موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

 

 

المكلفين من الإنس والجن وجامعاً للوصفين كإيمان الأنبياء والأوصياء وهو أعلاها وأرفعها درجة ثم للمعرفة من طريق الاكتساب والتحصيل طرق عديدة منها التقليد المحض كإيمان العامي ومنها الأجتهاد المحض كإيمان العالم ومنها المركب من الأجتهاد والتقليد، وأعلاها درجة الأجتهاد، ومن هنا نتصور درجات كثيرة وقد حصرها الفاضل النراقي (رحمه الله) في أربع درجات نصه في مشكلات العلوم(1): وتفصيل الكلام في كليات مراتب المعرفة الإيمانية لها أربعة درجات كما للتوحيد:

              الأولى: المعرفة التقليدية وهي الجزم الحاصل من التقليد للغير كإيمان الأكثر من العوام المؤمنين والمنحطين عن درجة الأستدلال، ويشير إليه قوله: (إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا)(3) فإن الأرتياب يحصل غالباً في الأقتحام في الأدلة الجدلية وشبهات أهل النظر والمتكلم بها قد ينجر إلى زوال الأطمئنان وأختلاج الشكوك، ثم قال: وبالجملة هذا الجزم كاف في صدق الإيمان وصحة العمل.

              الثانية: المعرفة العقلية وهي الحاصلة من البراهين القياسية والأدلة القطعية الحكمية وإن كانت خالية عن آثاره القلبية وعن الإيمان بالغيب حيث أنه تصديق من وراء حجاب مجرداً عن ضياء وصفاء.

              الثالثة: المعرفة القلبية المقترنة ببصيرة نورية ومحبة روحانية وحالة شوقية وهي أمارة الكمال المتأثر به القلب وينشرح به الصدر وإليه الإشارة بقوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكروا الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءايته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (2) الذين يقيمون الصلوة ومما رزقنهم ينفقون(3) أولئك هم المؤمنون)(3) فالهداية السابقة بدلالة العقل وهنا بنور القلب.

              الرابعة: المعرفة الشهودية وهي التصديق الحاصل من شهود التجليات الإلهية والإشراقات الصمدانية والاستغراق في بحار الأنوار الجبروتية حيث ينسلخ من إدراك الكيفية ونفسه ويسير إلى هذا المقام الخ.

              وإذا عرفت هذه الدرجات فأعرف أن درجة العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» هي الرابعة وهي العليا لأن الإمام «عليه السلام» أثبت له أمرين قوة الإيمان والبصيرة التي هي الدرجة الثالثة، وأثبت هو لنفسه كما عرفت في علمه

(1) مشكلات العلوم: ص304.

(2) الحجرات: 15.                                        (3) الأنفال: 2- 4.

(330)

درجة صدق اليقين ومعلوم أن من تجاوز الثالثة وأتجه بسيره إلى الرابعة وصلها بسيره الحثيث ولا خفاء على العارف أن المؤمن إذا سرى الإيمان في جميع جوارحه وأنبث في عامة أعضائه وخالط لحمه ودمه أستغرق في حب الله تعالى وفنى إحساسه في حب الذات الصمدية فليس يرى في الوجود إلا الله ولا يشعر بغير كمالاته تعالى فإن الحب الصحيح يوجب الاستغراق ويستولي على كيان الشعور ويستلب المشاعر والحواس.

              فقد ذكر المؤرخون إن قيساً المجنون كان يحز يده بالسكين ولا يشعر حتى أدماها وإنه يقلب الجمر بكفه ولا يحس حتى أحترقت وإنه صب ظرفين من سمن وعسل على قدميهما ولا يشعران راجع تزيين الأسواق والدر المنثور وغيرهما.

              والمروي في محبة زليخا ليوسف الصديق أنها إذا قطرت من دمها قطرة تشكلت يوسف كأنها خطت بقلم.

              فالمؤمن إذا أستغرق غاب عنه الحس وإذا قام المؤمن بواجبات التكاليف التي كلفت بها أعضاؤه الباطنية والظاهرية فقد وصل الدرجة العليا وهي الرابعة فيما رواه النراقي والعاشرة في الحديث المشهور الإيمان عشر درجات، وفي بسط الإيمان على الجوارح حديثان رواهما الكليني في الكافي أحدهما عن أبي عمرو الزبيري عن الإمام الصادق «عليه السلام» ذكرناه في المسودة وتركناه لأجل الاختصار، انظره فيه(1).

البصيرة في الدين وهي ثمرة الإيمان

              وهي كناية عن المعرفة الصادقة بحقيقة الإيمان والإحاطة التامة بجميع ما يقوم به الدين ويشاد به الإسلام والأطلاع والخبرة بضلالة المضل وباطل المبطل من اي طريق كان سواء كان من طريق الكشف كمعرفة النبي (ص) والأئمة «عليهم السلام» أو الأستناد إلى الوحي كما هو حال الأنبياء والأوصياء وهنا يختلف الحكم بين النبي والإمام فإن النبي يأخذ العلم بواسطة واحدة وهي عن جبرئيل «عليه السلام» والإمام يأخذه بواسطتين عن النبي (ص) عن جبرئيل «عليه السلام» ثم المصدر له العلم الإلهي وهذا معنى قول مولانا أمير المؤمنين «عليه السلام»: علمني رسول الله (ص) ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب، وقوله «عليه السلام» مشيراً إلى صدره الشريف: هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول

(1) أصول الكافي: ص238.

(331)

الله (ص)، وقوله «عليه السلام» ما من فئة تهدي مائة أو تضل مائة إلا وأنا عالم بسائقها وقائدها وناعقها، وعلى هذا وقعت جميع إخباراته الصادقة كإخباره بإمرة مروان الحكم كقوله: دعوه عليه لعنة الله إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه، وكإخباره بدولة عبد الملك وولده وقوله أبو الأكبش الأربعة، الويل لأمة محمد منه ومن بنيه، وقوله فيه: يفحص ضليل براياته في كوفان وقوله في معاوية: يجتمع أمر الأمة على مندحق البطن واسع البلعوم، وقوله في الحجاج بن يوسف أبو وذحة وأمثال ذلك مما هو مشهور، ومن كانت له هذه الأوصاف فله في رسوخ الإيمان وقوة البصيرة في الدين ما لا يقاس به أحد من الناس مهما كان ونحن لسنا بصدد هذا المعنى فإن هذا المضمار لا تجري فيه إلا تلك السوابق وهذه الغاية لا تحرزها إلا تلك المذاكي وهذا الأمد لا تصله إلا تلك الجياد.

              بل جل أهتمامنا بإثبات البصيرة الكسبية التي تحصل من الاختبار والخلطة أو من ظواهر الأدلة السمعية ولو من جهة ظهور المعجز فإن هذه الأسباب لها الأثر التام في رسوخ العقيدة ونفوذ البصيرة، ويشهد للتبصر المسبب عن الخلطة والمعاشرة التي بسببها يقوي الاعتقاد بصلاح الصالح وضلالة المضل ما قاله مولانا أمير المؤمنين «عليه السلام» لأصحابه الذين صاروا خوارج فيما بعد وقد أسترابوا بحمل أهل الشام المصاحف ورفعها على رؤوس الرماح يدعون حيلة ومكراً إلى حكم القرآن وخديعة لضعفاء الإيمان والعقول من أهل العراق فأنخدع بها أهل الإيمان الصوري والديانة القشرية فقالوا: يا علي! أجبهم إلى حكم القرآن وإلا فارقناك، فقال: ويحكم يا أهل الجباه السود! قد كنا نظن أن صلاتكم عبادة، ويلكم من معاوية وعمرو بن العاص والوليد وإبن أبي سرح ومروان ليسوا بأصحاب دين ولا أهل قرآن قد صحبتهم رجالاً وأطفالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال: أنا أعرف بهم منكم فلم يقنعوا.

              ومن البصيرة التي سببها الاختبار هرب جماعة من أصحاب معاوية إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» وإنما قادتهم إليه البصيرة في الدين إذ هو لم يكن مثل معاوية بعطي الأموال يستميل بها قلوب الناس إليه حتى يقصد للطمع والرغبة في الدنيا فيقال: قصدوه للأطماع لأنه مشهور بحرمان الأشراف من أموال المسلمين وليس لهم عنده سوى أعطياتهم وحقوقهم ولو أعطى أحداً زائداً على حقه لأعطى عقيلاً أخاه فليس لحوق من لحق به إلا للبصيرة في الدين فإن الحق معه والنجاة في جانبه.

(332)

              وقد تكون البصيرة بسبب إخبار الصادق كما هو شأن أهل الإيمان الذين تلقوا ذلك بعين صافية عن صادق كعمار بن ياسر ومقداد بن عمرو، وهذا النمط من أهل البصائر وقد يكون سبب البصيرة التواتر كالتبصر في حال يزيد بن معاوية ويزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد وأضرابهم.

              وقد يكون سبب البصيرة أشتهار الشخص بالأستهانة بالدين وعدم المبالات به كما هو المشهور من حال معاوية بن أبي سفيان وعبد الملك بن مروان؛ فالأول ينهى عن أستعمال أواني الذهب ويقال له(1): نهى عنها النبي (ص) فيقول: أما أنا فلا أرى بذلك بأساً، فيقول له القائل: يا عجباً منك يا معاوية أخبرك بقول رسول الله (ص) وتخبرني برأيك! لا أساكنك في بلد، والثاني منهما يقول لسعيد بن المسيب: صرت أعمل الخير فلا أسر به وأعمل الشر فلا أساء به، فيقول له سعيد: الآن تكامل فيك موت القلب.

              وقد يكون سبب البصيرة نقل من له الوثاقة فينقل الزندقة عن شخص كما نقل الثقاة عن هشام بن عبد الملك وسروره بقول الشامي الزنديق: أنت خليفة الله ومحمد رسوله وخليفة الشخص أفضل من رسوله.

              وهذه الطرق كلها تفيد العلم؛ أما التواتر فأمره ظاهر، وأما الشهرة فإلى التواتر ترجع حيث لا معارض لها، وأما خبر الثقة فلا حتفافه بالقرائن الحالية أو المقالية يفيد مفاد التواتر وإن تعرى عن القرائن أفاد الظن القوي بالصدق بل يفيد العلم إذا خلى عن المعارض، وأما خبر الصادق فهو أعلا الكل لأنه مستند إلى أمر سماوي يكشف عن الأسرار لأن المنافق ربما تستر والفاسق ربما أستعان على فسقه بالكتمان وقد فضح القرآن المجيد منافقي أهل المدينة ونشر أعمالهم التي تستروا بها.

              ومن هذا القبيل صح لعمر بن الخطاب وكان ولى حابس بن سعد الطائي بعض الولايات فجاءه يوماً فقال: رأيت كأن القمر جاء من المغرب في جميع عظيم وجاءت الشمس من المشرق في جمع عظيم فأقتتلا، فقال له: مع من كنت أنت؟ قال: مع القمر، قال: مع الآية الممحوة والله لا تلي لي عملاً فعزله فقتل مع معاوية بصفين؛ رواه الحلبي الشافعي وغيره.

              ومن هذا الباب صح لعثمان أن يقول لابن الزبير وقد أشار عليه أن يلحق

(1) القائل له عبادة بن الصامت الأنصاري.

(333)

بمكة فقال عثمان: سمعت رسول الله (ص) يقول: يلحد بمكة كبش من قريش أسمه عبد الله عليه نصف عذاب أهل النار، ظهر مصداق ذلك أخيراً لما ألحد ابن الزبير بمكة وأستغوى طغاماً وأدعى الخلافة بزعم الوصية من عثمان، ولما أنشب بالخلافة أظفاره وعض عليها بنواجذ الحرص والجشع تكشفت سريرته وعرفت نيته فإنه قطع الصلاة على رسول الله (ص) أربعين جمعة لم يذكره في خطبه ولم يصلي عليه وجمع ذرية رسول الله (ص) واراد إحراقهم بالنار، وتفصيل ذلك في ترجمته من كتابنا «الميزان الراجح».

              ومن التجارب والخطة نفذت بصائر أصحاب أمير المؤمنين «عليه السلام» وصحت عقائدهم في عدله وفضله وإن فارقه بعضهم لأمور دنيوية فقاموا في مجلس معاوية خصمه الكاشخ وعدوه الألد فلم يرهبوا سطوته ولا خافوا بطشه وهم في عاصمته بين أعوانه وجنوده مثل خالد بن المعمر السدوسي وضرار بن ضمرة الضبائي والأحنف بن قيس وجارية بن قدامة التميميان والوليد بن جابر الطائي وطارق بن عبد الله النهدي وغيرهم من الرجال، ومن النساء الزرقاء وأم عمارة وأمثالهما ممن ذكرنا أخبارهم وأخبارهن في «الميزان الراجح».

معنى البصيرة لغة:

              هي المعرفة عند اهل اللغة، قال ابن الاثير في النهاية: على بصيرة أي على معرفة من أمركم ويقين.

              وقال الفيروز آبادي في القاموس: وبصيرة عقيدة القلب والفطنة الخ.

معناها العامي:

              العوام يتكلمون بها ولا يعروفون تفسيرها ولكنا نفسرها لهم فإنا نسمعهم يقولون: آل فلان عدهم بصيرة بكسر الصاد يعني رأي ومشورة، ويقول بعضهم لمن يرتاب به: أوجب أبصرك يعني أوضح لك وأبينك لك ما تشك به، ويقولون: فلان عنده بصيرة أيضاً بكسر الصاد يعني رأي دقيق مصيب.

معناها العقلي والشرعي:

              تفسير القاموس يوافق معناها العقلي، والمعنى الشرعي للبصيرة هو الاعتقاد الراسخ والعقيدة الثابتة وهو مفاد العلم الحاصل من أحد الأسباب التي ذكرنا، والمعنى الشرعي والعقلي لا يختلفان إلا كنسبة النور إلى أثره فإن النور ضياء محض آثره الأستضاءة فالعقيدة الصادقة تؤثر الرسوخ المعبر عنه بالنور القلبي عند أهل العرفان.

(334)

              قال الشريف الجرجاني في التعريفات(1): البصيرة قوة للقلب المنور بنور القدس يرى بها حقائق الأشياء وبواطنها بمثابة البصر للنفس يرى بها صور الأشياء وظواهرها وهي التي يسميها الحكماء العاقلة النظرية والقوة القدسية الخ.

              وقال فخر الدين الطريحي (رحمه الله) في مجمع البحرين(2) في قوله تعالى: (قد جاءكم بصابر من ربكم)(3) أي حجة مبينة وأحدها بصيرة وهي الدلالة يستبصر بها الشيء على ماهو به نور القلب ويبصر بها، إنتهى.

              إن للقلب عيون نورانية أنفذ شعاعاً من شعاع البصر ولهذا وصفها الله تعالى بالعمى حيث قال: (فإنها لا تعمى الأبصر ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)(4) وقال الشاعر:

قلوب العاشقين لها عيون                 ترى  ما لا يراه الناظرونا

              وقال عبد الله الأنصاري في منازل السائرين: قال تعالى: (قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)(5) البصيرة ما يخلصك من الحيرة، إنتهى.

              وكلامه هذا يدل عليه كثير من الآثار منها ما ذكره نصر بن مزاحم في كتاب صفين(6): خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يظهران البراءة واللعن من أهل الشام، فأرسل إليهما علي «عليه السلام»  أن كفا عما يبلغني عنكما، فأتياه فقالا: يا أمير المؤمنين! ألسنا محقين؟ قال: بلى، قالا: ففيم منعت من شتمتهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين تشتمون وتبرؤون ولكن لو وصفتم مساوي أعمالهم فقلتم من سيرتهم كذا وكذا ومن عملهم كذا وكذا كان أصوب في القول وأبلغ في العذر وقلتم مكان لعنكم إياهم وبرائتكم منهم: اللهم أحقن دمائنا ودمائهم وأصلح ذات بيننا وبينهم وأهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق منهم من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لج فيه كان هذا أحب إلي وخيراً لكم، فقالا: يا أمير المؤمنين! نقبل عظتك ونتأدب بأدبك.

              وقال عمرو بن الحمق: إني والله يا أمير المؤمنين ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك ولا إرادة مال تؤتينه ولا التماس سلطان ترفع به ذكري ولكني أحببتك لخصال خمس: إنك ابن عم رسول الله (ص)، وأول من آمن به، وزوج

(1) التعريفات: ص31.                                 (2) مجمع البحرين: ص256 طبع تبريز.

(3) الأنعام: 104.                                           (4) الحج: 46.

(5) يوسف: 108.                                          (6) وقعة صفين: ص55 طبع إيران.

(335)

سيدة نساء العالمين فاطمة، وأبو الذرية التي بقيت فينا من رسول الله (ص)، وأعظم رجل من المهاجرين سهماً في الجهاد،فلو أني كلفت نقل الجبال الرواسي أو نزح البحور الطوامي حتى يأتي علي يومي في أمر أقوي به وإليك وأوهن به عدوك ما رأيت أني قد أتيت كل الذي يحق علي من حقك.

              فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: اللهم نور قلبه وأهده إلى الصراط المستقيم ليت في جندي مائة مثله.

              فقال حجر (رحمه الله): إذن والله يا أمير المؤمنين صح جندك وقل فيهم من يغشك، ثم قام حجر بن عدي وقال: يا أمير المؤمنين! نحن بنو الحرب وأهلها نلقحها وننتجها قد مارستنا وما رسناها ولنا أعوان ذووا صلاح وعشيرة ذات عدد ورأي مجرب وبأس محمود وأزمتنا منقادة لك بالسمع والطاعة فإن شرقت شرقنا وإن غربت غربنا وما آمرتنا به من أمر فعلناه.

              فقال له علي «عليه السلام»: أكل قومك يرى مثل رأيك؟

              فقال: ما رأيت منهم إلا حسناً وهذه يدي عنهم بالسمع ولا طاعة وبحسن الإجابة.

              فقال له علي «عليه السلام»: خيراً، إنتهى.

              وذكر قصة الذين بعثهم أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى معاوية ليدعونه إلى طاعته وهم عدي بن حاتم ويزيد بن قيس وشبث بن ربعي وزياد بن خصفة وساق القصة قال فيها: فلما رجعوا من عند معاوية بعث إلى زياد بن خصفة التيمي فدخل عليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا أخا ربيعة فإن علياً قطع أرحامنا وقتل إمامنا وآوى قتلة صاحبنا وإني أسألك النصرة عليه بأسرتك وعشيرتك ولك علي عهد الله وميثاقه إن ظهرت أن أوليك أي المصريين أحببت.

              قال أبو المجاهد: سمعت زياد بن خصفة يحدث بهذا الحديث قال: فلما قضى معاوية كلامه حمدت الله وأثنيت عليه ثم قلت له: أما بعد، فإني لعلى بينة من ربي وبما أنعم علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين.

              فقال معاوية لعمرو بن العاص وكان إلى جانبه جالساً: ليس يتكلم رجل منهم بكلمة ما لهم عضبهم الله ما قلوبهم إلا قلب رجل واحد، القصة(1).

              وقال نصر(2): خرج ابن مقيدة الحمار الأسدي وهو مع أهل الشام وكان في

(1) وقعة صفين: ص103.                           (2) وقعة صفين: ص141.

(336)

الناس ردف بشر بن عصمة وهو الثاني في الناس فنادى، ألا من مبارز؟ فأحجم الناس عنه فقام المقطع العامري وكان شيخاً كبيراً فقال له علي «عليه السلام»: أقعد فإنك شيخ كبير – وليس معه من رهطه أحد غيره – ما كنت لأقدمك، ثم إنه نادى ابن مقيدة الحمار ثانية: ألا من مبارز؟ فقام المقطع فأجلسه علي «عليه السلام»: نادى ابن مقيدة الحمار ثانية: ألا من مبارز؟ فقام المقطع فأجلسه علي «عليه السلام» أيضاً، ثم نادى الثالث: ألا من مبارز؟ فقام المقطع وقال: يا أمير المؤمنين! والله لا تردني فإما أن يقتلني فأتعجل الجنة وأستريح من الحياة الدنيا في الكبر والهرم وإما أقتله فأريحك منه.

              فقال له علي «عليه السلام»: ما أسمك؟ فقال: أنا المقطع قد كنت أدعى هشيماً فأصابتني جراحة فسميت مقطعا منها، فقال له: أخرج اللهم أنصره، فحمل عليه المقطع فأجهش ابن مقيدة الحمار وكان ذكياً مجرباً فلم يجد شيئاً خيراً من الهرب فهرب حتى مر بمضارب معاوية والمقطع على أثره فجاز معاوية فناداه معاوية: لقد شخص بك العراقي، قال: لقد فعل ثم رجع المقطع حتى وقف موقعه فلما كان عام الجماعة وبايع الناس معاوية سأل عن المقطع العامري حتى نزل عليه فدخل عليه فإذا هو شيخ كبير فلما رآه قال: أوه لو علمت أنك في هذه الحال ما أفلتني.

              فقال: نشدتك الله إلا قتلت وأرحت من بؤس الحياة وأدنيتني إلى لقاء الله.

              فقال: إني لا أقتلك ولي إليك حاجة.

              قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لأواخيك.

              قال: إنا وإياكم قد افترقنا في الله، أما أنا فأكون على حالي حتى يجمع الله بيننا في الآخرة.

              قال: فزوجني ابنتك.

              قال: قد منعتك ما هو أيسر علي من ذلك.

              قال: فأقبل مني صلة.

              قال: لا حاجة لي فيما قبلك، فتركه ولم يقبل منه شيئاً، إنتهى.

              وهذا الكتاب منعم بأمثال هذه القصص ومنها قصة عمار بن ياسر مع ذي الكلاع وعمرو بن العاص فراجعها(1).

(1) وقعة صفين: ص166.

(337)

درجات البصيرة

              للبصيرة درجات ومراتب كثيرة حصرها بعضهم في ثلاث درجات.

              قال عبد الله الأنصاري في منازل السائرين(1): وهي على ثلاث درجات:

              الأولى: أن تعلم الخير القائم بتمهيد الشريعة يصدر عن عين إلا تخاف عواقبها فترى من حقه أن تلذ له يقيناً وتغضب له غيرة.

              قال الكاشاني في شرحه: الخير القائم: بتمهيد الشريعة هو ما أخبر به رسول الله (ص) فإن مطلق خبره هو الممهد للدين القويم والشريعة الحقة فينبغي لك أن تتحقق بنور بصيرتك إنه إنما صدر عن عين أي ذات صادقة لا تخبر إلا عن عيان ولا تكلم إلا بما هو الحق المطابق لما في نفس الأمر فيكون عاقبة أتباعها الخير والسلامة والنجاة والسعادة فهي محمودة ومأمونة فلا تخاف عواقبها إذ لا غائلة لها أصلاً بل الغائلة في ترك أتباعها ومخالفتها فترى من ذلك الخير عليك أن تلذه بحسن القبول.

              قال الأنصاري: الدرجة الثانية: أن تشهد في هداية الحق وإضلالة إصابة العدل وفي تلوين أقسامه رعاية البر وتعاين في جذبه حبل الوصال.

              وقال الكاشاني في شرحه: يعني أن تشاهد بنور البصيرة بعد علمك أن الهداية والإضلال كليهما من الله في أنه في إضلاله من أضله عادل كما في هداية من هداه، ولا جور في إضلال(2) من أضله، ولا محاباة في هداية من هداه وقد فعل بكل واحد منهما ما اقتضاه غيبة وماهو لائق به، ولا يطلع على ذلك إلا بالكشف والأطلاع على سر القدر وأحوال الأعيان الثابتة في العدم أزلاً.

              إلى أن قال في تلوين اقسامه: رعاية البر يعني وأن تشهد في أختلاف أقسام الرزق وتوسيعه على من وسعه عليه وتضييقه على من ضيقه عليه إنه تعالى راعى مصلحتهما في ذلك وإنه بار بالمعسر في تضييق الرزق عليه كما أنه بار بالموسر في التوسيع عليه وإن الفقير لا يصلح له إلا الفقر وإن الغني لا يصلح له إلا الغنى الخ.

              قال الأنصاري: الدرجة الثالثة: بصيرة تفجر المعرفة وتثبت الإشارة وتنبت الفراسة.

(1) منازل السائرين: ص145.

(2) هذا على عقيدة المجبرة أعاذنا الله من ذلك.

(338)

              قال الكاشاني في شرحه: إنما قال تفجر المعرفة لأن المعرفة لا تكون إلا موهبة من الله تعالى ولا تحصل بالكسب والبصيرة كاسبة له في العالم العلوي بالعيان والشهود من الحقائق والمعارف، نافذه في الغيب إلى الأفق الأعلى فتشهد ما هناك.

              إلى أن قال: وتنبت الإشارة يعني إن الحقيقة ألطف من أن يعب عنها بعبارات أو تعرف بعلم.

              ثم قال: فالبصيرة إذا بلغت هذا الحد أنبتت الإشارة وأنبتت الفراسة، ولما شبه المعرفة بالماء الجاري على وجه الأرض شبه الفراسة بالنبات فإنها تظهر في أرض القلب الطاهر الصافي عن أكدار التعلق بالأكوان الباقي على الفطرة الأصلية فإن جميع قلوب بني آدم في الأصل قابلة للفراسة بحسب الفطرة لكنها قد أقبلت على الدنيا وأشتغلت بلذاتها وشهواتها وأعرضت عن عبادة الله تعالى وذكره وشرعت في معاصيه وأكبرت الحرام وأكثرت الفضول والمنام فاظلمت وصارت في أكنة وارتكم الرين عليها كما قال الله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)(1) فمن وفقه الله لتزكية نفسه وتصفية قلبه بالزهد والعبادة وطهر قلبه عن دنس هذه التعلقات وأخلصه من هذا الظلمات فجر فيه المعارف وأنبت فيه الفراسة وأظهر فيه الحكم كما قال النبي (ص): من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قبله على لسانه الخ.

              وهذا مسلك روحاني وطريقة عرفانية ويتخلص من فحوى الأحكام الشرعية على مسلك أهل الشرع وطريقة المتشرعة هكذا:

              الدرجة الأولى: أن تحصل للمؤمن من مشاهدة المعجزة وإخبارات الصادقين قوة يطمئن معها بصحة هذا الدين.

              الدرجة الثانية: أن تحصل له ملكة من مشاهدة ما ذكرنا ومطالعة ما في الكون من الدلائل على صحة ما جاءت به الأخبار الصادقة والمعجزات الباهرة من أن هذا الدين هو دين الحق وفي الاعتصام به النجاة وفي القرآن المجيد كثير من الآيات الآمرة بهذا الأعتبار والتفكير في هذا النظام البديع وكذلك الأحاديث وخصوصاً خطب مولانا أمير المؤمنين «عليه السلام» مثل قوله: لو فكروا في عظيم القدرة، الخطبة بطولها. قال الشاعر:

ورق الغصون إذا نظرت دفاتر        مشحونة بأدلة التوحيد

(1) المطففين: 14.

(339)

إيمان العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» وبصيرته

              هو فيهما في درجة أهل بيته لأنه «عليه السلام» قد جمع كل هذه الأسباب الموجبة لنفاذ البصيرة من الأخبار الصادقة عن الأئمة الطاهرين كأبيه وأخويه السيدين الحسن والحسين «عليهما السلام» ومشاهدة المعجزة والتفكر في صحيفة الوجود وصفاء النفس والكشف، فقد صح أن أصحاب الحسين «عليه السلام» كشف لهم وليس وراء عبادان قرية، يشهد له الإمام جعفر الصادق «عليه السلام» فيما رواه السيد الداودي وغيره ولفظه في عمدة الطالب(1): قال الصادق جعفر بن محمد «عليهما السلام»: كان عمنا العباس بن علي «عليهما السلام»  نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله «عليه السلام» وأبلى بلاء حسناً ومضى شهيداً، ودم العباس «عليه السلام»في بني حنيفة، إنتهى.

              وقوله «عليه السلام» في زيارته التي رواها ابن قولويه في كامل الزيارة: «أشهد أنك لم تهن ولم تنكل وأشهد أنك مضيت على بصيرة من دينك مقتدياً بالصالحين ومتبعاً للنبيين» الخ.

              للمؤلف:

إيمان شبل علي ظاهر الأثر                للناظرين كما قد جاء في الخبر

بأنه صلب إيمان بصيرته                    في الدين نافذة أكرم بخير سري

فدى الحسين بنفس لا مثيل لها              بعد الأئمة والسادات للبشر

مطهر النفس من عيب يدنسها         مقدم في سبيل الخير ذا أثر

أبوه أكرم خلق الله قاطبة                   بعد النبي المعلى خيرة الخير

به افتخار بني عدنان قاطبة               على بني يعرب إذ كان من مضر

فخر العروبة لا شكل يخالطه           علي لا خالد الجبار ذو البطر

هذا مع المصطفى يحمي شريعته       وذاك عن هبل حامي بلا نكر

كان الوصي يسمى في وقائعه            بكاشف الكرب بالصمصامة الذكر

سل يوم بدر وأحد أين موقفه          من خالد رأس أهل الكفر واعتبر

وشبله السيد العباس موقفه             بالغاضرية فيه خير مفتخر

(1) عمدة الطالب: ص323 الطبعة الأولى.

(340)

فيا له موقف تبقى فضائله                 ما دام يمشي على الغبراء من بشر

وراحل لجنان الخلد جهز من           جند ابن ميسون آلافا إلى سقر

لولا الكمين الذي أردى بساعده     لم يبقى حياً يحامي قط عن عمر

برى  الكمين يديه والعدى احتوشوا              ذاك الكمي احتواش السغب للجزر

(341)

أداب العباس الأكبر «عليه السلام»

أنواع الآداب ومعناها وأقسامها

              لكل طائفة من طوائف الإسلام وفرقهم أصطلاح خاص في الأدب وبهذا يتنوع الأدب إلى أنواع ثلاثة:

              أدب عربي ويطلق في مصطلح أهل اللسان على جميع العلوم المأخوذة عن قدماء العرب التي هي لسانهم كاللغة والنحو والصرف والأشتقاق والمعاني والبيان والبديع وأوزان الشعر وأمثالها، وقد يطلق الأدب ويراد به ديوان العرب وهو الشعر والقوافي خاصة وهذه العلوم تكون داخله فيه لأنه بها يسمى شعراً، وإطلاق الأدب على الشعر لفظ مولد فيما قاله الخفاجي في شفاء الغليل.

              وأدب شرعي وهو مصطلح المتشرعة من علماء الدين عبارة عن الأخذ بالفرائض والسنن الثابتة في الشريعة النبوية والمأثورة عن أئمة أهل البيت «عليهم السلام» وتهذيب النفس عن رذائل الأخلاق التي نهى عنها الشارع كما في وصية النبي (ص) لأمير المؤمنين «عليه السلام»ولأبي ذر الغفاري، ووصية أمير المؤمنين «عليه السلام» لولديه الحسن الزكي ومحمد بن الحنفية وأمثال ذلك وتثقيف النفس بمحاسن الصفات التي ندب الشارع المقدس إليها ويجمع هذه الآداب أمران: فعل ما رغب فيه، وترك ما نهى عنه.

              وأدب عرفاني: وأهل العرفان قسمان: قسم هم أهل الطريقة وهم أرباب التصوف والتقشف التصنعي ومسلكهم وعر في الآداب بحمل المريد على طريقتهم في أمور أبتدعوها أكثرها موافقة لمذاهب أهل الحلول من صوفية الفلاسفة وتناسخيتهم ويزعمون أنها ثبتت لديهم بطريق الكشف والشهود.

              وقسم هم أهل الحقيقة وهم النساك وأهل الزهد حقيقة والمتورعون الأتقياء لم يسلكوا مسالك الصوفية ولم يتخذوا التقشف طريقة ولم يزعموا أن الغيبة والشهود أحوالاً بل مسلكهم أقتفاء طريقة الشارع المقدس وأقتباسهم التهذيب النفسي من شريعة سيد المرسلين فالأداب عندهم ما جاءت به الشريعة المحمدية

(342)

ورجحته وأستحسنه العقل السليم كترك ما لا يعنيه من الفضول قولاً وفعلاً وتحمل ما يقدر عليه تكليفا وأجتناب ما لا يجوز شرعاً ويقبح عقلاً ، فهذه الطريقة العرفانية من هذا الوجه تتفق مع الأدب الشرعي، ومن فسره إنما فسره على الطريقة الأولى فلذلك أفترق عن الأدب الشرعي.

معنى الأدب في اللغة

              قال الفيروزآبادي في القاموس: الأدب محركة الطريق وحسن التناول، أدب كحسن أدباً فهو أديب وأدبته كعلمته فتأدب وأستأدب الخ، وهذا المعنى هو المتداول عند العوام تجدهم يقولون للوقح الجريء والبذيء المتفحش: تأدب واستأدب، ويوصون الصغير والعامي فيقولون: تأدب مع الكبير ومع العالم أي أزم ناحيته في الهدوء والسكون والكلام المحمود وفي الجلوس وأمثالها.

              قال الفيومي في المصباح المنير: أدبته أدباً من باب ضرب علمته رياضة النفس ومحاسن الأخلاق.

              وقال أبو زيد الأنصاري: الأدب يقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل.

              وقال الأزهري نحوه والأدب إسم لذلك والجمع آداب.

              وقال الجواليقي في شرح أدب الكاتب(1): فالأدب الذي كانت العرب تعرفه هو ما يحسن من الأخلاق وفعل المكارم مثل ترك السفه وبذل المجهود وحسن اللقاء.

              وقال الغنوي شعراً:

لم يمنع الناس مني ما أردت ولا                      أعطيهموا ما أرادوا حسن ذا أدبا

              كأنه ينكر على نفسه أن يعطيه الناس ولا يعطيهم وأصطلح الناس بعد الإسلام بمدة طويلة أن يسموا العالم بالنحو والشعر وعلوم العرب أديباً ويسمون هذه العلوم أدباً وذلك كلام مولو لأن هذه العلوم حدثت في الإسلام فأشتقاقه من شيئين يجوز أن يكون من الأدب وهو العجب ومن الأدب مصدر قولك أدب فلان القوم يؤدبهم أدباً إذا دعاهم، قال طرفه:

نحن في المشتاة ندعو الجفلى             لا ترى الأدب فينا ينتقر

(1) شرح أدب الكاتب: ص13.

(343)

              فإذا كان من الأدب الذي هو العجب فكأنه الشيء الذي يعجب منه لحسنه ولأن صاحبه الرجل الذي يعجب منه لفضله، وإن كان من الأدب الذي هو الدعاء فكأنه الشيء الذي يدعو الناس إلى المحامد والفضل وينهاهم عن القبائح، والفعل منه: أدبت أدب أدباً حسناً وأنا أديب، إنتهى.

              وقال الخفاجي في شفاء الغليل(1): وقال الإمام المطرزي: الذي كانت العرب تعرفه إنما هو ما يحسن من الأخلاق وفعل المكارم، وذكر مثلما قال الجواليقي.

              وقال أحمد البربير في الشرح الجلي(2): إعلم أن الأدب قسمان: أدب نفس وأدب درس؛ فأدب الدرس عبارة عن تعلم علوم جملتها اثنى عشر علماً، وهي: اللغة، والأشتقاق، والتصريف، والنحو، وعلم قرض الشعر، وعلم المعاني، وعلم البيان وفن البديع، وعلم الإنشاء، وعلم الخط والعروض والقوافي؛ فمن أحاط بها أو بعضها قيل له: أديب درس.

              وأما أدب النفس فهو رياضة النفس وحسن الأخلاق، قال أبو زيد: الأدب يقع على كل رياضة محمودة خرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، قلت: وعلى هذا التعريف يكون الأدب علماً على كل خلق محمود وإسماً جامعاً لمحاسن الأقوال والأفعال ومكارم الأخلاق ولذا عرفه بعضهم بقوله: هو أستعمال ما يحمد قولاً وفعلاً، وأشتقاقه من الأدب كالضرب وهو مصدر قولك: أدبه يؤدبه أدباً كضربه إذا دعاه إلى طعامه وذلك لأن الأديب يدعو الناس إلى المحامد والمحاسن من الأخلاق وينهاهم عن القبائح والمساوي التي تكون سبباً للشقاق والنفاق والفراق ويدعوهم لحمده والثناء عليه فإن الأديب تحبه الناس حتى أعداؤه والخالي من الأدب تكرهه الناس حتى والده وأولاده ونساؤه، الخ.

              وفي كلامه نظر حيث عد هذه العلوم من أدب الدرس وهذا خطأ محض فإن هذه العلوم من أدب النفس كتهذيب الأخلاق غاية ما يقال أن أدب النفس منه ما يكون بأكتساب وتحصيل كالعلم ومنه ما يكون برياضة وتهذيب كقهر ما يكون خلقاً طبيعياً للنفس.

              وأما أدب الدرس فهو عبارة عن آداب التعليم للمعلمين والمتعلمين ومعناه المنهج الدراسي والبرنامج العلمي الذي يلزم السير عليه في تحصيل المعارف وما

(1) شفاء الغليل: ص33.                              (2) الشرح الجلي: ص141.

(344)

ينبغي للتلميذ في مقابلة الأستاذ وما ينبغي للمعلم في تعليم التلميذ والسلوك معه وقد ألف فيه العلماء القدماء كتباً فبعضهم سماها آداب المعلمين والمتعلمين، وبعضهم سماها آداب المفيد والمستفيد، ومن هؤلاء الشيخ الشهيد الثاني من فقهائنا «رضوان الله عليه»، ومن جملة تلك الآداب أن لا يرفع صوته على المعلم، ولا يرد عليه، ولا يمزح بين يديه إلى آخر ما ذكروه، وأما أهل العصر فمؤلفاتهم فيه كثيرة ولسنا بصدد ضبط ذلك.

              وأخطأ أيضاً في جعله الأديب معلماً للناس محاسن الأخلاق وهذا خطأ واضح جداً من حيث أن كثيراً من الأدباء علموا الناس رذائل الأخلاق، ولما سمع حاتم الطائي قول المتلمس الضبعي:

وحفظ المال أحسن من بغاه             وطوف في البلاد بغير زاد

              قال: ما له قطع الله لسانه يعلم الناس البخل؟! وهذا الحطيئة العبسي وأبو النجم العجلي وأبو دلامة وغيرهم من ساقطي النفوس قد علموا الناس الشر، فهل من محاسن الأخلاق قول القائل:

أوصيت من برة قلباً برا                     بالكلب خيراً والحماة شرا

              إلى أن يقول في هذه التوصية الشريرة:

والحي عميهم بشر طرا

              أم من الدعاء إلى محاسن الأخلاق قول الآخر:

إياك والعفة إياكا                 إياك أن تفسد معناكا

أنت بخير يا أبا جعفر        ما دمت صلب الأير نياكا

فنك ولو أمك وأصفع ولو              أباك إن لامك في ذاكا

              هذا وأمثاله يوجد بكثرة عند أهل الأدب.

              وأخطأ ثالثة بجعله الأديب يدعو الناس لحمده والثناء عليه وهذا أفسد شيء ادعاه مدع، كيف يكون محبوباً عند الناس من تخاف غائلة لسانه سيما والشاعر لا يمنعه الإحسان عن الإسائة فقد هجى الحطيئة الزبر فأن بعد إحسانه إليه والمتلمس الضبعي وطرفة بن العبد نادما عمرو بن هند ملك الحيرة وأكرمهما فهجياه حتى قال طرفه:

فليت لنا مكان الملك عمرو              رغوثاً حول قبتنا تدور

              فقتل طرفه وهرب المتلمس، وهذا النابغة الذبياني والمنتخل اليشكري وهما

(345)

نديما النعمان بن المنذر وأكرم الناس عليه وصفا زوجته المتجردة بكل قبيح فأراد قتلهما فقتل اليشكري وهرب الذبياني.

              قال محمد بن خلف المرزبان في كتاب فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب(1): هجى أبو سماعة المعيطي خالد بن برمك وكان إليه محسناً فلما ولي يحيى الوزارة دخل إليه أبو سماعة فيمن دخل من المهنئين فقال: أنشدني الأبيات التي قلتها، فقال: ما هي؟ قال: قولك:

زرت يحيى وخالداً مخلصاً  لله           ديني فأستصغرا بعض شأني

فلو إني ألحدت في الله يوماً               أو لو أني عبدت ما يعبدان

ما استخفا فيما أظن بشأني                ولا صبحت منهما بمكان

              قال أبو سماعة: لم أعرف هذا الشعر ولا من قاله، قال يحيى: ما تملك صدقة إن كنت تعرف من قاله، فحلف، فقال له يحيى: أمرأتك طالق، فحلف، فأقبل يحيى على الغساني ومنصور بن زياد والأشعثي ومحمد بن محمد العبدي وكانوا حضوراً في المجلس، فقال: ما أحسبنا إلا وقد أحتجنا أن نجدد لأبي سماعة منزلاً وآلة وحرماً وأمتاعاً، يا غلام! إدفع له عشرة آلاف درهم وتختاً فيه عشرة أثواب، فدفع إليه، فلما خرج تلقته أصحابه يهنئونه ويسألونه عن أمره، فقال: ما عسيت أن أقول إلا أنه ابن زانية أبى إلا كرما، فليغ يحيى كلمته من ساعته فأمر به فحضر فقال له: يا أبا سماعة! لم نفرق في هجائنا ولم نفرق في شتمنا، فقال أبو سماعة: ما عرفته أيها الوزير افتراء وكذب علي، فنظر إليه يحيى ملياً ثم أنشأ يقول:

إذا ما المرء لم يختش بظفر                   ولم يوجد له إن عض ناب

رمى فيه الغميزة من بغاها                 وذلل من فراءته الصعاب

              فقال أبو سماعة: كلا أيها الوزير ولكنه كما قال:

لم يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا         حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام

ويشتموا فترى الألوان مسفرة         لأصفح ذل ولكن صفح أحلام

              فتبسم يحيى وقال: إنا عذرناك وعلمنا أنك لن تدع مساوي شتمك ولؤم طبعك فلا أعدمك الله ما جبلك الله عليه من مذموم أخلاقك، ثم تمثل:

(1) فضل الكلاب: ص11.

(346)

متى لم تتسع أخلاق قوم    يضيق بهم الفسيح من البلاد

إذا ما المرء لم يخلق لبيباً       فليس اللب من قدم البلاد

              ثم قال: هو والله ما قال عمر بن الخطاب: المؤمن لا يشفي غيظه، ثم إن أبا سماعة هجى بعد ذلك سليمان بن عفر وكان إليه محسناً، فأمر به الرشيد فحلق رأسه ولحيته، ومثل أبي سماعة كثير، إنتهى.

              فبأي وجه يجتذب هؤلاء وأمثالهم الناس إلى محبتهم والثناء عليهم؟ وهل إظهار محبتهم إلا رهبة من قذعهم وفحشهم؟ نعم الأديب الذي يمتحده الناس ويثنون عليه هو من أدبته الشريعة المحمدية بأخلاقها المرضية.

معنى الأدب العقلي العرفاني

              قال الجرجاني في التعريفات(1): الأدب عبارة من معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ، إنتهى.

              وقال عبد الرزاق الكاشاني في شرح منازل السائرين(2): حدود الله هي الأحكام الشرعية والأدب كله على محافظتها بحيث لا يجري عليها شيء لا يسوغه الشرع ولا أذن فيه لا على جوارحه ولا على لسانه ولا على قلبه ولا يخطر له ببال إلا مع الأستغفار لعلمه أن الله على كل شيء رقيب.

              قال عبد الله الأنصاري في منازل السائرين: الأدب حفظ الحد بين الغلو والجفاء لمعرفة ضرر العدوان.

              قال الكاشاني في شرحه: يعني حفظ الحدود المحدودة في الشرع مع الحق والخلق من غير الزيادة فيقع في الغلو، ولا في النقصان فيقع في الجفاء كما فعلت النصارى في إكرامهم المسيح فإنهم أفرطوا في إكرامه وإطرائه حتى كفروا ولهذا قال النبي (ص): لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم ولكن قولوا عبد الله ورسوله.

              وكما فعلت النصيرية في إطراء أمير المؤمنين «عليه السلام» ويدخل فيه الإسرافات المذمومة في الوضوء والغسل والنية وسائر الأمور الشرعية، قال الله تعالى: (يأهل الكتب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق)(3).

(1) التعريفات: ص8.                                                     (2) شرح منازل السائرين: ص119.

(3) النساء: 171.

(347)