موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

 

 

خارجي موكلين على الماء لا يدعون أحداً من أصحاب الحسين «عليه السلام» يشرب منه، فلما رأوا العباس «عليه السلام» قاصداً إلى الفرات احاطوا به من كل جانب ومكان، فقال لهم: يا قوم! أنتم كفرة أم مسلمون؟ هل يجوز في مذهبكم ودينكم أن تمنعوا الحسين وعياله شرب الماء والكلاب والخنازير يشربون منه والحسين «عليه السلام» مع أطفاله وأهل بيته يموتون من العطش أما تذكرون عطش القيامة؟

                فلما سمعوا كلام العباس «عليه السلام» وقف خمسائمة رجل فرموه بالنبال والسهام فحمل عليهم فتفرقوا هاربين كما يتفرق عن الذئب الغنم وغاص في أوساطهم حتى قتل منهم على ما نقل ثمانين فارساً فهمز فرسه إلى الماء وأراد أن يشرب فذكر عطش الحسين «عليه السلام» وعياله وأطفاله فرمى الماء من يده وقال: والله لا أشربه وأخي الحسين «عليه السلام» وعياله وأطفاله عطاشى، لا كان ذلك أبداً، ثم ملأ القربة وحملها على كتفه الأيمن وهمز فرسه وأراد أن يوصل الماء إلى الخيمة فأجمتع عليه القوم فحمل عليهم فتفرقوا عنه وسار نحو الخيمة فقطعوا عليه الطريق فحاربهم محاربة عظيمة فصادفه نوفل الأزرق فضربه على يمينه فبراها، فحمل العباس «عليه السلام» القربة على كتفه الأيسر فضربه نوفل على كتفه الأيسر فقطعها من الزند، فحمل القربة بأسنانه فجاء سهم فأصاب القربة فأنفرت واريق الماء، ثم جاء سهم آخر فوقع في صدره فقلب عن فرسه إلى الأرض فصاح بأخيه الحسين «عليه السلام»: أدركني، فساق الريح كلامه إلى الخيمة فلما سمع كلامه أتاه فرآه طريحاً فصاح: وا أخاه! وا عباساه! وا قرة عيناه! وا قلة ناصراه! ثم بكى بكاء شديداً وحمل العباس «عليه السلام» إلى الخيمة، إنتهى.

                وهذا حديث كتبانه كما وجدناه وهو يخالف المشهور من وجوه:

                أحدهما: كون الذي قطع يديه نوف الأزرق والمشهور عند المؤرخين أن الذي قطع يديه زيد بن رقاد الجنبي من مذحج وحكيم بن الطفيل السنبسي من طي.

                ثانيهما: إن الحسين «عليه السلام» حمله إلى الخيمة يعني خيمة الشهداء والمشهور أنه بقي في مكانه.

                ثالثهما:إن الحسين «عليه السلام» تنازل لأهل الكوفة عن مخاصمتهم عند الله بدل سماحهم له بالأنصراف حيث شاء وهذا لا يصح بعد أن قتل أصحابه

(190)

وأهل بيته ولكن الطريحي فقيه معتمد وهو أعرف بمسلكه وعلينا نحن بيان العلل المانعة.

                وأما القائلون بأن العباس «عليه السلام» قتل ثمانمائة فارس فنص الدربندي في أسرار الشهادة(1): وفي رواية عبد الله الأهوازي عن جده قال: قال إسحاق بن حيوة «لعنه الله» لما أقبل العباس «عليه السلام» بالجواد فثرنا عليه كالجراد الطائر فصيرنا جلده كالقنفذ.

                قال: فحمل عليهم العباس فتفرقوا عنه هاربين كما يتفرق عن الذئب الغنم وغاص في أوساطهم فقتل على ما نقل ثمانمائة فارس الخ والحديث مطول.

ترجيح قول الطريحي (رحمه الله):

                هذا أمر لا يحتاج إلى البيان في اختيار أي الأقوال أقرب إلى المعقولية وإن كان لا منافاة بينهما لما ذكرنا ولكني أجد في مدرك التفكير أن العباس «عليه السلام» لا يجسر كل أحد على الدنو منه لشهرته بالشجاعة فلا يدنوا منه إلا الجريء المقدام ولا أجد من تهون عليه نفسه إلا عدد الثمانين فما دون وقد سمعنا من بعض المطلعين على سبيل المذاكرة أن الأشتر النخعي يوم صفين كان يقتل العدد الذي يقتله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» عرف ذلك من تكبيره لأنه لم يقتل بطلاً إلا كبر فيعد الأشتر التكبير فيجد ما قتله هو بعدد ذلك التكبير والسر في هذا هو ما ذكرنا من أن المقدم على أمير المؤمنين علي «عليه السلام» أقل ممن يقدم على الأشتر، وكان الناس يوصي بعضهم بعضاً بعدم مبارزته.

                فقد قال معاوية بن أبي سفيان لحريث مولاه وكان فارس أهل الشام: أتق علياً وضع رمحك حيث شئت وقال لعمرو بن العاص وقد أشار عليه بمبارزة أمير المؤمنين «عليه السلام» ياعمرو! إنما أردت قتلي لتصفو لك الشام، أما علمت أن ابن أبي طالب ما بارزه أحد إلا وسقى الأرض من دمه وكان عبيد الله بن عمر بن الخطاب من أشجع العرب مع معاوية يوم صفين دعا محمد بن الحنفية إلى المبارزة فأجابه محمد ونهاه أمير المؤمنين «عليه السلام» وقال: أنا أبرز إليه، فلما رآ ابن عمر مقبلاً ولى منصرفاً وقال: لا حاجة لي في مبارزتك، القصة بطولها.

                فالشجاعة العباسية فرع الشجاعة العلوية قدت منها قداً وهذا الشبل من ذاك الأسد، قد قيل فيه:

بطل تورث من ابيه شجاعة               فيها أنوف ذوي الضلالة ترغم

(1) أسرار الشهادة: ص321.

(191)

                وكان أبو الفضل العباس «عليه السلام» يوم كربلاء إذا استلحم أحد من أنصار أخيه الحسين «عليه السلام» شد على القوم وأستنقذه وليست المحاماة عن الأصحاب وأستنقاذ من أحاطت به الجيوش يوم كربلاء إلا له ولأخيه الحسين «عليه السلام» وهو حامي الكل، نعم ذكر المؤرخون ومنهم أبو جعفر الطبري في التاريخ(1) قال: فأما الصيداوي عمر بن خالد وجابر بن الحارث السلماني وسعد مولى عمر بن خالد ومجمع بن عبد الله العائذي فإنهم قاتلوا في أول القتال فشدوا مقدمين بأسيافهم على الناس فلما وغلوا عطف عليهم الناس فأخذوا يحوزونهم وقطعوهم من أصحابهم غير بعيد فشد عليهم العباس بن علي فأستنقذهم فجاؤوا وقد جرحوا فلما دنا منهم عدوهم شدوا بأسيافهم فقاتلوا في أول الأمر حتى قتلوا في مكان واحد، إنتهى.

                للمؤلف:

أفديك يا قمر العشيرة منجداً                             للواقعين بشدة الأهوال

ما زلت تنجد في الحروب من اغتدى               غرض المنية يوم كل نزال

أنجدت صحبك ضارباً ثبج العدى                 في حد عضب لامع كزلال

وتركت جند المارقين جزائراً                              للوحش في يزنيك العسال

فرقت جمع بني الخنا فتفرقوا                               كالشاء عند تفحم الريبال

أنقذت صحبك والمنية أحدقت                        فيهم بيوم مفعم الأهوال

لكن رأوا رفض الحياة غنيمة                              واستقدموا شداً بلا إمهال

علما بأن الفوز بعد فراقها                                    بنعيم جنات نفيس غالي

                وقد أكثر الشعراء من نعت العباس الأكبر «عليه السلام» بالشجاعة ويأتي في تأبينه ذكر ذلك ومنه قول بعضهم:

هو العباس ليث بني نزار                    ومن قد كان للأجي عصاما

هزبر أغلب تخذ أشتباك الر ماح بحومة الهيجا أجاما

فمدت فوقه العقبان ظلاً                     ليقريها جسومهموا طعاما

أبي عند مس الضيم يمضي                 بعزم يقطع العضب الحساما

(1) تاريخ الطبري 6/ 255.

(192)

وفاء العباس الأكبر «عليه السلام»

                ومن صفات العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» الوفاء، وهذا الخلق من أظهر أخلاقه الفاضلة وأشهر سجاياه الكريمة فقد كان «عليه السلام» وفياً كريماً والوفاء شيمة موروثة له من أسلافه الكرام وسجية طبع عليها وهو غلام، والوفاء من أكرم خصال العرب ومن الصفات المحمودة التي حرض الشارع المقدس عليها وأكد الألتزام بها ونهى عن ترك التخلق بها.

مظاهر الوفاء:

                كثيرة منها الثبات على البيعة وإمضاء العهد والوعد وإخلاص الطاعة للنبي والإمام المفروضة طاعته من الله تعالى نصاً ونحن قد كتبنا في كتابنا «السياسة العلوية» فصلاً مطولاً في الوفاء نقتضب منه موضع الحاجة هنا ليعرف على التحقيق ما هو الوفاء وما ثمراته وما فوائده.

معنى الوفاء لغة:

                قال الفيروزآبادي في القاموس: وفى بالعهد كوعى وفاء ضد غدر كأوفى، والشيء وفي كصلى ثم وكثر.

                وقال ابن الأثير في النهاية(1): أوفى الله ذمتك أي أتمها وأوفت ذمتك أي تمت، وأستوفيت حقي أخذته تماماً.

                وقال الفيومي في المصباح المنير(2): وفيت بالعهد والوعد أفي به وفاء، والفاعل وفي، والجمع أوفياء وأوفيت به إيفاء وقد جمعهما الشاعر فقال:

أما ابن طوق فقد أوفى بذمته              كما وفى لقلاص النجم حاديها

                قال أبو زيد: أوفى نذره أحسن الإيفاء به، ثم قال كلام: وفى الشيء بنفسه يفي إذا تم، إنتهى.

                وقد استبان من جميع هذه الفقرات أن الوفاء هو التمام والإتمام ومما لا شك فيه أن العباس الأكبر شهيد الطف قد تم على بيعة الحسين «عليه السلام» وأتم وعده له بالنصرة فلم يغير ولم يبدل.

(1) النهاية 4/ 223.                                         (2) المصباح المنير 2/ 300.

(193)

معنى الوفاء عرفاً وعقلاً:

                أما معناه العرفي فهو كاللغوي لا يختلف عنه وهو معناه الشرعي، واما معناه العقلي فقد قال الشريف الجرجاني في التعريفات(1): الوفاء هو ملازمة طريق المواساة ومحافظة عهود الخلطاء، إنتهى.

                والوفاء من نتائج العفة عند الفلاسفة لأنهم قالوا: أصول الفضائل اربعة: الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة.

مدح الوفاء وتوكيد الالتزام به:

                آيات القرآن لا خفاء فيها على القارئ وهي كثيرة كقوله تعالى: (يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود)(2)، وكقوله تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا)(3)، وكقوله في مقام المدح: (والذين هم لأمنتهم وعهدهم رعون)(4)، وكقوله في مقام النهي: (ولاتنقضوا الأيمن بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا)(5)، وكقوله في مقام الوعد والوعيد: (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيما)(6)، وهي كثيرة، وكذلك الأحاديث مشهورة ومستفيضة وقد أوردنا كثيراً من الروايات في الوفاء في كتابنا «السياسة العلوية» وذكرنا فيه كثيراً من أشعار العرب وحكاياتهم ونورد هنا جملة من حكايات الأوفياء لينتفع بها الناظر ويقتدي بأهلها من أحب الوفاء وأشتاق إلى هذا الخلق الكريم والصفة الفاضلة مع كونها ذات معنى شريف فقد تشتمل على ما يروق النفس ويزيدها بسطة وأنشراحاً.

ثمرة الوفاء وفوائده:

                فأطمئنان النفس وثقتها به ولولا الوفاء ما أطمأن شخص بشخص، ولا وثق إنسان بإنسان، وبالوفاء جرت المعاملات على نظام العدل وقطعت جراثيم التعديات، وبه أنتظمت أمور الراعي والرعية إلى غير ذلك من الثمرات التي لا تجهل.

                قال فخر الدين الطقطقي في الفخري(7): ووفاء الملوك وهو الأصل في تسكين القلوب وطمأنينة النفس ووثوق الرعية بالملك إذا طلب الأمان منه خائف

(1) التعريفات: ص174.

(2) المائدة: 1.                                      (3) الإسراء: 34.

(4) المؤمنون: 8.                                 (5) النحل: 91.

(6) الفتح: 10.                                   (7) الفخري: ص21.

(194)

أو اراد المعاهدة منه معاهد، إنتهى.

                وليس وجوب الوفاء خاصاً بالعهد بل يجب الوفاء بالوعد أيضاً وبالنذر وبالبيعة وللجار والنزيل وبالطاعات كلها؛ لأن الله تعالى أخذ العهد والميثاق على العباد وهم في الأصلاب حين قال: (ألست بربكم)(1) وأشهدهم بذلك على أنفسهم وقد ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة أن الحجر الأسود يشهد من أستلمه من العباد بالموافاة للحج وإذا وجب ذلك بحسب الميثاق المأخوذ على العباد وجب الوفاء به على الإنسان ويجب قيام كل عضو من الإنسان في الوفاء بتكليفه الخاص به.

                وذلك إن الباري تعالى بحكمته وبديع صنعه جعل لهذا النوع البشري عقلاً وجعله به يعي الخطاب ويفهم المراد ثم خلق له خمسة حواس جعلها خادمة للعقل ونزلها منزلة الجواسيس للملك يتجسسون له الأخبار ويحفظونها في محفظة وثيقة كمحفظة جواسيس الملك السياسي فيعرضونها عليه وأولئك الجواسيس الذين يعرفون بالحواس الخمسة وهي السامعة والباصرة والشامة والذائقة واللامسة وحيث أن الملك السياسي منذ الطفولية يحتاج إلى تثقيف وتهذيب وتربية عالية ليحسن السياسة وتدبير الملك فلا بد له من مهذبين أساتذة فنيين ومعلمين جهابذة ماهرين يدرسونه كتب السياسة ويمرنونه على تفننات عظماء الرجال ليصبح ماهراً في السياسة خريتاً في الكياسة.

                فهذا الملك الروحاني الذي هو العقل يحتاج إلى التهذيب العلمي والتثقيف العملي لأن صفة الكمال لله تعالى وحده وكل مخلوق له محتاج إليه ابتعث الله الأنبياء وارسل وأنزل الكتب السماوية عليهم وتتابع الوحي والإيحاء من قلبه إليهم على أيدي السفرة الكرام من الملائكة البررة والغرض من ذلك تهذيب هذا الملك الروحاني الذي هو العقل والملكة الكيسة السيدة المحترمة التي هي النفس الإنسانية.

                فالأنبياء «عليهم السلام» هم المصلحون للبشر فحددوا الحدود وبينوا الاحكام عن الله تعالى التي هي سياسة الخالق للمخلوق وجعلوها نوعين: جعلوا نوعاً منها موظفا على الملك والملكة وهما العقل والنفس وهذا هو اعتقاد وحدانية الله تعالى واعتقاد صفاته الكمالية والجلالية ونفي الضد والند والشريك عنه إلى آخر ما قرره العلماء في علم الكلام وفن الحكمة.

                واعتقاد النبوات وأنه لا بد منها لتميمي النقص العقلي وسد خلله وتشييد

(1) الأعراف: 172.

(195)

الأركان الكمالية فإن النبي مرشد للعقل والعقلاء وحاكم عليهما ومبين لما جهلا ومظهر لما خفي عليهما.

                واعتقاد الإمامة وأنها منصب ديني بفرض إلهي وتعيين رباني وهي  تبع للنبوة في الفرض العالي إلا أن النبوة للتأسيس والتشريع، والإمامة للمحافظة عن زيغ التحريف والتبديل لئلا يقال كان على عهد النبي (ص) كذا وأنا أرى كذا فإن في ذلك إبطال للنبوة وهدم لمؤسساتها.

                واعتقاد أن هناك داراً غير هذه الدار يجب فيها أستيفاء أجر العمل الذي يوجب المجازات طاعة وعصياناً كما أن هنا دائرة كبرى تعرض فيها أعمال الموظفين تنظر في الأعمال الجنائية ودائرة أخرى لأستيفاء رواتب الموظفين والعمال وتسليم المقرر مقابل عملهم ودائرة أستيفاء الراتب غير دائرة الجنايات فالجندي والشرطي يخدمان ويستحقان أجر العمل إن أحسناه ولهما الترفيع في الرتبة وإن أساءا أستحقا العقوبة بالسجن أو الطرد أو أنحطاط الرتبة على مقدار الجناية يكون الجزاء إلى آخر ما هو معروف في القوانين المدنية.

                النوع الثاني ما وظف على أعوان الملك وأتباع الملكة وهي الجوارح والأعضاء وهذا النوع يقسم أقساماً:

                منها فروض بالفعل كالصلاة والصوم.

                ومنها فروض بالترك كالغيبة والسعاية والبهتان.

                ومنها للتهذيب فقط ويشبه في السياسة تمرين الجندي والتلميذ في الفنون الحربية والرياضية وهذا أيضاً في نوعين أفعال ويقال لها مستحبة، وتروك يقال لها مكروهة ويلزم الجمع اسم السنن ومثال ذلك الصلاة في المسجد مستحبة وفي الحمام مكروهة.

                ومنها غير فروض بل أحكام وحدود كالقطع في السرقة، والرجم والجلد في الزنا، والقصاص في القتل وما شابهها من الحدود والأحكام تجري في المعاملات والمصاهرات وما شابه ذلك وعلى منهاجها شرعت القوانين المدنية وجميع ذلك مشروح تفصيلاً في الكتب الفقهية فمن ترك شيئاً من هذه الوضائف الأصلية والفرعية فقد خالف الوفاء بالعهد المؤكد والميثاق الذي واثق الله تعالى به عباده حين قال: (ألست بربكم)(1).

                وقد كتبنا في كتابنا «السياسة العلوية» فصلاً مطولاً بينا فيه بسط التكاليف على جميع الأعضاء مثال ذلك اللسان وتكليفه الشرعي الذكر والشكر والقراءة

(1) الأعراف: 172.

(196)

والصدق وقول كلمة العدل وغير ذلك من الأفعال المذكورة هناك، ومن تكليفه في التروك ترك الغيبة والبهتان والكذب بأنواعه وذوق المحرمات كالأشربة المذهبة للعقل وغير ذلك وليس هذا الكتاب موضع ذكر ذلك وإن كان عظيم الفائدة كثير النفع.

الوافون من العرب:

                أما الأوفياء من العرب فكثيرون ونحن نورد بعض الأقاصيص المحكية من وفاءهم وندع الكثير لطالبه.

                قال صلاح الدين الصفدي الشافعي في شرح لامية العجم(1): وأما الوافون فكثير منهم أوفى بن مطر المازني كان جاوره رجل ومعه أمرأة فأعجبت أخا أوفى وكان لا يصل إليها مع زوجها فوثبت عليه فقتله فبلغ ذلك أوفى فقتل أخاه وقال:

سعيت على قيس بذمة جاره               لأمنع عرضي إن عرضي ممنع

                والحارث بن عباد أسر عدي بن ربيعة وهو مهلهل وكان طلبته وهو لا يعرفه فقال له: إن دللتك عليه – يعني مهلهلاً – فأنا أمن؟ فأعطاه ذلك، فقال: أنا عدي بن ربيعة، فخلى سبيله.

                والسمؤل بن عاديا اليهودي ذبح ابنه وهو ينظر إليه من الحصن ولم يدفع لقاتله دروع أمرئ القيس التي عنده وقصته مشهورة.

                وعوف بن محلم الشيباني وكان من وفاءه مروان بن زنباع العبسي قد وتر عمرو بن هند اللخمي فجعل على نفسه إن لا يؤمنه حتى يضع يده في يده، ثم إن مروان غزى بكر بن وائل فأسره رجل من بني تيم الله ولم يكن عرفه فخاف مروان أن يبلغ عمرو بن هند مكانه فيبعث إليه من يأخذه منه فسمع أم آسره تقول لابنها: كأنك أسرت مروان، فقال مروان: وما تأملين من مروان؟ فقالت: مائة بعير، قال: هي لك إن أديتموني إلى عوف بن محلم، قالت: ومن لي بالوفاء؟ فأخذ مروان عوداً من الأرض وقال: هذا لك بالوفاء فحمله ابنها إلى قبة عوف بن محلم فلم يجده فأجارته أبنته خماعة وبلغ عمرو بن هند مكانه فبعث في طلبه فأبى عوف أن يسلمه إلا أن يؤمنه، فقال: آليت أن لا أؤمنه حتى يضع يده في يدي، فقال له عوف: إني أبر قسمك على أن أجعل يدي بين يدك ويده ففعل وآمن مروان، ثم إن مروان وفي بوعده للعجوز بمائة ناقة.

(1) شرح لامية العجم 2/ 206.

(197)

                وتشبه هذه القصة قصة حاجب بن زرارة كان قد تدير هو وأهله أرض العراق فأنكر ذلك والي  الحيرة فكتب إلى كسرى ذلك، فكتب إليه كسرى: إن أرادوا أن يرعوا بأرضنا فليقدم علينا وفدهم ويعطونا رهائن منهم، فقدم حاجب بن زرارة فلما وافقه على ما يريده طلب منه الرهائن، فقال حاجب: ليس معي سوى قوسي فخذها، فضحك منه أصحاب كسرى فقال لهم الملك: خذوها منه فأنه لن يسلمها وذهب فوفى بما وعد وذلك معدود في مآثر بني تميم الخ.

                وهذه قصص أختصرها الصفدي فاختلت.

                قال المبرد في الكامل(1): عن أبي عبيدة قال: كانت السواقط – أي الثمارة بلسان عوام البصريين اليوم – ترد اليمامة في الأشهر الحرم لطلب التمر فأن وافقت ذلك وإلا أقامت بالبلد إلى أوانه ثم خرج في شهر حرام فكان الرجل منهم إذا قدم يأتي رجلاً من بني حنيفة وهم أهل اليمامة فيكتب له على سهم أو غيره فلان جار فلان، والسواقط من ورد اليمامة من غير أهلها وقد كان النعمان بن المنذر أراد أن يجليهم منها فأجارهم مرارة بن سلمي الحنفي فسوغه الملك ذلك فقال أوس بن حجر يحض النعمان عليه:

زعم ابن سلمي مرارة أنه                   مولى السواقط دون آل المنذر

منع اليمامة سهلها وحزونها                من كل ذي تاج كريم المفخر

                وذكر أبو عبيدة أن رجلاً من السواق من بني أبي بكر بن كلاب قدم اليمامة ومعه أخ له فكتب له عمير بن سلمي أن له جار وكان أخو هذا الكلابي جميلاً، فقال قرين أخو عمير: لا تردن أبياتنا بأخيك هذا فرآه بعد بين أبياتهم فقتله، وأما المولى فذكر أن قريناً أخو عمير يتحدث إلى أمرأة أخي الكلابي فعثر عليه وزوجها فخاصمه عمير عليها فقتله وكان عمير غائباً، فأتى الكلابي قبر سلمي أبي عمير وقرين فأستجار به وقال:

وإذا أستجرت من اليمامة فاستجر                   زيد بن يربوع وآل مجمع

وأتيت سلمياً فعذت بقبره                                  وأخو الزمانة عائذ بالأمنع

أقرين أنك لو رأيت فوارسي                              بعمادتين إلى جوانب سلفع

حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن                           للغدر خائنة مغل الأصبع

                فأتى قرين إلى قتادة بن مسلمة بن عبيد فحمل قتادة إلى الكلابي ديات

(1) الكامل للمبرد 1/ 224.

(198)

متضاعفة وفعلت وجوه بني حنيفة مثل ذلك فأبى الكلابي أن يقبل، فلما قدم عمير قالت له أمه وهي أم قرين: لا تقتل أخاك وسق للكلابي جميع ماله، فأبى الكلابي أن يقبل وقد لجأ قرين إلى خاله السمين بن عبد الله فلم يمنع عميراً منه فأخذه عمير فمضى به حتى قطع الوادي فربطه إلى نخلة وقال للكلابي: أما إذا أبيت إلا قتله فأمهل حتى أقطع الوادي وأرتحل من جواري فلا خير لك فيه، فقتله الكلابي، ففي ذلك يقول عمير:

قتلنا أخانا للوفاء بجارنا                      وكان أبونا قد تجير مقابره

                وقالت أم عمير:

تعد معاذراً لا عذر فيها                       ومن يقتل أخاه فقد ألاما

                انتهى، وقد جرى نظير هذه القصة في عصرنا في قبيلة آل ظفير البدوية الشهيرة وكانت تفي للجار على عادة العرب القدماء وكنت مشيختهم لآل سويط فجاور جعيلان السويط وحمود السويط جار من حرب وكانا هما الرئيسان فعدا ولد لجعيلان على ولد الحربي فقتله فغضب الحربي وأراد الأ،تقال عن جوارهم فمنعاه وصار عزم الرئيسين على ذبح ابنهما فذبحاه بجارهما وفاء بالجوار، هذه كانت شيمة العرب والوفاء معدود في مفاخرها.

                قال الخفاجي في سر الفصاحة: وأما الوفاء فمن دينهم الذي كانوا يرونه لازماً ومذهبهم الذي كانوا يعتقدونه حقاً حتى صار من تمسك بجوارهم أو تعلق ببعض أطنابهم تبذل النفوس دونه وتراق الدماء في المنع منه، فكم قتل الرجل منهم أقرب الناس إليه نسباً وأمسهم به رحماً، وكم من وقعة عظيمة وحرب جليلة طويلة جرها ضيم نزيل أو التعرض لسب جار كالحال في حرب البسوس التي ساقها ما علم من قتل كليب لناقة جارة جساس وأستفحلت لذلك وتمادت حى شهدتها الأجنة شيباً، فأما السمؤل ورضاه بقتل ابنه دون الدروع التي كانت وديعة عنده وأبو داود الأيادي في قوده بجاره فمما هو متداول لا خفاء بتقصير جميع الأمم عنه، إنتهى.

                ومن هنا تعرف أن أهل الكوفة ليسوا من أحرار العرب ولا من نجباءهم فليست فيهم شيم الأحرار ولا سجايا الكرام بل هم أجلاف الأجلاف وأنذال الأنذال لم يقوموا بواجب الوفاء الإسلامي الذي أوجبته شريعة الإسلام للحسين «عليه السلام» وهو الطاعة التي لزمتهم من الجهة التي ذكرنا في التكليف، ولا وفوا بالوعد لأنهم وعدوه بالنصرة حين كاتبوه، ولا وفوا بالعهد لأنهم عاهدوه إن

(199)

قدم عليهم أخرجوا عمال بني أمية، ولا وفوا له بالبيعة لأنهم بايعوه، فهذه أمور أربعة أوجب الشرع الوفاء بها وغدر بها أهل الكوفة ولم يقوموا بواجب الوفاء العربي الجاهلي الذي أوجبه شرف النفس والنجابة العربية من الوفاء للجار والنزيل لأنه أصبح جارهم بكربلاء ونزيلاً لها بعراص الطفوف وما وفوا له بمنته عليهم فكافؤوه بيده عندهم حيث سقى منهم ألف فارس قد أشرفوا على التلف ولولاه لقطع العطش أعناقهم فخالفوا جميع هذه الأصول المقدسة في الشرع، المحترمة في الجاهلية فجدوا في حربه وأجتهدوا وما قصروا عن فعل كل قبيح ممجوج ولا اوقفوا عن ارتكاب كل ذميم ممقوت فأرتكبوا عظائم الأمور ومستفظعات الأفعال من ذبح الأطفال وقتل النساء وهتك الأستار إلى آخر ما هو مذكور في قصة مقتله «عليه السلام».

                والعرب كانت تشكر المنة اليسيرة حتى النساء فقد كان دريد بن الصمة الجشمي فارس هوازن أعار ربيعة بن مكدم الكناني رمحاً في بعض الوقائع ثم إن كنانة أسرت دريداً فلما نظرته أمرأة ربيعة وهي أبنة جذل الطعان نادت: يا معشر كنانة! قد فضحتم في مجدكم، إن أسيركم هذا قد أعار فارسكم يوم الظعن رمحاً، فقاموا إليه وحلوا وثاقه وأطلقوه مكافئة له باليد اليسيرة التي أسداها لربيعة بن مكدم، والحسين «عليه السلام»مع تلك اليد البيضاء التي أحيا بها ألف فارس وألف فرس كافئته أجلاف أهل الكوفة بتحريم الماء عليه وعلى عياله.

                وقصة مروان القرظ العبسي الذي أجاره عوف بن محلم الشيباني إنما كان مكافئة له لأنه أجار أبنته خماعة فأجاره عوف مكافئة بيده وسنعيد القصة بنصها لتعرف مقدرة العرب على المكافئة ووفاءها باليد وسقوط أهل الكوفة في حفرة النذالة وهو الجلفية.

                قال الميداني في مجمع الأمثال(1): أوفى من عوف بن محلم كان من وفاءه أن مروان القرظ بن زنباع غزى بكر بن وائل فقصوا أثر جيشه فأسره رجل منهم وهو لا يعرفه فأتى به أمه فلما دخل عليها قالت له أمه: أنك تختال بأسيرك كأنك جئت بمروان القرظ، فقال لها مروان: ما ترتجين من مروان؟ قالت: عظم فدائه، قال: وكم ترجين من فدائه؟ قالت: مائة بعير، قال: ذلك لك علي على أن تؤديني إلى خماعة بنت عوف بن محلم، وكان السبب في ذلك أن ليث بن مالك المسمى بالمنزوف ضرطا لما مات أخذت بنو عبس فرسه وسلبه ثم مالوا إلى خباءه فأخذوا

(1) مجمع الأمثال 2/ 333.

(200)

أهله سلبوا أمرأته خماعة بنت عوف بن محلم وكان أصابها عمرو بن قارب وذوآب بن أسماء فسألها مروان القرظ من أنت؟ فقال: أنا خماعة بنت عوف بن محلم فأنتزعها من عمرو وذوآب لأنه كان رئيس القوم وقال لها: غطي وجهك(1) والله لا ينظر إليه عربي حتى أردك إلى أبيك، ووقع بينه وبين بني عبس شر بسببها.

                ويقال: إن مروان قال لعمرو وذوآب: حكماني في خماعة، قالا: قد حكمناك ياأبا صبهان، قال: فإني أشتريتها منكما بمائة من الإبل وضمها إلى أهله حتى إذا دخل الشهر الحرام أحسن كسوتها وأخدمها وأكرمها وحملها إلى عكاظ فلما إنتهى بها إلى منازل بني شيبان قال لها: تعرفين منازل قومك ومنزل أبيك؟ فقالت: هذه منازل قومي وهذه قبة أبي، قال: فانطلقي إلى أبيك فانطلقت وخبرت بصنيع مروان، فقال مروان فيما كان بينه وبين قومه في أمر خماعة وردها إلى أبيها.

رددت على عوف خماعة بعدما           خلاها ذوآب غير خلوة خاطب

ولو غيرها كانت سبية رمحه لجاء بها مقرونة بالذوائب

ولكنه ألقى عليها حجابها                   رجاء ثواب أو حذار العواقب

فدافعت عنها ناشباً وقبيله                   وفارس يعبوب وعمرو بن قارب

ففاديتها لما تبين نصفها                         بكوم المتالي والعشار الضوارب

صهابية حمر العتانين والذرى             مهاريس أمثال الصخور مصاعب

                في أبيات مع هذه فكانت هذه يد مروان عند خماعة وذكر باقي القصة كما نقلناها عن الصفدي.

                هكذا كانت شيم الأحرار وشهامة العرب الأماجد فإنهم يأنفون لابنه الرئيس أن تؤسر أو تسلب أو يجرى عليها بعض الهوان لذلك أنف هذا العربي الكريم لأبنة زعيم ربيعة وإن كان عدواً له ولقومه وأستاء لأنكسارها فأختار مباعدة قومه على هوان هذه الكريمة فرأى من واجب الشرف العربي الغيرة على هذه العقيلة لتحفظ من الهوان فأشتراها من قومه بماله بعد خصام شديد وكساها فاخر الكسوة وعين لها خادمة تخدمها مناسبة لقدرها ثم حملها فأوصلها إلى قومها.

                أن العروبة الصميمة تريك في أبناءها رونق الشهامة والمجد لا كلفيف

(1)  هذه القصة ترغم أنف من يزعم أن العرب أهل سفور لأنها صريحة بلزوم الحجاب للحرائر والمسبية تعتبر جارية لذلك تسفر.

(201)

الأوباش وحثالة الأمم أهل الكوفة الزاعمين التأصل في العروبة، كلا والله هم أبعد منها بعد الثرى عن الثريا، فلو كانت عربيتهم خالصة من شوب الأختلاط وعروبتهم محضة صافية من كدورة سوء الانتساب لفعلوا فعل الأحرار وتنافسوا في مآثر المجد العربي يوم طف كربلاء فمنعا من أسر عقيلة سادات البشر وأنفوا من سبي مخدرة الوحي المحجوبة بحجاب الجلال الحوراء زينب بنت أمير المؤمنين «عليه السلام» التي هي أشرف من خماعة جداً وأباً وأماً وأخاً وعماً وخالاً فأصبحت بين أولئك العلوج الأجلاف كما قيل:

تمسك باليسرى حشا قلبها                  وتعقد باليمنى مكان الخمار

                يقول ذلك العربي الحر لخماعة: غطي وجهك والله لا يراك عربي، وبنت رسول الله (ص) بين هؤلاء الفجرة اللئام كما قيل:

تتصفح البلدان صورة سبيها             أشكال بارزة بذل المثل

                ومن عجيب وفاء العرب ما ذكره الميداني في مجمع الأمثال من قصة الحارث ابن ظالم المري(1): من وفاء الحارث أن عياض بن ديهث مر برعاء الحارث بن ظالم وهم يسقون فسقى فقصر رشاؤه فأستعار من أرشية الحارث فوصل رشاءه فأروى إبله فأغار عليه بعض حشم النعمان فأطردوا إبله فصاح عياض: ياجاراه! ياجاراه! فقال الاحارث: متى كنت جارك؟ فقال: أما وصلت رشائي برشاءك فسقيت إبلي فأغير عليها والماء في بطونها، قال: جوار وربي الكعبة، فأتى النعمان فقال: أبيت اللعن أغار حشمك على جاري عياض بن ديهث فأخذوا إبله وماله فاردده عليه، فقال النعمان: أفلا تشد ما وهي من أديمك؟ يريد أن الحارث قتل خالد بن جعفر بن كلاب في جوار الأسود بن المنذر، فقال الحارث: هل تعدون الحلبة إلى نفسي فأرسلها مثلاً، فتدبر النعمان كلمته فرد على عياض ماله وأهله.
                وقال الميداني في قولهم«أوفى من أبي حنبل» هو أبو حنبل الطائي ومن حديثه أن أمرئ القيس نزل به ومعه أهله وماله وسلاحه ولأبي حنبل أمرأتان جدلية وتغلبية فقالت الجدلية: رزق أتاك الله به ولا ذمة له عليك ولا عقد ولا جوار فأرى لك أن تأكله وتطعمه قومك، وقالت التغلبية: رجل تحرم بك وأستجارك وأختارك فأرى لك أن تحفظه وتفي له، فقام أبو حنبل إلى جذعة من الغنم فأحتلبها وشرب

(1) مجمع الأمثال 2/ 223.

(202)

لبنها ومسح بطنه وحجل ثم قال:

لقد آليت أغدر في جداع                     وإن منيت أمات الرباع

لأن الغدر في الأقوام عار                    وإن الحر يجزي بالكراع

                فقالت الجدلية وقد رأت ساقيه حميشتين: ما رأيت كاليوم ساقي واف، فقال أبو حنبل: هما ساقا غادر شر، إنتهى.

                أبو حنبل هذا من رجال العرب المشهورين وكان عزيزاً منيعاً حمي الأنف أجار الجراد لما وقع بجواره فحماه من أن يصاد فما قدر أحد أن يصيده حتى طار عن جواره وبه يفتخر شاعر طي حيث يقول:

ومنا ابن مر أبو حنبل          أجار من الناس رجل الجراد

وزيد لنا ولنا حاتم                غياث الورى في السنين الشداد

                في أبيات، والأوفياء كثيرون ولا أزيدك على أن العرب تفي بأكثر مما ذكرت وأنها تتمسك للوفاء بأضعف سبب كوصل الرشاء بالرشاء، ورهن قوس لا يساوي درهمين، وربما أعطى الرجل منهم الرجل عوداً لا قيمة له فيفي ولا يغدر، هذه كانت شمائل العرب الأحرار وسجايا الكرام الأماجد لا كأهل الكوفة الغدرة الذين لوثوا تاريخ العرب بدنس أعمالهم ودنسوا عرض المجد العربي النقي فأصبحوا لا تمسكهم الأيمان المغلظة ولا العهود المؤكدة ولم يأنفوا لجار يضام ولا لنزيل يهتضم فهم أدنياء الأدنياء وحثالة العرب أختلطت عربيتهم بالنبطية والفارسية فأصبحوا من هذا وذاك لفيفاً ونتجوا نتاج البغل من الحمار والبرذون فلا هم عرب ولا هم أعجام كما أن البغل لا فرس ولا حمار؛ فالهياكل البدنية والأشكال الصورية عربية منظراً وملمحاً، والأفعال نبطية، والأعمال فارسية مخبراً وتجربة لا يفون بعهد ولا يثبتون على وعد ولا يشكرون النعمة ولا يرون أثراً للصنيعة العظيمة ويقابلون الإحسان بالإساءة كما جاء في المثل العامي «جزاء الإحسان بكان» هؤلاء السفلة قابلوا الحسين «عليه السلام» مقابلة من لم يعرق جبينه حياء ولم يبال بأقتراف ما شوه سمعة الكرام فيقولون له بكل صلافة قحة ووقاحة بشعة: إنزل على حكم الأمير.

                من ذلك الأمير ينزل على حكمه يا سفلة الأمة وأوباش العرب؟ هو ابن العاهرة الفاجرة وسليل الدعي المفتضح الذي هو ساقط بين المهديين، ويا للأسف ينزل ابن رسول الله (ص) وسيد شباب أهل الجنة على حكمه! تلك والله تزول منها

(203)

الرواسي وتندك الرواسخ وتزلزل الأرض بقطريها.

                للمؤلف:

دعوا يارعايا السوء ما لوث المجدا                   أحكمتموا في سيد السادة العبدا

فهل لحسين في البرية مشبه                                 أباً فاق في أخلاقه الغر أوجدا

وإن لواء الحمد في الحشر خافق                         على رأسه فأستوجب الشكر والحمدا

أسيان من أحيى الشريعة والهدى                      ومن خاض في الأشراك بدء ومرتدا

أمية تهدي للضلال غواتها                                  وآل علي المرتضى تهدك الرشدا

وفاء العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» والنص عليه

                لا برهان على إثبات وفاء العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» من شهادة الإمام جعفر ابن محمد الصادق «عليهما السلام» في زيارته التي رواها شيخ الشيعة ورئيسهم أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمي في كتاب كامل الزيارة(1) بسند معتبر وفيها: «أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل والسبط المنتجب والدليل العالم والوصي المبلغ والمظلوم المهتضم» الخ، وفيها عند الدخول إلى الحرم يقول: «فجزاك الله أفضل الجزاء وأكثر الجزاء وأفى جزاء أحد ممن وفى ببيعته وأستجاب له دعوته وأطاع ولاة أمره» إلى آخر الزيارة المباركة.

                وهذا ظاهرة لأن جميع أفعال العباس بن علي «عليهما السلام» يوم الغاضرية وفاء منه بحق الطاعة المأخوذة في الميثاق على البشر والوفاء برعاية حق الإمام «عليه السلام» والوفاء بالبيعة، والوفاء بالوعد له بالنصرة، والوفاء برعاية حق الصحبة والجوار إلى غير ذلك من أنواع الوفاء المحمود الذي أداه أبو الفضل «عليه السلام».

                للمؤلف:

أوفى الأماجد في عهد وفي عدة          وفي ذمام وفاء غير منكور

شبل الوصي وفي للسبط بيعته            إذ أخلفت وعده أهل المعاذير

فقام بالطف والهندي في يده                كشعلة النار في ظلماء ديجور

يستحصد القوم حصد الزرع مجتهداً                بذي الفقار فسائل يوم عاشوراء

(1) كامل الزيارة: ص256 طبع النجف.

(204)

إباء العباس الأكبر

«عليه السلام»

                ومن صفات العباس الأكبر النفسية الإباء، هذا الخلق النفسي من أميز أخلاقه وأشهر صفاته، ولا تقصر شهرته عن شهرة الشجاعة، والإباء هو من شيم الاحرار وشمائل الكرام ومن إمارات المجد ودلائل النجابة وعزة النفس وأحد نتائج الشجاعة التي هي إحدى فضائل النفس وأصولها الأربعة، فإن النفس العزيزة يحدث لها امتناع عن قبول الضيم والرضوخ لذل الأستعباد فمتى ما سميت ضيماً أو أريد بها هواناً نفرت نفرة المهرة العربية عند صلصلة اللجام، ومثلت هذه النفس الحرة والروح الكريمة الموتتين اللتين ستلاقيهما لا محالة ولا بد لها من أحدهما الموتة الحميدة على حدود السيوف المسلولة والموتة الذميمة على فراش المذلة والهوان، فتختار أحمد الموتتين.

                وليس لامة من الأمم ولا لشعب من الشعوب ما للعرب في سبيل الإبا، وليس بنفوس سائر الأمم ما بنفوس العرب من الأنفة عن ذل الاهتضام، فقد يضحي العربي العريق في السؤدد الصميم في المحتد نفسه النفيسة ويلقح حرباً شعواء مهولة كثير الأخطار ذات تهاويل وشدائد في قبال كلمة لا تحتملها النفس العربية لما فيها من الوصمة لشرفة والاهتضام لمجده عند نفسه أو على ناقة تؤخذ منه قهراً أو تطرد عن المرعى وما شاكل ذلك، كما هو سبب أكثر حروب الجاهلية.

                أما الإباء المحبوب لكل نفس حرة في كل دور من أدوار حياة البشر وهو الذي أكدته الشرائع السماوية الكتب المقدسة وندبت إليه الأسفار المنزلة من عند الله تعالى فهو الإباء الذي يكون في سبيل دفع الأستعباد الجائر ومقاومة الأستعمار الجبار، ذاك هو الإباء الحر وهو مر المذاق كريه الطعم إلا في فم من أستعذبه على مجاجة مذاقه ومرارة طعمه ولا نعلم مؤسساً لهذا الإباء غير الحسين بن علي «عليهما السلام»وأقتفى أثره أهل بيته الأحرار الأماجد أباة الضيم وحماة الأنوف فأقتدى به وبهم سائر من عاف الذل وترفع عن الرضوخ للهوان، ولذلك يقول قائلهم وقد صمم على الموت مستدفعاً به ضيم الحياة ومؤثراً عز المنية على ذل

(205)