موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

 

 

 

وأما أمير المؤمنين «عليه السلام» فقد أخبره النبي (ص) بكيفية قتله، ذكر ابن الأثير في أسد الغابة وابن عبد البر في الاستيعاب والعسقلاني في الإصابة والمحب الطبري في الرياض النضرة وذخائر العقبى(1) وغيرهم ولفظه(2): عن فضالة بن أبي فضالة قال: خرجت مع أبي إلى ينبع عائدا لعلي «عليه السلام» وكان مريضاً فقال له أبي: ما يسكنك بمثل هذا المنزل لو هلكت لم يلك إلا الأعراب أعراب جهينة فأحتمل إلى المدينة فإن أصابك بها قدر وليك أصحابك وصلوا عليك وكان أبو فضالة من أهل بدر، فقال له «عليه السلام»: لست بميت من وجهي هذا إن رسول الله (ص) عهد إلى أن لا أموت حتى أضرب ثم تخضب هذه – يعني لحيته – من هذه – يعني هامته – فقتل أبو فضالة معه بصفين؛ خرجه ابن الضحاك، إنتهى.

                وهذا الحديث مع الأحاديث الواردة أن قاتله أشقى الآخرين وهو ابن ملجم المرادي «لعنه الله» يحصل القطع بأنه واثق بالمنعة والغلبة وهو أشجع الشجعان وقد قال في صفين لابنه محمد وقد أراد مبارزة عبيد الله بن عمر: إنك ترجو أن تقتله ولا آمن أن يقتلك وأما أنا لو بارزته لقتلته.

                ومن حيث زعمه أن من ثبت حمية وأنفة وقاتل تعصباً أو بقصد السلب والنهب لا تديناً واعتقاداً لا يعد شجاعاً وهذا أيضاً يخالف مذهب العقلاء قاطبة فقد ثبت عندهم شجاعة قوم كثيرين ليسوا بأصحاب دين وأعتقاد مثل فرسان العرب في الجاهلية وقواد الأمم الفاتحين وقد قاتل مع النبي (ص) جماعة من الشجعان مقاتلة الاستماتة وهم مع ذلك منافقون مثل قزمان الظفري من الأوس قاتل يوم أحد وقتل عدة من فرسان قريش وكان شجاعاً مشهوراً وكانت له نكاية في أعداء النبي (ص) من المشركين وأصابته جراحات شديدة قتالة، فقيل له: أبشر ياقزمان بالجنة، فقال: أجنة من حرمل والله ما قاتلنا إلا على الأحساب ثم ضرب نفسه بمشقص كان في يده فقتلها، فقال رسول الله (ص): إن الله يؤيد دينه بالرجل المنافق، هكذا أوردها علماء السيرة وفي الإكثار من هذا تطويل.

ثمرة الشجاعة وفوائدها

                هي نوعان: دينية ودنيوية، ولكل واحدة منهما ثمرة وفائدة.

(1) هؤلاء من علماء السنة الشافعية إلا ابن عبد البر فإنه مالكي.

(2) الرياض النضرة 2/ 223.

(173)

                فالدينية ثمرتها شادة الدين وإظهار الحق ونشر العدل وإبطال الجور والأظاليل التي تنتجها بدع المجرمين.

                وأما الدنيوية ففائدتها حفظ شؤونه وبلوغ غاياته ونيل مقصاده وبهما معاً حمياته الشرف والجاه وصيانة العرض.

مظاهر الشجاعة وأسبابها المهيجة لها والمثيرة لعواطف الفرسان:

                أما مظاهرها فكثيرة، أشهرها الثبات عند أنفضاض الجمع وتقوض الصف هزيمة وهرباً، والإقدام عند إحجام الباقين والإسراع إلى إجابة الداعي للمصاولة وتلبية طالب النزال والمبارزة.

                قال الأبشهي في المستطرف(1): والشجاعة عند اللقاء على ثلاثة أوجه:

                الأول: إذا التقى الصفان وتزاحف العسكران وتكالحت الأحداق بالأحداق برز من الصف إلى وسط المعترك يحمل ويكر وينادي هل من مبارز.

                والثاني: إذا شب القوم وأختلطوا ولم يدري أحدهم من أين يأتيه الموت يكون رابط الجاش ساكن القلب حاضر اللب لم يخالطه الدهش ولا تأخذه الحيرة فيتقلب تقلب الملك لأموره القائم على نفسه.

                الثالث: إذا أنهزم أصحابه يلزم الساقة ويضرب في وجوه القوم يحول بينهم وبين عدوهم يقوي قلوب أصحابه ويرجي الضعيف ويمدهم بالكلام الجميل ويشجع نفوسهم فمن وقع أقامه، ومن وقف حمله، ومن كبا فرسه حماه حتى ييأس العدو منهم وهذا أحمدهم شجاعة، إنتهى كلامه.

                بل هذا مفقود إلا أن يكون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» فإن أبا الحسن جمع هذه المزايا الثلاثة:

                أما في التقاء الجمعين فقد شهدت به بدر وغيرها من غزوات رسول الله (ص) فإنه يتقدم الصف ويجييب الداعي، فقد أباد قريشاً وأفنى جماعتها يوم بدر وقتل أبطالها مثل الوليد بن عتبة وحنظلة بن أبي سفيان والعاص بن سعيد وطعيمة ابن عدي ونوفل بن خويلد وهو ابن العدوية وهو من شياطين قريش وجبابرتها، وهو الذي قرن بين أبي بكر بن ابي قحافة وابن عمه طلحة بن عبيد الله بحبل شدهما فيه معاً وسحبهما ولذلك سميا بالقرينين وغير هؤلاء من الأبطال سل عنهم التاريخ.

                وقتل يوم أحد أصحاب اللواء وهم ثلاثة عشر من آل عبد الدار فيهم كبش

(1) المستطرف 1/ 217.

(174)

الكتيبة، وقتل غيرهم من قريش، وقتل عمرو بن عبد ود العامري بطل الأحزاب وفارس قريش وهو فارس يليل حمى أصحابه من ألف فارس من بني بكر، وقتل مرحباً بطل اليهود وأبا جرول فارس هوازن يوم حنين كل ذلك مبارزة.

                أما المقام الثاني فشواهده كثيرة؛ طلب «عليه السلام» يوم البصرة شراباً فجاءه بعض ولد أخيه جعفر الطيار بعسل فذاقه فقال: إن عسلك هذا طائفي، فقال: العجب منك يا عم في مثل هذا اليوم تعرف الطائفي من غيره، فقال: يا ابن أخي! ما ملأ  صدر عمك من هذا الجمع شيء، وقد ورد أنه «عليه السلام» إذا أشتد القتال ينام، فقد ذكروا أن أصحابه يوم البصرة جاؤه بأحد أولاد بديل بن ورقاء الخزاعي قتيلاً فوجده يخفق نعاساً، ووجد في بعض أيام صفين يصلي وسط المعركة، وذكروا أنه لما أنهزمت ميمنته يوم صفين وأنهزم القلب أيضاً وثبتت الميسرة مشى إليها على تؤده يستثبتهم ومعه أولاده وبعض أصحابه والسهام كأنها رش المطر عليهم، فقال له قائل: يا أمير المؤمنين! لو أسرعت في مشيتك حتى تصل إلى من ثبت من أصحابك، فقال: لعل يوم لن يعدوه، وأمثال هذه الأمور مشهورة.

                أما المقام الثالث فشاهده يوم أحد وحنين فر الناس عن رسول الله (ص) فثبت يوم أحد يكافح الأعداء من الجهتين يحميهم من الطلب ويحامي عن رسول الله (ص) وإن بعض المنهزمين وصل هزيمته إلى المدينة وبعضهم ذهب على وجهه وهو عثمان بن عفان كما نص عليه الحلبي الشافعي وغيره أنه جاء بعد اليوم الثالث من الوقعة فقال له النبي (ص): ذهبت فيها عريضة، وعيره ابن عوف بذلك كما رواه البخاري، وغيره، وتسلق أبو بكر وعمر وآخرون الجبل فأعتصموا به، ويوم حنين أنهزم ذلك الجيش الضخم ولم يثبت إلا تسعة نفر كلهم من بني هاشم وتاسعهم من الأنصار فقتل الأنصاري وحف السبعة بالنبي (ص) وأمير المؤمنين «عليه السلام» يحميهم جميعاً بسيفه يجالد الأعداء فرد هوازن على أعقابهم حتى تراجع المنهزمون من المسلمين.

الأسباب والدواعي للشجاعة

                والموجبة لثبات الشجاع حتى يقتل أو يظفر كثيرة أظهارها نصرة الدين وحمية النفس تفادياً من المذلة وأنفة من عار الفرار وخوفاً من وصمة الجبن وترفعاً عن هوان الأسر؛ فالحياء من الناس والخوف من الله تعالى لما وعد المنهزم الفار من

(175)

الزحف من العذاب الخالد أوجبا للشجاع الثبات في الحومة والصبر في هول المعترك وخوض الغمرات الطامية في المعارك الطاحنة.

                قال الراغب الأصبهاني في المحاضرات(1): الأسباب المشجعة: قال الجاحظ: الأسباب المشجعة قد تكون من الغضب والشراب والهوج والغيرة والحمية وقد تكون من قوة الدفاع وحب الإقدام وربما كان طبعاً كطبع الرحيم والسخي والبخيل والجزوع والصبور، وربما كان للدين لكن لا بدافع الرجل للدين ما لم يشيعه بعض ما تقدم لأن الدين مجتلب مكتسب ولا يكاد يبلغ ما بالطبع وقيل لا يصدق القتال إلا ثلاث: متدين وغيران وممتعض من ذل، إنتهى.

نقد المؤلف للجاحظ

                قد خبط الجاحظ تخبط العشواء وسار سير المتعسف في مجهلة بيداء فخلط بين التشجع والشجاعة فإن صاحب الشراب والأهوج والمغضب في حال غضبه ليسوا بشجعان وإنما هم متشجعون وجعله بقية العناوين قسمة للطبع غلط محض لأن الشجاعة من الطبائع في سائر الحيوان فضلاً عن البشر، فالباري تعالى لما خلق الحيوانات أودع في طبائعها ما لو أرادت غيره لم تقدر عليه كالشجاعة في السباع وكواسر الطيور حتى قيل ان النمر إذا فاتته الفريسة قتل نفسه، والجبن في القردة والأغنام وما شاكلها، وجبن الصفرد يضرب به المثل، وكذلك الإنسان إلا أن الله تعالى أودع فيه قوة التمييز والإدراك ليتقي بها الأخطار المحيطة به، وركب فيه قوة قاهرة لسائر القوى إذا أراد أستعمالها وهي قوة العقل وجعلها في الإنسان دون سائر الحيوان فلما تسلطت هذه القوة القهارة على تلك الطبائع وصرفتها كيف شاءت بعد أن راضتها وساستها أكسبتها سلاسة وانقادت لها أصبحت تلك الغرائز بفضل تلك القوة تشبه الملكات المكتسبة فلذلك تقوى بالممارسة وتضعف بضدها، وسر ذلك أنه جل وعلا بحكمته وعلمه بأنه سيكلف الإنسان بتكاليف يقوم بها تكون سبباً لاستحقاق الثواب والعقاب في حالي الموافقة والمخالفة أودع فيه قوة تكون قاهرة لطباعه قادراً على تصريفها كيف شاء فلذلك خاطب من كلفهم بفرض الجهاد بالصبر والثبات، والحيوان لما لم يكن من الحكمة تكليفه وتوجيه الأوامر والنواهي إليه جعل في طبيعته قوة قاهرة له لم يقدر على اكتساب معاشه إلا بها ولولا ذلك لجبن عن تحصيل قوته وهلك جوعاً.

                وما قاله في الشجاعة الدينية وأن الشجاعة للدين ما لم تكن مصحوبة ببعض

(1) المحاضرات 2/ 57.

(176)

الأسباب المتقدمة الخ فكلام لا حقيقة له ولا مصداق، نعم تتوقف حماية الدين وحياطة الملة في المتدين على كونه شجاعاً بالطبع، وزادت المتدين ديانته رسوخاً  في الثبات فحسن العقيدة موجب له عدم الفرار عن موقف الزحف فيكون أحد الدواعي لعدم الانهزام الديانة كما يكون الداعي الآخر هو الحمية؛ فالموقف الذي توجب الحمية فيه الثبات ويحرمه الدين كما في محاربة المسلم للمسلم لا يرى المتدين ذلك الثبات فيه لازماً وتراه الحمية حتماً وإلى هذا يشير قول سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين بن علي «عليهما السلام»:

الموت أولى من ركوب العار              والعار أولى من دخول النار

                فالبصيرة في الدين والحمية في النفس كل واحد منهما سبب تام على أنفراده ومظهراً من مظاهر الشجاعة لا نظير له.

                سئل بعض العرب عن سبب تفاني العرب أيام صفين بحيث كانوا لا شامي ولا عراقي يولي الدبر حتى وقع البوار وكاد يعمهم الدمار، فأجاب بما معناه أنهم التقوا وعند بعضهم بصيرة الدين وعند بعضهم حمية النفس لأنهم قريبوا عهد بالجاهلية فتفانوا لذلك.

                فمحض الديانة لا يكفي ولو أنضمت إليه أكثر الأسباب التي ذكرها كالغضب الذي يطفئ جمرته الخوف والرعب، فكم من متدين لا يشك في تدينه شديد الغضب والغيظ على الكافرين قد أسلم نفسه للأسر طمعاً في الحياة ورجاء للسلامة، وآخر أشد منه بأساً ونجدة وأقوى عزماً ومضاء وأعظم شجاعة لم تخدعه بوارق الأطماع في الحياة الفانية، وحسبك شاهداً سرية الرجيع وملخصها أن الصحابة الذين بعثهم النبي (ص) دعاة لأهل البادية إلى دين الإسلام ومبشرين به ومعلمين لأحكامه وكانوا ستة نفر يرأسهم عاصم بن أبي الأقلح الأنصاري (رحمه الله) حمي الدبر فغدرت بهم هذيل وطلبوا منهم أن يستأسروا فأمتنع من ذلك أربعة وأختاروا القتل على الأسر وهم عاصم زعيم السرية، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، وخالد بن البكير وهؤلاء الثلاثة جابهوا القوم بالامتناع من الأسر وعاصم يرتجز:

ما علتي أنا جلد نابل           والقوس فيها وتر عنابل

تزل عن صفحتها المعابل    الموت حق والحياة باطل

وكلما حم الإله نازل            بالمرء والمرء إليه آيل

إن لم أقاتلكم فإني هابل

(177)

                وكان عاصم قتل رجلبين من آل عبد الدار يوم أحد فنذرت أمهما وهي سلافة أمرأة من الأنصار كانت متزوجة في قريش إن ظفرت برأس عاصم أن تشرب في قحفة الخمر، فلما قتل أرادوا أخذ رأسه ليبيعوه منها فإنها بذلت فيه أموالاً طائلة فحماه الله منهم بالدبر وهي الزنابير فكان يسمى لذلك حمي الدبر وكان نذر لله أن لا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك فوفى الله له حتى بعد موته فإنه أرسل سيلاً احتمله فألقاه في البحر، وخضع الثلاثة الباقون ورغبوا في الحياة فأستأسروا وهم عبد الله بن طارق وزيد بن الدثنة وحبيب بن عدي بليع الأرض، والثلاثة من الأنصار فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة فأعطوا بأيديهم فأسروا ثم إن عبد الله بن طارق اختار سبيل أصحابه المقتولين فأجتذب يده من الوثاق وأخترط سيفه فقاتل حتى قتل، وأخذت هذيل صاحبيه زيداً وخبيباً فباعتهما بمكة من قريش فقتلوهما رشقاً بالنبال رضوان الله عليهما، ولهما قصة مشجية وساء رسول الله (ص) مصابهم لأنهم جعلوهما هدفاً للنبال وتركوهما من غير دفن، فارسل عمرو بن أمية الضميري فأحتمل خشبة خبيب ولما أحس به الحرس رمى بها في بعض الشعاب فأبتلعته الأرض بخشبته فسمي بليع الأرض ولا يشك أحد فضلهما وصلابتهما في دينهما مع شجاعتهما فكانت موتة أصحابهما أفخر وأذكر.

                نعم، الشجاع المتدين يأنف أن يعتذر مما يعتذر منه الشجاع المنافق لأنه يثق بحمد العاقبة وسعادة الأبد بنيل الجزاء المضاعف والحباء الجزيل الذي لا يرتجيه الشجاع الفاسق لذلك يفر ويعتذر، هرب الحارث بن هشام المخزومي يوم بدر عن أخيه أبي جهل «لعنه الله» وعن عشيرته فعيرته قريش فأعتذر عن ذلك بقوله:

الله يعلم ما تركت قتالهم                     حتى علو كرشي بأسمر مزبد

وشممت ريح الموت من تلقاءهم     أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي

ففرت عنهم والأحبة فيهم                 طمعاً لهم بإياب يوم مفسد

ولما سمع كسرى هذه الأبيات قال: قاتل الله العرب لقد حسنت كل شيء حتى الفرار، وأنهزم بعض قواد عبيد الله بن زياد من الخوارج فغضب عليه فقيل له: قد غضب عليك الأمير، فقال: يغضب وأنا حي خير من أن يرضى وأنا ميت، وهذا الباب واسع جداً.

الشجاعة مفخرة للعرب

                الشجاعة مفخرة من مفاخر العرب ورداء مجد من أردية الإسلام وقد ندب إليها الشارع المقدس وأكد عليها في سبيل نصرة الدين وإحياء الحق، وفي آيات

(178)

القرآن ما يغني عن إيراد متون الأحاديث الحاضة على الثبات والصبر في وجوه أعداء الدين والمحرضة على الإقدام والإقحام في لقاء المشركين فإنه تعالى يقول: (أصبروا وصابروا ورابطوا)(1)، ويقول: ( إذا لقيتم فئة فاثبتوا)(2) ويقول: (ياأيها الذين ءامنوا قتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة)(3) أراد بالغلظة الشدة وقوة القلب لا شراسة الأخلاق وفضاضة الطباع لقوله تعالى في صفة المؤمنين: ( أشداء على الكفار رحماء بينهم)(4).

                ثم نهى تعالى عن الفرا بقوله: (يأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار(15) ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله)(5). ثم إنه تعالى أخبر عن محبته لأهل الثبات على مراكزهم مصطفين متراصين تراص البناء فقال: (إن الله يحب الذين يقتلون في سبيله صفا كأنهم بنين مرصوص)(6).

                فالشجعان في الجهاد إذا لزموا مراكزهم وتراصوا تراص البنيان ولم يتركوا فرجة يقتحمها العدو أدركوا من عدوهم ما طلبوا ولم يدرك منهم عدوهم ما طلب فلذلك كان الله تعالى يحبهم، وقد أستوفينا هذا البحث في كتابنا «السياسة العلوية» في فصل الحرب والجيوش والقيادة والتنظيمات فراجعه فإنه مسهب.

ما قيل في الشجاعة والشجعان

                عن محاضرات الراغب الأصبهاني(7): قيل: الشجاعة صبر ساعة.

                أحسب أن هذا القائل الذي حكى عنه الراغب أخذ كلامه هذا من قول مالك الأشتر يوم صفين لأهل العراق: أعيروني جماجمكم ساعة فقد بلغ الحق مقطعه.

                قال الراغب: كتب زياد إلى ابن عباس: صف لي الشجاعة والجبن والجود والبخل؟ فقال: الشجاع من يقاتل عمن لا يعرفه، والجبان يفر عن عرسه، والجواد يعطي من لا يلومه حقه، والبخيل يمنع من نفسه.

                شاعر:

يفر جبان القوم عن أم نفسه                ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه

(1) آل عمران: 200.                                        (2) الأنفال: 45.

(3) التوبة: 123.                                                (4) الفتح: 29.

(5) الأنفال: 15. 16.                                      (6) الصف: 4.

(7) المحاضرات 2/ 57.

(179)

                وسئل فيلسوف عن الشجاعة فقال: جبلة نفس أبية.

                وقيل: الرجال ثلاثة: فارس وشجاع وبطل؛ فالفارس الذي يشد إذا شدوا، والشجاع الداعي إلى البراز والمجيب له، والبطل الحامي لظهورهم إذا أنهزموا إلخ.

                وللشجاع مراتب عند العرب؛ قال الجاحظ في البيان والتبيين(1): قال أبو عبيدة يقال للفارس شجاع فإذا تقدم ذلك قيل بطل فإذا قدم شيئاً قيل بهمة فإذا صار للغاية قيل اليس، العجاج:

أليس عن حوبائة سخي

                أشعارر العرب في الشجاعة كثيرة منها قول بعضهم:

إذا استلب الخوف الرجال قلوبها     صبرن على الموت النفوس الغواليا

حذار الأحاديث التي غب يومها      عقدن بأعناق الرجال المخازيا

                وقال أعشى بن قيس بن ثعلبة الأعشى الأكبر:

جعل الإله طعامنا في مالنا                  رزقاً تضمنه لنا لن ينفدا

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا              ملأ المراجل والصريح الأجردا

                وقال أبو فراس الحمداني:

صبور وإن لم تبق مني بقية                  قؤول ولو أن السيوف جواب

وقور وأحداث الليالي تنوشني          وللموت حولي جيئة وذهاب

                وقال السلامي:

إذا فاجئته الخيل لم ينتظر بها                لحوق رجال وأجتماع مقانب

                قد أنبأتنا الآثار التاريخية المعتمدة بصدور هذه الفعلة الكريمة لرجال والقبيلة؛ أما الرجل فهو مسلم بن عوسجة الأسدي الشهيد مع الحسين «عليه السلام» حسبما ذكرنا في ترجمته من كتابنا (أعلام النهضة الحسينية) وقد قال شبث بن ربعي: رأيته ونحن بسلق آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين.

                وأما القبيلة فهم بنو تميم فقد فعلوا ذلك يوم الكلابالثاني وهو يوم الصفقة وقصة هذا اليوم من أطول القصص وأفضعها هولاً قتل فيها ملوك اليمن الأربعة وسائر قوادهم.

(1) البيان والتبيين 1/ 209.

(180)

                والشاهد من القصة برواية المبرد: قال ضمرة بن لبيد الحماسي: أنظرو إذا سقتم النعم فإن أتتكم الخيل عصباً العصبة تنتظر الأخرى حتى تلحق بها فإن أمر القوم هين، وإن لحق بكم القوم ولم ينتظر بعضهم بعضاً حتى يردوا وجوه النعم فإن أمرهم شديد وتقدمت سعد والرباب في أوائل الخيل وألتقوا بالقوم فلم يلتفتوا إليهم وأستقبلوا النعم ولم ينتظر بعضهم بعضاً ورئيس الرباب النعمان بن الحسحاس ورئيس بني سعد قيس بن عاصم، وأجمع العلماء أن قيس بن عاصم رئيس بني تميم إلى آخر القصة(1).

غايات الشجعان ومقاصدهم

                وقد استبان لك مع جميع ما ذكرنا أن لكل شجاع غاية ينحوها وهدف يرمي إليه إما قصد تأسيس مملكة وإشادة سلطنة أو دفاع عن وطن أو تخلص عن ذل واستبعاد أو اكتساب رفعة ووجاهة أو نيل مرتبة سامية وما شاكل ذلك من المقاصد العقلائية وأنبلها المحامات عن الإعراض والكفاح على الدين والمحاماة عن عظيم من العظماء الروحانيين كل هذه الغايات من مقاصد الشرف ومناحي المجد والسؤدد وهي مقدرة عند جميع ذوي العقول ومحترمة لدى كافة النبلاء وأقربها للمحامد وأحراها بالتبجيل والاحترام من كان دفاعه نصرة للحق والعدل وتشييداً للدين ومكافحة للأستبداد الممقوت والجور الصارم والمدافعة عن نفس يجب حفظها بكل ما يمكن الوصول إليه (كنفس النبي والإمام) المعصوم المفترضة طاعتهما على الخلق أجمعين وجميع هذه الغايات النبيلة.

من مقاصد أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين علي «عليهما السلام»:

                فإن غرضه الأقصى الذي ينحوه وهدفه الأبعد الذي يسدد الرمية إليه هو نصرة الدين وحماية الإمام الحسين «عليه السلام» إمام الحق والعدل الذي قام يكافح أستبداد ولاة الجور من آل حرب ورعاة النفاق والفجور وماحي الإسلام وماحقي السنة ومحيي البدعة والأضاليل من بني أمية وقد صرح أبو الفضل «عليه السلام» ببعض مقاصدة كقوله:

أذب عن دين النبي أحمد

                وكقوله:

إني أحام أبداً عن ديني        وعن إمام صادق اليقين

(1) أنظر : العقد الفريد 3/ 363.

(181)

                وكقوله:

نفسي لنفس السيد الطهر وقا

                صرحت كل هذه الاشعار التي لا شبهة أنه قائلها بأن أقصى غاياته المدافعة عن إمامه الحسين «عليه السلام» ونصرة دين الله الذي قهرته سلطة بني أمية وأذلة أستبدادهم الجبار ومحقته أثرتهم الفاجرة.

شجاعة العباس الأكبر

                أما شجاعته «عليه السلام» فهي المثل الأعلى ووصفها الأكمل ونعتها الأتم وهي عظيمة الأثر في صفوف أهل الكوفة شديدة النكاية فيهم وقد تفنن الشعراء في نعته بالشجاعة فنوناً سنتلوا عليك بعضها هنا وفي فصل تأبينه.

حضور العباس «عليه السلام» صفين

                قد شهد قبل كربلاء صفين وفي بعض الكتب الفارسية أنه كان محارباً ويشهد له ما ذكره الخطيب الخوارزمي الحنفي في كتاب المناقب أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» لبس ثياب ابنه العباس في بعض أيام صفين لما برز لقتال كريب فارس أهل الشام وحيث أن هذه القصة تشتبه بقصة العباس بن ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب لزمنا نقل القصتين ليرتفع الإشكال ويزول الشك فإنه ذكرهما معاً لفظه: ثم خرج من عسكره معاوية كريب بن أبرهة من آل ذي يزن وكان مهيباً قوياً يأخذ الدرهم فيغمره بإبهامه فتذب كتابته، فقال له معاوية: إن علياً يبرز بنفسه وكل أحد لا يتجاسر على مبارزته وقتاله، فقال كريب: انا أبرز إليه فخرج إلى صف أهل العراق ونادى: ليبرز إلى علي، فبرز إليه مرتفع بن وضاح الزبيدي فسأله: من أنت؟ فعرفه بنفسه فقال: كفؤ كريم ثم تكافحه فسبقه كريب بالضربة فقتله ونادى: ليبرز إلى اشجعكم أو علي، فبرز إليه شرحبيل بن بكر وقال لكريب: يا شقي! ألا تفكر في لقاء الله ورسوله يوم الحساب من سفك الدم الحرام؟ فقال كريب، إن صاحب الباطل من آوى قتله عثمان وهو صاحبكم ثم تكافحا ملياً فقتله كريب، ثم برز إليه الحارث بن اللجلاج الشيباني وكان زاهداً صواماً قواماً وهو يقول:

هذا علي والهدى حقاً معه                   نحن نصرناه على من نازعه

                ثم تكافحا فقتله كريب فدعا علي «عليه السلام» ابنه العباس وكان تاماً كاملاً

(182)

من الرجال فإمره أن ينزل عن فرسه وينزع ثيابه ففعل فلبس علي «عليه السلام» ثيابه وركب فرسه ولبس ابنه العباس «عليه السلام» ثيابه وركب فرسه لئلا يجبن كريب عن مبارزته، فلما هم علي «عليه السلام» بذلك جاء عبد الله بن عدي الحارثي وقال: يا أمير المؤمنين! بحق إمامتك أئذن لي في مبارزته فإن قتلته وإلا قتلت شهيداً بين يديك، فإذن له علي «عليه السلام» فتقدم إلى كريب وهو يقول:

هذا علي والهدى يقوده        من خير عيدان قريش عوده

لا يسأم الدهر ولا يروده                   وعلمه معاجز وجوده

                فتصاولا ساعة ثم صرعه كريب ثم برز إليه علياً «عليه السلام» متنكرا وحذره الله وسخطه فقال كريب: أترى سيفي هذا؟ قد قتلت به كثيراً مثلك، ثم حمل على علي «عليه السلام» بسيفه فأتقاه بجحفته ثم ضربه علي «عليه السلام» على رأسه فشقه حتى سقط نصفين وأنشأ علي «عليه السلام» يقول:

النفس بالنفس والجروح قصاص     ليس للقرن بالضراب خلاص

                إلى آخر القصة، وفيها يذكر أن أمير المؤمنين علياً «عليه السلام» أمر ابنه محمد بن الحنفية بملازمة مصرع كريب لأجل منازلة من يثور طالباً بدمه وذكر أن محمداً قتل في هذا الموقف سبعة أبطال من الثائري يطلبون بدم كريب، وقد ذكرنا القصة بطولها في كتاب «الميزان الراجح».

                ثم ذكر قصة العباس بن ربيعة بما لفظه(1) قال: برز اليوم التاسع عشر من حرب صفين من أصحاب معاوية عثمان بن وائل الحميري وسماه المسعودي وغيره غرار بن أدهم وكان يعد بمائة فارس وله أخ يسمى حمزة يعدهما معاوية للشدائد فجعل عثمان يلعب برمحه وسيفه والعباس بن الحارث(2) بن عبد المطلب ينظر آليه من ناحية مع سليمان بن صرد الخزاعي فقال له العباس(3): أبرز إليه وقد نهاني أمير المؤمنين «عليه السلام» وفي نفسي أني أقتله فبرز إليه العباس وهو يقول:

بطل إذا غشي الحروب بنفسه            حصد الرؤوس كحصد زرع مثمر

                فتكافحا ملياً  فلم يظفر أحدهما بصحابه، فقال سليمان للعباس: ألا تجد فرصة فقال فيه شجاعة ثم أنثنى عليه فضربه فرمى رأسه ووقف مكانه فبرز إليه أخوه

(1) المناقب للخوارزمي: ص149.

(2) العباس بن ربيعة بن الحارث ففي النسخة سقط.

(3) في النسخة سقط ولعلها كما ذكر المؤرخون أنه دعاه إلى البراز فقال: أبرز وقد نهاني علي عليه السلام.

(183)

حمزة فأرسل إليه علي «عليه السلام» ونهاه عن مبارزته وقال له:إنزع ثيابك وناولني سلاحك وقف مكاني وأنا أخرج إليه فتنكر علي «عليه السلام» وخرج إلى حمزة فظن حمزة أنه العباس الذي قتل أخاه فضربه علي «عليه السلام» فقطع أبطه وكتفه ونصف وجهه ورأسه فعجب اليمانيون وهابوا العباس وبرز إلى علي «عليه السلام» عمرو بن عبس الجمحي وكان شجاعاً فجعل يلعب برمحه وسيفه، فقال علي «عليه السلام» هلم للمكافحة فليس هذا وقت للعب،  فحمل عمرو على علي «عليه السلام» حملة منكرة فاتقاه علي «عليه السلام» بجحفته ثم ضربه علي «عليه السلام» على وسطه فأبان نصفه وبقي نصفه على فرسه، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: ما هذه إلا ضربة علي «عليه السلام» فكذبه معاوية قال: قل للخيل تحمل عليه فإن ثبت مكانه فهو علي فحملوا عليه فثبت لهم ولم يتزعزع وجعل يقتل فيهم حتى قتل منهم ثلاثة وثلاثين رجلاً إلخ.

                وهذا صريح أن العباس الأكبر كان فارساً بصفين كامل الأهبة والعدة يقف في صف المجالدين فيستعير أمير المؤمنين «عليه السلام» آلته ولباسه فلا يفرق بينهما وقد صرح الكربلائي في معالي السبطين بأنه كان محاربا(1) وقال: قال الطريحي: إن العباس «عليه السلام» كان مع أبيه أمير المؤمنين «عليه السلام» في الحروب والغزوات ويحارب شجعان العرب ويجالدهم كالأسد الضاري حتى يجلدهم صرعى، وفي يوم صفين كان «عليه السلام» عوناً وعضداً لأخيه الحسين «عليه السلام» وإن الحسين «عليه السلام» في فتح الفرات وأخذ الماء من أصحاب معاوية وهزم أبا الأعور عن الماء.

                ثم قال: قال الحاج شيخ محمد باقر البرجندي القائني في كتابه المسمى الكبريت الاحمر: قال بعض من يوثق به بأن يوماً من أيام صفين خرج شاب من عسكر أمير المؤمنين «عليه السلام» وعليه لثام وقد ظهر منه من آثار الشجاعة والهيبة والسطوة بحيث أن أهل الشام قد تقاعدوا عن حربه وجلسوا ينظرون إليه وغلب عليهم الخوف والخشية فما برز إليه أحد، فدعا معاوية برجل من أصحابه يقال له ابن شعثاء وكان يعد بعشرة آلاف فارس فقال له معاوية: أخرج إلى هذا الشاب فبارزه، فقال: يا أمير المؤمنين! إن الناس يعدونني بعشرة آلاف فارس فكيف تأمرني بمبارزة هذ الفتى؟ فقال معاوية: فما تصنع؟ فقال: يا أمير! إن لي سبعة بنين أبعث إليه واحداً منهم ليقتله، فقال له: إفعل، فبعث إليه بأحد أولاده

(1) معالي السبطين 1/ 267.

(184)

فقتله الشاب ثم بعث إليه بآخر فقتله الشاب حتى بعث جميع أولاده فقتلهم الشاب فعند ذلك خرج ابن شعثاء وهو يقول: أيها الشاب! قتلت جميع أولادي والله لأثكلنك اباك وأمك ثم حمل اللعين وحمل عليه الشاب فدارت بينهما ضربات فضربه الشاب ضربة قده نصفين فألحقه بأولاده فعجب الحاضرون من شجاعته عند ذلك صاح أمير المؤمنين «عليه السلام» ودعاه وقال: إرجع يا بني لئلا تصيبك عيون الأعداء، فرجع وتقدم أمير المؤمنين «عليه السلام» وأرخى اللثام عنه وقبله بين عينيه فنظروا إليه فإذا هو قمر بني هاشم العباس بن أمير المؤمنين(1)، الخ.

اعتذار المؤلف عن التواريخ العجمية

                وكأني أسمع بعض القراء لكتابنا هذا من منتحلي الثقافة ومدعي التنوير وزمرة من المتجددين الذي لا يريدون إثبات فضيلة لأهل هذا البيت النبوي المفخم وفئة من المتفقهين بلا معرفة وتمييز وهناك فئام يضرعون لأوهام وخيالات يسمونها بالعقول، والعقول بريئة من كل فكر سطحي وخيال وهمى سيقولون إذا مروا بهذه الحكايات: كيف أعتمد مؤلف «كتاب بطل العلقمي» في نقل هذه الحكايات على الكتب الفارسية والتواريخ الأعجمية ومؤلفوها يتمسكون بالواهيات ويعتمدون المراسيل ولو شهد العباس بن علي «عليهما السلام» صفين وكان في صف المحاربين لذكره المؤرخون أساتذة فن التاريخ كالطبري والجزري والمسعودي وأضرابهم؟!

                فيظن من لا معرفة له ولا إلمام بحقائق الأشياء أن هذه المقالة مبتنية على أساس محكم وبناء مرصف في ركن وثيق وهي لدى التحقيق على جرف منهار قد جرفه السيل، وعلى رأس منار متداعي الأركان قد زعزعته العواصف وهدته القواصف.

                المؤرخون الذين لهم شهرة لم يضبطوا كل حادثة ولم يقفوا على كل قضية من القضايا التاريخية فبعض الوقائع قد وصل إليهم نبؤه وبعضها لم يصل والذي لم يصلهم أكثر مما وصل إليهم، وقد فات الطبري ما أستدركه عليه الجزري، وذكر المسعودي مالم يذكره اليعقوبي، وهكذا فما وصل إليهم فقد ذكروه، وما لم يصل إليهم لم يبق في طي الخفاء المظلم بل برقت بارقة من ذلك العلم فأضاء لطالبيه وأسفر لرائديه فأقتضبوا منه شارده وأحتبلوا قنيصة فكان كالمستدرك على من فاته

(1) انظر ما نقله عن الكبريت الأحمر الفارسي المطبوع في إيران 2/ 24.

(185)

العلم به، وقد أستدرك الحاكم النيسابوري على صحيحي مسلم والبخاري من الأحاديث الصحيحة على شرطهما ما ساوى حجم الكتابين معاً، والصحاح الباقية الأربعة أو الثمانية بناء على جعل الصحاح عشرة عندهم كالاستدراك أيضاً على الصحيحن هذا من ناحية أهل السنة والجماعة.

                وأما من ناحية أهل التشيع فقد أستدرك المرزا النوري على وسائل الشيعة للحر العاملي ما ساوى حجمها فليكن ما رواه هؤلاء العلماء من الأعاجم كالمستدرك على التواريخ المشهورة وليست بأقل من متفردات الأغاني لأبي الفرج.

                على أن ألمؤرخين الشهيرين الطبري والجزري ذكرا أشهر رجال الإسلام شجاعة وتقدماً فيمن حضر صفين القعقاع بن عمرو التميمي فارس العرب وهو الذي كتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر يطلب منه أن يمده بجيش فأمده بالقعقاع وحده، فقال عمر بن الخطاب: أتمده برجل واحد؟ فقال أبو بكر: لا يهزم جيش فيه هذا ولم يضبطا له قصة تدل على نباهة ذكره في تلك الحرب التي تسابق فيها أبطال الإسلام على إحياء الذكر الخالد مع منافسة الشرف بين القطرين المتقابلين على أنهما في حرب الجمل ذكر له في صف علي «عليه السلام» صوتاً وملئا تاريخهما من آثاره في المغازي والفتوحات الإسلامية في مجالدة الفرس والرومان فأوردا له ما يدهش الألباب ويحير الفكر، وفي حربه مع علي «عليه السلام» بصفين ذكرا للخاملين من العرب أثراً ولم يذكرا له ولنظيره في الشجاعة عبيد الله بن الحر الجعفي مع زعمهما أنه شهد مع معاوية صفين وكذلك نظير في الشهرة مالك بن مسمع البكري مع شهرة هذين الرجلين وسير أثرهما في الحروب الإسلامية فإذا جاز أن يقال أهملا ذكر هؤلاء الأبطال لعدم علمهما بما صدر منهما في ذلك الموقف جاز مثل ذلك في العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» وإذا جاز أن يقال إنهما لم يدونا كلما كان من الوقائع لأن في أستيفائها ما يربي على حجم الكتابين بالضعف قلنا أن موقف العباس الأكبر مما لم يدوناه ودونه علماء الفرس.

                وأما الاستبعاد لصغر السن وأن الممارسة للحروب مظهر الشجاعة فمسلم في غير أهل البيت «عليهم السلام» فإنهم أهل بيت الشجاعة والبطولة وإن صغر السن لا يحول بينهم وبين الشجاعة وعدم مباشرة الحروب لا يقصر بهم عن البطولة والفروسية.

(186)

                هذا أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» قد شهد بدراً ولم يمارس حرباً قبلها وكانت سنه دون العشرين سنة وقد علمت ما جرى منه على صناديد قريش طواغيت العرب وجبابرتها حتى أفنى شجعانهم وأباد أبطالهم وفر منه أبطال لا يخطر ببال أحدهم إنهم يفرون ولا يتخيل متخيل إنهم ينهزمون مثل عمرو بن عبد ود العامري الذي قتله يوم الخندق وهو قائد الأحزاب، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي وهو صهره أحد من أقتحم الخندق مع عمرو بن عبد ود، والحارث بن هشام المخزومي شقيق ابي جهل وغيرهم.

                وهذا أخوه محمد بن الأكبر المعروف بابن الحنفية ولد في آخر خلافة عمر بن الخطاب شهد البصرة مع أبيه وهو صغير السن ولم يشهد قبلها حرباً فأبدى من الفروسية ما أبهر الفرسان الماهرين وتعجب له أبطال العرب، فقد كان أبطال الصحابة من الأنصار كخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وغيره من كمات الأنصار يفضلونه بالشجاعة على كل أحد سوى أبيه وأخويه الحسن والحسين «عليهما السلام» فهو في تلك الحرب الطاحنة حامل لواء أبيه الأعظم ولا يحمل اللواء إلا الممتاز في الشجاعة.

                وهذا مسلم بن عقيل بن أبي طالب «عليه السلام» كان صغيراً وعلمت ما فعل بأهل الكوفة قام يجالد بلدة كالكوفة اعظم بلد في ذاك العصر ولم يعنه فيها أحد وكلها عليه مقاتلة وخاذلة حتى كانت النساء والصبيان يرمونه بالحجارة وأطنان القصب فيها النيران من أعالي السطوح ومع ذلك كله وشدة العطش والجوع يبيد كل جيش يلقاه حتى أضطرب اللعين ابن زياد وغضب على قائده ابن الأشعث وقال: رجل واحد يثلم فيكم هذه الثلمة العظيمة فكيف لو لقيتم الأعظم منه بأساً الأشد مراساً يعني الحسين «عليه السلام»، فكان جواب ابن الأشعث وفق ما نقول من أنه لم يكن بقالاً ولا جرمقاناً بل هو أحد أسياف عبد المطلب يعني أن شجاعتهم غريزية وبالطبع لا لزوم لها بالممارسة والاختبار.

                وهؤلاء فتيان بني أبي طالب الذين قتلوا يوم الطف فقد ظهر لهم من الشجاعة ما لم يظهر لكماة الأبطال على صغر السن وعدم مباشرة الحروب فإن علي بن الحسين الأكبر «عليهما السلام» سنة يوم الطف ثمانية عشر سنة – على المشهور – وقيل أقل وقيل أكثر، والقاسم بن الحسن «عليهما السلام» سنة خمسة عشر سنة وقيل أقل وقيل أكثر، وكل واحد منهما كان قبل حرب الطفوف ربيب ترف وأليف نعمة وكذلك عبد الله ابن مسلم بن عقيل كان سنة أحد عشر سنة وقيل أكثر.

(187)

                وأما كون الفارس الذي قتله العباس «عليه السلام» يعد بعشرة آلاف فقد يجوز مثل ذلك ويصدر فقد ادعى عمران بن حطان السدوسي الخارجي الصفري أن مجزأة بن ثور البكري السدوسي فتح بلدة وحده فيما ذكر المبرد في الكامل ولفظه(1):

                وحدثت أن أمرأة عمران بن حطان السدوسي قالت له: أما حلفت أنك لا تكذب في شعر؟ فقال لها: أو كان ذلك؟ قالت: نعم، قلت:

فكذاك مجزأة بن ثور             كان أشجع من أسامه

                أيكون رجل أشجع من أسد؟ فقال لها: ما رأينا أسداً فتح مدينة قط ومجزأة بن ثورة فتح مدينة ألخ وفاتح مدينة واحده يقابل عشرة آلاف.

                وأيضاً قد ذكر المؤرخون جميعاً في مقتله أنه هو والبراء بن مالك الأنصاري أخو أنس  بن مالك قتل كل واحد منهما على باب تستر مائة رجل من الأعاجم وأقتحما الباب فقتلا وكان ذلك سبب فتح المدينة وقد ذكروا أن فيها جيشاً عظيماً حشده الهرمزان لصد هجمات العرب المسلمين فغير عجيب أن يقابل الرجل عشرة آلاف.

                ونحن لا نذكر أمير المؤمنين علياً «عليه السلام» لأنه أعظم من أن يقاس به أحد وإلا فقد كان جيش النبي (ص) أثنى عشر الفاً فهزمته هوازن فيجب أن يكون جمع هوازن مكافئاً لجيش النبي (ص) إن لم يكن أكثر وردهم أمير المؤمنين علي «عليه السلام» وحده بسيفه فقد قابل أكثر من عشرة آلاف ولكن لا يقاس بعلي «عليه السلام» إنسان ولكن حسبك بالأشتر النخعي وأمثاله ما يكون لك شاهداً على وجوده أشخاص يعدون بالألوف.

إثبات شجاعة العباس بن علي «عليهما السلام»

                ويكفي لإثبات شجاعته «عليه السلام» ما كان منه يوم كربلاء: أما عدد من قتلهم فمختلف فيه: ففخر الدين الطريحي (رحمه الله) ومن وافقه من العلماء «رضوان الله عليهم» فيقولون قتل ثمانين بطلاً، وصاحب الكبريت الأحمر وصاحب أسرار الشهادة وصاحب نور العين الشافعي فيقولون: ثمانمائة فارس، والجمع بين القولين سهل بحمل الثمانين على المشاهير من الأبطال وباقي العدد على ما دونهم، وبين هذين القولين أقوال بالزيادة والنقصان وأنا أذكر القولين وأترك ما عداهما.

(1) الكامل للمبرد 3/ 171.

(188)

                قال فخر الدين الطريحي (رحمه الله) في المنتخب(1): روي أن العباس بن علي «عليهما السلام» كان حامل لواء أخيه الحسين«عليه السلام» فلما رأى جمع عسكر الحسين «عليه السلام» قتلوا وإخوته وبني عمه بكى وإلى لقاء ربه أشتاق وحن فحمل الراية وجاء نحو أخيه الحسين «عليه السلام» وقال: يا اخي! هل من رخصة؟ فبكى الحسين «عليه السلام» بكاء شديداً حتى أبتلت لحيته بالدموع ثم قال: يأخي كنت العلامة من عسكري ومجمع عددي فإذا أنت قتلت يؤل جمعنا إلى الشتات وعمارتنا تنبعث إلى الخراب، فقال العباس «عليه السلام»: فداك روح أخيك ياسيدي قد ضاق صدري من حياة الدنيا وأريد أن آخذ الثار من هؤلاء المنافقين، فقال الحسين «عليه السلام»: إذا غدوت إلى الجهاد فأطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء.

                فلما أجاز الحسين «عليه السلام» أخاه العباس برز كالجبل العظيم وقلبه كالطود الجسيم لأنه كان فارساً هماماً وبطلاً ضرغاماً وكان جسوراً على الطعن والضرب في ميدان الكفاح والحرب، فلما توسط الميدان وقف وقال: يا عمر بن سعد! هذا الحسين ابن بنت رسول الله (ص) يقول لكم: قتلتم أصحابه وإخوته وبني عمه وبقي وحيداً فريداً مع أولاده وعياله وهم عطاشى قد أحرق الظمأ قلوبهم فأسقوه شربة من الماء فإن أطفاله وعياله وصلوا إلى الهلاك وهو يقول لكم: دعوني أذهب إلى طرف الروم والهند واخلي لكم الحجاز والعراق وأشرط لكم أني غداً في القيامة لأخاصمكم عند الله حتى يفعل الله بكم ما يريد.

                فلما أوصل إليهم العباس «عليه السلام» الكلام عن أخيه الحسين «عليه السلام» فمنهم من سكت ولم يرد جواباً، ومنهم من جعل يبكي، فخرج الشمر وشبث بن ربعي «لعنهما الله» فجاء نحو العباس «عليه السلام» وقالا: يا ابن أبي تراب! لو كان وجه الأرض ماء وهو تحت أيدينا ما سقيناكم منه قطرة إلا ان تدخلوا في بيعة يزيد، فتبسم العباس ومضى إلى أخيه الحسين «عليه السلام» وعرض عليه ما قالوا فطأطأ رأسه إلى الأرض وبكى حتى بل أزياقه فسمع الحسين «عليه السلام» الأطفال وهم ينادون: العطش العطش.

                فلما سمع العباس «عليه السلام» رمى بطرفه إلى السماء وقال: إلهي وسيدي! أريد أن أعتد بعدتي وأملأ لهؤلاء الأطفال قربة من الماء، فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة في كتفه وكان قد جعل عمر بن سعد لعنه الله أربعة آلاف

(1) منتخب الطريحي 1/ 27 مجلس 4.

(189)