرفيع والقدوة الصالحة بالنسبة لطبيعة تعامل رجل الدين والفضيلة مع الناس ومع الحياة وألأحداث ، وهنا تكمن أهمية أو ميزة رجل الدين عن الرجال العلمانيين والزمنيين ، لأنه ليس بالعلم وحده يبرز ألإنسان الروحاني ، بل بأسلوبه وخلقه ومهجيته في الحياة، وبكيفية تعامله وتصرفه مع ألآخرين ، إذ عليه أن يكون القدوة والرمز ، وأن يضرب بنفسه المثل الحميد بالكيفية التي يجب ان يحيى الناس بها ، ويعيشوا أو يتعايشوا بهديها ، إنطلاقا من وحي تعاليم الدين الحنيف التي هي في مجملها دستور متكامل للحياة ، والتي بها تنتظم حركة المجتمعات البشرية تنظيما دقيقا وسليما في إطار من ألتآلف والتوادد والوعي المتبصر ، بما للفرد في الحياة من واجبات وفرائض فردية وجماعية ، وما له من حقوق ومزايا ومنافع.

إن رجل الدين تكمن مصداقيته في الربط الموضوعي الدقيق والسليم بين العلم والعمل ، فلا يكفي مثلا أن يتقدم في تحصيل العلم أشواطا بعيدة ، في الوقت الذي يتأخر فيه أشواطا إلى الوراء من الناحية ألإجتماعية والخلقية ـ والتعامل السليم مع الناس ، بزعم أنه عالم عارف ، وإن تصرفه مهما كان يجب أن لا يؤخذ في الحسبان لصالح علمه ومعرفته ، ولذلك فإن كثيرا من المراجع العظام الذين تولوا الرئاسة الدينية في فترات متعاقبة لم تؤتى لهم هذه الرئاسة بفضل علمهم فقط ، بل لما كان لهم من خلق رفيع وتصرف سليم وتعامل واع حكيم مع الناس ومن كياسة وتدبر صحيح في مواجهة ألأحداث ، فكانوا بأخلاقياتهم المثالية وتصرفاتهم العادلة وسلوكهم القويم ، يجذبون قلوب الناس ويتركون تأثيراتهم الروحية في نفوسهم.

إن الحكايات الطريفة التي تروى عن أسلوب تصرف آية ألله ألأصفهاني وآية ألله البروجردي وآية ألله محمد تقي الشيرازي وغيرهم ، لا تبقي أدنى شك في أن العامل ألأهم في بروز وظهور هؤلاء على مسرح المرجعية والرئاسة الدينية ، كان يكمن في تعاملهم الواعي وتصرفاتهم وممارساتهم ألإنسانية النبيلة مع الناس وألأحداث ، إلى جانب ما كانوا يتحلون به من علم ومعرفة وفضيلة وزهد وتقوى.

وخلاصة القول ، أن شخصية المرحوم السيد مهدي الشيرازي كانت محترمة ومحببة جدا بين أهالي كربلاء ، ألأمر الذي جعلهم يندفعون ويتحمسون لنصرته ومبايعته ومساندته بما يشبه ألإجماع التام ، وبفضل هذا الترابط الوثيق بينه وبين الناس ، إستطاع من عمل أشياء كثيرة لصالح الحوزة العلمية وحركة التوعية ألإسلامية ليس في كربلاء وحدها بل وفي مدن العراق ألأخرى وخارجه أيضا.

فبألإضافة إلى إنشغاله العلمي إهتم كثيرا بنشر تعاليم لدين الحنيف وترويج ألأحكام ، وأمر الوعاظ والخطباء واصحاب المنابر بتوضيح ألأحكام الشرعية ، وشرح المسائل الدينية ، والتلطف مع الشباب ، وجذبهم بالخلق الحسن وطيب المعشر والوجه البشوش إلى ظلال الدين ، فكان من نتيجة ذلك أن تربى جيل من الشباب الواعي والمتفهم لأحكام ألإسلام ، وقد تأثر بروحه وجهده الخير في ترويج ألإسلام ونشر تعاليمه الكثير من أهالي كربلاء بينهم الطلاب وألأساتذة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويعقدون المجالس الروحية ويشكلون الهيئات والجمعيات الدينية ، فإزدهرت من جراء ذلك مدينة كربلاء بدروس تفسير القرآن وبحوث ألأخلاق ، وأنشأت العديد من الجوامع والزوايا الدينية ، وتم إعادة بناء جوامع كانت في طور التخريب ، حيث اصبحت ملأى بالمصلين ، كما أقيمت فيها الحفلات الدينية ومجالس الوعظ والخطابة ، وإبتدعت حفلات ومهرجانات دينية عالمية ، بمشاركة وفود تمثل البلدان ألإسلامية ، عرفت في وقتها بالحفلات العالمية لإحياء ذكرى ألإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وأخذت مدينة كربلاء تتزين بشكل بديع ورائع جدا في ألأعياد والمواسم الدينية المبهجة والمفرحة ، وايام مواليد أئمة الشيعة (عليهم السلام) وتلبس السواد وتبدو بمظاهر الحزن والحداد في شهري محرم وصفر من كل عام ، مثلما كانت تقام في يوم العاشر من محرم (عاشوراء) الحفلة العزائية الكبرى التي كانت تخصص في مجملها لتلاوة السفر المعروف بالمقتل( حكاية قتل الحسين عليه السلام بشكل تفصيلي) من أوله إلى آخره، وكان الخطيب المعروف آنذاك المرحوم الحاج الشيخ عبدالزهراء الكعبي يقوم بهذه المهمة ، إذ كان يقرأ المقتل بصوته الحزين وبلحنه النغمي الجميل الذي إشتهر به، والذي قلده فيه من جيل الوعاظ الشبان الذين إشتهر الكثير منهم فيما بعد ، وبذلك كانت الحفلة العزائية الكبرى تلك ، تتحول إلى ماتم حقيقي ، وإلى تظاهرة بكاء ونحيب وتأفف عميق لمصاب سيدنا الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء.

وإلى جانب كل ذلك ، إبتدع المرحوم الشيرازي أساليب جديدة في دراسة العلوم الدينية بهدف تشجيع وترغيب جيل الشباب لجذبهم إلى الحوزة العلمية والضلوع بدراسة هذه العلوم والتفقه بها، وقد أمر ألأساتذة في كل علم من العلوم الدينية بوضع إمتحان أو إختبار حر لأية مرحلة دراسية يجتازها طالب العلم ، ورصد الجوائز التقديرية والتشجيعية للطلبة المتفوقين في ألإمتحانات ، وهو أمر لم يكن واردا ومأنوسا في الحوزات العلمية من قبل ، وكان من نتيجة ذلك أن نشطت الحركة التدريسية في الحوزة العلمية بكربلاء على نحو غير عادي ، وإنجذب الكثير من الشبان إلى سلك الروحانية أو مزاولة مهمة الوعظ والإرشاد ، تمخض عن ذلك جيل ديني وعلمي متميز.

وفي يوم الثامن والعشرين من شهر شعبان المعظم سنة 1380 هـ ، توفى فجأة السيد الميرزا مهدي الشيرازي ، فخسرت كربلاء بموته أحد أبرز أعلامها ومراجعها وفقد العالم الشيعي في شخصه فقيها متبحرا ومجتهدا عادلا وإنسانا زاهدا ورعا مثاليا في خلقه وسلوكه وكان يوم وفاته يوما مشهودا فقد بكاه الجميع وبخاصة العلماء ألأعلام وبضمنهم آية الله العظمى السيد آغا حسين البروجردي (رضوان الله عليه) إذ حينما سمع نعي السيد الشيرازي أخذ يجهش بالبكاء وإستمر باكيا لعدة دقائق من فرط التأثر الشديد الذي شعر به من وفاة الشيرازي (رحمه ألله) .

ويجدر القول هنا أن السيد الشيرازي كان مؤهلا لتولي المرجعية الدينية العظمى للمسلمين الشيعة فيما لو بقي على قيد الحياة إى ما بعد وفاة المرجع الأكبر السيد البروجردي ، وذلك حسن توقعات أصحاب الرأي والخبرة ، ويقال إن الشيرازي نفسه كان يرى ألأمور على هذا المنحى ، ولذا كان يتمنى أن يأتيه ألأجل قبل السيد البروجردي لكي لا يحمل العبء الثقيل والخطير جدا ، إذ أن حمله يثقل وزر ألإنسان ، ويزيد من إحتمالات تعرضه لأقل زلل كان يخافه ويتوجس منه دائما ، لأنه كان يخشى ألله سبحانه وتعالى ويرتجف بشدة من سخطه وغضبه.

أنجب الفقيد أربعة انجال هم : العالم الجليل والفقيه المتبحر آية ألله السيد محمد الحسيني الشيرازي ، والمفكر ألإسلامي الكبير وصاحب المصنفات الكثيرة السيد حسن الشيرازي الذي إغتيل في بيروت سنة 1400 هـ ، والعلامة المحقق السيد صادق الشيرازي ، والعلامة المؤلف السيد مجتبى الشيرازي.

تطرق إلى ترجمته عدد من المؤلفين ورجال السير والتراجم منهم : السيد صادق محمد رضا الطعمة في كتابه «ذكرى فقيد ألإسلام الخالد» والشيخ حسين البيضاني في كتابه «عام الثمانين» كما ترجمه العلامة محسن العاملي في كتابه «أعيان الشيعة» فقال: السيد مهدي الحسيني الشيرازي الحائري إبن السيد حبيب ألله ، ولد في كربلاء سنة 1304 هـ ، وتوفى فيها في 28 شعبان سنة 1380 هـ ، توفى والد المترجم وهو صغير فربي برعاية أمه واخيه ألأكبر السيد عبدالله ، ولقد تلقى دراسته ألأولى في كربلاء حيث درس العلوم ألأولية من النحو والصرف والحساب وما إليها ، ثم إنتقل إلى سامراء وإشتغل بالبحث والدرس والتدريس هناك مدة طويلة من الزمن ، ثم سافر إلى الكاظمية وبقي هناك مشتغلا بالبحث والدرس ما يقرب من سنتين ، ثم سافر إلى كربلاء وبقي مدة قصيرة وإنتقل بعدها إلى النجف وبقي هناك ما يقرب من عشرين سنة ، ثم إنتقل إلى كربلاء وبقي فيها إلى حين وفاته ، تلمذ على الشيخ محمد تقي الشيرازي ، وآغا رضا همداني صاحب «مصباح الفقيه» والسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي صاحب العروة الوثقى ، والشيخ محمد حسين النائيني والسيد حسين القمي وغيرهم ، وبعد وفاة السيد القمي إستقل بالبحث والتدريس ، له من المؤلفات 1 ـ شرح لم يتم على العروة الوثقى 2 ـ رسالات في مباحث أصولية 3 ـ رسالة في التجويد 4 ـ رسالة حول فقه الرضا عليه السلام 5 ـ كشكول في مختلف العلوم 6 ـ الدعوات المجزيات 7 ـ هدية المستعين في أقسام الصلوات المندوبة 8 ـ رسالة في الجفر 9 ـ أجوبة المسائل ألإستدلالية . أما ما برز من آثاره إلى الطبع فهو 10 ـ ذخيرة العباد 11 ـ ذخيرة الصلحاء 12 ـ الوجيزة 13 ـ تعليقة على العروة الوثقى 14 ـ تعليقة على وسيلة السيد أبو الحسن ألأصفهاني 15 ـ بداية ألأحكام.

في أعقاب وفاة العالم الجليل والمرجع الكبير السيد الميرزا مهدي الحسيني الشيرازي ، وفي نفس السنة التي إنتقل بها إلى جوار ربه (1380 هـ) ، لقي المرجع الديني ألأكبر آية الله العظمى السيد ألآغا حسين البروجردي وجه ربه ، وبوفاة هذين المرجعين الكبيرين خسر العالم ألإسلامي وجهين ربانيين نيرين ودعامتين إسلاميتين عظيمتين ومرجعين كبيرين خسرتهما دنيا الشيعة دفعة واحدة تقريبا.

وبعد وفاة السيد البروجردي إنتقلت الرئاسة الدينية من جديد إلى النجف ، حيث كان آية ألله العظمى السيد محسن الحكيم المتوفى سنة 1390 هـ أكثر حظا بها ، فأصبح المرجع الديني ألأكثر شهرة ومقلدا في العالم ألإسلامي ، لكن مرجعيته التقليدية كانت أقل نطاقا من آية ألله العظمى البروجردي ، نظرا لتواجد آيات عظام آخرين ، كان لهم مقلدوهم وتابعوهم الكثيرون هنا وهناك من بلاد ألإسلام المترامية ألأطراف.

وفي هذا الوقت كان العلامة الكبير السيد محمد الحسيني الشيرازي نجل آية ألله العظمى السيد الميرزا مهدي الشيرازي يملأ الفراغ الذي خلفه موت والده بحوزة كربلاء ،إذ واصل ألأعمال والخطوات الدينية والتوعوية التي كان والده الراحل قد شغلها لتطوير الحركة العلمية بكربلاء ، وتنشيط الدعوة ألإسلامية فيها مبتكرا لها أساليب ومناهج حديثة إضافية .

والجدير بالذكر أن الميزة التي يتحلى بها السيد محمد الشيرازي هي معرفته الدقيقة بشؤون ألأعلام ، واهميته بالنسبة للدعوة ألإسلامية والتبليغ المذهبي ، فهو يعرف جيدا كيف يتعامل أعداء ألإسلام مع وسائل ألإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية لتشويه سمعة ألإسلام ، وكيف يجب أن يتعامل المسلمون مع هذه الوسائل خدمة لدينهم الحنيف وقضاياهم العادلة.

وإنطلاقا من وعيه ألإعلامي ، سعى لتنشيط حركة التأليف والطبع مبتدئا من نفسه ، حيث كان مكبا على التأليف والتصنيف ، ومؤلفاته المطبوعة وغير المطبوعة تقدر بالمئات من أهمها : موسوعة الفقه الذي طبع منه إلى ألآن مائة وعشرة مجلدات ، وهي أكبر موسوعة فقهية في تاريخ الشيعة ، وكتاب ألأصول ، وكتاب الوصول إلى كفاية ألأصول في شرح الكفاية وكتاب ألإيصال الطالب في شرح المكاسب ومئات الكتب في شتى العلوم.

وللسيد محمد الشيرازي رؤيته التفصيلية تجاه الحكم ألإسلامي الموحد ومراحل إقامته المتدرجة في كل بلد يتكاثر فيه المسلمون وصولا إلى الحكومة ألإسلامية العالمية الموحدة التي يسميها بحكومة ألألف مليون مسلم ، وقد شرح أطروحته هذه بإسهاب في كتابه المطبوع المسمى «السبيل إلى إنهاض المسلمين».

وهي أطروحة مثالية للغاية تعوزها عناصر تطبيق ، خاصة في الظروف وألأحوال السائدة في عالمنا الراهن ، حيث العلاقات ألإجتماعية وألإقتصادية والسياسية معقدة ومتشابكة ومتداخلة ،وأن قوى عالمية متعددة ألإتجاهات والنزعات تفرض ميولها وتوجهاتها على كثير من دول العالم بضمنها الدول ألإسلامية ، إلى جانب أن أرض ألإسلام والمسلمين غير موحدة وغير متصلة في بعضها البعض، وأن النزعات القومية والوطنية تتحكم بالشعوب ألإسلامية ، وأن التغلب على كل هذه العقبات يحتاج لأعمال خارقة بما يشبه المعجزات ولمرور زمن طويل.

بيد أن ألأطروحة بمجملها يمكن أن تكون مثار بحث ومناقشة ومقارنة بتجارب الحكم ألإسلامي الماضية والحاضرة ، الفاشلة منها أو الناجحة.