موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قال المراسل – لجريدة وورلد ووك – الإنكليزية وقد يظهر ذلك غريبا ولكني رأيته يعني بفعل ذلك ورأيت فيه نباهة غريبة لتمييز الألوان فوضعوا أمامه عشر لوناً متحاذية وأخذ أستاذه يسأله عن كل لون منها وهو يدل بحافره عليها وله مهارة غريبة في أداء الألحان الصفيرية حتى يميز بين النغمة وأجزائها، إنتهى كلامه.

                ونقل جرجي زيدان في عجائب الخلق وغيره من علماء الحديث ما يقارب هذا عن رجل أمريكي ثقف جواداً وفي نقل الأقوال تطويل ولا غرابة في ذكاء الخيل وقد ذكر المتأخرون في التربية للخيل العربية وهي الأصائل بالرياضة المسمات بالتجبيش أمراً مدهشاً وقد ذكر القدماء أن الجواد إذا سقط فارسه وقف عليه وحام حوله وربما حامى عنه، وقد روى مثل هذا أرباب المقاتل فذكروا أن جواد الحسين «عليه السلام» المسمى بالحرون والملقب بذي الجناح المشهور بالميمون لما سقط الحسين «عليه السلام» جعل يحمحم ويدور حوله ويمرغ ناصيته بدمه ثم جعل يكدم بيديه من دنى منه من الأعداء ليمسكه فيخبطه بحافره حتى أيس من نهوض الحسين «عليه السلام» رجع إلى الخيمة ملحاً بالصهيل كأنه ينذر العيال ويخبرهم بقتل الحسين «عليه السلام» والحكايات عن الخيل العربية بمثل هذا كثيرة.

                وقد شاهد البصريون في القرن الرابع عشر الهجري ( بصيراً يرقص) رأوه في السركس الهندي الذي جلب إليهم من الهند وليس من طبيعة البعير الرقص لولا الرياضة والتمرين ولم تكن العرب القديمة على فطرتها وبساطتها وعراقتها في الجهل كما يقال ممن يجهل قبول النفس للثقافة وإن الطباع تتغير بالمصاحبة والأخلاق لها قابلية التهذيب بضروب التعليم والرياضة وقد أكثر من ذلك شعراؤهم، قال بعضهم:

عليك بالنفس فأستكمل فضائلها     فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

                وقال آخر:

لا تنهى عن خلق وتأتي مثله               عار عليك إذا فعلت عظيم

فأبدأ بنفسك وأنهها عن غيها              فإذا أنتهت عنه فأنت حكيم

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى           كيما يصح به وأنت سقيم

                وقال آخر يذكر تأثير النفس بالمصاحبة:

صاحب أخا ثقة تحضى بصحبته         فالطبع مكتسب من كل مصحوب

(141)

كالريح آخذة مما تمر به          نتناً من النتن أو طيباً من الطيب

                وقال آخر يصف كيفية التخلق بأخلاق الحمد:

فإن أعجبتك خصال امرء                 فكنه تكن مثلما يعجبك

                وهو كثير في شعر العرب وقد طال بنا المقام.

أخلاق العباس «عليه السلام» وسجاياه

                وقد تبين أن الأخلاق تكون مكتسبة بالعادات وطبائع قابلة للتهذيب فإذا كانت أخلاق الشخص الغريزية كلها صالحة وسجاياه كلها فاضلة وصاحب مدة حياته وطيلة عمره أهل الخصال الحميدة والأخلاق المرضية فقد ازداد فضلاً على فضل وكمالاً على كمال.

                ولا غرو أن يكون من أكمل البشر طبعاً واكتساباً فالعباس الأكبر ابن أمير المؤمنين «عليهما السلام» جامعة الفضائل وكلية الكمالات بما أن نفسه الهاشمية منطبعة بمكارم الأخلاق والشيم بحسب فطرتها وأصل خلقتها ولا يشركهم في هذه الفضيلة أحد من الناس وقد أوضح لنا هذه الحقيقة سيدنا وإمامنا السجاد زين العابدين علي بن الحسين «عليه السلام» بقوله في خطبته المشهورة في مجلس اللعين يزيد ابن معاوية: «أيها الناس! أعطينا ستاً وفضلنا بسبع الخ» والدلالة عليه أيضاً وجدانية وشاهدها معها إذ لا يوجد في الهاشميين بخيل ولا جبان ولا غبي وإن وجد فالعلة من جهة الأمهات وقد قال معاوية بن أبي سفيان الخصم الألد لبني هاشم: ( إذا لم يكن الهاشمي جواداً لم يشبه أصله) وقد قال أمير المؤمنين  علي بن أبي طالب «عليه السلام»: «نحن أفصح وأسمح وأحمى لما وراء ظهورنا من بني أمية».

                فالعباس الشهيد «عليه السلام» من لباب بني هاشم وصميم عبد مناف وقد زاده فضلاً على فضل صحبته لأهل الفضائل وخدمته لسادات أرباب المكارم فقد قضى حياته وأفنى عمره في صحبة أكرم الخلق بعد النبي (ص) شمائلاً وشيماً وأفضلهم أخلاقاً ومزايا وأكملهم طباعاً وسجايا، وتزداد المرآت بالجلاء صفاء والسيف بالصقالة رونقاً فأمير المؤمنين وهو والده الأكرم وأبوه سيد أرباب الفضائل قد شهد له عدوه الكاشح وخصمه الألد معاوية بن أبي سفيان وقد قال له الثقفي: جئتك من عند الغبي البخيل الجبان علي بن أبي طالب، فقال معاوية: لا تقل هذا فإنه أشجع العرب وأفصح قريش وأجودها، أما والله لو كان له بيتان بيت

(142)

من تبر وبيت من تبن لأنفق تبره قبل تبنه، إلى آخر ما ذكره ابن قتيبة في تاريخه الإمامة والسياسة.

                والحسن والحسين «عليهما السلام» أخواه خير الإخوة وأفضل الأشقاء وقد شهد لهما رسول الله (ص) في تشبيههما به وهو (ص) على خلق عظيم فأكتسب العباس «عليه السلام» بصحبتهم زيادة على ما في جبلته وفطرته من سجايا الخير وشيم الإصلاح ما أمتاز به على عامة أرباب الأخلاق الحميدة والصفات الكريمة.

                للمؤلف:

أبو الفضل اقتدى في كل فضل          بوالده علي ذي المعالي

وبالسبطين من فاقا البرايا                    جميعاً بالخلائق والفعال

فما مثل الوصي وصي طه                    ولا السبطين في شرف الخصال

سوى من لا يكون له مثيل نبي الله خيرة ذي الجلال

وفي العباس من كرم السجايا             كثير ليس يحصر في مقال

وفاء نجدة زهد وعلم                          وإيثار وصدق في المقال

عفاف ظاهر حلم وجود     وبأس صادق عند النزال

                نحن أجملنا الكلام في ذكر محاسن أخلاق العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» فوجب أن نذكرها تفصيلاً لينتفع بذلك القراء.

كرم العباس الأكبر وسخاؤه

الجود من صفات بني هاشم الراسخة

                نحن لا نبرهن على إثبات ذلك بأكثر مما خلدته الآثار التاريخية أن هذه القبيلة أعني الهاشمية ليس فيها غير الجواد الذي لا يجارى، الكريم الذي يبارى.

                قال الثعالبي في ثمار القلوب(1): كان يقال أربعة كانوا ومحال أن يكونوا: زبيري سخي، ومخزومي متواضع، وهاشمي شحيح، وقرشي محمب آل محمد (ص)، إنتهى.

                وقد تحرى علماء المثالب أن يقدحوا في بني هاشم بوجود بخيل يتقربون بثلبه إلى قلوب بني أمية فما وجدوا في قديمهم أحداً بل ولا في حديثهم فرداً

(1) ثمار القلوب: ص91.

(143)

يجعلونه موضعاً للثلب حتى قيام الدولة العباسية فأوجدت لهم سانحة الفرصة ذاك الخليفة الجبار أبا جعفر المنصور فعدوه فيهم بخيلاً وزادوا في القدح عليه بأن قالوا: إن قد تجاوز حد البخل إلى أبغض منه وأمقت وهما الشح والحرص فكان يحاسب على الدانق فأشتق له من هذا الفعل لقب «الدوانيقي» ولعل الدانق ربع الفلس، وأنكر ذلك عليهم المعتصبون له فقالوا: إن لم يكن بخيلاً ولا الشح من صفته ولم يكن بالحريص المبغوض ولا الشحيح الممقوت فكيف وداره إدارة عظيمة لإدرار الصلات والعطايا على السائلين وهباته موفرة للعلماء كعمرو بن عبيد وأضرابه مما لا ينكر، ومحاسبته على الدانق ليست من باب البخل وإنما هي من باب الحزم واليقظة تحرزاً من الخيانة فإن من تفطن للدانق لا يختان في الألف.

                وقد رؤي عبد الله الجواد بن جعفر الطيار في السوق يماكس في درهم، فقيل له: العجب منك تعطي الألوف وتماكس الدرهم، فقال: ذاك مالي جدت به وهذا عقلي لم أجد به، ومعناه أن التغافل عما يحصل عليه جود وعما لا يحمد عليه جهل؛ فالمنصور إلى مثل هذا ينظر.

                وأيضاً رؤي قيس بن سعد بن عبادة وهو أحد الأجواد بالمدينة يلتقط التمر الساقط تحت النخل ويجمعه، فقيل له: أتفعل هذا وأنت تجود بما تجوه به؟ فقال قيس: الذود إلى الذود إبل فكما لم ينسب هذان الكريمان إلى البخل بسبب هذين الفعلين فلا ينبغي أن ينسب المنصور بسبب هذا الفعل إلى البخل.

                ويشهد لدعوى المعتصبين النافين عنه البخل ما ذكره أحمد بن ثابت الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد(1) عن ابي العيناء قال: دخل المنصور من باب الذهب فإذا بثلاث قناديل مصطفة فقال: ما هذا، أما واحد من هذا كان كافياً يقتصر من هذا على واحد، قال: فلما أصبح أشرف على الناس وهم يتغدون فرأى الطعام قد خف من بين أيديهم قبل أن يشبعوا، قال: يا غلام! علي بالقهرمان، قال: مالي رأيت الطعام قد خف من بين أيدي الناس قبل أن يشبعوا؟ قال: ياأمير المؤمنين! رأيتك قد قدرت الزيت فقدرت الطعام، قال: فقال: وأنت لا تفرق بين الزيت يحترق في غير ذات وهذا طعام إذا فضل فضل منه وجدت له آكلاً، أبطحلوه فبطحوه فضربه سبع درر الخ، لكن الانصاف أن المنصور كان بخيلاً وهذا الفعل متكررمنه وهو المحاسبة على الدانق وأخباره بالبخل تتدفق كالسيل الجارف لا يحول دونه سد منيع وخروج الفرد والفردين لا يستلزم نقصاً.

(1) تاريخ بغداد 10/ 56.

(144)

                فإذا أستبان أن هذه القبيلة لا بخيل فيها سوى المنصور فالبقطع يكون العباس ابن أمير المؤمنين «عليهما السلام» من الأجواد وعلى أي قول أعتمدنا على قول القائل أن الأخلاق سجايا وغرائز أو على قول من يقول إنها مكتسبة وموروثة فيهما والكرم سجية وغريزة في قومه وسبيل ذلك واضح فإن سجايا بني هاشم الكرم وكونها مكتسبة وإنها تحصل بطول الصحبة والتمرين فتألف وتعتاد وتقوم العادة مقام الطبع فلا شك إنه  «عليه السلام» قد عاشر أكرم الخلق وأجودهم أباه عليا وأخويه الحسن والحسين «عليهم السلام» وإنما لم يشهر شهرة غيره بالكرم لعدم أنفصاله عن خدمتهم وخاصة خدمة أخيه الحسين «عليه السلام» حتى في حياة أبيه وأخيه الحسن «عليهما السلام» وأنه كان ملازماً له كالحاجب له كما سيجيء فخفي ذكر كرمه بكرم أخويه الحسن والحسين «عليهما السلام» والشمس تخفي أنوار الكواكب كما قال النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر:

لأنك شمس والملوك كواكب           إذا طلعت لم يبدو منهن كوكب

                وبعد هذا كله يدل على كرمه أمور:

                (1) إنه جاد بنفسه لأخيه الحسين «عليه السلام» وقد قال أبو تمام الطائي لممدوحه:

وجاد بالنفس إذ ضن الجواد بها        والجود بالنفس أقصى غاية الجود

                وكثيراً ما يجود الجواد بماله وإن كان خطيراً ويبخل بنفسه وقد قال اليافعي الشافعي في تفضيل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» على عثمان بن عفان ويذكر أن علياً «عليه السلام» جاد بالنفس وعثمان بالمال:

ليس الذي يبذل الأموال محتسباً        في نصرة الدين سمحاً فيه بالمال

كباذل نفسه لله محتسباً                           في كل هيجا لجند الكفر قتال

كل حميد ولكن ليس جود فتى           فالمال كالجود بالروح الزكي الغالي

                وقال بعض من رثى أصحاب الحسين «عليه السلام»:

جادوا بأنفسهم عن نفس سيدهم     وقد رأوا لبثهم من بعده عارا

                وحري بمن يرى اللبث بعد إمامه في الدنيا عاراً وشناراً أن يجود له بنفسه الغالية ويبذل له روحه العزيزة.

                (2) يدل على سخاء أبي الفضل بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» إيثاره للعطاشى من أهله على نفسه كما سنذكره في الإيثار حتى قضى عطشاً وقد مدحت

(145)

العرب كعب بن مامة الأيادي واثنت عليه الثناء العظيم لأنه آثر رفيقه بحصته من الماء حتى قضى عطشاً وجعلوه في أعلى مرتبة الجود.

                (3) قضاؤه الحاجات حياً وميتاً كما لقب بهذا السبب قاضي الحاجات وباب الحوائج؛ أما قضاؤه لها في حياته فالظاهر من حيث أنه كان منقطعاً لخدمة أخي الحسين «عليه السلام» ومن قصد الحسين «عليه السلام» فإنما يقصده أولاً لأنه الباب والحاجب فتقضى الحاجات علي يده وقد ظهرت في كربلاء منه آثار مشهورة بقضاء الحاجات مرت في السقاية.

                أما قضاؤه الحاجات بعد شهادته إلى اليوم فحدث ولا حرج وسيأتي في الجزء الثالث في فصل كرامات بعض الحكايات وقد مدحهه بعض الشعراء بالسخاء وقضاء الحاجات فقال:

للشوس عباس يريهم وجهه               والوفد ينظر باسماً محتاجها

باب الحوائج ما دعته مروعة              في حاجة إلا ويقضى حاجها

بأبي أبا الفضل الذي من فضله          السامي تعلمت الورى منهاجها

زج الثرى من عزمه فوق السما           حتى علت في تربة أبراجها

قطعت يداه وطالما من كفه                 ديم السماحة أمطرت ثجاجها

                ذكر هذه الأبيات صاحب معالي السبطين، وللمؤلف فيه أيضاً:

أبو الفضل ذو كرم باهر                      يحيي الوفود وزواره

بطلق المحيا كبدر السماء                     وقد حسد البدر أنواره

وما الغيث مثل ندا كفه                       على الجدب واصل أمطاره

فما الجود غير قضا حاجة                     فسل زائريه وسل جاره

إذا غبت عنه وفات العيان                   يبلغك الناس أخباره

بأن أبا الفضل أصل النجاح              وسائل عن الغيث آثاره

وإن رام أنكارها حاسد                       فقل قمر رمت إنكاره

فإن تنسى هذا أتنسى السماح              بمهجته للحسين وإيثاره

وذي غاية الجود عند الكرام               فدع عنك كعباً وأخباره

ونوه بشبل علي الفخار                        وردد مدى الدهر تذكاره

                وما لقب «عليه السلام» بأبي الفضل إلا لكونه ذا فضل ظاهر حسبما ذكرنا،

(146)

                ولذا قيل فيه:

أبا الفضل يا من أسس الفضل والإبا               أبا الفضل إلا أن تكون له أبا

علم العباس الأكبر «عليه السلام» وفقهه

                لا أحسب أن أحداً يشك أو يرتاب في علم العباس الأكبر «عليه السلام» وأنه من الفقهاء العظام والعلماء الأعلام، لا أرتاب في قولي إن جاحد ذلك مجازف مغامر بل متجاوز طور الأدب الديني معدوم الحياء.

                نعم أنا أقول بكل صراحة غير مشكك ولا مرتاب أنه لا أحد أعرف بحقائق الأديان ولا أعلم بنواميس الشريعة الإسلامية واحكام الدين المقدس من رجل ذهبت حياته في خدمة الأئمة سادات العلماء في أقطار الأرض ومرجعهم في سائر الفنون كأبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأخويه الحسن والحسين «عليهم السلام» حتى أنه «عليه السلام» لم يفارق تلك الأعتاب المقدسة لحظة واحدة ولم يبتعد عن تلك الأبواب المحترمة خطوة، فليله ونهاره ملازم لخدمتهم ملازمة الظل لذي الظل مع حرصهم على تثقيف الأباعد وتعليم الغرباء فكيف لا يثقفون الأقارب ولا يعلمون الأرحام، ومن المعلوم أن بالملازمة يحصل العلم سماعاً وتعليماً وقد قيل: ولد الفقيه نصف فقيه، والمشاؤون من الفلاسفة مشوا في ركاب أرسطو كما ان الرواقيين منهم لازموا رواقه فأمتاز الفريقان في فن الفلسفة وشهر الجمعان بالحكمة.

                فكيف لا يمتاز العباس الأكبر «عليه السلام» وهو خريج كلية الحقائق وتلميذ أساتذة الحق وجهابذة الملة وفطاحل علماء الشريعة المقدسة، ومن تخرج من تلك المدارس الروحانية العرفانية وجعل في الصف المقدم من صفوف تلك الكليات الراقية فبالحري أن يفوز بالنجاح وأن يحصل له الامتياز على من عدى أساتذته العظماء وأساتذة علماء الأمة قاطبة ومعلمي علماء الإسلام عامة الفنون.

                وقد أقام عمر بن الخطا، علي بن أبي طالب مقام الأستاذ وأقام نفسه مقام التلميذ وهو السلطان والخليفة ورجع إلى قوله رجوع أصاغر الطلاب إلى رأي المعلم الأكبر ورأس المدرسين وقد صرح مراراً عديدة في مقالات شتى تختلف لفظاً وتتفق معنى؛ فمرة يقول: لا عشت لزمان لا أراك فيه يا أبا الحسن، ومرة يقول: أطال الله بقاك، ومرة يقول: معظلة ولا أبو حسن لها، ومرة يقول: لولا علي لهلك عمر، ومرة يقول: لمن أنكر حكم علي «عليه السلام»: وقعت عليك

(147)

عين الله في حرم الله، ومرة يقول: أقضانا علي، هذه المقالات تكررت من الخليفة عمر بن الخطاب.

                كما شاع قول عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله (ص): العلماء ثلاثة: عالم بالشام وعالم بالعراق وعالم بالمدينة يعني نفسه وابا الرداء وعلياً «عليه السلام» وهو عالم المدينة:

                ثم يقول: وعالم الشام والعراق محتاجان إلى عالم المدينة وهو مستغن عنهما.

                وكما شاع قول عبد الله بن عباس حبر الأمة: علمي وعلم جميع أصحاب محمد (ص) في جنب علم علي «عليه السلام» كالقرارة في المثعنجر.

                والعباس الأكبر أبوه الأنزع البطين الذي قال فيه ابن الأثير في النهاية: الأنزع من الشرك، البطين من العلم، وقد قال فيه رسول الله (ص): أنا مدينة العلم وعلي بابها، وقال هو «عليه السلام» عن نفسه: هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله (ص) يعني صدره الشريف، علمني رسول الله (ص) ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب.

                وكيف لا ينخرط في سلك العلماء من هذا أبوه وأخوه الحسن والحسين «عليهما السلام» وإنهما أفاضا شؤبوباً واحداً من علومهما على أخيهما محمد الأكبر بن الحنفية فأصبح من جهابذة العلماء ولم يلازمهما ملازمة العباس وإن لازمها أكثر من غيره عدى العباس الشهيد فإنه أكثر منه ملازمة لهما وأعظم مواضبة فلا شك أنه الوحيد في الفقاهة والعلم.

                ولعل الجاهل يحقائق الأشياء يتطرقة التشكيك في أن العباس الأكبر «عليه السلام» لوكان فقيهاً عالماً لاشتهر بذلك شهرة أخيه محمد بن الحنفية وعد في صف علماء الهاشميين وهذه تخيلات وأوهام، لم يشتهر محمد بن الحنفية في حياة أبيه وأخويه الحسن والحسين «عليهم السلام»:

ومن ورد البحر استقل السواقيا

كلا ترد الناس السواقي والبحار طامية ولا تحتسي الأوشال والأنهار طافحة فلما جفت تلك الأنهار ونضبت تلك البحار وبقي الجدول جاريا ورده الوارد وأستقى منه الظمئآن؛ فمحمد الأكبر والعباس الأكبر في حياة أبيهما وأخويهما سواء في عدم الشهرة العلمية ولو بقي العباس الأكبر بقاء محمد بن الحنفية لرزق في العلم صيتاً ونال شهرة ولسارت بمعارفه الركبان لكن:

(148)

عجل الخسوف عليه قبل أوانه          فمحاه قبل مظنة الأبدار

                وقد كان أبو الفضل العباس «عليه السلام» معروفاً بالعلم فهذا الحافظ العسقلاني الشافعي يصرح في كتاب الإصابة فيمن روى عن أمير المؤمنين علي «عليه السلام» من أعلام الصحابة وأعيان التابعين ثم يقول: ومن بقية التابعين عدد كثير من أجلهم أولاده محمد بن عمر والعباس الخ، ومحمد هو ابن الحنفية وعمر هو الأطرف.

                على أن العباس «عليه السلام» قد صدرت منه أمور يوم الطف دلت على وفور علمه كنفضه الماء من يده تأسياً بالإمام الحسين «عليه السلام» وإيثاره له كما سنذكره في الإيثار والمواسات وهذه مسألة فقهية وهي أن الإيثار راجح شرعاً لورود الأدلة السمعية من الآيات والروايات وما دلت عليه الأدلة السمعية فهو راجح شرعاً فهذه من مسائل الفقه وما صدرت منه تلك الفعلة الحميدة على جهة الفطرة والبداهة بل على جهة الاختيار للمحبوب المطلوب شرعاً.

                وكقوله «عليه السلام» في خطاباته الموجهة تجاه أخيه الحسين «عليه السلام» كما يجيء في آدابه نحو قوله: «سيدي يابن رسول الله (ص)، ولم يخاطبه بأخي لعلمه أن مرتبة الإمامة فوق كل مرتبة ومهما كان الأخ فلا ينبغي أن ينزل نفسه للإمام إلا منزلة العبد فيخاطبه خطاب المملوك للمولى بسيدي،  والمخاطبة بالأخوة دليل المكافأة ولا يكافئ الإمامة شيء كالنبوة وهذا من الفقه في الدين والأدب الراقي وتفخيم ذي الشأن مستحب شرعاً ومطلوب عقلاً.

                قال أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين(1): قال معاوية: إني لأحب أن ألقى رجلاً قد أتت عليه سن وقد رأى الناس يخبرنا عما رأى، فقال بعض جلسائه: ذاك رجل بحضر موت، فأرسل إليه فأتي به، فقال له: ما أسمك؟ قال: آمد، قال: أبن من؟ قال: أبن أبد، فقال: ما أتى عليك من السن؟ قال: 360 سنة، قال: كذبت ثم تشاغل عنه ثم أقبل عليه فقال: ما أسمك؟ قال: آمد، قال: ابن من؟ قال: ابن آبد، قال: كم أتى عليك من السن؟ قال: 360 سنة، قال: فأخبرنا عما رأيت من الأزمان أين زماننا هذا من ذاك؟ فقال: كيف تسأل من تكذب؟! قال: ما كذبتك ولكن أحببت أن إعلم كيف عقلك.

                قال: يوم شبيه بيوم، وليلة شبيهة بليلة، يموت ميت ويولد مولود فلولا من

(1) كتاب المعمرين: ص79.

(149)

يموت لم تسعهم الأرض، ولولا من يولد لم يبق أحد على وجه الأرض.

                قال: فأخبرني هل رأيت هاشماً؟

                قال: نعم رأيته طوالاً حسن الوجه يقال إن في عينيه برلة أو غرة بركة.

                قال: فهل رأيت أمية؟

                قال: نعم رأيته رجلاً قصيراً أعمى يقال إن في وجهه لشراً أو شؤماً.

                قال: فهل رأيت محمداً؟

                قال: ومن محمد؟ قال: رسول الله.

                قال: ويحك هلا فخمت كما فخمه الله فقلت رسول الله، الخ.

                وليس أبو الفضل «عليه السلام» ممن يجهل واجب تفخيم الإمام عقلاً وأحترامه تديناً. للمؤلف:

ألا إن عباس بن حيدر عالم بواجب دين الله والراجح الشرعي

يعظم أرباب الإمامة موفياً                  لهم حقهم في الأصل للحق والفرع

                وكقوله «عليه السلام» لأخوته الأشقاء الذين هم من أمه أم البنين: تقدموا يابني أمي لأحتسبكم فإنه لا ولد لكم، وهذا القول منه «عليه السلام» مشهور رواه عامة أرباب المقاتل واختلفوا في ظبط العبارة، فالطبري المؤرخ هذا لفظه في تاريخه(1) قال: وزعموا أن العباس بن علي قال لإخوته من أبيه وأمه عبد الله وجعفر وعثمان: يابني أمي! تقدموا حتى أرثكم فأنه لا ولد لكم ففعلوا فقتلوا إلخ.

                وهذا في ظني تصحيف والأصل حتى أراكم فصفحه الراوي بإرثكم.

                وأما أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري فلفظه في الأخبار الطوال(2): ولما رأى ذلك العباس قال لإخوته عبد الله وجعفر وعثمان بني علي «عليه وعليهم السلام» وأمهم جميعاً أم البنين العامرية الوحيدية: تقدموا بنفسي أنتم فحاموا عن سيدكم حتى تموتوا دونه فتقدموا جميعاً فضاربوا أمام الحسين «عليه السلام» بوجوههم ونحورهم إلخ.

                وأما أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني فلفظه في مقاتل الطالبيين عن الضحاك المشرقي قال: قال العباس ابن علي لأخيه من أبيه وأمه عبد الله بن علي: تقدم بين يدي حتى أراك واحتسبك فإنه لا ولد لك فتقدم بين يديه الخ، ومثله ذكر في أخويه عثمان وجعفر.

(1) تاريخ الطبري 6/ 257.                            (2) الأخبار الطوال: ص254.

(150)

                وأما الشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان فلفظه في كتاب الإرشاد: فلما رآى العباس بن علي «عليهما السلام» كثرة القتلى في أهله قال لإخوته من أمه وهم عبد لله وجعفر وعثمان: يابني أمي! تقدموا أمامي حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله فإنه لا ولد لكم الخ، وهذا بعينه لفظ الشيخ المحقق جعفر بن نما الحلي في مثير الأحزان.

                وينتج من جميع هذه الأقوال ثلاثة أمور كلها تدل على فقاهته وعلمه:

                الأول: قوله «تقدموا لأراكم قد نصحتم لله ولرسوله» الخ، جهة الفقاهة في  هذا إنه «عليه السلام» قد علم أن أفضل الجهاد ماكان بالنفس والنفيس، أما نفسه فعازم على بذلها لأخيه الحسين «عليه السلام» وهو واثق بذلك من نفسه، وأما النفيس وليس لديه هناك أنفس من إخوته الأشقاء فأحب أن يقدمه ويكون قد بذل في الجهاد نفسه ونفسيه ولا شك بتضاعف الأجر على ذلك وحسبك بقصة الخنساء وحثها أولادها الأربعة على الجهاد يوم القادسية فقتلوا جميعاً، وأطلب قصتهم من التاريخ وأرجازهم تشهد لما نقول، ويتفرع على مسألة تقديم العباس «عليه السلام» لإخوته من الفروع الفقهية ما خفي على كثير من مهرة الفن وأساتذة الصنعة مثل مسألة الشكر على النعمة.

                والعباس «عليه السلام» يرى من أتم نعم الله عليه وأفضلها عنده الشهادة في سبيله ومن إتمامها أن يرزقها الله تعالى لأخوته الذين هم أعز ما لديه من حاضري إخوته بعد الحسين «عليه السلام» فإذا تفضل الله عليهم بالشهادة ورزقهم إياها فقد أسعدهم وأنالهم كرامته فوجب عليه الشكر الذي يجب عقلاً وشرعاً عند تجدد كل نعمة إذ شكر المنعم واجب بالإدلة العقلية والنقلية.

                الثاني: الاحتساب فقوله «عليه السلام» «تقدموا لأحتسبكم» وفي هذا الاحتساب يتضاعف الأجر لعلمه أنه إذا توالت الفوادح وتواترت المصائب وصبر عليها الصابر محتسباً فقد تضاعف أجره عند الله ولا إشكال أنه إذا شاهد مصارع إخوته الأشقاء واحداً بعد واحد فقد تضاعف له العناء والأسف ولو أنهم قتلوا قتلة واحدة كان لها حكم المصيبة الواحدة ولكن المصائب تتعدد بقتل الواحدة تلوا الواحد فتتضاعف لذلك الأحزان، ومن فروع هذه المسألة الفقهية مسألة الصبر فإن الذي يبتلى بفقد الأعزاء وأنفس الأشياء وأغلاها عنده ثم يصبر ويحتسب يكون له الأجر المضاعف ويجزيه الله تعالى أفضل جزاء الصابرين وقد حصل لأبي الفضل العباس «عليه السلام» في هذه القتلة ثلاثة أشياء توجب الكرامة ومزيد الحباء عند

(151)

الله تعالى: الشهادة والشكر والصبر، وهذا من عجيب الفقه الذي يتحراه الفقيه العليم في مثل ذلك الموقف الحرج والمقام الصعب ذي الأهوال والتهاويل الذي طارت منه الأذهان وأندهشت فيه الفكر وحارت الألباب.

                الثالث: المسألة الفرضية الميراثية وهي المشهورة عند الفقهاء وهذه مسألة فقهية مقترنة بفكر ثاقب يجري مجرى الإعجاز في التكهن بالحوادث المستقبلية وذلك أن فقه هذه المسألة على مذهب أهل البيت «عليهم السلام» والعباس «عليه السلام» منهم أن الأم هي الوارثة لبنيها المفقودين ولأخر منها أو من غيرها محجوب عن الميراث بها ولا يرثون مع الام إلا بشروط أعتبرها الفقهاء وإن فقدت الأم فأبن الأخ الشقيق يحجب الأخ لأحد الأبوين هذا مذهب العباس وأهل بيته، فهو «عليه السلام» يعرفه ويعلمه وعند القضاة من أهل السنة أهل التعصيب أن الأخ يحجب الأم هكذا كانت الحال في الدور الأموي طيلة حكومتها الجائرة فنظر العباس «عليه السلام» وأصاب بفكرته الثاقبة أن الأمر في ميراث إخوته إن قتلوا بعده سينزع من يد أمه قهراً ولا ينظر إلى مذهب أهل البيت «عليهم السلام» وإنما يؤخذ بفتوى قضاة العامة فرأى من الحزم أن يقدم إخوته أمامه فيقتلوا فإذا قتلوا ورثهم هو لأنه الأكبر وأولى من عمر الأطرف لتقربه إليهم بالأبوين فإذا حاز ميراثهم حياً ورثه ابنه عبيد الله بعد قتله فتضعف حجة المخاصم لابنه عبد الله حتى على مذهب فقهاء السنة.

                وقد وقع الأمر على مقتضى حدس العباس «عليه السلام» فإن عمر الأطرف نازع عبيد الله ابن العباس إلى قضاة العامة وأعانته السلطة الاموية الجبارة ثم صولح على شيء يسير رضا به وهذا جور في الحقيقة وتحامل لم يعضده مذهب من جميع فرق المسلمين؛ أما على مذهب أهل البيت «عليهم السلام» فواضح أن الميراث لأم البنين، وعلى مذهب السنة أيضاً لا يجوز أن يعطى لعمر الأطرف شيء ومحمد بن الحنفية أكبر منه وهو حي وعبيد الله بن النهشلية حي أيضاً ونسبتهما إلى ولد علي «عليه السلام» كنسبة عمر الأطرف ولكن تلك العصور مات فيها الحق والعدل واحيي الجور والعدوان وقد عرفت صحة فراسة العباس «عليه السلام» في النزاع على ميراث الأخوة الشهداء.

                وقد رأى بعض من يدعي الفقاهة وهو بعيد عنها كذب القضية لأنه يزعم أن قدر العباس الأكبر «عليه السلام» أجل من أن يلحظ أمر الدنيا فيطلب من إخوته الميراث وأنكر أن يكون قال ذلك وقال: إنما قال: أحتسبكم فقط وغفل في ذلك

(152)

غفلة عظيمة من حيث ظن أن كلما تعلق بأمور الدنيا بعيد عن طلبه الصلحاء الأخيار وأهل الفضل من الأتقياء البررة فليس لهم غرض بكل شئونها ومطالبها.

                ولم يدري المغفل أن بعض الأمور الدنيوية هي أمور أخروية لأن بر الصلحاء وأهل الفضل والديانة من أفضل الطاعات وأجل القربات وهي إنما تقع بالأموال فتكون المسألة دنيوية دينية، ألم يدري هذا المغفل أن رسول الله (ص) وهو سيد الأتقياء وقدوة الصلحاء ومن لا تسوى عنده الدنيا ذرة من الذر كيف أهتم في أمر فدك وبقية أملاكه في وادي القرى وغيره حتى جعلها طعمة لأبنته فاطمة الزهراء «عليها السلام» ولم يترك ذلك سائراً على ما يقتضيه حق الوراثة الشرعية لعلمه (ص) أنها ستدفع عن الميراث وتمنع منه فأحتاط لها بإعطائه ذلك نحلة وجعله لها طعمة لكي تنقطع عنه أطماع الطامعين ويتوفر على أبنته الكريمة حقها ولا تكون عالة على أحد من الناس ومع ذلك فقد حدث ما حدث.

                وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» أزهد أهل الدنيا قاطبة بعد رسول الله (ص) وأبعدهم من حطام الدنيا وهو الذي كان يكنس بيوت الأموال ويصلي فيها ويختم على جراب قوته لئلا ينخل وقد أنتهت إليه عامة طرق الزهاد وأخباره متواترة في العزوف عن الدنيا حتى طلقها ثلاثاً وقد أهتم في أمر البغيبغة وعين أبي نيزر حتى جعلهما وقفا لنوائب الحسن والحسين «عليهما السلام» دون سائر بنيه هذه سنة الصلحاء وسيرة النقباء.

                فأبو الفضل العباس «عليه السلام» أعلم من هذا الغبي المتمحل والمغفل المتكلف لما لا يعلم فإنه «عليه السلام» قد سار سيرتهما وأقتفى أثرهما فأهتم بأمر ولده الطفل وأحتاط في مدافعة خصمه وهو عمه الشحيح الطامع بغير حق حتى أنه ترك مذهب ابيه أمير المؤمنين «عليه السلام» فسعى في حرمان ورثة أخيه الطفل الصغير والمرأة الضعيفة التي بقيت بلا كاسب أعتداء منه عليهما وبغيا بعلة أنه الابن وإنه العم ويتعصب له الأمويون أهل الجور والعدوان في حرمان ذرية من حاربهم وقام بالسيف عليهم حتى تصبح ورثة العباس «عليه السلام» عالة يتكففون.

                فاحتاط العباس «عليه السلام» لهم بهذا ولولا ما فعله «عليه السلام» ما قبل عمر بن علي المصالحة على اليسير ويترك ما تشبث به في الحكم الجائر وليس هذا مما ينافي الإخلاص أو يخل بالتقوى والورع حتى لا ينبغي أن ينسب إليه فقد كان الزهاد والأتقياء يعلمون في مصالح صالحي الورثة بأن يوصوا لهم بحصة معينة من أموالهم لتقويتهم على طاعة الله تعالى فنعم العون على طاعة الله المال وقد عرفت

(153)

 ما صنعه أمير المؤمنين «عليه السلام» في تخصيص الحسن والحسين «عليهما السلام» وقد نقلها علماء الفريقين الشيعة والسنة ولولا الإطالة لأوردناها ولعل الكثير من القراء له إلمام بها وأطلاع.

                وإذا كانت هذه سيرة رسول الله (ص) وسيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» وبقية الأتقياء وأرباب الديانة فأي غضاضة في هذا الأمر الذي أراده العباس «عليه السلام» والحق يشهد أنه «عليه السلام» قصد السنن الثلاثة المؤكدة في الشريعة الاسلامية وهي الشكر والصبر وصلة الأرحام لقوله تعالى: (يوصيكم الله في أولدكم للذكر مثل حظ الأنثيين)(1) وقد جاء في المثل ولد الفقيه نصف فقيه، وأنا أقول: الفقه كله مجتمع عنده ومسنوب إليه لأنه ابن أعلم الناس وأخواه هما أعلم الناس وأفقههم.

                للمؤلف فيه:

جئني بمثل أبيه كنز علومها                هيهات يوجد أو فتى كأخيه

إن الفتى كأبيه في أخلاقه                     قد قيل إن الأبن سر أبيه

                فهذا علم العباس «عليه السلام» بالعلوم النقلية ويأتي بعضها في فصاحته.

علم العباس «عليه السلام» بالعرفانيات:

                أما علمه بعلم المعقول فله يد في العرفانيات وقد دلنا منظومة على مقدرته العرفانية ومنزلته في علم المعقول وقد تحقق لدينا أن مرتبته في هذا الفن هي المرتبة الراقية والمنزلة السامية وذلك حيث يقول:

فليس هذا من فعال ديني    ولا فعال صادق اليقين

                وهذا القول منه يدل دلالة قوية على كونه من علماء الفلسفة الماهرين وأساطين الحكمة القديرين لأن مراتب المعرفة بوجود الحق باري الخلق والسلوك إلى رب الارباب له خمسة مراتب مترتبة طولاً حسبما رتبها سيد المتألهين وإمام الحكماء الموحدين أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» وهي:

  • اليقين.
  • علم اليقين.
  • عين اليقين.
  • حق اليقين وهو صدق اليقين.

(1) النساء: 11.

(154)

                (5) الوصول، وهذه المرتبة الخامسة كما سنذكر قوله «عليه السلام» لا يصل إليها خلق سوى محمد (ص) وأهل العزم وأوصياء محمد (ص) فقد تكون لبعض العارفين الرتبة الأولى وهي اليقين ثم لا يتجاوزها، وقد تحصل لبعضهم الرتبة الثانية وهي علم اليقين ثم لا يعدوها، وقد تحصل لبعضهم الرتبة الثالثة وهي عين اليقين، وقد تتكامل في بعضهم المعرفة فيصل إلى الدرجة الرابعة، وهي حق اليقين أو صدق اليقين وهذا قليل، والأوحدي الماهر من وصلها وقد أنتهت معرفة أبي الفضل العباس «عليه السلام» لصفاء نفسه وإضاءة أنوار عقله إليها، ومن جهة تحصيله العلمي من وجهتي النظر والتفكير وتقليداً لأئمة الهدى الذين لهم كمال المعرفة والعلم بما وراء الحقيقة كأنهم قد عاينوا معاينة وشاهدوا مشاهدة.

                وأولئك هم أبوه سيد العارفين بعد رسول الله (ص) وأخواه الحسن والحسين «عليهما السلام»، وحق اليقين هو صدق اليقين فإن من لم يصب حق اليقين فليس بصادق اليقين فمن صفت نفسه الشفافة وأستضاء بأنوار عقله الهادي المدرك للمحجباة وأستند في إشاراته إلى مكاشفات المكاشفين من أئمة الدين الذين عصموا من الزلل وأختصوا بوحي الله تعالى وإيحائه ومنحهم خاصة فضيلة الإلهام وفطرهم على إصابة الحقائق لما ركب فيهم من قوة الحدس فلا شك في وصول تابعهم والمقتدي لهم إلى درجة صدق اليقين.

توضيح درجات اليقين

                وحيث أن هذه الدرجات الخمسة مغلقة على غير الأفذاذ من العلماء والنوادر من الحكماء لزمنا إيراد شرحها على اختصار لتشترك عامة طبقات القراء في معرفتها.

                قال العلامة الحلي «رحمة الله عليه» في رسالة شرح فيها كلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» الخمس العجيبة ونصه في الرسالة المطبوعة ملحقة بالرضاعيات(1): إعلم أن لليقين مراتب:

                أولاً: اليقين المجرد بواسطة التقليد المحض والتصديق بقول النبي (ص) بحيث لا يدخل الشك والوهم والظن فيه.

                ثانياً: اليقين الذي حصل بعد التقليد بواسطة العلم من جهة البرهان العقلي.

(1) رسالة العلامة الحلي في شرح كلمات أمير المؤمنين عليه السلام الملحقة بالرضاعيات: ص163.

(155)

                ثالثاً: اليقين الذي حصل بواسطة المشاهدة.

                رابعاً: اليقين الذي يحصل بواسطة القرب.

                خامساً: اليقين الذي حصل بواسطة الوصول وهذه اليقينيات الثلاثة حاصلة للسالكين دون غيرهم وأنا أضرب لك مثلاً تتفطن به مراتب اليقين وهو أن دهقاناً عارفاً بأسرار الدهقنة إذ أخبر أحداً لم ير في عمره الشجرة والثمرة بأن وضع في موضع كذا شجرة يخرج منها زهر يحول ثمرة إذا أكلتها وجدت ذوقها فيسأل المخبر إلى ذلك الموضع وشاهد الشجرة ثم الثمرة ثم أكل من الثمرة ووجد ضوقها وحصل له كمال اليقين بأن الدهقان كان صادق القول إلخ.

                ثم شرع ( رحمه الله) بعد كلام في ذكر الكلمات الخمسة وشرحها فقال(1): أما بعد، فقد التمس مني أخ في الدين أن أكتب رسالة موجزة في شرح كلام سيد الوصيين وإمام العارفين علي بن أبي طالب «عليه السلام» حين سأله كميل بن زياد النخعي (قدس سره) عن الحقيقة، فقال صلوات الله عليه: مالك والحقيقة؟

                قال كميل: أولست صاحب سرك؟

                قال: بلى ولكن يرش عليك ما يطفح مني.

                فقال كميل: أو مثلك يخيب سائلاً؟

                فقال «عليه السلام»: محو الموهوم مع صحو المعلوم.

                قال: زدني.

                فقال «عليه السلام»: جذب الأحدية بصفة التوحيد.

                فقال: زدني بياناً.

                قال «عليه السلام»: نور يشرق من صبح الأزل فيلوح على هياكل التوحيد آثاره.

                قال: زدني.

(1) رسالة العلامة الحلي في شرح كلمات أمير المؤمنين عليه السلام الملحقة بالرضاعيات: ص165.

(156)