موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

 

 

 

تغلب وآمر عمرو بن هند برواقة فضرب ما بين الحيرة والفرات وارسل إلى وجوه أهل مملكة فحضروا ودخل عمرو بن كلثوم  رواقه ودخلت أم عمرو بن كلثوم على هند قبتها وهند أم عمرو بن هند عمة أمرئ القيس الشاعر، وليلى بنت مهلهل أم عمرو بن كلثوم أخت فاطمة بنت ربيعة أم أمرئ القيس، فدعا عمرو بن هند بمائدة فنصبها ثم دعا بالطرف فقالت هند: يا ليلى! ناوليني ذاك الطبق، فقالت: لتقم صاحبة الحاجة لحاجتها، فأعادت عليها، فلما ألحت صاحت ليلى: واذلاه يا آل تغلب! فسمعها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه، فقام إلى سيف لعمرو بن هند معلق في الرواق وليس سيف هناك غيره فضرب به رأس عمرو بن هند حتى قتله ونادى في بني تغلب: فأنتهبوا جميع ما في الرواق وأستاقوا نجائبه وساروا نحو الجزيرة وابنه عتاب بن عمرو بن كلثوم قاتل بشر بن عدس وأخوه مرة بن كلثوم قاتل المنذر بن النعمان بن المنذر، ولذلك قال الأخطل:

أبني كليب إن عمي اللذا                    قتلا الموك وفككا الأغلالا

                يعني بعميه مرة وعمراً ابني كلثوم، وعمرو بن كلثوم هو القائل:

الأ هبي بصحنك فأصبحينا

                وكان قام بها خطيباً فيما كان بينه وبين عمرو بن هند وهي من جيد شعر العرب وإحدى السبع المعلقات ولشغف تغلب بها قال بعض الشعراء:

إلهي بني تغلب عن كل مكرمة          قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

يفاخرون بها مذ كان أولهم                  يا للرجال لفخر غير مسؤوم

ومنهم قيس بن عاصم المنقري التميمي السعدي:

                سيد أهل الوبر وهو فارس بني تميم وبطلها وزعيمها وأنفة قيس بن عاصم للعرض من وجوه عديدة ولها طرق كثيرة يطول أستيفاؤها منها قصة المجنونة التي أسرها الحوفزان بن شريك الشيباني فأستخلص قيس منه السبي ونجا بتلك الحمقاء فألح عليه قيس حتى حفزه بالرمح وأستنقذها منه، وتقدمت قصتها.

                وبلغ قيس من الأنفة في العصر الجاهلي إلى حد سن للعرب دفن البنات أحياء وهو الوئد وتلك الموؤدة التي قال الله تعالى عنها: (وإذا المؤدة سبلت(8) بأي ذنب قتلت)(1) إلى أن أشرق نور الشريعة المحمدية فغير تلك السنة القاسية.

                قال الميداني في مجمع الأمثال(2): كان السبب في ذلك أنهم كانوا منعوا

(1) التكوير: 8و 9.                                            (2) مجمع الأمثال 1/ 247.

(221)

الملك ضريبته وهي الأتاوة التي كانت عليهم فجرد النعمان إليهم أخاه الريان مع دوسر أحد كتائبه وكان أكثر رجالها من بكر بن وائل فأستاق نعمهم وسبى ذراريهم فوفدت وفود بني تميم على النعمان بن المنذر في الذراري وحكم النعمان في ذلك أن يجعل الخيار في ذلك إلى النساء فأي أمرأة أختارت زوجها ردت عليه، فاختلفن في الخيار وكان فيهن بنت لقيس بن عاصم فأختارت سابيها على زوجها فنذر قيس بن عاصم أن يدس كل بنت له في التراب فوأد بضعة عشر بنتاً، الخ.

                هكذا جاءت هذه الرواية ولم يتفرد بها الميداني بل عليها كثير من نقلة الأثر، ويظهر من تصريح آخرين أن سبب وأده للبنات خوف السبة بتزويج غير الأكفاء لا أن أبنته سبيت وذلك ظاهر في جوابه لأبي بكر بن أبي قحافة لما سأله في حياة النبي (ص): لم تئد البنات يا قيس؟ فقال له قيس: مخافة أن يتزوجن مثلك وهذا أقرب إلى ذوق هذا الزعيم إذ لا قدرة للنعمان على بني تميم حاربه بطن منهم يوم طخفة فكسره تلك الكسرة الفاضحة وأخذوا ليطمه كسرى سيد النعمان وما منعها النعمان منهم ولا حماها وبسببها كانت وقعة الكلاب الثاني المعروفة بيوم الصفقة لما تنحوا عن مستعمرة كسرى إلى حدود اليمن فغزتهم ملوك اليمن فكانوا غنيمتهم الباردة.

ومنهم خالد بن جعفر العامري الكلابي:

                قتل زهير بن جذيمة العبسي لأجل أمرأة من هوازن كما سبق في ترجمته.

ومنهم آكل المرار الكندي الملك:

                وهو حجر بن الحارث بن عمرو المقصور غزاه ابن مندلة ملك سليح من قضاعة وأسر زوجته هند الهنود وكان غائباً فلما رجع وعلم الخبر أكل المرار غضباً وهو شجر مر لا تسيغه البهائم.

                قال الميداني في مجمع الأمثال(1): قولهم: «لا غزو إلا التعقيب» أول من قال ذلك حجر بن الحارث بن عمرو آكل المرار وذلك أن الحارث بن مندلة ملك الشام كان من ملوك سليح من ملوك الضجاعم وهو الذي ذكره ابن جوين الطائي في شعره فقال:

هنالك لا أعطي رئيساً مقادة              ولا ملكاً حتى يؤب بن مندله

                وكان قد أغار على أرض نجد وهي أرض حجر بن الحارث وذلك على عهد

(1) مجمع الأمثال 2/ 131.

(222)

بهرام جور وكان بها أهل حجر فوحد القوم خلوفاً ووجد حجراً قد غزى أهل نجران فأستاق ابن مندلة مال حجر وأهله وأخذ أمرأته هند الهنود ووقع بها فإعجبها وكان آكل المرار شيخاً كبيراً وابن مندلة شاباً جميلاً فقالت له: النجاء فإن وراءك طالباً حثيثاً وجمعاً كثيراً ورأياً صليباً وحزماً وكيداً، فخرج ابن مندلة مغذاً إلى الشام وجعل يقسم المرباع نهاره أجمع فإذا كان الليل أسرجت له السرج يقسم عليها، فلما رجع حجر وجد ماله قد أستيق ووجد هنداً قد أخذت فقال: من أغار عليكم؟ قالوا: ابن مندلة، فقال: منذكم؟ فقالوا: بعد ثمان ليالي، فقال حجر: «لا غزو إلا التعقيب» فأرسلها مثلاً يعني غزوه الأول والثاني، وقوله «ثمان في ثمان» يعني سبقه بثمان وسيلحقه في ثمان أخرى.

                ثم أقبل يجد في طلب ابن مندلة حتى دفع إلى واد دون منزل ابن مندلة فكمن فيه وبعث سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة وكان من مناكير العرب فقال حجر: إذهب متنكراً إلى القوم حتى تعلم لنا علمهم، فانطلق سدوس حتى إنتهى إلى ابن مندلة وقد نزل في سفح الجبل وقد أوقد ناراُ وأقبل يقسم المرباع ونثر تمراً وقال: من جاء بحزمة حطب؟ فذهب سدوس وأتى بحزمة حطب وألقاها على النار وأخذ قبضة من تمر فألقاها في كنانته وجلس مع القوم يستمع إلى ما يقولون وهند خلف ابن مندلة تحدثه، فقال ابن مندلة: يا هند! ما ظنك الآن بالحجر؟ قالت: إني اراه ضارباً بجوشنه على واسطة رحله وهو يقول: سيروا سيروا لا غزو إلا التعقيب وذلك مثلما قال زوجها سواء.

                ثم قالت هند لابن مندلة: والله ما نام حجر إلا وعضو منه حي، فقال ابن منذلة: وما علمك بذلك وأنهرها، قالت: إني كنت له فاركاً فبينا هو ذات يوم في منزل قد خرج إليه رابعاً فضربت له قبة من قبابه ثم آمر بجزر فنحرت وبشاء فذبحت فصنع ذلك ثم أرسل إلى الناس فدعاهم فأطعموا خرجوا فنام كما هو مكانه وأنا جالسة عند باب القبة فأقبلت حية وهو نائم باسط رجله فذهبت الحية تنهشه فقبض رجله ثم تحولت من قبل يده تنهشه فقبض يده إليه ثم تحولت من قبل رأسه فلما دنت منه وهو يغط قعد جالساً فنظر إلى الحية فقال: ما هذه يا هند؟ فقلت: ما فطنت لها حتى جلست، فقال: لا والله، وذلك كله بمسمع سدوس، فلما سمع الحديث رجع إلى حجر فنثر التمر من الكنانة بين يديه وقال:

أتاك المرجفون بأمر غيب                   على دهش وجئتك باليقين

                فلما حدث بحديث أمرأته مع ابن مندلة عرف أنه قد صدقه فضرب بيده على

(223)

المرار وهي شجرة مرة إذا أكلت منها الإبل قلصت مشافرها فأكل منها من الغضب فلم يضره فسمته العرب آكل المرار ثم خرج حتى أغار على ابن مندلة فنذر به ابن مندلة فوثب على فرسه ووقف فقال له آكل المرار: هل لك في المبارزة فأينا قتل صاحبه أنقاد له جند المقتول؟ قال له ابن مندلة: أنصفت وذلك بعين هند، فاختلفا بينهما طعنتين فطعنه آكل المرار طعنة جندله بها عن فرسه فوثبت هند إلى ابن مندلة تفديه وأنتزعت الرمح من نحره وخرجت نفسه فظفر آكل المرار بجنده وأستنقض جميع ما كان ذهب به من ماله ومال أهل بلاده وأخذ هنداً فقتلها بمكانه وأنشأ يقول:

لمن النار أوقدت بحفير       لم ينم غير مصطل مقرور

إن من يأمن النساء بشيء     بعد هند لجاهل مغرور

كل أنثر وإن بدا لك منها    آية الحب حبها خيتور

                إنتهى.

                وليست أنفة العرب تخص هذا النوع من الغيرة على الحرم بل يأنفون من الرجل يتحدث إلى نسائهم وقد كان كليب وائل يلقب أخاه مهلهلاً زير نساء لأنه كان كثير التحدث مع النساء ولذلك يقول مهلهل لما أخذ بثار كليب:

فلو نشر المقابر عن كليب    لخبر بالذنائب أي زير

                وفعلت بنو عقيل بجعفر بن علبة الحارثي ما فعلت حتى شهرته لأنه كان يتحدث إلى بعض نسائهم.

                فالعرب ليسوا كالأفرنج الذين سلبوا الغيرة وعدموا الحمية والذين تختلط نساؤهم برجالهم فلا يعرف بعل المرأة من صديقها وهذه الملاعب الرياضية الأُلمبية والمسارح والسينما وغيرها من المجتمعات العامة وبالأخص الملاهي يحصل فيها ما لا يصبر على أدناه من دبت نشوة الغيرة في مسارب صماخه وتسربت الحمية متوغلة في دماغه فإن ملعب الدنص ولكلاب الذي تطفأ فيه الأنوار الكهربائية ويمد كل رجل من الحضور يده إلى المرأة التي تقع في يده فهي حصته ونصيبه كائنة من كانت فيخلوا بها بدون إنكار ولا تحاش فلا بعلها يأنف ولا حميمها يغضب هذا يسمونه مدنية وحرية.

                إن هذا مما يشوه المدنية الحرة ويهجن راقية الحضارة ويمت بها ساقطة إلى الحضيض الأسفل، ومما تأباه أيضاً شهامة الأحرار وتمجه نفوس النبلاء الإغيار

(224)

ما شاهده النظار من أختلاط نساء الإفرنج برجالهم في المغاطس (المسابح) فإن النساء والرجال يسبحون جميعاً عراة ليس على أبدانهم سوى ما يستر العورتين من لباس اللاستيق وفي أنف العروبة شمم عن مثل هذا وشموخ، إن العربي المحض ليأنف من المحادثة الساذجة ويغار من الأختلاط البسيط مع الحشمة والوقار والمحافظة على الستر ومع ذلك ليرتفع بهم مجدهم عن مثل هذه الدنيئة ويتعالى عن أشباه هذه السواقط فهم يرجعون إلى شرف لم يدنس بأداني الأفعال ومجد لم يلوث بذميمات الخصال ففي رؤوسهم نخوة شديدة، وفي أنوفهم شمم غير مستعار فيعطسون بإباء منيع ويرعفون بأنفة عصماء، ويرجعون إلى أنفس حرة وأصول كريمة وعناصر مبرءة من كل وصمة ودنيئة وعار ومذمة.

                قال أبو هلال العسكري في جمهرة الأمثال بهامش مجمع الأمثال للميداني(1): روى بعض العلماء أن عمرا ذا الكلب الهذلي كان عشيقاً لأم خليجة أمرأة من قيس فأتاها ليلة فنذر به قومها فهرب فأتبعوه فمر حتى رفعت له نار فأتاها فوجد عندها رجلاً فسأله طعاماً فدفع إليه تمرات فقال: تمرات تتبعها عبرات من نساء خفرات ومضى فدخل غاراً فجاء القوم يقصون أثره حتى أتوا الغار فقالوا: أخرج إلينا، قال: فلمه دخلته إذن؟! فقالوا لغلام لهم: أدخل فأقتله وأنت حر، فقال عمرو للغلام: ويحك ما ينفعك أن تعتق بعد أن تموت، فدخل فقتله عمرو وقال: معي أربعة أسهم كأنياب أم خليجة هي لأربعة منكم، فقتل منهم أربعة فنقبوا عليه من وراء الغار فقتلوه وأتوا بثيابه أم خليجة فوقعت عليها تصرخ وتقول: عطر وريح عمرو، ثم قالت: والله لئن قتلتموه فما وجدتم عانته وافية، ولا حجزته جافية، ولرب ضب منكم قد أحترشه وثدي قد أفترشه وما أقترشه، ثم أنشأت تقول:

كل أمرء بطول العيش مكذوب        وكل من غالب الأيام مغلوب

وكل حي وإن طالت سلامته            يوماً طريقهموا للشر دعبوب

أبلغ هذيلاً وابلغ من يبلغها                عني مقالاً وبعض القول تثريب

بأن ذا الكلب عمراً خيرهم نسباً       ببطن شريان(2) يعوي حوله الذيب

التارك القرن تحت النقع منجدلاً       كأنه من دم الأجواف مخضوب

(1) جمهرة الأمثال بهامش مجمع الأمثال 2/ 85.

(2) شريان بئر معروفة إلى اليوم قرب بلدة الزبير الحالية من محافظة البصرة..

(225)

والطاعن الطعنة النجلاء يتبعها          مثعنجر من نجيع الجوف أسكوب

والمخرج الكاعب الحسناء مذعنة      في السبي ينفح من أردانها الطيب

تمشي النسور إليه وهي لاهية              مشي العذارى عليهن الجلابيب

فلن تروا عمرو ما مشت قدم             وما أستحنت إلى أعطانها النيب

                إنتهى، والمشهور أن هذه الأبيات لأخته ترثيه بها، وقصة جعفر بن علبة الحارثي معروفة وذكرها الحموي في معجم البلدان(1).

القسم الرابع: الآنفون من الاستعباد الناهضون بالإصلاح

                وغرضهم مقاومة الاستعمار الصارم ومكافحة الاستبداد الغاشم ولا نعرف هذا لأحد من رجال الجاهلية وإنما حدث في الإسلام وأول الناهضين به المؤسسين له من كبار المصلحين وعظماء الرجال الذين أنهضتهم الغيرة والحمية على صيانة الشرف وحفظ الدين معاً:

هو سيد الشهداء:

                سيد شباب أهل الجنة سبط سيد الأنبياء وشبل سيد الأوصياء إمام أهل الإباء الحسين بن علي «عليهما السلام» فإنما نهضته الإصلاحية وثورته الخطيرة المشهورة في التاريخ الشهيرة في ديوان الإصلاح البشري لم تكن مسببة عن هوان يلحقه في نفسه ولا من أنتقاص في مجده وشرفه فإن الحسين «عليه السلام»وإن كانت السلطنة لمن دونه في المجد والسلطة للوضعاء لكنه عند المسلمين قاطبة في أسمى رتبة وأعلى مكان وله عند الأمراء مكانة مكينة ومحل سامي.

                فقد كان «عليه السلام» يأخذ الأموال من عمال معاوية من غير أن يراجع معاوية أو يستأذنه، فلو أقام والحال هذه لم ينقص شرفه ولم يثلم مجده فقد أقام جده وأبوه وأخوه «صلوات الله عليهم أجمعين» زمناً طويلاً والسلطة والسلطنة لغيرهم، وأقام هو «عليه السلام» قبل نهضته والقوم له محترمون يبجلونه غاية التبجيل ولكنه رأى وعاين ما لا يصبر على مثله الحر الكريم، ولا يتحمل أدناه ذو النفس الأبية، والذي يغار على الإسلام والشريعة ويروم الإصلاح في الأمة التي قهرها الأستبداد وأثر فيها نكد الاستعباد، فقد صدرت من عمال بني أمية وملوكهم من الفظائع الشنيعة والأعمال المنكرة الماحقة لعامة أحكام الشريعة المحمدية

(1) معجم البلدان 5/ 44.

(226)

الناشرة روح المدنية على العالم بأسره فكم دم يراق وحرمة تهتك وأموال تؤخذ جبروتية وغلبة، وفروج تستباح قهراً وتستحل فجوراً إلى غير ذلك من الأمور التي كانت تعملها جبابرة الأمم وفراعنة الملوك الذين أرسل الله إليهم الرسل وأبتعث الأنبياء المصلحين وىمرهم بمقاومة الاستبداد الجبروتي وأوجب عليهم تغييره ولو بتضحية نفوسهم.

                وعلى مثل ذلك نهض الحسين «عليه السلام» نهضته المشهورة وقد صرح بذلك في كلام له «عليه السلام» في جواب من نهاه عن الخروج وخوفه أعتداء الأمويين: إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص) لآمر بينهم بالمعروف وأنهى عن المنكر، فأختار تلك القتلة الحميدة والتضحية الكريمة في سبيل الإصلاح وتغييراً للبدع وإنكاراً للجور المسلط على أمة محمد (ص) والعدوان الموجه من اللعين الفاجر على عامة المسلمين في أقطار الأرض وقد علمت أن رسول الله (ص) كان عظيماً معظماً في قريش يتحاكمون إليه ويرضون بحكمه ويسمونه الصادق الأمين حتى نهض تلك النهضة الإصلاحية التي أوجبت تهذيب العالم من رذائل الأخلاق والعادات الفظة وتقديسه وتطهيره من الأدناس والمنكرات فقاوم الشرك والمنكرات الجاهلية قولاً وفعلاً فعادوه وأظهروا البغض له وتعاونوا في البغي عليه وأصروا على العناد والتعنت وتمادوا في اللجاج حتى أصبحوا صرعى بغيهم وظلالهم.

                وكذلك سبيل كل من قام من المصلحين العظام بنهضة يروم بها قمع الأباطيل وكبح جمحات الأضاليل فإنه يلاقي عراقيلاً شديدة ويجابه أفظع النكبات التي يوجهها ضده أنصار الجور وبغاة العدوان والمصلح العظيم لا يقف عند عروض العراقيل في سبيل دعايته ولا تهمه الأخطار التي تحف بمقصده المقدس وغايته الشريفة فلا يرتجف قلبه عند ملاقات المحن والشدائد ولا يكترث بالكوارث الطارقة، ولا يهتم لقلة الأنصار والمساعدين له على دعايته ونشر دعوته، ولا يهن قوي العزم عن السير في تلك الخطة القويمة وإن تكبد ما تكبد من المصاعب الشاقة ولاقى من الأهوال المزعجة.

                نعم، قل لي أين يوجد مثل الحسين بن علي «عليهما السلام»؟ هيهات أن يوجد مثله في هذا النوع البشري، إنها كلمة حق لا مغالاة فيها ولا شطح، إن رجلاً قام يخطب في أنصاره وأعوانه وقد أحاطت به الأخطار من كل ناحية وأكتنفته ألاهوال من كل وجهة ويأمرهم بالتفرق عنه لكيلا يصابوا بمثل ما يصاب

(227)

به من التضحية لنفسه التي صمم على تضحيتها وأختارها مذ رأت عينه وسمعت أذنه ما حل بالإسلام والمسلمين من الويلات من إراقة الدماء وذبح الأطفال وقتل النساء وشق بطون الحوامل عن الأجنة وهتك الأستار وإباحة الفروج وما لا يسعني إحصاؤه في مثل هذه العجالة فعاهد الحسين «عليه السلام» الأبي الغيور والشهم الحر نفسه أن لا يتريث عن مقاومتهم خطوة، ولا يتوانى عن مناواتهم لحظة حتى يصلح ما أفسدوا، ويداوي كلم ما أجترحوا أو يفتدي الدين بنفسه، ومن كان هذا اعتقاده وإليه جل سعيه وأجتهاده فجدير أن يمض بعزم ثابت وجاش رابط منفرداً بتلك النفس العظيمة العديمة المثيل، وحري به أن يقول لمن أكتنفه من أفذاذ الرجال ومساعير الحروب المصاليت الذي أنهضتهم حمية الدين معه وأثارتهم عواطف الشعور العربي: ها الليل قد غشيكم فأتخذوا جملاً وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيت وتفرقوا في سوادكم فإن القوم ليس لهم طلبة غيري فإذا ظفرو بي لهوا عن طلب سواي.

السبب في أمر الحسين «عليه السلام» أصحابه بالتفرق

                وإنما أمرهم بالتفرق في مثل هذه الساعة الحرجة والموقف الرهيب مع كونه أحوج ما يكون إلى تكثير المساعدين بدلاً عن تفريق الحاضرين وصرف المدافعين عنه لأمرين:

                أحدهما:  أن الأمر معه وصل إلى الغاية التي لا يرجو معها البلوغ إلى الغرض الذي يرمي إليه وهو تغيير سنن الجائرين وكبح جماح المتمردين وإنما المتيقن عنده في تلك الساعة هو القتل لا غير والشهادة ليس إلا وأنه مقتول وجد له ناصراً أم لم يجد، وأن مطلوب عدوه قتله دون من تبعه من الناس فأحب أن يتمتعوا بالحياة إلى وقت ويتهنؤوا بالعيش إلى حين ولكن الكرام أبوها ورفضوها قائلين لم نغل ذلك لنبق بعدك لا أرانا الله ذلك، وقالت طائفة أخرى منهمك لو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها.

                ثانيهما: أنه «عليه السلام» أحب مع علمه بثبات أصحابه وقوة عزائمهم ونفوذ بصائرهم وأن نهضتهم دينية أن يكشفها للأمة كشفاً ظاهراً حتى لا يطعن طاعن أو يقدح قادح في سياسته «عليه السلام» فيزعم أن نهضته غير دينية وإنه كان يحاول سلطاناً فأغتر بذلك جماعة من الناس وأختدعهم فتوهموا أنه سينال سلطنة ويصيب ملكاً حتى أوقعهم في الخطة التي إنتهت بهم إلى القتل والقوم عرب

(228)

يأنفون عن التسلل عنه فراراً ويستهجون أن يقال لهم تركتم صاحبكم وسلمتموه عند معترك المنايا للمنون وهربتم ناجين بأنفسكم فأظهر «عليه السلام» للناس بترخيصه لهم في مفارقته ما أجنته نفوسهم وأنطوت عليه ضمائرهم من الإخلاص الصادق والمحبة العظيمة للتضحية معه وأنهم ما تبعوه إلا على الشهادة ولا لازموه إلا لأجل القتل معه ولم يتبعوه على ملك ولا سلطان.

رفض أصحابه الرخصة في الانصراف عنه:

                وإنما رفضوا الرخصة في النجاة من الموت وأختاروا القتل معه على الحياة لأمرين:

                أحدهما: حفظ رسول الله (ص) فيه لقوله (ص): أيها الناس! إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وهذا صريح في قول بعض خطباءهم لأهل الكوفة: بئسما خلفتهم محمداً في أهل بيته:

                وثانيهما: إنهم يطلبون مثل الذي يطلب من مقاومة الجور والعدوان والتضحية في سبيل إحياء الدين وتقويم الإسلام وإظهار كلمة الحق ونشر العدل والأمن أمة محمد (ص) لأنهم كلهم من الزهاد وعباد الناس وصلحاءهم وقد قال بعض الكوفيين عقيب الوقعة بزمن يوبخ رجلاً كان مع عمر بن سعد: ويلك! قتلتم ابن رسول الله (ص) والعباد الصاحلين معه، فقال: ثارت علينا عصابة أيديها على مقابض سيوفها لو ونينا عنها ساعة لأتت على الجمع بحذافيره الخ.

                فصلاحهم وزهدهم مما لا شك فيه، فأخبروا الحسين «عليه السلام» بما عرفه التاريخ من قولهم وفعلهم، فألجم فم كل قادح بأنهم لم يكن لهم غرض ولا حاجة في هذه الحياة الفانية والعيشة الزائلة فهم لا يطلبون الدنيا التي تركوها ولا يريدون الحياة التي سئموها وإنما رفضوها لأجل هذه الغاية الشريفة فقالوا معلنين: إنما طلقنا حلائلنا وفارقنا ديارنا وأهالينا وأعرضنا عن زهرة دنيانا إلا لكي نفديك بأرواحنا، قال راثيهم:

جادوا بأنفسهم عن نفس سيدهم                     وقد رأوا لبثهم من بعده عارا

                فالحسين «عليه السلام» هو أول من سن الإباء أنفة من الرضوخ للأستبداد الجائر وأسس نهضة الفخر في مقاومة سلطة الأستعباد الصارم.

                قال ابن أبي الحديد الكاتب الحنفي المعتزلي في شرح نهج البلاغة(1): سيد

(1) شرح نهج البلاغة: 1/ 302.

(229)

أهل الإباء الذي علم الناس الحمية والموت تحت ظلال السيوف اختياراً له على الدنية أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب «عليهما السلام»، عرض عليه الأمان هو وأصحابه فأنف من الذل وخاف ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان مع انه لا يقتله فأختار الموت على ذلك، وسمعت النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلوي البصري يقول: كأن أبيات أبي تمام في محمد بن حميد الطائي ما قيلت إلا في الحسين «عليه السلام»:

وقد كان فوت الموت سهلاً فرده       إليه الحفاظ المر والخلق الوعر

ونفس تعاف الضيم حتى كأنه          هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر

فاثبت في مستنقع الموت رجله           وقال لها من دون أخمصك الحشر

تردى ثياب الموت حمراً فما بدا           لها الليل إلا وهي من سندس خضر

                لما فر أصحاب مصعب عنه وتخلف في نفر يسير من أصحابه كسر جفن سيفه وأنشد:

وإن الأولى بالطف من آل هاشم       تأسوا فسنوا للكرام التأسيا

                فعلم أصحابه أنه أستقتل، ومن كلام الحسين «عليه السلام» يوم الطف المنقول عنه نقله زين العابدين علي ابنه «عليهما السلام»: ألا إن الدعي ابن الدعي قد خيرنا بين أثنتين: بين السلة والذلة وهيهات من الذلة يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبية، وهذا نحو قول أبيه «عليه السلام»: إن أمرء أمكن عدوه من نفسه يعرق لحمه ويفري جلده ويهشم عظمه لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره، أنت فكن ذاك إن شئت وأما أنا فدون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش إلهام وتطيح السواعد والأقدام الخ.

نقد المؤلف لابن أبي الحديد في إباء الحسين «عليه السلام»

                ليس كل مؤلف وإن نبل ولا كل كاتب وإن نبغ يعرف الحقيقة وينكشف له واقع الأمر، فهذا الكاتب البليغ لم يعرف حقيقة الحسين «عليه السلام» ولا مقدار أثر نهضته في سبيل الإصلاح، ما سيم الحسين «عليه السلام» الهوان إلا في آخر خطوة خطاها إلى الموت وقالوا له بعد أن قرعهم بقوارع الوعظ اللاذع يوم العاشر من المحرم وأخبرهم بخيانتهم ونكثهم فقالوا: ما ندري ما تقول ولكن أنزل على حكم بني عمك، ومتى قالوا هذه المقالة بعد مجيء الشمر «لعنه الله» بكتاب ابن

(230)

زيادة لعنه الله عصر التاسع «من المحرم» بأن لا يقبل عمر بن سعد «لعنه الله» من الحسين «عليه السلام» إلا النزول على حكمه والأستسلام أو الحرب وكان الشمر هو الذي أشار على ابن زياد بهذا الرأي على ما رواه ثقاة المؤرخين فكان جواب هؤلاء ما سمعت، فقال الحسين «عليه السلام»: هيهات لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد، وإليه أشار السيد حيدر الحلي (رحمه الله) في رثاءه:

فسامته يركب إحدى اثنتين                وقد صرت الحرب أسنانها

فإما يرى مذعناً أو تموت                     نفس ابي العز إذعانها

فقال لها اعتصمي بالإبا                       فنفس الأبي وما زانها

إذا لم نجد غير ليس الهوان                  فبالموت تنزع جثمانها

                فأين منتهى الغاية من مبدأ المدى ومحل الهدف من موقف الرامي أن مبادئ النهضة الحسينية منذ عهد معاوية إلى أبتداء بيعة يزيد البيعة العامة وحتى مسيره إلى العراق لم يسم هواناً ولم يرد به الإذلال والخضوع وإنما كان غنيمتهم سكوته عنهم وعدم تعرضه لهم فلو حصل منه ذلك لبني أمية لكانت عندهم الفائدة التي لا تدانيها فائدة ولكنه أبى ذلك نظراً لمصلحة الدين وحمية للإسلام والشريعة فأظهر مناوتهم ومباعدتهم والتنديد لأعمالهم وإعابة أفعالهم القبيحة، هذا ديدن الحسين «عليه السلام» وأمية تأخذ باللين والإرفاق وهذه العصور الأموية التي عاش بها الحسين «عليه السلام» هي ترجمان حقيقة ما قررناه:

                أما عصر معاوية بن أبي سفيان فقد كان معاوية يرى أن في الحسين «عليه السلام» نخوة إباء متغلغلة في دماغه الكريم وبمعطسه شمم متوغل في خيشومه الأشم ويعرف أن الغطرسة الأموية ذات النزوة الجبروتية مملوءة بالتمويهات والنيرنجة السياسة الخلابة التي يخدعون بها ضعفاء العقول ليست برائجة على الحسين «عليه السلام» ولا مؤثرة  فيه حتى ينخدع فينقاد فلذلك كان معاوية مع شدته وغلظته على سلالة علي «عليه السلام» وتذكره لأحقاد بدر وأحد وغيرها وما هو بالناسي لمعركة صفين التي دارت رحاها طاحنة لجيشه بيد مديرها صاحب الصولة الهاشمية أبي الحسن القرم «عليه السلام» فقد كان ينخدع الحسين «عليه السلام» ويلين له جانبه ولا يعامله إلا بالرفق والأناة حيث كان هو «عليه السلام» يخطو بقدم المنعة والعز ويمد يد القدرة والتمكين إلى الأموال المحمولة إلى معاوية بغير مراجعة له ولا أستئذان منه وهو ملك ذلك العصر المنفرد وسلطان

(231)

الوقت المسلط، وإذا كاتب معاوية كاتبه بكل جواب لاذع ووجه إليه كل خطاب نافذ بما هو أمضى من حدود الأسنة.

                أما يزيد بن معاوية فكان على عداوته لأهل البيت «عليهم السلام» وشدة بغضه للحسين «عليه السلام» كان في أشد ما يكون من مراعات جانب الحسين «عليه السلام» خوفاً منه أن يقوم بنهضة دينية أو ثورة تزعزع عرش سلطنته فكان يتوصل إلى إرضاء الحسين وإقناعه بكل ما وجد إليه سبيلاً وأعظم الوسائل عنده أن يعاتبه ويعاتب أشراف قومه فلما علم أن الحق يمنع الحسين «عليه السلام» من الانقياد إليه والأتباع له وأن الدين يوجب عليه النهوض لمكافحة الأستبداد مال إلى العنف والشدة قولاً ولان فعلاً وبذل له الأماني والمرغبات وفتل في الذروة والغارب وتوسل إلى ذلك بكل وسيلة حتى أنه أستغاث بقريش وأستعداهم على الحسين «عليه السلام» وخوف بني هاشم عاقبة الحرب حيث يقول في كلمة يرويها الطبري المؤرخ في أخبار الدولة العباسية وابن كثير المؤرخ الشافعي الدمشقي وسبط ابن الجوزي الحنفي وآخرون ونصها:

يأ أيها الراكب الغادي لطيته                على عذافرة في سيرها قحم

أبلغ قريشاً على نأي المزار لها              بيني وبين الحسين الله والرحم

وموقف بفناء البيت أنشده عهد الإله غداً توفى به الذمم

هنأتموا قومكم فخراً بأمكموا            أم لعمري حصان عفة كرم

وهي التي لا يداني فضلها أحد          بنت الرسول وخير الناس قد علموا

إني لأعلم أو ظناً لعالمه                        والظن يصدق أحياناً فينتظم

أن سوف يترككم ما تدعون به          قتلى تهاداكم العقبان والرخم

يا قومنا لا تشبو الحرب إذ سكنت    وأمسكوا بحبال السلم واعتصموا

قد غرت الحرب من قد كان قبلكموا                من القرون وقد بادت بها الأمم

فانصفوا قومكم لا تهلكوا بذخاً        فرب ذي بذخ زلت به القدم

                وقد كان الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وهو والي المدينة ليزيد بن معاوية يعظم الحسين «عليه السلام» وهو الذي كتب إلى ابن زياد ينهاه عن حرب الحسين «عليه السلام» وقد كان أيضاً عمرو بن سعيد الأشدق الأموي الذي خلف الوليد على ولاية المدينة وهو جبار بني أمية قد بذل للحسين «عليه السلام» الأمان مع ضمانه له الحباء والتبجيل والاحترام وبعث أخاه يحيى بن سعيد إليه وأستقبله في

(232)

الطريق قاصداً إلى العراق ومعه عبد الله الجواد ابن جعفر الطيار ولكن الحسين «عليه السلام» رفض كل سلم لبني أمية وأبى كل مصالحة لهم حيث أنه يرى في مسالمتهم تقوية لجور الذي أرتكبوه وإضعافاً للعدل الذي قهروه وخطبه «عليه السلام» مملوءة بهذا كقوله «عليه السلام»: أفلا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً، وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما.

                نعم، إنه نزل كربلاء وأحاطوا به وحصروه بتلك الفلاة بغير مادة ولا مدد وظهرت لهم علامات الغلبة ساموه تلك الخطة الذميمة فرفضتها نفسه الأبية وشمخت عن قبولها أنفه الشماء كما قال شاعر الأنصار(1):

أبت لي عفتي وأبى بلائي                   وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإعظامي على المكروه نفسي              وضربي هامة البطل المشيح

بذي شطب كلون الماء صاف             ونفس ما تقر على القبيح

لأدفع عن مآثر صالحات                   وأحمي بعد عن عرض صحيح

                وقد تمثل الحسين «عليه السلام» بقوله شاعر الأنصار من الصحابة وقد ليم على الجهاد مع النبي (ص) وخوف بالموت:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى                   إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما

وواسى الرجال الصالحين بنفسه                      وجاهد مثبوراً وفارق مجرما

                فالنهضة الحسينية لها مبادئ تشتمل على غايات شريفة وهي ما ذكرنا من نشر العدل والأمن في الأمة والتسوية والمساوات في القسم ونشر الأحكام كلها التي فرضتها شريعة الإسلام، ولها خواتم تشتمل على فضائل شتى وهي ما ذكرنا من اختيار القتلة الحميدة على الحياة الذميمة وعدم الأنقياد للوضعاء الأدنياء وسعادة سرمدية بإحياء الذكر في الأجيال المتعاقبة وهي حياة خالدة أبد الدهر.

                ولم ينهض أحد من أعيان المسلمين على نهج النهضة الحسينية ولا سلك مسلكه الأباة الذين ذكرهم ابن الحديد الكاتب المعتزلي الحنفي في شرح نهج البلاغة كقتيبة بن مسلم الباهلي ويزيد بن المهلب الأزدي وابني الزبير عبد الله ومصعب.

(1) قائلها: عمرو بن الإطنابة الأوسي جاهلي وفيها:

أقول لها وقد جشأت وجاشت          مكانك تحمدي أو تستريحي

(233)

نقد المؤلف لابن أبي الحديد في عده آل الزبير وغيرهم كالحسين «عليه السلام»

                قبل كل مهم ينبغي التنبيه على مطلب ترى له أهمية في بادئ النظر فإن الغبي ربما يتوهم من تعداد هؤلاء هنا أنهم في المحل الأرقى والمكان الأرفع من الشرف حتى أنهم ذكروا هنا في سلسلة الإباء الحسيني والفرق متضح أن من كان مثل الحسين «عليه السلام» الذي هو أشرف الناس بعد جده وأبيه وأخيه «عليهم السلام» بكل معنى من معاني الشريف فلا شك أن في خضوعه ذلة وهوان إذ لا أجل منه ولا أشرف فمهما كان تابعاً لأي متبوع تصورت كان في ذلك نقص وهوان وإن بجله المتبوع وأجله وعظمه كما ينبغي وكما يراد.

                ومن ذكر من الباهلي والأزدي فما هذان والشرف لولا الأنقياد لأهل السلطة والتبعية لأهل السلطنة؛ أما الأسرة والرهط فلؤم أسرته مشهور في العرب وضاعتهم تضرب بها الأمثال، ومسلم أبو قتيبة كان خادماً وبريداً ليزيد وأبن زياد يقف في يصف العبيد على أبوابهم، وإما قتيبة فكان خادماًَ للحجاج بن يوسف ونبل بتوليته له قيادة الجيوش ولا يخفى هذا على كل عارف بالأثر من له أقل إلمام بالتاريخ، وأما آل المهلب فمع كونهم من أزد عمان يعابون بالملاحة ثم من العتيك أذل أزد عما ينبزون بالحياكة ومع ذلك هم أدعياء في الأزد كما ذكرنا ذلك في كتابنا «الأمالي المنتخبة» في فصل الأدعياء والدخلاء، فنبل آل المهلب وعظموا بخدمة آل الزبير وآل مروان فشهر المهلب وبنوه في حروب الفتنة وأظهرتهم القيادة والإمرة فما دام أميراً وقائداً فهو من العظماء وإن عزل عنها فهو كأفراد الناس ويطلق عليهم المزون ذماً وتهجيناً فما هؤلاء لو خضعوا لسلطان الوقت والهوان، نعم هؤلاء ما نهضوا أنفة وخوفاً من الوصمة بل نهضوا طمعاً في الإمرة وحرصاً على القيادة.

                أما ابن المهلب فيعلم أن يزيد بن عاتكة بن عبد الملك بن مروان لا يولي مهلبياً لأنحرافه عنهم وبغضه إياهم فأراد ابن المهلب أن يريه قدرته فقاد تلك الجماهير وما ساعدته الأقتدار فأحل بنفسه و أهله الدماء وأنزلهم دار البوار وهكذا حال قتيبة مع سليمان بن عبد الملك ومن عرف التاريخ وأطلع على كتبه المعتمدة علم أن ما قلناه هو الواقع.

                وأما آل الزبير فأولاً ليست أسد بن عبد العزى من قبائل قريش الرئيسة

(234)

وخصوصاً آل العوام حتى قيل أنهم أدعياء في قريش وإنهم من القبط وأن خويلداً قد تبنى العوام القبطي، راجع كتبانا «الأمالي المنتخبة» في الأدعياء والدخلاء وإنما شرفوا بصفية بنت عبد المطلب وخديجة بنت خويلد وهذا الشروق إنما هو بإشراق فضل بني هاشم عليهم.

                ثانياً: لم يزل عبد الله بن الزبير يتطلب رضا معاوية ويطمع في بره ويحتمل منه أمض الكلام الخشن الحجب عن الدخول عليه والتكذيب له مواجهة ثم آل الزبير أي هوان لفظوه وقد مشواهم وأبوهم تحت راية أمراة وحضروا حرباً كانوا فيها أذناباً والرأس فيها أمرأة من بني تيم أمثل هؤلاء يقال إنهم أباة ظيم ويعدوا في عداد سيد الشهداء الحسين «عليه السلام» وأهل بيته لا والله حتى يساوي الثرى الثريا والأوج الحضيض فإن تخيل متخيل أن الذين ذكرهم شارح النهج إنهم نهضوا إنكاراً للمنكر ورغبة في نشر المعروف كلا لا يمكن إلا أن يدعي وإن كان باطلاً أنهم قاتلوا إباء للذل وأنفة من المهانة على عادة رجال الجاهلية.

                وإلا فكيف يكون من رجال الإصلاح من كان من عظماء الجبارة وكبار مرتكبي الأوزار ورؤوس أرباب الجرائم؟! هذا مصعب بن الزبير قتل من أصحاب المختار ستة آلاف رجل صبراً بعد أن أعطاهم الأمان وكلهم من خيار المسلمين وصلحاء أمة محمد (ص) حتى قال له عبد الله بن عمر بن الخطاب: إنك لو قتلت عدتهم من غنم أبيك لكان إسرافاً ولم يكلمه بعدها كلمة واحدة، وقتل أمرأة المختار وهي عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاري وعذبها عذاباً لو كان بحيوان مفترس لم يجز ذلك وفعله بأمر أخيه عبد الله الملحد والملحد لقب عبد الله بن الزبير عند المسلمين وفيها يقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:

إن من أعجب العجائب عندي         قتل بيضاء حرة عطبول

قتلت هكذا على غير جرم                   إن لله درها من قتيل

كتب القتل والقتال علينا                     وعلى الغانيات  جر الذيول:

                وفيها يقول سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري من كلمة له:

أتاني بأن الملحدين توافقا                    على قتلها لا أحسنوا القتل والسلب

فلا هنأت آل الزبير معيشة                 وذاقوا لباس الخوف والذل والحرب

كأنهموا إذ أبرزوها وقطعت               بأسيافهم فازوا بمملكة العرب

ألم يعجب الأقوام من قتل حرة         من المحصنات الدين محمودة الأدب

(235)

                في أبيات بقيتها في تاريخ الطبري وابن الأثير.

                أما عبد الله بن الزبير  وهو الخليفة عندهم فقد قطع الصلاة على رسول الله (ص) في خطبه أربعين جمعة لم يصل عليه ولم يذكره بالنبوة وجمع بني هاشم وأراد إحراقهم بالنار حتى أستنقذهم أبو عبد الله الجدلي صاحب المختار وقتل أخاه عمرو بن الزبير ضرباً بالسياط وقتل محمد بن عمار بن ياسر وجماعة من أخيار أهل المدينة ضرباً بالسياط حتى ماتو لأنهم ما بايعوه وأعماله وأعمال أخيه مصعب لا تقل عن أعمال يزيد بن معاوية إن لم تزد عليها وكلها مشهورة وأحصيناها في كتابنا «السياسة العلوية» غير أنهم لا يشربون الخمر ولا يقامرون ويتظاهرون بإكثار الصلاة ولاصيام خديعة ومكراً وجعلوهما مصيدة لعقول الضعفاء من الناس وقد كشف ذلك عبد الله بن عمر بن الخطاب فإن عبد الله بن الزبير توصل إلى صفية بنت أبي عبيد أخت المختار زوجة ابن عمر وطلب منها أن تكلم زوجها عبد الله بن عمر في أن يبايع له فكلمته وذكرت صلاة ابن الزبير وصومه فقال لها زوجها ابن عمر: أرأيت البغلات الشهب التي كان يحج عليها معاوية؟ قالت: نعم، فقال إياها يريد ابن الزبير بصلاته وصومه.

                وأما يزيد بن المهلب وقتيبة بن مسلم فأمرهما في الجور والعدوان وارتكاب فظائع الأمور مما أشتمل عليه التاريخ المعتمد ما كفانا كلفة التطويل بأخبارهما وهما كانا من عمال الحجاج وحسبك بعامل الحجاج جوراً وتعدياً.

                نعم، ربما يكون نهوض رجال العلويين الثائرين بعد الحسين «عليه السلام» لطلب الإصلاح ونشر العدل في الأمة كزيد بن علي ويحيى بن زيد قتيل الجوزجان ومحمد بن عبد الله ذي النفس الزكية قتيل أحجار الزيت وأخيه إبراهيم أحمر العينين وقيل إنه سمع طنبوراً في بعض نواحي عسكره فبكى وقال: كيف يفلح جيش فيه مثل هذا، ويحيى بن عمر قتيل شاهي، والحسين بن علي قتيل فخ وغيرهم أضربنا عن تفاصيل أخبارهم حذر التطويل وكان من واجب ابن أبي الحديد أن يذكر المختار بن أبي عبيد الثقفي في أهل الإباء لأنه خرج إنكاراً للجور وغضباً لابن رسول الله (ص) وأعطى الأمان فعافه خوف المذلة والصغار ومشى إلى الموت مصلتاً بسيفه وكذلك إبراهيم الأشتر.

إباء أبي الفضل بن أمير المؤمنين «عليهما السلام»

                قد بذل له الأمان ولإخوته الأشقاء خاصة غير الأمان الذي أعطي للحسين

(236)