موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

 

وستردون جميعاً إلى الله، إنتهى، وفي معنى هذا الحديث الشريف ورد المثل العربي قولهم: أمر مبكياتك لا مضحكاتك.

صعوبة قبول النصيحة:

                أمر قبول النصيحة صعب لذلك لا يقبله إلا أفذاذ العقلاء ونوادر العلماء.

                قال في المستطرف(1): واعلم أن جرعة النصيحة مرة لا يقبلها إلا أولوا العزم.

                وقال الراغب في المحاضرات(2): الحث على قبول النصح وإن كان مراً قيل: من أحبك نهاك ومن أبغضك أغراك، وقال بعض الحكماء: ومن أوجرك المر لتبرء أشفق عليك ممن أو جرك الحلو لتسقم، وقيل: النصيحة آمن من الفضيحة، إنتهى.

                والأنسب للعاقل إبداء النصيحة وإبرازها صادفت قبولاً أم لا فإنها إن صادفت قبولاً فقد نال حمداً وأجراً، وإن لم تصادف قبولاً فقد أكتسب أجراً وعذراً، وخرج عن صفة الغش المذمومة.

                قال ورقة بن نوفل الأسدي أسد قريش:

لقد نصحت لأقوام وقلت لهم          أنا النذير فلا يغرركموا أحد

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته              إلا الإله ويودي المال والولد

لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه              والخلد قد حاوت عاد فما خلدوا

                وقال أوس بن حجر التميمي:

إن قال لي ماذا ترى يستشيرني            فلم يك عندي غير نصح وإرشاد

                وقال الخبز أرزي البصري:

إن كان حمدي ضاع في نصحكم        فإن أجري ليس بالضائع

                وقال آخر:

النصح أرخص ما باع الرجال فلا    تردد على ناصح نصحاً ولا تلم

إن النصائح لا تخفى منافعها               على الرجال ذوي الألباب والهمم

                وقال معاذ بن مسلم الفرا النحوي:

نصحتك والنصيحة إن تعدت          هوى المنصوح عز لها القبول

(1) المستطرف 1/ 76.                     (2) المحاضرات 1/ 60.

(251)

فخالفت الذي لك فيه حظ                فغالك دون ما أملت غول

رد النصيحة مقرون بالنكبة

                من رد النصيحة فنكب وأصيب بضرر الدنيا أو في الدين، شهدت الوقائع التأريخية على تارك النصيحة بالعطب الديني والدنيوي.
                أما من رد نصيحة الناصح ونكب في دنياه فكثير منهم يزيد بن المهلب الأزدي، قال في المستطرف(1) قيل: أشار فيروز حصين على يزيد بن المهلب أن لا يضع يده في يد الحجاج فلم يقبل منه فسار إليه فحبسه وحبس أهله، فقال فيروز بن حصين:

أمرتك أمراً حازماً فعصيتني              فأصبحت مسلوب الإمارة نادما

أمرتك بالحجاج إذا أنت قادر           فنفسك أولي اللوم إن كنت لائما

فما أنا بالباكي عليك صبابة وما أنا بالداعي لترجع سالما

                ومنهم عبد الله بن الصمة فارس هوازن وهو أخو دريد البطل المشهور، قال ابن عبد ربه في العقد الفريد(2): قال أبو عبيدة: غزى عبد الله بن الصمة وأسم الصمة معاوية الأصغر من بني غزية بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن وكان لعبد الله ثلاثة أسماء وثلاث كنى؛ فأسماؤه عبد الله وخالد ومعبد، وكناه أبو فرغان وأبو دفافة وأبو وفاء، وهو أخو دريد ابن الصمة لأبيه وأمه فأغار على غطفان فأصاب منهم إبلاً عظيمة فأطردها فقال له أخوه دريد: النجاء فقد ظفرت، فأبى عليه وقال: لا أبرح حتى أنتقع نقيعتي، والنقيعة ناقة ينحرها من وسط الإبل فيصنع منها طعاماً لأصحابه ويقسم ما أصاب على أصحابه، فأقام وعصى أخاه فتبعه فزارة فقاتلوه لأصحابه ويقسم ما أصاب على أصحابه، فأقام وعصى أخاه فتبعه فزارة فقاتلوه وهو بمكان يقال له اللوى فقتل عبد الله وأرتث دريد فبقى في القتلى، فلما كان في نصف الليل أتاه فارسان فقال أحدهما لصاحبه: إني أرى عينه تبص فإنزل فأنظر إلى نفسه فنزل فكشف ثوبه فإذا هي تزمر فطعنه فخرج دم قد كان أحتقن، قال دريد: فأفقت عندها فلما جاوزوني نهضت، قال: فما شعرت إلا وأنا عند عرقوبي جمل أمرأة من هوازن فقالت: من أنت أعوذ بالله من شرك؟

فقلت: بل من أنت ويلك؟ قالت: أمرأة من هوازن سيارة، قلت: وأنا من هوازن

(1) المستطرف 1/ 76.                     (2) العقد الفريد 3/ 330.

(252)

وأنا دريد بن الصمة، قال: وكانت في قوم مجتازين لا يشعرون بالوقعة فضمته وعالجته حتى أفاق، قال دريد يرثي عبد الله أخاه:

أعاذل إن الرزء في مثل خالد              ولا رزء فيما أهلك المرء من يد

وقلت لعارض وأصحاب عارض                   ورهط بني السوداء والقوم أشهدي

علانية ظنوا بألقي مدجج                                 سراتهموا في السابري المسرد

محضتهموا نصحي بمنعرج اللوى                    فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

فلما عصوني كنت منهم وقد أرى                                      غوايتهم أو إنني غير مهتد

وما أنا إلا من غزية إن غوت                              غويت وإن ترشد غزية أرشد

فإن تعقب الأيام والدهر تعلموا                        بني غالب إنا غضاب لمعبد

تنادوا وقالوا أردت الخيل فارساً                       فقلت أعبد الله ذلكم الردي

فإن يك عبد الله خلا مكانه                                 فما كان وقافا ولا طائش اليد

ولا برماً إذا الرياح تناوحت                              برطب الغض والضر مع المتنضد

 كميش الأزار خارج نصف ساقه                    صبور على الضراء طلاع أنجد

قليل التشكي للمصائب حافظ                          عليم بأعقاب الأحاديث في غد

وهو وجدي أنني لم أقل له                                  كذبت ولم أبخل بما ملكت يدي

                ومنهم معاوية بن عمرو بن الشريد السلمي فارس بني سليم وهو أخو صخر البطل المشهور وأخو الخنساء الشاعرة لأبيها وأمها.

                قال في العقد الفريد(1): قال أبو عبيدة: كان بين معاوية بن عمرو بن الشريد وبين هاشم بن حرملة أحد بني مرة بن غطفان كلام بعكاظ، فقال معاوية: لوددت والله أن قد سمعت بضعائن يندبنات، فقال هاشم: والله لوددت أن قد بريت الرطبة وهي عمة معاوية وكانت الدهر تنظف ماء ودهناً فلما كان بعد تهيئ معاوية ليغزو هاشماً فهناه أخوه صخر فقال: كأني بك إن غزوتهم علق حمتك حسك العرفط، قال: فأبى معاوية فغزاهم يوم حوزة فرآه هاشم بن حرملة قبل أن يراه معاوية وكان هاشم ناقها من مرض أصابه فقال لأخيه دريد بن حرملة: إن هذا إن رآني لم آمن أن يشد علي وأنا حديث عهد بشكية فأستطرد له حتى تجعله بيني وبينك، ففعل، فحمل عليه معاوية وأردفه هاشم فاختلفا طعنتين فأردى معاوية هاشماً عن فرسه

(1) العقد الفريد 3/ 226.

(253)

الشماء وأنفذ هاشم سنانه من عانة معاوية، قال: وكر عليه دريد فظنه قد اردى هاشماً فضرب معاوية بالسيف فقتله وشد خفاف بن عمرو وهو ابن ندبة على مالك بن حمار الفزاري فقتله وغارت فرس هاشم الشماء حتى دخلت في جيش بني سليم فأخذوها وظنوها فرس الفزاري الذي قتله خفاف ورجع الجيش حتى دنوا من صخر أخي معاوية فقالوا: أنعم صباحاً أبا حسان، فقال: حييتم بذلك، ما صنع معاوية؟ قالوا: قتل، قال: فما هذا الفرس؟ قالوا قتلنا صاحبها، قال: إذا أدركتم ثأركم، هذه فرس هاشم بن حرملة.

                قال: فلما دخل رجب ركب صخر بن عمرو ابن الشريد الشماء صبيحة يوم حرام فأتى بني مرة فلما رأوه قال لهم هاشم: هذا صخر فحيوه وقولو له خيراً، وهاشم مريض من الطعنة التي طعنه إياها  معاوية فقال: من قتل أخي؟ فسكتوا، فقال: لمن هذه الفرس التي تحتي؟ فسكتوا، فقال هاشم: إن أصبتني أو دريداً فقد أصبت ثارك، قال: فهل كفنتموه؟ قالوا: نعم في بردين أحدهما بخمسة وعشرين بكرة، قال: فأروني قبره، فأروه إياه، فلما رأى القبر جزع عنده ثم قال: كأنكم قد أنكرتم ما رأيتم من جزعي فو الله ما بت منذ عقلت إلا واتراً أو موتوراً او طالباً أو مطلوباً حتى قتل معاوية فما ذقت طعم النوم بعده، الخ.

                وليس قصدنا سياقة القصة فإنهم أدركوا ثارهم قتل خفاف مالك بن حمار سيد بني شمخ من فزارة وقتل صخر دريد بن حرملة أخي هاشم وقتل عمرو بن قيس الجشمي هاشم بن حرملة، ومن شعر صخر في أخيه معاوية يرثيه وقيل له أهجوا بني مرة، فقال: ما بيننا وبينهم أجل من القذع.

                ثم أنشأ يقول:

وعاذلة هبت بليل تلومني                  ألا لا تلوميني كفى اللوم ما بيا

تقول ألا تهجو فوارس هاشم           وما بي أن أهجوا هموا ثم ما بيا

أبى الذم إني قد أصابوا كريمتي         وأن ليس إهداء الخنا من سماتيا

إذا ما أمرئ أهدى لميت تحية              فحياك رب الناس عني معاويا

وهو وجدي إنني لم أقل له كذبت ولم أبخل عليه بماليا

وذي إخوة قطعت أقران بيتهم          كما تركوني واحداً لا أخاً ليا

                ولهذه الحكايات نظائر وأشباه.

(254)

                                                                                                    هلاك من رد النصيحة

                أما من رد النصيحة فأهلك نفسه وأتلف دينه وأذهب مروته فكثيروأشهر من لبس هذا الجلباب المخزي وتردى بهذا الرداء الفاضح عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري قاتل الحسين بن علي «عليهما السلام».

                قال الطبري في التاريخ(1): لما كان من أمر الحسين ما كان، دعا عبيد الله بن زياد عمر بن سعد فقال: سر إلى الحسين فإذا فرغنا مما بيننا وبينه سرت إلى عملك، فقال عمر بن سعد: إن رأيت أن تعفيني فأفعل، فقال له عبيد الله نعم على أن ترد لنا عهدنا، قال: فلما قال له ذلك قال له عمر بن سعد: أمهلني اليوم حتى أنظر، قال: فمضى عمر يستشير نصائحه فلم يكن يستشير أحد إلا نهاه، قال: وجاء حمزة بن المغيرة بن شعبة وهو ابن أخته فقال: أنشدك الله ياخال أن تسير إلى الحسين فتأثم بربك وتقطع رحمك فو الله لئن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها لو كان لك خير لك أن تلقى الله بدم الحسين، فقال له عمر: أفعل إن شاء الله.

                وعن عمار بن عبد الله الجهني، وعن أبيه قال: دخلت على عمر بن سعد وقد أمر بالمسير إلى الحسين، فقال لي: إن الأمير أمرني بالمسير إلى الحسين فأبيت ذلك عليه، فقلت له: أصاب الله بك مراشدك، أجل فلا تفعل ولا تسر إليه، قال: فخرجت من عنده فأتاني آت وقال: هذا عمر بن سعد يندب الناس إلى الحسين، قال: فأتيت فإذا هو جالس فلما رآني أعرض عني بوجهه فعرفت أنه قد عزم على المسير إليه فخرجت من عنده، إنتهى.

                وذكر فخر الدين الطريحي في المنتخب(2) والفاضل المجلسي في البحار(3) ما لفظه: ثم إن ابن زياد نادى في عسكره: معاشر الناس! من يأتيني برأس الحسين وله الجائزة العظمى وأعطه ولاية الري سبع سنين، فقام إليه عمر بن سعد وقال: أصلح الله الأمير! أنا أمضي إليه وأمنعه من شرب الماء وآتي برأسه ثم مضى من وقته وساعته ودخل منزله، فدخل عليه أولاد المهاجرين والأنصار وقالوا: يا ابن سعد! تخرج إلى حرب الحسين وأبوك سادس الإسلام(4)؟! فقال: لست أفعل ذلك ثم جعل يفكر في ملك الري وقتل الحسين فأضله الشيطان وأعمى

(1) تاريخ الطبري 6/ 23.               (2) المنتخب 2/ 93.

(3) بحار الأنوار 10/ 196.

(4) هذا مشهور وهو غير صحيح وكثيراً ما يشتهر شيء وهو خلاف الواقع، سادس الإسلام هو خباب ابن الأرت لا سعد بن أبي وقاص.

(255)

قلبه فأختار قتل الحسين «عليه السلام».

                ولفظ المجلسي (رحمه الله) لما جمع ابن زياد قومه لحرب الحسين كانوا سبعين ألف فارس، فقال ابن زياد: أيكم يتولى قتل الحسين وله ولاية أي بلد شاء؟ فلم يجبه أحد منهم فأستدعى بعمر بن سعد «لعنه الله» وقال: ياعمر أريد أن تتولى حرب الحسين بنفسك، فقال له: أعفيني من ذلك، فقال ابن زياد: قد أعفيتك فأردد علينا عهدنا الذي كتبنا لك بولاية الري، فقال عمر: أمهلني الليلة، فقال قد أمهلتك، فأنصرف عمر بن سعد إلى منزله وجعل يستشير قومه وإخوانه ومن يثق به من أصحابه فلم يشر عليه أحد بذلك.

                وكان عند عمر بن سعد رجل من أهل الخير يقال له كامل وكان كاملاً كأسمه ذا رأي وعقل ودين كامل، وكان صديقاً لأبيه من قبله، فقال له: ياعمر! مالي أراك بهيئة وحركة فيما الذي أنت عازم عليه؟ فقال عمر: إني قد وليت أمر هذا الجيش في حرب الحسين وإنما قتله عندي وأهل بيته كأكلة آكل أو كشربة ماء وإذا قتلته خرجت إلى ملك الري، فقال له كامل: أف لك ياعمر بن سعد تريد أن تقتل الحسين ابن بنت رسول الله أف لك ولدينك ياعمر أسفهت الحق وضللت عن الهدى، أما تعلم إلى حرب من تخرج؟ ولمن تقاتل؟ إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لو أعطيت الدنيا بما فيها على قتل رجل واحد من أمة محمد (ص) لما فعلت فكيف تريد تقتل الحسين ابن بنت رسول الله (ص)؟ وما الذي تقول غداً لرسول الله (ص) إذا وردت عليه وقد قتلت ولده وقرة عينه وثمرة فؤاده وابن سيدة نساء العالمين وابن سيد الوصيين وهو سيد شباب أهل الجنة من الخلق أجمعين وإنه في زماننا هذا بمنزلة جده في زمانه وطاعته علينا كطاعته وإنه باب الجنة والنار فأختر لنفسك ما أنت مختار فإني أشهدت بالله إن حاربته وقتلته أو أعنت عليه أو على قتله لا تلبث بعده في الدنيا إلا قليلاً.

                فقال له عمر: فبالموت تخوفني وإني إذا فرغت من قتله أكون أميراً على سبعين ألف وأتولى ملك الري؟!

                فقال كامل: إني أحدثك بحديث صحيح أرجو لك فيه النجاة إن وفقت للقبول: إعلم أني سافرت مع أبيك سعد إلى الشام فإنقطعت بي مطيتي عن أصحابي وتهت وعطشت فلاح لي دير راهب فملت إليه ونزلت عن فرسي وأتيت إلى باب الدير لأشرب الماء فأشرف علي راهب من ذلك الدير وقال: ما تريد؟ فقلت: إني عطشان، فقال: أنت من أمة هذا النبي الذي يقتل بعضهم بعضاً على

(256)

حب الدنيا مكالبة ويتنافسون فيها على حطامها؟ فقلت له: أنا من الأمة المرحومة أمة محمد (ص)، فقال: لا إنكم شر أمة فالويل لكم يوم القيامة وقد غدرتم عترة نبيكم تقتلون رجالهم وتسبون نسائهم وتنهبون أموالهم، فقلت له: ياراهب! نحن نفعل ذلك؟ قال: نعم وإنكم إذا فعلتم ذلك عجت السماوات والأرضون والجبال والبحار والوحوش والأطيار باللعنة على قاتلهم ثم لا يلبث قاتله إلا قليلاً ثم يظهر رجل يطلب بثاره فلا يدع أحداً شرك في دمه إلا قتله وعجل الله بروحه إلى النار، ثم قال لي الراهب: إني لأرى لك قرابة من قاتل هذا الأبن الطيب والله إني لو أدركت أيامه لوقيته بنفسي من حد السيوف، فقلت: ياراهب! إني أعيذ نفسي أن أكون ممن يقاتل ابن بنت رسول الله (ص)، قال: إن لم تكن أنت فرجل قريب منك وإن قاتله عليه نصف عذاب أهل النار وإن عذابه أشد من عذاب فرعون وهامان، ثم ردم الباب في وجهي ودخل يعبد الله وأبى أن يسقيني الماء.

                قال كامل: فركبت فرسي ولحقت بأصحابي فقال لي أبوك سعد: ما أبطأ بك عنا يا كامل؟ فحدثته بما سمعت من الراهب فقال لي: صدقت ثم إن سعداً أخبرني أنه نزل بدير هذا الراهب مرة قبلها فأخبره أنه هو الذي يقتل ابن بنت رسول الله (ص) فخاف أبوك سعد من ذلك وما خشي إلا أن تكون أنت قاتله فأبعدك عنه وأقصاك فأحذر ياعمر أن تخرج عليه فيكون عليك نصف عذاب أهل النار.

                قال: فبلغ الخبر ابن زياد فاستدعى بكامل فقطع لسانه فعاش يوماً أو بعض يوم ومات (رحمه الله)، إنتهى.

رد أهل الكوفة نصيحة الناصحين

                والناصحون لهم كثيرون منهم برير بن حضير الهمداني المشرقي، قال الشبلنجي الشافعي في نور الأبصار(1) في حديث كربلاء: فحالوا بين الحسين «عليه السلام» وبين الماء فعند ذلك ضاق الأمر على الحسين «عليه السلام» وعلى أصحابه وأشتد بهم العطش وكان مع الحسين رجل من أهل الزهد والورع يقال له يزيد بن حصين الهمداني(2) فقال للحسين «عليه السلام»: أئذن لي يا ابن رسول الله آتي عمر بن سعد وأكلمه في الماء لعله أن يرتدع، فأذن له، فجاء الهمداني إلى عمر بن سعد وكلمه في الماء فأمتنع ولم يجبه إلى ذلك، فقال له: هذا ماء الفرات

(1) نور الأبصار: ص117.

(2) يزيد بن حصين تصحيف برير بن حضير.

(257)

يشرب منه الكلاب والدواب وتمنع منه ابن بنت رسول الله (ص) وأولاده وأهل بيته العترة الطاهرة يموتون عطشاً وقد حلت بينهم وبين ماء الفرات وتزعم أنك تعرف الله ورسوله؟!  فأطرق عمر بن سعد وقال: يا أخا همدان! إني لأعلم ما تقول وأنشأ يقول:

دعاني عبيد الله من دون أهله              إلى خصلة فيها خرجت لحيني

فوالله ما أدري وإني لواقف                                على خطر لا أرتضيه ومين

أآخذ ملك الري والري بغيتي           أو أرجع مأثوماً بقتل حسين

وفي قتله النار التي ليس دونها            حجاب وملك الري قرة عيني

                ثم قال: يا أخا همدان!  ما أجد نفسي تجيبني إلى ترك ملك الري لغيري، فرجع يزيد بن حصين الهمداني إلى الحسين «عليه السلام» وأخبره بمقالة ابن سعد، إنتهى.

                أما ابن طلحة الشافعي في مطالب السئول فذكر أن الهمداني لم يسلم على ابن سعد فقال ابن سعد: يا أخا همدان! ما منعك من السلام علي؟ ألست مسلماً أعرف الله ورسوله؟ فقال الهمداني: لو كنت مسلماً كما تقول لما خرجت إلى عترة رسول الله (ص) تريد قتلهم، وبعد فهذا ماء الفرات وذكر مثلما تقدم(1).

                ومنهم زهير بن القين البجلي، ذكر أبو جعفر الطبري في التاريخ(2) عن كثير بن عبد الله الشعبي قال: لما زحفنا قبل الحسين «عليه السلام» خرج إلينا زهير بن القين على فرس له ذنوب شاك في السلاح فقال: يا أهل الكوفة! نذاراً لكم من عذاب الله نذار، إن حقاً على المسلم نصحية أخيه المسلم ونحن حتى الآن إخوة على دين واحد وملة واحدة مالم يقع بيننا وبينكم السيف وأنتم للنصيحة منا أهل فإذا وقع السيف أنقطعت العصمة وكنا أمة وكنتم أمة، إن الله قد أبتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد (ص) لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا لندعوكم إلى نصرهم وخلان الطاغية عبيد الله بن زياد فإنكم لا تدركون منهما إلا بسوء عمر سلطانهما كله ليسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهاني بن عروة وأشباهه.

                قال: فسبوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له وقالوا: لا نبرح حتى

(1) مطالب السئول: ص76.                           (2) تاريخ الطبري 6/ 243.

(258)

نقتل صاحبك ومن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلماً.

                فقال: عباد الله! إن ولد فاطمة «عليها السلام» لأحق بالود والنصر من ولد سمية فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم فخلوا بين هذا الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية فلعمري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين «عليه السلام».

                فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال: أسكت أسكت الله نامتك أبرمتنا بكثرة كلامك.

                فقال له زهير: يا بن البوال على عقبيه ما إياك أخاطب إنما أنت بهيمة والله وما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

                فقال له شمر: أما والله إن الله قاتلك وقاتل صاحبك عن ساعة.

                فقال زهير: أفبالموت تخوفني فوالله للموت معه أحب إلي من الخلد معكم، ثم أقبل على الناس رافعاً صوته فقال: عباد الله! لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه فوالله لا تنال شفاعة محمد قوماً أهرقوا دماء ذريته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم، قال: فناداه رجل فقال: إن أبا عبد الله يقول لك: فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه فأبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ، إنتهى.

                وقد أكثر أصحاب الحسين «عليه السلام» من نصح أهل الكوفة فغلبت عليهم شقوتهم فأطاعوا الشيطان المغوي وأتبعوا الهوى المردي.

المناصحة للإمام المعصوم «عليه السلام»

                إن إصحاب علي والحسين «عليهم السلام» مثال الإخلاص الحقيقي والتفادي الواقعي وهم أهل الفناء في ولائهم أحياءاً وأمواتاً.

                قال السيد ابن طاوس في كتاب الملهوف(1): قيل لمحمد بن بشر الحضرمي في تلك الحال: أسر أبنك بثغر الري، فقال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنت أحب أن يؤسر وأنا أبقى بعده، فسمع الحسين «عليه السلام» قوله فقال: رحمك الله أنت في حل من بيعتي فأعمل في فكاك أبنك، فقال: أكلتني السباع حياً إن فارقتك، قال: فأعط أبنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه، فأعطاه

(1) الملهوف: ص83.

(259)

خمسة أثواب قيمتها ألف دينار، إنتهى.

                والمشهور أن المأسور هو محمد بن بشر وهذه القصة لابنه بشر كما يذكر جماعة من المؤرخين كالطبري.

                وقصة مسلم بن عوسجة لما مشى إليه الحسين «عليه السلام» وحبيب مشهورة في وصيته لحبيب بالنماصحة للحسين «عليه السلام» ولم يوصه بأمر من أموره ولهذا قال الشاعر:

نصروه أحياء وبعد مماتهم                    يوصي بنصرته الشفيق شفيقا

أوصى ابن عوسجة حبيباً قال            قاتل دونه حتى الحمام تذوقا

                ومن أصحاب أمير المؤمنين علي «عليه السلام» من لم تشغلهم أنفسهم عن المناصحة له في ساعة النزع والأحتضار.

                قال نصر بن مزاحم في كتاب صفين(1): عن عبد خير الهمذاني قال: قال هاشم ابن عتبة – يعني المرقال -: أيها الناس! إني رجل ضخم فلا يهولنكم مسقطي إذا أنا سقطت فإنه لا يفرغ مني أقل من نحر جزور حتى يفرغ الجزار من جزرها، ثم حمل فصرع فمر عليه رجل وهو صريع بين القتلى فقال له: إقرأ أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وقل له: أنشدك الله إلا أصبحت وقد ربطت مقاود خيلك بأرجل القتلى فإن الدبرة تصبح لمن غلب على القتلى، فأخبر الرجل علياً «عليه السلام» بذلك، فسارعلي «عليه السلام» في بعض الليل حتى جعل القتلى خلف ظهره فكانت الدبرة له عليهم.

                وقال(2): عن عبد الرحمن بن حاطب قال: خرجت ألتمس أخي سويداً في القتلى فإذا برجل قد أخذ بثوبي صريع فألتفت فإذا هو عبد الرحمن بن كلدة فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون هل لك بالماء؟ قال: لا حاجة لي في الماء قد أنفذني السلاح وحرقني ولست أقدر على الشرب فهل أنت مبلغ عني أمير المؤمنين رسالة فأرسلك بها؟ قلت: نعم، قال: إذا رأيته فأقرأ عليه السلام وقل له: يا أمير المؤمنين! إحمل جرحاك إلى عسكرك حتى تجعلهم من وراء القتلى فإن الغلبة لمن فعل ذلك، ثم لم أبرح حتى مات، فخرجت حتى أتيت علياً «عليه السلام» فدخلت عليه فقلت: إن عبد الرحمن بن كلدة يقرأ عليك السلام، قال: وعليه: أين هو؟ قلت: قد والله يا أمير المؤمنين أنفذه السلاح وحرقه فلم أبرح حتى توفي،

(1) وقعة صفين: ص184.                              (2) وقعة صفين: ص303.

(260)

 فأسترجع، فقلت له: ارسلني إليك برسالة، قال: وماهي؟ قلت: قال: يا أمير المؤمنين! إحمل جرحاك إلى معسكرك حتى تجعلهم من وراء القتلى فإن الغلبة لمن فعل ذلك، قال: صدق والذي نفسي بيده، فنادى مناديه في العسكر أن أحملوا جرحاكم إلى معسكركم، ففعلوا، إنتهى.

                للمؤلف:

نصروا أئمتهم وأدوا حقهم               في الحالتين دعاية وجلادا

قوم قد اعتادوا المكارم عادة               والمرء يألف طبعه ما اعتادا

أولئك الأحرار نوه وأطرهم             في كل ناد يجمع الأمجادا

والله شرفهم بحسن صنيعهم             وحباهم الغرف التي قد شادا

محياهموا محي الكرام وموتهم              موت الأفاضل محشراً ومعادا

أولئك الأحياء في جناتها                    والأرض لاتبلي لهم أجسادا

نصيحة صادفت قبولاً:

                إن مدار قبول النصيحة على أمرين: إن كانت دينية فيجري قبولها على محور التوفيق ويدور على قطب التسديد، وإن كانت دنيوية فعلى صحة العقل وسلامة الحواس.

                قال نصر بن مزاحم في كتاب صفين(1) وحديث هاشم المرقال: عن أبي سلمة: إن هاشم بن عتبة دعا في الناس عند المساء: إلا من كان يريد الله والدار الآخرة فليقبل، فأقبل إليه ناس فشد في عصابة من أصحابه على أهل الشام مراراً فليس من وجه يحمل عليهم إلا صبروا له وقوتل فيه قتالاً شديداً، فقال لأصحابه: لا يهولنكم ما ترون من صبرهم فوالله ما ترون منهم إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها وعند مراكزها وإنهم لعلى الضلال وإنكم لعلى الحق، ياقوم! أصبروا وصابروا وأذكروا والله ولا يسلم رجل أخاه ولا تكثروا الالتفات وأصمدوا صمدهم وجالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا وهو أحكم الحاكمين.

                قال أبو سلمة: فمضى في عصابة من القراء فقاتل قتالاً هو وأصحابه حتى رأى بعض ما يسرون به إذ خرج عليهم فتى شاب يقول:

أنا ابن أرباب الملوك غسان                 الدائن اليوم بدين عثمان

(1) وقعة صفين: ص164.

(261)

أنبثنا أشياخنا بما كان            إن علياً قتل ابن عفان

                ثم شد فلا يثني يضرب بسيفه ثم يلعن ويشتم ويكثر الكلام، فقال له هاشم ابن عتبة: إن هذا الكلام بعده الخصام وإن هذا القتال بعده الحساب فأتق الله فإنك راجع إليه فسائلك عن هذا الموقف وما أردت به.

                فقال: إني أقاتلكم لان صاحبكم لا يصلي كما ذكر لي وإنكم لا تصلون! وأقاتلكم إن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم وازرتموه على قتله.

                فقال هاشم: وما أنت وابن عفان إنما قتله أصحاب محمد (ص) وقراء الناس حين أحدث أحداثا وخالف حكم الكتاب، وأصحاب محمد (ص) هم أهل الدين وأولى بالنظر في أمور المسلمين وما أظن أن أمر هذه الأمة ولا أمر الدين عناك طرفة عين قط.

                قال الفتى: أجل أجل والله لا أكذبه فإن الكذب يضر ولا ينفع ويشين ولا يزين.

                فقال هاشم: هذا أمر لا علم لك به فخله وأهل العلم به.

                قال: أظنك والله قد نصحتني.

                وقال له هاشم: أما قولك إن صاحبنا لا يصلي فهو أول من صلى مع رسول الله (ص) وأفقهه في دين الله وأولاه برسول الله (ص)، وأما من تر معه فكلهم قارئ لكتاب الله لا ينام الليل تهجداً فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون.

                فقال الفتى: يا عبد الله! إني لأظنك أمرئ صالحاً أخبرني هل تجد لي من توبة؟

                قال: نعم تب إلى الله يتب عليك فإنه يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات ويحب التوابين.

                قال: فذهب الفتى الشامي راجعاً، فقال له رجل من أهل الشام: خدعك العراقي؟! قال: لا ولكن نصحني العراقي، إنتهى.

مناصحة أبي الفضل ابن امير المؤمنين لأخيه الحسين «عليهم السلام»

                فقد كانت قولية وفعلية:

                أما القولية فقد مر عليك من أقواله واشعاره ما يكفيك، ومن مناصحته

(262)

القولية ما مر آنفا من قوله لإخوته: حاموا عن سيدكم وإمامكم الحسين «عليه السلام»، وقوله «عليه السلام» لأشقائه: تقدموا يابني أمي حتى إعلم أنكم قد نصحتم لله ولرسوله الخ.

أما المناصحة الفعلية:

                فأثرها ظاهر قطعت يمينه وشماله وهو واقف في خطة الحرب ثابت ساحة القتال لم يطلب لنفسه ملجأ ولا مأمناً ولم يعد لأخيه الحسين «عليه السلام» يحتمي به من الأعداء حاذر أن يغتم لأجله الحسين «عليه السلام» فثبت في مركزه بعد قطع يديه ووقف من غير يدين يذب بهما عن نفسه فكأنه قطعة جبل صلد لا يتزعزع أو زبرة حديد لم تتحلحل وإن هيبته تمنع العدو من الأقتراب إليه حتى أغتاله بعضهم متستراً بنخلة ففضخ هامته بعامود الحديد فأنجدل صريعاً على وجه الثرى فهذه من أعظم المناصحة وأجلها.

                وقد مدح بهذه المناصحة وإثنى بها عليه الأئمة المعصومون «عليه السلام»: قال الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق «عليهما السلام» في زيارته التي رواها ابن قولويه في كامل الزيارة: «أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل والسبط المنتجب والوصي المبلغ والمظلوم المهتضم» الخ.

                وفي محل آخر: «أشهد أنك قد بالغت في النصيحة وأعطيت غاية المجهود».

                وفي محل آخر منها: «أشهد أنك قد نصحت لله ولرسوله ولأخيك».

                وفي محل آخر: «أشهد أنك قد بالغت في النصيحة وأديت الأمانة وجاهدت عدوك وعدو أخيك فصلوات الله على روحك الطيبة وجزاك الله من أخ خيراً ورحمة الله وبركاته».

                وقوله «عليه السلام» «أديت الأمانة» يحتمل ثلاثة وجوه:

                أحدها: إن الإمامة منصب إلهي ووظيفة ربانية قد أخذ عهدها في الميثاق الأول وهي المشار إليها بقوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموت والأرض)(1) الآية فكانت هذه الأمانة هي الإمامة كما أشار إليها ابن أبي الحديد الكاتب الحنفي المعتزلي في خطاب أمير المؤمنين علي «عليه السلام»:

(1) الأحزاب: 72.

(263)

أنت الأمانة لا يقوم بحملها               خلقاءها بطة وأطلس أرفع

تأبى الجبال الشم عن تقليدها            وتضج تيهاء ويشفق برقع

                وعرضها عبارة عن التعهد والالتزام بواجب طاعة الإمام التي أفترضها الله على عامة البشر فكان هذا العرض على المخلوقات عرض أختبار لا عرض أختيار إذ لا خيرة لمخلوق مع إرادة الخالق وإباء السماوات والأرض ومن معناها ليست إباية امتناع ومعصية بل إباية عدم تكليف فحملها الإنسان الذي هو أظهر أفراد الأنواع المكلفة من الحيوانات لأنه محسوس بخلاف الملك والجن فإنها أجسام غير مرئية ولهذا جحدها الجاهلون من الفلاسفة فكان الإنسان ظلوماً بحملها في العهد السابق واللاحق فيقول: بخ بخ مرة ويقول مرة أخرى: وسعوها في قريش تتسع، وكل من قام بطاعة الإمام ونصره فقد أدى الأمانة وأبو الفضل من أعظم أفراد هذا القسم.

                ثانيهما: إن الحسين «عليه السلام» من العترة التي هي أحد الثقلين الذين أوصى رسول الله (ص) أمته في التمسك بهما وبحفظهما والأقتداء بهما وجعلهما أمانة عند أمته وأبو الفضل العباس «عليه السلام» من الأعيان الأوفياء بتأدية هذه الأمانة وإيصالها لرسول الله (ص) محترمة معظمة بذل دون حفظها نفسه النفيسة وجعل يتلقى السلاح بوجهه وصدره ونحره لئلا يصل إلى وديعة رسول الله منه شيء وضحى إخوته وولده لفداء الحسين «عليه السلام».

                ثالثهما: البيعة للحسين «عليه السلام» والبيعة أمانة عند المبايع وإن التزامه بشرائطها تأدية لها والقتل من أظهر مصاديق الوفاء وأجلى مظاهر التأدية للأمانة ولهذا كل من أراد الشهادة من أصحاب الحسين «عليه السلام» يقف أمامه ويستأذن للبراز ويقول: السلام عليك يا أبا عبد الله أوفيت يا ابن رسول الله؟ فيقول «عليه السلام»: نعم أنت أمامي في الجنة فاقرأ جدي وأبي وأمي عني السلام وقل لهم: تركت حسيناً وحيداً فريداً لا ناصر له ولا معين.

                ويحتمل في تأدية الأمانة وجهاً رابعاً: وهو ما رواه بعض أرباب المقاتل من أن مولانا أمير المؤمنين «عليه السلام» أوصى ولده العباس الأكبر «عليه السلام» بنصرة أخيه الحسين «عليه السلام» فكانت هذه التوصية أمانة عنده من أبيه «عليه السلام» فقد أداها وسقط عنه فرض التكليف بها وكل هذه الوجوه صالح للحمل عليه ولا مانع من إرادة الجميع وإن كان الحمل على الإمانة أظهر لمصير أكثر المفسرين إلى أن المراد الأمانة هي الإمامة.

(264)

أما الشعر في مدح العباس «عليه السلام» بالمناصحة:

                فهو كثير ومنه قول الإمام السبط سيد الشهداء الحسين «عليه السلام» فيما رواه الفاضل الدربندي في أسرار الشهادة(1) ولفظه قال: فلما أتاه الحسين «عليه السلام» رآه صريعاً على شاطئ الفرات بكى ثم قال: وا أخاه وا عباساه! الآن أنكسر ظهري وقلت حيلتي، ثم قال: جزاك الله عني يا أخي يا أبا الفضل العباس خيراً، قيل: ثم أنشأ:

أخي يا نور عيني يا شقيقي                 فلي قد كنت كالركن الوثيق

أيا ابن أبي نصحت أخاك حتى          سقاك الله من كأس رحيق

أيا قمراً منيراً كنت عوني                     على كل النوائب في المضيق

فبعدك لا تطيب لنا حياة                      سنجمع في الغداة على الحقيق

ألا لله شكوائي وصبري                     وما ألقاه من ظمأ وضيق

                وقال الآزري البغدادي الحاج محمد رضا:

وأخ كريم لم يخنه بمشهد                      حيث السراة كبابها إقدامها

                للمؤلف:

فديت أبا الفضل من ناصح               لسبط الرسول ونعم النصيح

فداه فدته نفوس الأنام                        بكل نفيس وغال ربيح

وحرص أبي الفضل في حفظه           بما يستطيع كحرص الشحيح

ومن صفات العباس الأكبر ابن أمير المؤمنين «عليهما السلام» الإيثار

                وإيثار أبي الفضل العباس لأخيه الحسين «عليهما السلام» يوم كربلاء مما لا شك فيه ولا أرتباب، والإيثار خصلة حميدة وسجية فاضلة من سجايا الكرام وأخلاق أهل العفة والديانة وأرباب المجد والسؤدد، وكونها من صفات المدح فمما لا يرتاب فيه إلا أعوج السليقة أو جاهل محض لا إلمام له بسير العقلاء ولا معرفة عنده بأدلة الأحكام.

معنى الإيثار لغة:

                قال الفيومي في المصباح المنير: آثرته بالمد فضلته.

(1) أسرار الشهادة: ص322.

(265)

                وقال فخر الدين الطريحي (رحمه الله) في مجمع البحرين: ( ويؤثرون على أنفسهم)(1) أي يقدمون على أنفسهم من قولهم آثره على نفسه أي قدمه وفضله.

                وقال ابن الأثير في النهاية: ويستأثر عليكم أي يفضل عليكم غيركم في الفيء.

                وبهذا يظهر غلط صاحب القاموس في قوله: آثره أكرمه، وكان الواجب عليه أن يقول: قدمه في الكرامة.

معنى الإيثار العرفاني والفرق بينه وبين المواسات

                قال الشريف الجرجاني في التعريفات(2): المواسات أن ينزل غيره منزلة نفسه في النفع له والدفع عنه والإيثار أن يقدم غيره على نفسه فيهما وهو النهاية في الأخوة، إنتهى.

                والإيثار نتيجة العفة التي هي من فضائل النفس الأربعة الكمالية وشعبة من شعب الجود الذي هو أفضل خلق وسجية وأجل غريزة من الغرائز الإنسانية ومن أحسن ما تحلى به هذا النوع البشري المتسلط على عامة الأنواع.

                قال أحمد بن أبي الربيع في سلوك المالك(3): والإيثار هو كف الإنسان عن بعض حوائجه وبذلها لمستحقها، و(4) أن يحدث من تركيب السخاء مع العفة الإيثار على النفس.

                وقال ابن مسكويه الخازن في تهذيب الأخلاق(5): الفضائل التي تحت السخاء:  الكرم، الإيثار، النيل، المواسات، السماحة، المسامحة.

                أما الإيثار فهو فضيلة للنفس بها يكف الإنسان عن بعض حاجاته التي تخصه حتى يبذله لمن يستحقه.

                وقال الغزالي الشافعي في الإحياء(6): إعلم أن السخاء والبخل كل منهما ينقسم إلى درجات فأرفع درجات السخاء الإيثار وهو أن يجود بالمال مع الحاجة إليه وإنما السخاء عبارة عن بذل ما يحتاج إليه المحتاج أو لغير المحتاج والبذل له مع الحاجة أشد، وكما أن السخاوة قد تنتهي إلى أن يسخو الإنسان على غيره مع

(1) الحشر: 9.                     (2) التعريفات:163.

(3) سلوك المالك في تدبير الممالك: ص29.

(4) نفسه: ص33.              (5) تهذيب الأخلاق: ص381.

(6) إحياء علوم الدين 2/ 222.

(266)