موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

 

 

الحاجة فالبخل قد ينتهي إلى أن يبخل على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال فيمرض فلا يتداوى ويشتهي الشهوة فلا يمنعه منها إلا البخل بالثمن ولو وجدها مجاناً أكلها فهذا بخل على نفسه مع الحاجة وذلك يؤثر على نفسه غيره مع أنه محتاج إليه فأنظر ما بين الرجلين فإن الأخلاق عطايا يضعها الله حيث يشاء، وليس بعد الإيثار درجة في السخاء، إلى آخر كلامه المطول.

                وقال رشيد الوطواط في غرر النصائح الواضحة(1):  ويقال مراتب العطاء ثلاثة: سخاء وجود وإيثار؛ والسخاء إعطاء الأقل وإمساك الأكثر،  والجود إعطاء الأكثر وإمسالك الأقل، والإيثار إعطاء الكل من غير إمساك لشيء وهذه أشرف المراتب وأعلاها وأحقها بالمدح فإن إيثار المرء غيره على نفسه أفضل من إيثار نفسه على غيره وكفى بهذه الخلة شرفاً مدح الله تعالى  أهلها بقوله: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(2) الخ.

                فالإيثار مرتبة هي أعلا مرتبة في السخاء ودرجة هي أرقى درجة في الجود وإذا كان كذلك فمراتب الإيثار لا تضبط لأنها نسبية وتختلف بأختلاف الأحوال والأشخاص ويتميز منها مرتبتان بالإضافة إلى ما آثر به وبذله لغيره وهي مرتبة بذلك النفس والإيثار له وهي أعلا مراتب الإيثار ولا نعرفها في عرب الجاهلية إلا لكعب بن مامة الأيادي وحاتم بن عبد الله الطائي، وفي عرب الإسلام لإمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» فإنه آثر النبي (ص) بنفسه حين بات على فراشه ليلة الهجرة وبذل نفسه له في الحروب الطاحنة التي فرت فيها أبطال الصحابة.

                ولولده العباس الأكبر «عليه السلام» حين آثر أخاه الحسين «عليه السلام» بنفسه وفداه بروحه وعلى سبيله سلك شهداء كربلاء فإن الجميع آثروا الحسين«عليه السلام» بنفوسهم وباقي الشهداء في سائر الحروب الدينية ليسوا كذلك لأن الشهداء مع رسول الله (ص) لم يظهر منهم ما ظهر من أولئك من الإقدام على المنية والاقتحام على الموت مع علمهم أنهم لو تركوا لكانوا في مأمن ومنعه وموقفهم في صف الحسين «عليه السلام» لا يمنيهم بالسلامة ولا يبشرهم بالحيات أبداً، وأصحاب النبي (ص) دلائل الظفر عندهم لائحة وأمارات الغلب بهم واضحة والقرآن يخبرهم بذلك كما في بدر وخيبر: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها

(1) غرر النصائح الواضحة: ص 234.

(2) الحشر: 9.

(267)

لكم)(1)، و(وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها)(2) والنبي (ص) يخبرهم بحسن العاقبة وسلامة النفس والظفر ومع ذلك يقولون: (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا)(3) فأين هؤلاء ممن أذن لهم الحسين «عليه السلام» بالأنصراف وأخبرهم أنهم يقتلون جميعاً فيقولون لو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها، هؤلاء وأبيك جوهر الرجال ولباب الفضيلة.

المرتبة الثانية:

                الإيثار بالقوت وهذا كثير جاهلية وإسلاماً، فقد آثر حاتم الطائي بقوته وبات طاوياً وصنع غيره مثل صنعه من عرب الجاهلية.

                أما في الإسلام فقد آثر أهل بيت الرسول بأقواتهم وباتوا طاوين ثلاثاً فنزلت سورة «هل أتى» مدحاً وآية (يؤثرون)(4)، وآثر أمير المؤمنين «عليه السلام» أصحابه مراراً عديدة كالمقداد وعمار وغيرهما، وآثر أبو ذر رسول الله (ص) بالماء العذب مع شدة عطشه، وآثر جماعة من الصحابة بعضهم بعضاً وهم صرعى بالماء مع شدة العطش حتى ماتوا كلهم عطاشى، وحديث صاع التمر مشهور عند المحدثين فإنه طاف أربعين بيتاً ورجع إلى صاحبه كل واحد يؤثر به صديقه.

                وآثر أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» أخاه الحسين «عليه السلام» بالماء فلم يشربه مع كونه شديد الظمأ فمات عطشاناً.

                ولكل إنسان دليلان هاديان يرشدانه إلى الفضائل ويدلانه على المحاسن والكمالات وهما العلم والعقل:

                وأما العلم فدليل إلى كل ما ثبت في الشريعة الإسلامية حسنة وحث الشارع المقدس على فعله ورغب على الإتيان به ترغيباً مؤكداً ودل عليه دلالة واضحة وهذا ما تسميه المتشرعة بالمستحب المؤكد.

                وأما العقل فدليله إلى ما أستحسنه العقلاء وترجح عند النبلاء ارتكابه وفضل العقل الإتيان به على الترك تفضيلاً محسوساً يدركه كل عاقل بأدنى الفات وأقل فكرة ورؤية لما يراه من تمادح العقلاء وتنويههم فيه وإطراء المتصف به إطراء بليغا وبالغا أقصى درجة الأستحسان وهذا من الشعور العربي والأحساس المختص بأهل اللسان الفصيح دون سائر الأمم والشعوب وإن لم ينكروا فضيلته ولم يشكوا في رجحانه وقد عبر الأصوليون عنه بالحسن العقلي.

(1) الأنفال: 7.                                   (2) الفتح: 20.

(3) الأحزاب: 12.                           (4) الحشر: 9.

(268)

                وحيث تكامل لأبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» دليلاه وتوافق عنده مرشداه هجما به على الفضيلة النبيلة وأرشداه إلى اختيار الفعلة الحميدة وهي الإيثار بنفسه وعلى نفسه وهذه الفضيلة المعروفة في فضائل أسلافه السادات الأماجد الذين آثروا بنفوسهم وعلى نفوسهم مراراً عديدة وقد نزل القرآن المجيد في مدحهم آيات وسور تتلى في المحاريب وعلى الأعواد وتذاع في المسارح والأندية والمجتمعات وحيث أن بعض مؤلفي الرسائل ممن عاصرناه قد غاب عند دليلاه ظل به مرشداه اللذان هما العلم والعقل تخيل أن ذلك الإيثار الذي وقع من أبي الفضل العباس «عليه السلام» في كربلاء كان قبيحاً وظنه نقصاً بل حراماً في سليقته العوجاء وقد قيل:

فكم من عائب قولاً صحيحاً             وآفته من الفهم السقيم

                ولنا رسالة في الرد عليه مخطوطة(1).

الدلالة على رجحان الإيثار

                لا شك في رجحانه الشرعي لقوله تعالى في معرض المدح للمؤثرين ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)(2) فأثبت سبحانه الإيثار مع الخصاصة وهي شدة الحاجة ثم قرن الفلاح يترك الشح الذي هو ضد الإيثار ومعلوم أن النفس تشح فيما لا تحتاج إليه كثيراً فكيف لا تشح بما تشتد حاجتها إليه، ومن توقى هذا الشح في الخصاصة وهو الإيثار فقد أفلح عند الله وهذه الآية نزلت في اهل البيت «عليهم السلام»  وهم أهل الكساء علي وفاطمة والحسن والحسين رغم ما زعمه بعض أهل الحديث أنها نزلت في الأنصار فآل محمد (ص) نزل بهم ضيف وليس عندهم غير ما يكفيه فقدموه له وأطفئوا السراج لئلا يراهم ولا شيء عندهم وباتوا طاوين.

                وقال تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا)(3) إلى آخر السورة وهي مع اتفاق المفسرين أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين «عليهم السلام» ظاهرة في مدح الإيثار لأتفاقهم أنهم باتوا ثلاثاً طاوين وأطعموا هذه الأصناف الثلاثة وذلك في نذر الحسن الحسين «عليهما السلام» لما مرضا.

(1) هذه الرسالة عنوانها: «ردع الناكب عن فضيلة المواكب، أو التنبيه على خطأ رسالة التنزيه» - الناشر -.

(2) الحشر: 9.                                                     (3) الإنسان: 8.

(269)

                أما الأحاديث فكثيرة جداً منها من طرق الشيعة ما رواه الصدوق القمي (رحمه الله) في الفقيه(1) قال: قال الصادق «عليه السلام»: خياركم سمحائكم، وشراركم بخلائكم، ومن خالص الإيمان البر بالإخوان والسعي في حوائجهم، وإن البار بالإخوان ليحبه الرحمن وفي ذلك مرغمة للشيطان وتزحزح عن النيران ودخول الجنان.

                ثم قال لجميل(2): أخبر بهذا غرر أصحابك، قلت: جعلت فداك! من غرر أصحابي؟ قال: هم البارون بالإخوان في العسر واليسر.

                ثم قال: يا جميل! أما إن صاحب الكثير يهون عليه ذلك وقد مدح الله عز وجل في كتابه صاحب القليل فقال: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأؤلئك هم المفلحون)(3) إنتهى وهو كثير.

                ومن طرق أهل السنة ما رواه الغزالي الشافعي في إحياء العلوم(4): قال النبي (ص): أيما أمرئ أشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر الله له، إنتهى وهو كثير أيضاً والإكثار من النقل تطويل.

القسم الأول من الإيثار:

                وهو الإيثار بالنفس وهو أفضل قسمي الإيثار، وقال أبو تمام الطائي:

يجود بالنفس إذ ظن الجواد بها           والجود بالنفس أقصى غاية الجود

                فمن الذين آثروا أنفسهم حاتم بن عبد الله الطائي وذلك أنه مر في بلاد عنزة وهو لا يعرف فعرفه أسير في أيديهم فناداه: يا أبا سفانة قتلني الأسر والقمل فتصدق علي، فقال: ويحك! قد أسأت إلي إذ نوهت بي في غير بلاد قومي، ثم جاء إلى العنزيين فقال: ضعوا رجلي مكان رجله في القيد وأطلقوه، ففعلوا فبقي حاتم مدة أسيراً في أيديهم حتى بلغ قومه الخبر فبعثوا بفدائه إلى العنزيين فأطلقوه وقصته مشهورة في التاريخ وهي فعلة كريمة لها عظمتها في عالم الإنسانية إلا أنها دون بذل النفس كما فعل غيره من العرب.

كعب بن مامة الأيادي أشهر العرب في الإيثار بالنفس:

                قصته بلفظ الميداني في مجمع الأمثال(5) قال: ومن حديثه إنه خرج في

(1) من لا يحضره الفقيه: ص132.

(2) هو جميل بن دراج من ثقات أصحاب الصادق عليه السلام.

(3) الحشر: 9.                                     (4) إحياء العلوم 2/ 223.

(5) مجمع الأمثال 1/ 123.

(270)

ركب فيهم رجل من النمر بن قاسط فظلوا فتصافنوا ماءهم وهو أن يطرح في القعب حصاه ثم يصب فيه الماء بقدر ما يغمس الحصاة وتلك الحصاة هي المقلة فيشرب كل إنسان بقدر واحد فقعدوا للشرب فأنتهى إلى كعب فأبصر النمري يحد النظر إليه فآثره بمائة وقال للساقي: إسق أخاك النمري فشرب النمري نصيب كعب ذلك اليوم من الماء ثم نزلوا من الغد المنزل الآخر فتصافنوا بقية مائهم فنظر النمري كنظره أمس وأرتحل القوم وقالوا لكعب: أرتحل فلم تكن له قوة للنهوض وكانوا قد قربوا من الماء، فقيل له: رد كعب إنك وارد فعجز عن الجواب فلما أيسيوا منه خيلوا عليه بثوب يمنعه من السبع أن يأكله وتركوه في مكانه، فقال أبوه مامة يرثيه:

ما كان من سوقة أشفى على ظمأ       خمراً بماء إذا ناجودها بردا

من ابن مامة كعب حين عي به          رد المنية إلا حرة وقدا

أوفى على الماء كعب ثم قيل له            رد كعب إنك وراد فما وردا

                إنتهى.

                وفيه قال أبو تمام بيته المتقدم، وقال فيه وفي حاتم الطائي:

كعب وحاتم اللذان تقاسما                                 خطط العلا من طارف وتليد

هذا الذي خلف السحاب ومات ذا                 في الجهد ميتة خضرم صنديد

إلا يكن فيها الشهيد فقومه                                 لا يسمحون به بألف شهيد

                للمؤلف يفند رأي أبي تمام:

فرب شهيد فاق كعب بن مامة                           بأفعال مشكور الفعال حميد

وأصبح في الإيثار بالنفس مفرداً                       فهل مثل هذا كائن بوجود

فدع ذكر كعب واذكرن شبل حيدر                 أبا الفضل من يدعى بصاحب جود

لقد ورد الماء الفرات فعافه                 وقال لنفسي الموت خير ورود

إذا لم يذق سبط النبي معينه                 وأطعمه لم ارع حق عهودي

سماك بن عمرو العاملي

                قصته عن الميداني(1) في قولهم: (أتطلب أثراً بعد عين) قال الباهلي: أول من قال ذلك مالك بن عمرو العاملي وذلك أن بعض ملوك غسان كان يطلب

(1) مجمع الأمثال 1/ 85.

(271)

عاملة ذحلاً فأخذ منهم رجلين يقال لهما مالك وسماك أبنا عمرو فأحتبسهما عنده زماناً ثم دعاهما وقال: إني قاتل أحدكما فأيكما أقتل؟ فجعل كل واحد منهما يقال: أقتلني مكان أخي، فلما رأى ذلك قتل سماكاً وخلى سبيل مالك، فقال سماك حين ظن أنه مقتول:

ألا من شجت ليلة عامده                   كما أبد ليلة واحده

فابلغ قضاعة إن جئتهم       وخص سرات بني ساعده

وأبلغ نزاراً على نأيها            بأن الرماح هي العائده

وأقسم لو قتلوا مالكاً           لكنت لهم حية راصده

برأس سبيل على مرقب      ويوماً على طرق وارده

فأم سماك فلا تجزعي           فللموت ما تلد الوالده

                فانصرف مالك إلى قومه فلبث فيهم زماناً ثم إن ركباً مروا وأحدهم يتغنى:

فأقسم لو قتلوا مالكاً           لكنت لهم حية راصده

                فسمعت أم سماك فقالت: يامالك! قبح الله الحياة بعد سماك، أخرج في الطلب بأخيك فخرج في الطلب فلقي قاتل أخيه يسير في ناس من قومه فقال: من أحس لي الجمل الأحمر؟ فقالوا له وقد عرفوه: يامالك! لك مائة من الإبل وكف، فقال: لا أطلب أثراً بعد عين، فذهب مثلاً ثم حمل على قاتل أخيه فقتله فقال في ذلك:

يا راكباً بلغن ولا تدعا                         بني قمير وإن هموا جزعوا

فليجدوا مثلما وجدت فقد                 كنت حزيناً ومسني جزع

لا أسمع اللهو في الحديث ولا          ينفعني في الفراش مضطجع

لأوجد ثكلي كما وجدت ولا             وجد عجول أضلها ربع

ولا كبير أضل ناقته              يوم توافى الحجيج واجتمعوا

ينظر في أوجه الركاب فلا                   يعرف شيئاً ولاوجه ملتمع

جللته صارم الحديد كاللمح              وفيه سفاسق لمع

بين ضمير وباب جلق في                    ثوبه من دمائه رقع

أضر به بادياً نواجذه            يدعو صداه والرأس منصدع

بني قمير قتلت سيدكم        فاليوم لا رنة ولا جزع

(272)

فاليوم قمنا على السواء فإن                 تجروا فدهري ودهركم جرع

                إنتهى.

                وتشبه هذه القصة ذبح ولدي مسلم بن عفيل وقد ذكرناها في كتابنا «المستدرك على مقاتل الطالبيين» وفي كتابنا «أعلام النهضة الحسينية» ولكنهما ذبحا معاً بخلاف هذين فإنه نجى واحد منهما.

مبيت أمير المؤمنين «عليه السلام» على فراش النبي (ص)

المؤثرون بأنفسهم في الإسلام:

                سيدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» فإنه آثر رسول الله (ص) بحياته وفداه بنفسه وإيثاره أفضل كل إيثار في الدنيا فلا كعب ولا غيره نظيره لأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» باهى الله به ملائكته وأنزل فيه قرآنا يتلى في المحاريب قوله تعالى: (ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله)(1) وقصة مبيت أمير المؤمنين «عليه السلام» على فراش رسول الله (ص) ليلة الهجرة مشهورة عند علماء التاريخ فقد رواها من علماء أهل السنة مفتى الشافعية دحلان في سيرته على هامش الحلبية(2) والبرهان الحلبي الشافعي في سيرته «إنسان العيون»(3) وأبو جعفر الطبري أحد أئمة المذاهب في التاريخ(4) وعبد الملك بن هشام المالكي في سيرته(5)، والسمهودي الشافعي في وفاء الوفا تاريخ المدينة المنورة(6)، وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة(7)، وابن طلحة الشافعي في مطالب السئول(8)، وسبط ابن الجوزي الحنفي في تذكرة خواص الأمة(9) وأبو حامد الغزالي الشافعي بحجة الإسلام وغيرهم كثير.

                ولفظ الغزالي في إحياء علوم الدين(10): وبات علي على فراش رسول الله (ص) يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة فأوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل «عليهما السلام»: إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟فأختار كلاهما الحياة وأحباها فأوحى إليهما: أفلا كنتما مثل

(1) البقرة: 207.

(2) سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية 1/ 355.

(3) السيرة الحلبية 2/ 28.                              (4) تاريخ الطبري 2/ 243.

(5) سيرة ابن هشام 2/ 76.                            (6) وفاء الوفا 1/ 168.

(7) الفصول المهمة: ص32.                           (8) مطالب السئول: ص35.

(9) تذكرة الخواص: 21.                                 (10) إحياء علوم الدين 2/ 223.

(273)

علي بن أبي طالب «عليه السلام» آخيت بينه وبين نبي محمد (ص) فبات على فراشه يفيده بنفسه ويؤثره بالحياة، إهبطا إلى الأرض فأحفظاه من عدوه، فكان جبرئيل «عليه السلام» عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرئيل «عليه السلام» يقول: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب والله تعالى يباهي بك الملائكة، فأنزل الله تعالى: (ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد)(1).

                قال السبط بعد أن نقل مثل هذا بعينه: عن تفسير الثعلبي عن ابن عباس قال: أول من شرى نفسه أبتغاء مرضاة الله علي بن أبي طالب «عليه السلام».

                قال ابن عباس: وأنشدني أمير المؤمنين «عليه السلام» شعراً قاله تلك الليلة:

وقيت بنفسي خير من وطأ الثرى      ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

وبات رسول الله في الغار آمنا            فنجاه ذو الطول العلي من المكر

وبت أراعيهم وما يثبتونني                 وقد وطنت نفسي على القتل والأسر

                إنتهى.

                وللمأمون الخليفة العباس احتجاج على المخالفين يفضل فيه مولانا أمير المؤمنين «عليه السلام» ولا نذكر المحاججة بطولها وإنما نذكر هذا المقام الخاص ورواها لنا من الشيعة الصدوق القمي في عيون أخبار الرضا، ومن السنة ابن عبد ربه المالكي القرطبي في العقد الفريد وعنه ننقل لأنه أبلغ في الحجة على الخصم.

                قال(2) في احتجاج المأمون على إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بن حماد بن زيد قال: يا إسحاق! من أفضل من كان معه في الغار أم من نام على فراشه ووقاه بنفسه حتى تم لرسول الله (ص) ما أراد من الهجرة وإن الله تبارك وتعالى أمر رسوله أن يأمر علياً بالنوم على فراشه وبأن يقي رسول الله بنفسه فأمره رسول الله (ص) بذلك فبكى علي، فقال له رسول الله (ص): ما يبكيك يا علي أجزعاً من الموت؟ قال: لا والذي بعثك بالحق يارسول الله ولكن خوفاً عليك أفتسلم يا رسول الله؟ قال: نعم، فقال: سمعاً وطاعة وطيبة نفس بالفداء لك يا رسول الله ثم أتى مضجعه فأضطجع وتسجى بثوبه وجاء المشركون من  قريش فخفوا به لا يشكون أنه رسول الله (ص) وقد أجمعوا أن يضربه من كل بطن من بطون قريش رجل ضربة بالسيف لئلا يطلب الهاشميون بطناً من البطون بدمه وعلي «عليه السلام» يسمع ما القوم فيه من إئتلاف نفسه ولم يجعه ذلك إلى الجزع كما جزع

(1) البقرة: 207.                               (2) العقد الفريد/ 3/ 90.

(274)

صاحبه في الغار ولم يزل علي «عليه السلام» صابراً محتسباً فبعث الله ملائكته فمنعه من قريش حتى أصبح فلما أصبح قام فانظروا إليه فقالوا: أين محمد؟ قال: وما علمي بمحمد أين هو! قالوا: فلا نراك إلا مغروراً بنفسك منذ ليلتنا فلم يزل على أفضل ما بدأ به يزيد ولا ينقص حتى قبضه الله إليه الخ.

                وحديث المبيت على الفراش من أشهر الأحاديث وهو متواتر بمعناه وقد بات أمير المؤمنين «عليه السلام» على فراش النبي (ص) يقيه بنفسه مرتين: مرة في الشعب في حياة أبي طالب ومرة ليلة الهجرة، وانظر القصتين تفصيلاً في مختار العيون والمحاسن تأليف الشيخ المفيد واختيار السيد المرتضى وتداول الشعراء نقل المبيت على الفراش فأكثروا من النظم فراجع مناقب ابن شهر آشوب.

                وللمؤلف:

أمن بات مثلوج الفؤاد مكانه            عليه قريش الغدر سلت مواضيها

فنام قرير العين في الدار هادئاً             وضوضا قريش تستجيش حواليها

كمن بات في الغار المنيع عيونه           من الخوف قرحن الدموع مآقيها

يقول له خير النبيين لا تخف               ولا تخش إن الله ذي العرش كافيها

فلم تطمئن النفس عن جيشانها          ولا القلب عن دقاته هادئاً فيها

ولو كان من أهل الشجاعة والتقى                   لواسى رسول الله هاديها

نادرة عجيبة في الإيثار:

                ذكر الأبشيهي في المستطرف(1) قال: حكى أبو محمد الأزدي قال: لما أحترق المسجد بمرو ظن المسلمون أن النصارى أحرقوه فأحرقوا خاناتهم فقبض السلطان على جماعة من الذين أحرقوا الخانات وكتب رقاعاً فيها الجلد والقطع والقتل ونثرها عليهم فمن وقع عليه رقعه فعل به ما فيها فوقعت رقعة فيها القتل في يد رجل، فقال: والله ما كنت أبالي لولا أم لي، قال: وكان بجنبه بعض الفتيان فقال له: في رقعتي الجلد فليس لي أم فخذ أنت رقعتي وأعطني رقعتك، ففعل، فقتل ذلك الفتى وتخلص الرجل، إنتهى.

                وأوردها الوطواط في غرر النصائح الواضحة(2) وقال: إن القصة كانت بمصر ولعله الأقرب.

                وذكر قصة ابن المقفع وعبد الحميد الكاتب وذكرها الجهشياري في كتاب

(1) المستطرف 1/ 157.                 (2) غرر النصائح الواضحة: ص26.

(275)

الوزراء وأن كل واحد منهما آثر صاحبه بالقتل فقتل عبد الحميد وهذه القصص إنما نذكرها أستئناساً للقارئ وليست من موضع بحثنا فخذها من مصادرها.

إيثار أنصار الحسين بن علي «عليه السلام» له

                هو الإيثار المحمود وكل واحد منهم قد آثر الحسين «عليه السلام» بنفسه وفداه بروحه لو نفع الإيثار وقبلت الفدية فهذا سعيد بن عبد الله الحنفي وقف هدفاً للسلاح دونه وهو يصلي ببقية أصحابه صلاة الخوف والحنفي يتلقى كل طعنة بصدره وكل ضربة بنحره حتى قتل.

                قال أبو جعفر الطبري في التاريخ(1): ثم صلوا الظهر صلى بهم الحسين صلاة الخوف ثم أقتتلوا بعد الظهر فأشتد قتالهم ووصل إلى الحسين فأستقدم الحنفي أمامه فأستهدف لهم وهم يرمونه بالنبل يميناً وشمالاً قائماً بين يديه فما زال يرمي حتى سقط الخ.

                وقال السيد ابن طاوس في الملهوف(2): وجد فيه ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح، الخ.

                قال أبو جعفر الطبري(3): فلما رأى أصحاب الحسين إنهم قد كثروا وإنهم لا يقدرون أن يمنعوا حسيناً ولا أنفسهم تنافسوا في أن يقتلوا بين يديه فجاء عبد الله وعبد الرحمن أبنا عزرة الفغاريان فقالا: يا أبا عبد الله! عليك السلام، حازنا العدو إليك فأحببنا أن نقتل بين يديك نمعنك وندفع عنك، فقال: مرحباً بكما أدنوا مني، فدنوا منه فجعلا يقاتلان قريباً منه واحدهما يقول:

قد علمت حقاً بنو غفار       وخندف بعد بني نزار

لنضربن معشر الفجار         بكل عضب صارم بتار

يا قوم ذودوا عن بني الأحرار           بالمشرفي والقنا الخطار

                قال: وجاء الفتيان الجابريان سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد بن سريع وهما أبنا عم واخوان لأم فأتيا حسيناً فدنوا منه وهما يبكيان، فقال: أي أبني أخي ما يبكيكما فوالله إني لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري عين، فقالا: جعلنا الله فداك لا والله ما أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك نراك قد أحيط بك ولا نقدر على أن نمنعك، فقال: جزاكما الله أحسن جزاء المتقين.

(1) تاريخ الطبري 6/ 252.

(2) الملهوف: ص91.                                       (3) تاريخ الطبري 6/ 253.

(276)

                وقال(1): قال عابس بن أبي شبيب الشاكري: يا أبا عبد الله! أما والله ما أمس على ظهر الأرض قريب أو بعيد أعز علية ولا أحب إلي منك ولو قدرت أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعز علي من نفسي ودمي لفعلته، السلام عليك يا أبا عبد الله أشهدك أني على هداك وهدى أبيك، ثم مشى بالسيف مصلتاً نحوهم وبه ضربة على جبينه الخ..

                فهؤلاء الأعلام من العلماء والفطاحل العظماء من الفقهاء قد أحبوا أن يجمعوا إلى فضيلة الشهادة فضيلة زيارة الحسين «عليه السلام» وفضيلة البكاء عليه وفضيلة الأهتمام له فقد ورد في الحديث عن المعصومين «عليهم السلام» أن نفس المهموم لنا أهل البيت عبادة أو ما هذا معناه..

القسم الثاني من الإيثار:

                وهو من آثر على نفسه لا بنفسه وهذا كثير في عرب الجاهلية وهو من شعار سمحائهم وكانوا يمتدحون به ويفتخرون كما قال عروة الصعاليك وهو عروة بن الورد العبسي قاله المبرد، وفي قول ابن عبد ربه أن رجلاً من عبس خاطبه بهذا الشعر ولعله أثبت:

لا تشتمني يا بن ورد فإنني تعود على مالي الحقوق العوائد

ومن يؤثر الحق الدؤوب تكن له       خصاصة جسم وهو طيان ماجد

وإني أمرئ عافي إنائي شركة               وأنت أمرئ عافي إنائك واحد

أقسم نفسي في نفوس كثيرة                وأحسو زلال الماء والماء بارد

                ويعني بتقسيم نفسه في النفوس الكثيرة تقسيم زاده على الناس ويبيت طاوياً لإيثاره لهم بزاده ويستطعم الماء البارد.

                وقل حبال الكلبي وذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف:

لا تعذليني في نفضي وفي فرشي          إن تعذيلني تشكيني وتؤذيني

فساهميني في مالي ولا تدعي               خلقاً يريبك إن الله يغنيني

حسبي إذا أحتملوا أن يحملوا ثقلي    وملؤ كفي عند الجهد يكفيني

إن مات هزلاً عدي من سماحته         أو خلد الغس في قومي فلوميني

                قال: الغس اللئيم وعدي في بني كلب كان يذبح كل يوم خميس شاة يطعمها من يرد عليه.

(1) تاريخ الطبري 6/ 254.

(277)

                وقال عنترة الفوارس العبسي في معلقته:

ولقد أبيت على الطوى وأضله           حتى أنال به كريم المطعم

                وقال آخر:

لولا أتقاه الردا نزهت أنملتي            عن أن تهم بمطعوم ومشروب

حاتم بن عبد الله الطائي:

                ذكر الميداني في مجمع الأمثال(1) بعد قصة الأسير عند العنزيين قال: ومن حديثه أن ماوية أمرة حاتم حدثت أن الناس أصابتهم سنة أذهبت الخف والخلف فبتنا ليلة بأشد الجوع وأخذ حاتم عدياً وأخذت سفانة فعللناهما حتى ناما فأخذ يعللني بالحديث لأنام فرققت له لما به من الجهد فأمسكت عن كلامه لينام ويظن أني نائمة، فقال لي: أنمت مراراً فلم أجبه فسكت ونظر من وراء الخباء فإذا شيء قد أقبل فرفع رأسه فإذا أمرأة فقالت: يا أبا سفانة! أتيتك من عند صبية جياع، فقال: أحضريني صبيانك فوالله لأشبعهنم، قالت: فقمت مسرعة فقلت: بماذا يا حاتم فوالله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل فقام إلى فرسه ثم أجج ناراً ودفع إليها شفرة وقال: أشتوي وكلي وأطعمي صبيانك وقال لي: أيقظي صبييك فأيقظتهما ثم قال: والله أن هذا للؤم وإن أهل الصرم حالهم كحالكم فجعل يأتي الصرم بيتاً وبيتاً ويقول: عليكم النار فأجتعوا وأكلوا وتقنع بكسائه وقعد ناحية حتى لم يوجد من الفرس على الأرض قليل ولا كثير ولم يذق منه شيئاً، إنتهى.

                وغير الميداني يقول هذه القصة عن النوار زوجة حاتم أم ابنيه عدي وسفانة وماوية بنت عفرز أم ابنه عبد الله وكانت كل واحدة منهن تلومه في الجود فيقول للنوار:

مهلا نوار أقلي اللوم والعذلا             ولا تقولي لشيء فات ما فعلا

يرى البخيل سبيل الجود واحدة       إن الكريم يرى في ماله سبلا

                ويقول لماوية من قصيدة رنانة:

أماوي إن المال غاد ورائح                  ويبقى من المال الأحاديث والذكر

أماوي إما مانع فمبين                          وإما عطاء لا ينهنه الزجر

                وحكايات الجاهلية كثيرة.

(1) مجمع الأمثال 1/123.

(278)

المؤثرون في الإسلام:

                إن الإسلام استنار أفقه بكل فضيلة وأشرقت سماؤه بكل خلة كريمة وذلك أن عصر الجاهلية المظلم لم تكن العرب فيه تعرف ما تأتي وما تذر من محاسن الأخلاق ومساويها إلا ما جذبها إليه الطبع وقادتها له الفطرة فهي طوع ما جبلت عليه نفوسها من السجايا وما أرتكز في طبائعها فهي تفعل ما تفعل وتذر ما تذر رضوخاً للسجية وأنقياداً للغريزة ولها من المعرفة مقدار ما دلتها عليه العقول السليمة وأرشدتها إليه الأفكار التي لها بعض الإصابة في عالم العقل النظري وليست لها ميزة العلم ولا معرفة الأستدلال ولي لها علم بما يترتب عليه الثواب من صالح الأعمال والعقوبة على مساويها وكانت لا تدين بالجزاء ولا تقر بالمعاد لأنها عاشت في فيافيها العميقة ودرجت في فجاجها السحيقة تحترش الضباب واليرابيع جاهلة بكل ما توحيه إرادة جبار السماوات من الإصلاح لأهل الأرض وتفيضه من إفاضات رضوانه على العالم البشري من أنواع الوحي لإصلاح هذا النوع الإنساني وتشريعه مواد قوانينه المدنية وقضايا دستوره الإجتماعية الكافلة بصلاح المعاد والمعاش جميعاً وهم كانوا أيضاً بمعزل عن كافة العلوم العقلية التي بها سعادة البشر في الحياة الاجتماعية لاهين بحديث الغول والسعلاة، مشغولين بذبح الضب واليربوع والعضاة همتهم شن الغارات والظعن والتنقل في فيافي الفلوات فلذلك تجد أكثرهم بعيداً عن الرحمن لأهل جنسه شديد التعدي عليهم فالقسوة والغلظة مرتكزة في طباعهم فيتبجح قائلهم بقوله:

يبكي علينا ولا نبك على أحد             لنحن أغلظ إلباداً من الإبل

                فذبح إنسان عندهم وذبح يربوع سواء إلا القليل من عقلائهم الناطقين بالحكمة من أهل التمييز والمعرفة أمثال قيس بن ساعدة وعامر بن الضرب وأكثم ابن صيفي وغيرهم فلم يزالوا كذلك ونفوسهم الحرة ترشدهم إلى الخصال الحميدة وعقولهم السليمة تدلهم على اختيار محاسن الشيم والأخلاق كما حكينا لك بعض ذلك.

                إلى أن شرق نور الملة المحمدية وأضاء فجر الشريعة الأحمدية اللماع وملئت أشعته المتألقة أفاق الجزيرة العربية بل آفاق العالم كله وطبق نوره الكون بأسره فسن نبينا محمد (ص) أنظمة التهذيب وشرع قوانين التأديب النفسي الحي وقرر التعاليم الحرة التي هي أسس المدنية المختارة في هذه العصور والأزمنة عصور الثقافة والتهذيب الملقبة بعصور النور.

(279)

                ولا يجهل فضيلة الإسلام وفضله على المدنية الحديثة وحقه العظيم على الإنسانية إلا معاند عظيم التمرد شديد التعنت أو أعوج السليقة أو لا معرفة عنده بما شرعه شارع الإسلام فكان مع نص القرآن على مدح الإيثار أول من ندب إليه قولاً وفعلاً ورغب فيه سيدنا ونبينا محمد (ص) وأهل بيته: أما القول فما حررناه سابقاً يكفيك، وأما الفعل فقد أتفق العلماء أن رسول الله (ص) كان يقسم ما عنده من الأقوات بين الفقراء من أهل الصفة وأهل الخصاصة من غيرهم ويبيت طاوياً وكثيراً ما كان يربط حجر المجاعة على بطنه وقد نعتت في الكتب السماوية المنزلة على غيره بالإيثار.

                قال الغزالي في الإحياء(1): قال سهل بن عبد الله: قال موسى «عليه السلام»: يارب أرني بعض درجات محمد وأمته. فقال: ياموسى! إنك لا تطيق ولكن أريك منزلة من منازلة جليلة عظيمة فضلته بها عليك وعلى جميع خلقي، قال: فكشف له عن ملكوت السماوات فنظر إلى منزلة كادت أن تتلف نفسه من أنوارها وقربها من الله تعالى، فقال: يارب! بماذا بلغت به إلى هذه الكرامة؟ فقال: بخلق أختصصته به من بينهم وهو الإيثار، ياموسى! لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتاً من عمره إلا أستحييت من محاسبته وبوأته من جنتي حيث يشاء.

إيثار أهل البيت «عليهم السلام»، ونزول (هل أتى)

أما إيثار أهل بيته فكثير:

                ومنه ما كان سبباً لنزول سورة هل أتى، روى الكنجي الشافعي في كفاية الطالب(2) والشبلنجي الشافعي في نور الأبصار(3) نقلاً عن مسامرات الشيخ الأكبر وهي كذلك عند الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي في محاضرات الأبرار ومسامرات الأخيار(4) وسبط ابن الجوزي الحنفي في تذكرة خواص الأمة وغيرهم من أهل السنة ورواها الشيعة أيضاً والألفاظ وإن تقاربت لكنها  لسبط ابن الجوزي لاشتماله على فائدة وهي الرد على ابن عباس وعن مجاهد عن ابن عباس قال في قوله تعالى: (يوفون بالنذر)(5) الآية قال: مرض الحسن والحسين «عليهما السلام»

(1) إحياء العلوم 2/ 223.                             (2) كفاية الطالب: ص201.

(3) نور الأبصار: ص101.

(4) محاضرات الأبرار ومسامرات الأخيار 1/ 83.

(5) الإنسان: 7.

                                                                                                                (280)

فعادهما رسول الله (ص) ومعه أبو بكر وعمر وعادهما عامة العرب فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذراً فكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء، فقال علي «عليه السلام»: لله علي إن برأ ولداي مما بهما صمت لله ثلاثة أيام وقالت فاطمة «عليها السلام» كذلك وقالت جارية يقال لها فضة كذلك فألبس الله الغلامين العافية وليس عند آل محمد (ص) قليل ولا كثير، فأنطلق علي «عليه السلام» إلى شمعون بن حانا اليهودي فأستقرض منه ثلاثة آصع من شعير فجاء بها إلى فاطمة «عليها السلام» فقامت إلى صاع فطحنته وخبزته خمسة أقراص لكل واحد منهم قرص وصلى علي «عليه السلام» المغرب مع النبي (ص) ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم فجاء سائل أو مسكين فوقف على الباب وقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فسمعه علي «عليه السلام» فقال:

فاطم فيك المجد واليقين                    يا بنت طاها وهو الأمين

هذا الفقير البائس المسكين                 قد قام بالباب له حنين

يشكو إلى الله ويستكين                        يشكو إلينا الهائم الحزين

كل أمرئ بكسبه رهين                        وفاعل الخيرات يستبين

وللبخيل موقف مهين                        وتهوي به لقعرها سجين

شرابه الحميم والغسلين

                فقالت فاطمة «عليها السلام»:

أطعمه ولا أبالي الساعة                      أرجو إذا أشبعت ذا مجاعة

أن الحق الأخيار والجماعة                   وأسكن الخلد ولي شفاعة

                قال: فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا إلا الماء القراح، ولما كان اليوم الثاني طحنت فاطمة «عليها السلام» صاعاً من الشعير وصنعت منه خمسة أقراص وصلى علي «عليه السلام» المغرب مع النبي (ص) وجاء إلى المنزل، فأتى يتيم فوقف على الباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد يتيم من أولاد المهاجرين أستشهد والدي فأطعموني مما رزقكم الله أطعمكم الله من موائد الجنة، فقال علي «عليه السلام»:

فاطم بنت السيد الكريم                     بنت نبي ماجد رحيم

قد جاءنا الله بذا اليتيم                         قد حرم الخلد على اللئيم

(281)