موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

 

ثم قال: أما أرسطاطاليس فقد بين في كتاب الأخلاق وفي كتاب المقولات أيضاً أن الشرير قد ينتقل بالتأديب إلى الخير ولكن ليس على الإطلاق لأن يرى أن تكرير المواعظ والتأديب وأخذ الناس بالسياسات الجيدة الفاضلة لا بد أن يؤثر ضروب التأديب في ضروب الناس فمنهم من يقبل التأديب ويتحرك إلى الفضيلة بسرعة، ومنهم من يقبله ويتحرك إلى الفضيلة بإبطاء ونحن نؤلف من ذلك قياساً وهو هذا: كل خلق يمكن تغيره ولا شيء مما يمكن تغيره هو بالطبع فإذاً لا خلق ولا واحد منه بالطبع، والمقدمتان صحيحتان والقياس منتج في الضرب الثاني من الشكل الأول.

                اما تصحيح المقدمة الأولى وهي كل خلق يمكن تغيره فقدر تكلمنا عليه وأوضحناه وهو بين من الصبيان ومما أستدللنا به من وجوب التأديب ونفعه وتأثيره في الأحداث والصبيان ومن الشرائع الصاقة التي هي سياسة الله لخلقة.

                وأما تصحيح المقدمة الثانية وهي لاشيء مما هو بالطبع أبداً فإن أحداً لا يروم أن يغير حركة النار التي إلى الأسفل ولو رامه لما صح له شيء من هذا ولا ما يجري مجراه أعني الأمور التي هي بالطبع فقد صحت المقدمتان وصح التأليف في الشكل الأول وهو الضرب الثاني وصار برهاناً إلخ.      

                وسنذكر جملة من كلامه فيما يأتي وسيتضح أن مدعاه غير تام وإنا نذهب إلى وجود أخلاق طبيعية للنفس وإنها تقهر بالرياضة وتغلب بالسياسة حتى تكون في أقصى درجة من الضعف لا تكاد تذكر، وتغيير ما بالطباع سهل بالمعالجة فالحديد الذي طبعه الرسوب في الماء قد وجدناه يقبل المعالجة حتى يصير طافياً على وجه الماء كما يأتي مع شواهد كثيرة.

                قال شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي الربيع في كتابه الذي ألفه للخليفة المعتصم العباسي وسماه «سلوك المالك في تدبير الممالك» ونصه(1): الخلق حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية وينقسم هذا إلى قسمين وهما ما يكون طبيعياً من أصل الخلقة كمن يحركه أدنى شيء نحو الغضب، وكمن يجبن من أيسر شيء وكالذي يفزع من أدنى شيء، وما يكون مستفاداً بالعادة ومبدأ ذلك بالفكر والروية ثم يستمر عليه أولاً فأولاً حتى يصير عادة وملكة يقارب الطبيعي إلخ.

(1) سلوك المالك في تدبير الممالك: ص16.

(127)

                وقد مضت مقالته في نسب العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام».

                قال صاحب مجلة الحقائق وهو أبو النصر يحيى السلاوي(1): الأخلاق والسجايا الخليقة من جهة تطلق على الطبيعة والسجية كما في قول القائل – هو زهير بن أبي سلمى -:

ومهما تكن عند أمرء من خليقة          وإن خالها تخفى على الناس تعلم

                يجمع على خلائق كقول لبيد:

فاقنع بما قسم المليك فإنما                    قسم الخلائق بيننا علامها

                فيقال: نعم الخليقة العفة ورجل خليق بالمجد أي مخلوق له ومفطور عليه، ومن جهة على الخلق بمعنى المخلوقات كما في قوله تعالى: (هذا خلق الله)(2) أي مخلوقه ويجمع أيضاً على خلائق خلاف قولك «خلقت الأديم» إذا هيأته للتفصيل وقدرته قبل القطع، ومنه قول الحجاج: ما خلقت إلا فريت، وما وعدت إلا وفيت، وكلا هذين المعنيين ليس مراداً عندنا وإنما المراد جهة الخلق الملحوظ فيه التخلق بمعنى التطبع.

                ثم قال بعد كلام: الأخلاق السببية من حيث إمكان تمرين النفوس عليها حسنة كانت أو سيئة كما يدل عليه ما ورد في الآثار الصحيحة من حديث «تخلقوا بأخلاق الله» لأن صريح الأمر يستلزم كون ألمأمور به مقدوراً عليه ولا لزم عليه ما لا يخفى من الحرج والمشقة ولا يقال ربما كان ذلك من باب الأخذ بالاحتياط في العمل مقدوراً كان أو غير مقدور رجاء أن يصادف ساعة أزلية تستميل النفس إليه وتمرنها عليه لأنا نقول هذا هو عين ما أردناه من كون المأمور به مقدوراً أن تكون الفطرة الطبيعية مخلوقة لله بصفة راسخة ثابتة في النفس غير قابلة للتحول والأنتقال إلا بأمر مسلم لا نزاع فيه ويكون الأخذ في الأسباب مزاولة بالرياضات اللائقة مقدوراً للعبد من حيث مباشرته للعمل مسلم أيضاً، وأما كون ذلك العمل مقروناً بالنتيجة فلا شبهة لأحد في أنه متوقف على مصادفة العناية وإلا لكان كل أحد قادراً بالذات على تحويل فطرته كيف شاء إلخ.

                ولم تحصل لهذا الأديب المعرفة بالفرق بين الأخلاق الغريزية والأخلاق الكسبية وإن قبول النفس للتأديب والرياضة – كما سنذكر – مما يوجب إزالة ما في النفس ومحوه بتاتاً أو يوجب قهره وغلبته كالماء الذي من طبيعته البرودة فإن

(1) مجلة الحقائق: ص13.                                 (2) لقمان: 11.

(128)

مماسته للنار أو مجاورته لها أو إبرازه للشمس والحرارة الموجبة لتسخينه وتغيير صفته قد أستقوت على طبيعته الباردة وقهرتها وغلبتها حتى حولتها من صفة البرودة إلى صفة الحرارة والطبيعة غير زائلة بالكلية بحيث لو زال هذا القاهر لعادت إلى أصلها.

                وأما الأخلاق المكتسبة من مجاري العادات فإنها تزول بالكلية كما تزول النقوش والأصباغ العارضة للأجسام وقد ذكر في «سلوك المالك» في الفرق بين السجايا والأخلاق ما لفظه(1): اختلف العلماء في الفرق بين السجايا والأخلاق فذهب قوم إلى أن السجايا مالم تظهره الطباع والأخلاق ما أظهرته، وسميت الأخلاق أخلاقاً لأنها تصير كالخلقة والشيم كالسجايا والغرائز ممتزج بالطبع، والنحايز ما ظهر بالقوة. وذهب قوم إلى أن السجايا مالم يتغير بطبع ولا تطبع والأخلاق ما يتغير بهما، وزعم أكثر أهل الطب أن السجايا والأخلاق تابعة لمزاج البدن فتكون مستقيمة بصحته ومتغيرة بفساده، وذهب المتدينون إلى أن الله تعالى ركب في النفوس بحسب إرادته وجعل أختلاف الأخلاق كأختلاف الصور التي ليست لها علة غير إرادته إلخ.

الألف والعادة خلق مكتسب

                قال في مجلة الحقائق(2): المألوفات والعوائد: الألف والعادة شيئان معلومان في اللغة والاصطلاح في بعض الأحوال دون بعض وذلك لأن الألف قد يطلق على السجية الراسخة في النفس بمعنى الميل الطبيعي التي هي مفطورة عليه كقولك: ألفت النفوس الخير والفت الشر، ويؤيده دليل جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، ويشترك فيه حينئذ الإنسان وغيره لما هو مشاهد من تأثير حب الراحة والإحسان في النفوس لسائر الحيوان، وتارة على ما يؤلف بالطبع والعادة فيكون بمعنى الميل الذي يحصل بواسطة البواعث النفسية المجردة عن القياس والحصر أو بعض الأسباب المتنوعة كقولك ألفت المكان إذا طاب لك فيه المقام لمصلحة أو حكمة، وألفت الوطن إذا غلب على نفسك حبه لمجرد ميل الفطرة الطبيعية إلى ترجيح مسقط الرأس في الغالب، وألفت الإبل المرعى إذا أعتادت الرتوع فيه لخصب أو ضرورة، وتتفاوت الأميال بقدر تفاوت أنسابها في الضعف

(1) سلوك المالك في تدبير الممالك: ص33.

(2) مجلة الحقائق: ص14.

(129)

والقوة لأنها في الإنسان أشد منها في بقية أنواع الحيوان وذلك لأستجماعه القوى النفسية وأستعداد طبيعته الملكات أكثر من غيره كما يدل عليه قوله تعالى: ( لقد خلقنا الإنسن في أحسن تقويم)(1) إذ لا يخفى أن أحسن التقويم في الآية الشريفة هو عبارة عن التمهيد والتعديل المعنوي المفطورة عليه النفوس البشرية من نحو أختصاصها بالحافظة والمفكرة والمدبرة وغيرها من الأمور المستعدة للقيام بالوظائف النفسية تحت رياسة العقل المتصرف لأنك لو نظرت إليها من حيث القوى والاستعدادات الحسية لرأيتها أفقر أنواع الحيوان لما تستعين به على تحصيل المانع ودفع المكاره.

                إذا علمت هذا ظهر لك جلياً أن الألف منه ما هو جوهري الرسوخ في النفوس لا يقبل الانفكاك عنها ومنها ما هو عرضي يتمكن منها بالمزاولة تارة ويزول أخرى؛ أما الأول فهو الذي لا دخل للعادة فيه كما قدمنا، وأما الثاني فقد يشمل العادة كقوله تعالى: (لايلف قريش (1) إءلفهم رحلة لشتاء والصيف)(2) أي لاعتيادهم ذلك وقد لا يشملها كقولهم هذا ألف فلان أي محبوبه، وبما أن القسم الشامل للعوائد مما يترتب عليه كثير من المنافع والمضار فقد رأينا أن نبحث عن أسبابه وموانعه ونشير إلى بعض مضاره ومنافعه إلخ.

الميل والانجذاب الطبيعيان:

                إن للنفوس ميلاً وانجذاباً طبيعين ونفرة وتمرداً غريزيين؛ أما الميل والانجذاب فإلى الأمور الشهوانية وميلها هذا طبيعي وأنجذابها جبلي فيما أنها مزجت بقوة سبعية تنجذب بجبلتها وتنقاد بأميالها إلى قتل النفوس وإزهاق الأرواح البشرية وأستلاب أموال المتمولين بأنواع العدوان من النهب والسرقة والتغريم وما أشبهه وبما أنها مزجت بقوة شيطانية لها ميول جذابة وأنقياد شديد إلى استعمال الحيل والمكائد والخداع وما شاكل ذلك، وبما أنها مزجت بقوة بهيمية تميل بطبعها وتنجذب بسجيتها إلى عامة الملاذ الشهوانية من المطعومات والمناكح وسائر الملاذ الدنيوية.

                وأما نفرتها وامتناعها فعن قبول صالح الأعمال ومكارم الأخلاق وسائر الطاعات والمقربات غير أن النفوس الروحانية الخالصة المصفاة عن هذه الشوائب المكدرة فإنها غير منجذبة ولا ميالة إلى هذه الأدناس المستهدنة في باب الصلاح

(1) التين: 4.                                        (2) قريش: 1و2.

(130)

والتقوى بل ميلها وأنجذابها للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة كنفوس الأنبياء والصلحاء البررة من أئمة أهل البيت الهداة ولباقي النفوس المتلوثة بهذه القوى المتلبسة بحل الأمور الهجينة التي تجذبها إليها القوى الثلاثة التي أشار إليها بقوله تعالى: (ونهى النفس عن الهوى)(1) وقوله «عليه السلام»:إن خوف ما أخاف عليكم بعدي أتباع الهوى، وقوله «عليه السلام»: ثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه.

                قال الشاعر العرب:

وإنك مهما تعطي بطنك سؤله            وفرجك نالا غاية الذم أجمعا

                وسماها الله تعالى مرة لوامة لأنها تلوم على أفعال الخير، وسماها مرة أخرى أمارة بالسوء لأنها تأمر بأقتراف الموبقات من الجرائم.

                فإذا لامتك أيها الإنسان نفسك اللوامة على فعل الصالحات فوبخها، وإن آمرتك النفس الأمارة بفعل القبيح فأعصها ولا تطعها وقصر من عنانها، وإذا جمحت بك  إلى الشهوات فأقبض على لجامها، وإذا طمحت لنيل المستلذات فأزجرها ولا تدعها وجماحها فإنها ربما أردتك في متردى عميق ورمت بكل في فج سحيق.

                وسسها كما تساس صعاب الخيل، وروضها كما تراض الجامحات فإنها بالرياضة تسلس وتنقاد، ولا تقل أيها الأريب إن ما بالطبع لا يزول، ولا تنشد ما قيل:

فضح التطبع شيمة المطبوع

                فقد أوقفنا الوجدان ودلنا العيان على قبول النفوس للرياضة والتأديب وأثر ذلك بين حتى في الحيوانات البكم ونحن نورد لك نبذة مما قاله العلماء في رياضة النفس وقبولها الأخلاق الحميدة على ما صرح به الحديث النبوي وقد رجع (ص) من بعض غزواته: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس في حملها على التقوى ثم نذكر لك ما راضت به الأمم الحرة والشعوب المتمدنة الحيوانات الصماء ومرنتها أبدع التمارين فقبلتها وأعتادتها.

حقيقة الرياضة والمجاهدة

                قال الشريف الجرجاني في كتاب التعريفات(2): الرياضة عبارة عن تهذيب

(1) النازعات: 40.                                                             (2) التعريفات: ص78.

(131)

الأخلاق النفسية فإن تهذيبها تمحيصها عن خلطات الطبع ونزعاته.

                وفي مصطلحات الصوفية للفتوحات المكية(1): الرياضة رياضة أدب وهو الخروج عن طبع النفس ورياضة طلب وهو صحبة المراد لله وبالجملة هي عبارة عن تهذيب الأخلاق النفسية.

                وفي التعريفات(2): المجاهدة في اللغة المحاربة في الشرع محاربة النفس الإمارة بالسوء بتحميلها على ما يشق عليها بما هو مطلوب في الشرع.

                وفي مصطلحات الصوفية(3): المجاهدة حمل النفس على المشاق البدنية ومخالفة الهوى على كل حال.

                وقال الفيروزآبادي في القاموس: راض الفرس ذلـله.

                وقال فخر الدين الطريحي (رحمه الله) في مجمع البحرين(4): في حديث علي «عليه السلام» لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً وتقنع بالملح مأدوماً، قيل: أراد بالرياضة هنا منع النفس الحيوانية عن مطاوعة الشهوة والغضب وما يتعلق بهما ومنع النفس الناطقة عن متابعة القوى الحيوانية من رذائل الأخلاق والأعمال كالحرص على جمع المال وأقتناء الجاه وتوابعهما من الحيلة والمكر والخديعة والغلبة والغضب والحقد والحسد والفجور والانهماك في الشرور وغيرها، وجعل طاعة النفس للعقل العملي ملكة لها على وجه يوصلها إلى كمالها الممكن لها وإزالة الموانع الدنيوية عن خاطره والمعين على ذلك أضعاف القوى الشهوانية والغضبية بأضعاف حواسة بتقليل الأغذية والتنوق فيها فأن لذلك أثراً عظيمماً في حصول الكمال والتشاغل بحضرة ذي الجلال.

                ويمكن أن يقال: إن المراد بالرياضة منع النفس عن المطلوب من الحركات المضطربة وجعلها بحيث تصير طاعتها لمولاها ملكة لها.

                وقوله «عليه السلام» «إنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر» قال بعض الشارحين: قوله «إنما هي نفسي» أي إنما همتي وحاجتي أروضها رياضة النفس مأخوذة من رياضة البهيمة وهي منعها عن الإقدام على حركات غير صالحة لصاحبها فالقوة الحيوانية التي هي مبدأ الإدراكات والأفعال

(1) مصطلحات الصوفية للفتوحات المكية: ص5.

(2) التعريفات: ص138.                                                 (3) مصطلحات الصوفية: ص5.

(4) مجمع البحرين: ص212 و 213.

(132(

إذا لم تكن مطيعة للقوة العاقلة في تحصيل مراداتها فتكون هي آمرة والعاقلة مؤتمرة كانت بمنزلة البهيمة التي لم ترض فهي تتبع الشهوة تارة والغضب أخرى، وتستخدم القوة العاقلة، وإذا ما راضتها القوة العاقلة حتى صارت مؤتمرة لها مستمرة على يقتضيه العقل العملي تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه كانت العاقلة مطمئنة لا تفعل أفعالاً مختلفة المبادئ وكانت باقي القوى مسالمة لها.

                ثم قال الشارح: لما كان الغرض من رياضة النفس نيل الكمال الحقيقي فلا بد من الاستعداد وكان ذلك الاستعداد موقوفاً على زوال الموانع الخارجية والداخلية كانت للرياضة أغراض ثلاثة خذف كل مرغوب ومحبوب وهو حذف الموانع الخارجية، الثاني تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة فينجذب التوهم والتخيل عن الجانب الأسف إلى الجانب العلوي وتتبعها سائر القوى فتزول الدواعي وهو حذف الموانع الداخلة، الثالث توجيه السر إلى الجنبة العالية لتلقي السوانح الإلهية وأقتناصها ويعين على الأول الزهد الحقيقي وهو الإعراض عن متاع الدنيا وطيباتها بالقلب، وعلى الثاني العبادة المشفوعة بالفكر في ملكوت السماوات والأرض وعظمة الله والأعمال الصالحة المنوبة لوجهه خالصاً وعبر عن هذه الأمور المعنوية بالتقوى التي يروض بها نفسه، إنتهى، وله كلام آخر في المجاهدة تركته(1).

                وقال في سلوك المالك(2): الفضائل تنقسم إلى قسمين: أحدهما ما أوجب ثناء المخلوقين وهو ما عاد نفعه عليهم، والثاني ما أقتضى ثواب الخالق وهو ما قصد به وجه الله تعالى ونقول: إن الأخلاق غرائز كامنة تظهر بالاختيار وتقهر بالاضطرار وللنفس أخلاق تحدث عنها بالطبع ولها أفعال تصدر عنها بالإرادة فهما ضربان: أخلاق الذات وأفعال الإرادة، والإنسان مطبوع على أخلاق قلما حمد جميعها أو ذم سائرها وإنما الغالب أن بعضها محمود وبعضها مذموم فتعذر لهذا التعليل أن تستكمل فضائل الأخلاق طبعاً وغريزة ولزم لأجله أن يتخللها رذائل الأخلاق طبعاً وغريزة فصارت غير منفكة في جبلة الطبع وغريزة الفطرة عن فضائل محمودة ورذائل مذمومة، وإذا أستقر ذلك فالسعيد من غلبت فضائله على رذائله فقدر بوفور الفضائل على قهر الرذائل وسلم من شين النقص وسعد بفضيلة الفضل فالإنسان يستحق الحمد على الفضائل المكتسبة لأنها مستفادة بفعله ولا يستحق

(1) مجمع البحرين: ص 212 و213.

(2) سلوك المالك في تدبير الممالك: ص38.

(133)

على الفضائل المطبوعة وإن حمدت فيه لوجودها بغير فعله، ومن القبيح أن يتحرز المرء من أغذية البدن كي لا تكون ضارة ولا يعني بتهذيب أخلاق نفسه ومداواتها بالعلم الذي هو غذاؤه كي لا يكون باطلاً ضاراً وإذا كنا نعني بجميع أعضاء البدن وخاصة بالأشرف منها فالبحري أن نعني بأجزاء النفس وخاصة بالأشرف منها وهو العقل، وكما أن الأمراض التي تعرض للبدن إن لم يعلم الطبيب الأسباب الفاعلة لها لم يتمكن من علاجها فكذلك علل النفس ينبغي أن نعني بقلع أسبابها فمتى أحس الإنسان بأنه قد أخطأ وأراد أن لا يعود ثانياً فلينظر أي أصل في نفسه حدث ذلك منه فيحتال في إزالته وبعد فلو لم يكن إلى تغيير الأخلاق سبيل لم كان للأقاويل التي أودعتها الحكماء كتبها في إصلاح الأخلاق معنى إذا لم يرج لها نفع ولا جدوى وكذلك لم يكن للمواعظ التي يقصد بها ذووا الأخلاق الذميمة من الأشرار معنى إذا لم نطمع في أنتقالهم عما هم عليه من الشر، إنتهى.

                ولابن مسكوية كلام مطول في هذا، وكلام مولانا رسول الله (ص) ومولانا أمير المؤمنين «عليه السلام» كثير أودعته الكتب المعتمدة ومنها نهج البلاغة، وفي تحصين العارفين من كلام النبي (ص) ما يخص هذا(1).

رأي المصنف في رياضة الصوفية

                أما طريقة الصوفية في المجاهدة النفسية والرياضة الأخلاقية فخارجة عن طور الاعتدال وكلما خالف تحديد الشرع الأقدس وتعاليمه الصالحة الملائمة للأذواق والمناسبة للقدرة البشرية فليس من المحمود وإن تخيله المتخيل وتوهمه الظان المخطئ إنه من المحمود.

                وحقيقة الأمر إن المجاهدة المحبوبة والرياضة المطلوبة شرعاً وعقلاً هي حمل النفس الشامسة على ما تقدر عليه وتطيق النهوض به وإن كان بكلفة ومشقة عليها ولكن تلك الكلفة مقدورة للنفس والنفس مستطيعة لها ليست بخارجة عن حد الوسع والطاقة وإنما شقت وصعبت لمخالفة العادة والألفة لا لعدم القدرة.

                وقد يكون التكليف مقدوراً لشخص غير مقدور لآخر لأن النفوس البشرية مختلفة بحسب الاستعداد لتحمل المشاق والمصاعب من وجهين:

                الأول: إن النفوس تتفاوت في القوة والضعف ونقص البنية وتماميتها فإنك تجد إن بعض الأشخاص يحمل مقدار وزنة النجف ويمشي به بلا كلفة مقدار

(1) انظر: تحصين العارفين على هامش المبدأ والمعاد لملا صدرا: ص409.

(134)

نصف ساعة وأكثر ولا يلحقه من ذلك عناء شاق ولا تعب مؤلم، وآخر لا يقدر على حمل رطل واحد ويلحقه إن حمله مشقة شاقة وعناء مفرط وصعوبة شديدة وأعتبر ذلك في الاكراد الذين يحملون الرزم الثقيلة حتى قيل وكذلك تجد رجلاً ضعيف المعدة كليل الهاضمة يجتزي في اليوم والليلة بقرص واحد وتجد آخر قوي الهاضمة لا يكفيه في اليوم والليلة عشرة أقراص وقد قيل شعراً:

لنا صديق بطنه كالهاوية                        كأن في أمعاءه معاوية

                فلكل واحد منهما في المجاهدة شكل خاص ورياضة محدودة لا تزيد على ما يستطيع فإن من يجتزي بالقرص يمكنه المجاهدة بترك الأكل يوماً وليلة، وصاحب العشرة أقراص تكون مجاهدته بالتقليل بمعنى ترك النصف أو الثلثين مما أعتاده لا ترك الكل إلا يوماً كنهار الصوم وكذلك سائر الأوصاف في سائر الاصناف، والصوفية يأخذون الجميع بالسلوك في الرياضة على نهج واحد وهو خطأ محض.

                والثاني: إن لبعض النفوس البشرية تأييد رباني وفيض ملكوتي يفيض عليها بالفيض الإلهي فيوجد لها نشاطاً زائداً على العادة ويوحي لها أستعداداً كاملاً في القوة الروحية على حد ما قيل:

وإذا حلت الهداية قلباً                          نشطت للعبادة الأعضاء

                فتقوى تلك النفوس المؤيدة بتأييد الله تعالى على تحمل المصاعب ومكابدة الأهوال وحمل ما لا يطاق لغيرها وهي نفوس الأنبياء والأوصياء، وفي الحديث النبوي: أعظم الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل، وإليه يشير مولانا أمير المؤمنين «عليه السلام» بقوله: ما قلعت باب خيبر بقوى جسدانية، أي أقتلعته بقوى الإمداد الرباني والمساعدة الإلهية بما أودع الله فيه من القوة الخارجة عن حد مقدرة الطبيعة وفوق طاقة البنية الجسمانية فليس لي ولا لك التشبه بهم في كل الاعمال الشاقة فلا تقس نفسي ونفسك الضعيفة التي لا يمكنها النهوض بما نهضوا به لأنهم «عليهم الصلاة والسلام» عانوها وكابدوا مصاعبها بقوة خارجة عن الاستعداد والقوة الطبيعية فصلاة ألف ركعة في اليوم والليلة مع مزاولة باقي الأشغال ليس في قدرتي ولا قدرتك إنما ذلك الأمر الصعب قد ساعدتهم عليه التأييدات الربانية وأعانتهم عليه العناية الإلهية بما أودعه الله فيهم من القوة الباهرة ومنحهم من صفاء النفس ما لم يكن لغيرهم وقد قال رسول الله (ص) لأصحابه وقد نهاهم عن صوم الوصال، فقالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: أنا لست مثلكم أن لي ملكاً يطعمني ويسقيني.

(135)

                ومن هنا قالوا: إن تكاليف الأنبياء أشد الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل وهذا هو المعروف على ألسنة المحدثين بالخصائص فإن النبي (ص) كان مكلفاً بتكاليف لم تكلف بها الأمة كصلاة الليل الواجبة عليه دون أمته لقوله تعالى: (ومن اليل فتهج به نافلة لك عسى ان يبعثك ربك مقاما محمودا)(1) وكتكليفه بالمنع من خائنة الأعين لقوله (ص): ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين، وأمثال ذلك مما هو معروف في محله مما أختص به دون أمته لعدم أحتمال الأمة ذلك التكليف الذي لا تحتمله إلا تلك النفس القدسية المهذبة المصفاة بالتهذيب الإلهي والتصفية الربانية وإن أستعداد نفوسهم في القوة والقدرة أمر بديهي فإن رسول الله (ص) كان مع ربطه حجر المجاعة على بطنه ومعاناته تلك العبادة العظيمة كان يطوف على نسائه كلهن في ليلة واحدة وهن تسع نساء سوى الجواري وصرع ركانة المطلبي وهو المشهور بالقوة حتى ما أستطاع أن يتحرك، وحمل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»: على عاتقه يوم مكة لرمي الأصنام عن ظهر الكعبة فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: خيل لي أني بلغت السماء على أنه لما أراد حمل النبي (ص) برك تحته حتى ما أستطاع أن يتحرك وذلك مشهور في السيرة والتاريخ، وإن أمير المؤمنين «عليه السلام» يقتات القرص اليابس من الشعير ويقتلع باب حصن خيبر وكان لا يفتحه إلا سبعون أو أربعون رجلاً كما قال إبن أبي الحديد:

ياقالع الباب الذي عن رده                  عجزت أكف أربعون وأربع

                وقد نقل عنه «عليه السلام» أنه قال: ما اقتلعت باب خيبر بقوة جسدانية يعني إنه أقتلعه بتلك القوة التي أمده الله بها زيادة على ما يحصل للنفوس بوساطة الغذية وما هو لها بحسب أستعدادها الطبيعي الحاصل من المواد الغذائية فإذاً قلعه لباب خيبر بإفاضة إلهية لا بقوة غذائية كما في الملائكة الروحانية الذين منعوا التغذية.

                ومن المعلوم أن علياً «عليه السلام» كان قليل التغذية يأكل القرص الجشب اليابس من الشعير بنخالته ويطوي الليالي والأيام وكان مع ذلك إذا قبض على إنسان أمسك بنفسه فلا يستطيع أن يتنفس وكان يأخذ البطل العظيم فيرفعه على طول قامته ثم يضرب به الأرض فيهشم عظامه كما صنع ذلك بحريث فارس أهل الشام يوم صفين فليست هذه القوة للغذاء وإنما هي من إفاضات الله تعالى التي أفاض مثلها على الملائكة الذين عدموا التغذية بتاتا وإنما غذاءهم التسبيح.

                وصاحب هذه القوة العظيمة عجز عن النهوض برسول الله (ص) لما أراد

(1) الإسراء: 79.

(136)

حمله لطرح الأصنام عن ظهر الكعبة، ولما حمله النبي (ص) على منكبه كان أخف محمول عنده حتى قال «عليه السلام»: خيل لي أن لو شئت لمسست السماء؛ هكذا ذكره الحافظ النسائي في خصائص أمير المؤمنين علي «عليه السلام».

                فهم «عليهم السلام» شاركوا غيرهم في التأثر بالمؤثرات في النفوس البشرية ولكنهم كانوا أقوى أحتمالاً للمصاعب والصعاب بما أختصوا به من مزيد العناية  والتأييد الإلهيين، وهذا سيد الشهداء الحسين بن علي «عليهما السلام» لما أشتد به العطش وبأصحابه يوم كربلاء ظهر من أصحابه من التشكي والتألم ما لم يظهر منه وحتى كان كأنه ريان الكبد فهو «عليه السلام» بصبره وقوة ملكته الروحانية لم يظهر منه أدنى تأثر وأقل أنفعال حتى أن أصحابه ما علموا بعطشه إلا بمقايسة حالته إلى حالتهم وما عرفوا شدة عطشه حقيقة إلا عندما أشتكى إليه ولده علي الأكبر «عليه السلام» العطش فقال له: هاك لساني فمصه، فلما فعل بكى وقال: والله إن لسانك أيبس من لساني، ويتضمن هذا الفعل من الأسرار الحكمية أربعة أمور:

                (1) يقصد الحسين «عليه السلام» أن يخفى ما به من الجهد ليتضاعف له الأجر بالصبر والكتمان.

                (2) يقصد بإخفاءه تثبيت نفوس أصحابه فإنه إذا جزع أشتد وجدهم وحزنهم.

                (3) يقصد أن يتأسى به ولده في تحمل المصاعب والأجر على قدر العناء والمشقة.

                (4) إن علي الأكبر «عليه السلام» أول قادم رسول الله (ص) من أهله فيكون أول مشتك إلى رسول الله (ص) ما حل بالحسين «عليه السلام» ولهذا قال عند آخر رمق من حياته: هذا جدي رسول الله (ص) قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها وإن لك كأساً مذخورة، القصة مفصلة في مقتل الحسين «عليه السلام» ويحفظها عامة الذاكرين وخطباء المنابر ولم يصرح الحسين «عليه السلام» بعطشه إلا بعد قتل جميع أنصاره وذلك حيث ورد المشرعة وأقحم فيها جواده الحرون المعروف بالميمون والملقب بذي الجناح فإن الجواد غمس فمه في الفرات ليشرب، فقال له الحسين «عليه السلام»: أنا عطشان وأنت عطشان، فرفع الجواد رأسه كأنه قد فهم.

                وقد وصف هذا الصبر وهذا الثبات أخوه أبو الفضل العباس «عليه السلام» على ما يذكره الخطباء والعهدة عليهم إنه قال له: أما أنت يا أخي لو وزنت   

(137)

السماوات والأرض بصبرك وثباتك لرجحت وإني لأخيك بشأوك، وفيه يقول راثيه:

لله درك ياصبور على الأذى                ولأنت أقدر قادر يتخلص

                وأشار آخر إلى عظيم المحن التي تحملها الحسين «عليه السلام»:

ولقد تحمل من أرزاءها محناً                 لم يحتملها نبي أو وصي نبي

                وهكذا حالات الأنبياء والأوصياء فمجاهدتهم لأنفسهم ورياضتهم لها إنما هو على حسب قابليتهم وأستعدادهم فليس لي ولك إلا ما نقدر عليه وليس لنا تكلف ما فعلوه ونحن عنه عاجزون فأن كان موسى بن جعفر الإمام الكاظم «عليه السلام» قطع الفلاة الموحشة والمفازة المقفرة من غير زاد ولا ماء ولا راحلة – كما في حديث شقيق البلخي المشهور – فليس لي ولا لك أن نقطعها كذلك إذ لا يبلغ توكلي وتوكلك درجة توكله على الله ولسنا بصدد إيراد خرافات الصوفية التي موهوا بها وسموها رياضة ومجاهدة وإنما جل غرضنا وغاية أهتمامنا في بيان أن النفس على مافيها من السجايا الجبلية والطباع الغريزية قابلة للتهذيب وإن تلك الأخلاق الراسخة في النفس والثابتة من أصل الخلقة لا تمنع التهذيب ولا يمنع من قبولها للتربية إلا من لا عقل له ولا يمكن لأحد أن يقاوم هذا العالم منذ أول نشأته إلى اليوم، ومن منع من قبول الطبائع للتغير فقد هدم أساس الشرائع الإلهية من أصلها وقلب المؤسسات المدنية رأساً على عقب؛ فالحضارة في تأسيس المدارس وسن الأنظمة والقوانين وفرض التعاليم والتمرينات على الأحداث كلها إنما شرعت لحمل النفس على قبول الأخلاق التي ليست من طبعها ولم تألفها وقمع ما فيها من الشيم والسجايا التي لا تلائم الفكر الحر والعقل السليم.

قبول الحيوانات للتربية والتعليم

                وقد أوقفنا الوجدان ودلتنا الخبرة والتجربة على قبول الحيوانات للتربية والتهذيب فهذا الصقر الكاسر والسبع المفترس قد مرنا على الاصطياد فألفاه وأعتاداه ومشيا مع المعلم لهمما مشية السامع المطيع من ذوي العقول، وهذا الفيل الهائج قدر مرن على ممارسة الحروب وحمل الأثقال فأذعن لسائسه وأنقاد له، وهذا الكلب قدر مرن على الحراسة فقام بواجبه، وكثيراً ما سمعنا من أهل الخبرة الذين يخرجون مع الإنكليز لصيد الطير يزعمون أن الإنكليز لا يخرجون للصيد إلا كلابهم معهم فإذا رمى بعضهم طائراً ووقع أسرع الكل إليه وأحتمله بفمه ووضعه

(138)

أمام صاحبه، ولا أزيدك بتهذيب كلب الصيد المسمى بالسلوقي خبرة على العلم الوجداني وقد أخبر الله تعالى في القرآن بقبولها التربية والتمرين على الصيد، وهذه البغال والخيل والحمير قد قبلت التهذيب وقد وصفوا الجياد من الخيل قديماً وحديثاً بقبول الثقافة حتى شاع أن الأصائل لتقف عند فرسانها حين سقوطهم، وأما القرود (الشواذي) والببغا (بي بي توتي) (بي بي متوه) بلغة البصريين فأمرهما أشهر في قبول التربية  والتأثر بالتهذيب من كل حيوان وما هذه إلا حيوانات عجماء لها طبائع ذاتية وغرائز جبلية تمنعها من قبول التهذيب والتربية ومع ذلك فقد قهرت قوة التربية والتهذيب تلك القوى الطبيعية.

                قال علي أحمد الشهيدي أحد المعاصرين المصريين في كتاب «تاريخ العالم»(1): قالت جريدة «الستاندرد» بأحد أعدادها الصادر في سنة 1900م: إن لبعض الحيوانات أوقات معينة تتناول فيها طعماها فإذا  جاء ميقات الطعام  لا تتقدم عنه لحظة ولا تتأخر، وإن العقرب إذا تحققت وقوعها في خطر الموت قتلت نفسها، وإن خيول جند الفرسان لا تخطئ في التمييز الملابس الخاصة بفرقتها، وإن الأفيال إذا حمي وطيس الحرب لا تخطئ بالتمييز بين أصحابها وجند العدو، وطيور الزاغ والنسر والباز تفرق بين من كان متسلحا ببندقية أو غير متسلح، ومن أنواع القرود ما يستخدم في ما لا يستطيعه إلا الإنسان فهي بارعة في الخدمة على الموائد «سفرجيه» وإشعال النار في المطبخ والكنس ومساعدة الفران بإلقاء الوقود في الفرن وفي تنظيف الأخدية «بالفرجة» وهي تحمل الأحمال الخفيفة كالشيالين وتخفر المنازل فلا تؤذن للغريب بالدخول  إليها وتحمل الرسائل وتعمل عمل السعاة وقد تعمل عمل المربيات في تدبير الأحداث وإذا ذهب القرد إلى فراشه أصح وسادته وتغطى باللحاف.

                هذا الذي ذكرته تلك الجريدة وهو في الحقيقة مشاهد أمامنا على الدوام فضلاً عما نراه من الببغا التي تتكلم كما نتكلم، والكلب الذي يخدم الخدمة المنزلية فأئتمنه الإنسان فسماه الخادم الأمين حتى في قضاء المأكولات سواء كانت في اللحوم وما شابهها مما قضى على كثير من العلماء بالأشتغال في هذا الموضوع زمناً طويلاً إلى أن وجد أخيراً أن أرقى الحيوانات بالانعطاف إلى الأحياء التي هي أرقى منها كما ننعطف نحن إلى المعبودات العليا التي هي أرقى منا.

(1) تاريخ العالم: : ص 74.

(139)

الجواد المدرب وذكاء الخيل

                وقد ذكرت «جرائد برلين» رواية دوى صوتها في الخافقين ومقتضى تلك الرواية أنه يوجد رجل ألماني أسمه «هرفون أوستن» مقيم في شمال برلين تفرغ لدرس طبائع الحيوانات منذ أربعة عشر سنة حتى لاحظ على بعض أفراسه نباهة زائدة فأخذ في العناية به وتعليمه وتثقيفه على أحدث طرق التعليم المدرسي بأروبا حتى وإنه يجيب على كل مسألة تطرح إليه جواباً وهو يقرأ الخط ويعرف قيمة النقود والأعداد ونحوها، وإذا نظر الساعة عرف الوقت تماماً، وإذا أريته صورة أحد الأشخاص الذين يعرفهم عرفة حالاً لكن لا يظهر معرفته بالنطق بل يجاوب على ما يطرح إليه من الأسئلة بتحريك الرأس فإن إراد نعم حنى رأسه وإن لا هزّه، أما الأسئلة الحسابية فأنه يجيب عليها بالنقر في الأرض بحافره الأيمن، وإذا أراد تأكيد جواب بما ينوب عنه رفع الصوت عند الآدميين رفس الأرض بحافره الأيسر رفساً شديداً إلى غير ذلك من التعاليم التي أهلته لمساوات تلاميذ المدرسي الابتدائية ممن بلغ سنهم الثالثة عشر من عمرهم ولذلك سماه صاحبه بأسم «حنا النبيه».

                قالت «مجلة الهلال» في وقتها وشاع أمر هذا الفرس في برلين وتألفت لجنة من علماء الحيوان لمشاهدته وأمتحانه على مرءاً من المتفرجين الكثيرين رجالاً ونساء فتحقق عندهم أنه يفعل ذلك عن نباهة وتفكير لا عن سليقة وعادة من ضمن أسئلة اللجنة المذكورة أنهم سألوه على سبيل المزاح عن عدد الحضور وعن عدد الذين يتقلدون النظارات منهم وعن السيدة التي على رأسها قبعة خضراء فأجاب أجوبة سديدة حتى أندهش الحضور أندهاشاً أداهم لسوء الظن بصاحبه والممتحن فأخرجوهما من مكان اللجنة ليمتحنوه فلم يتأخر عن أية أجابة كانت، ومن النكت اللطيفة أن أحد الحضور تقدم إليهم وأفهمه أنه إذا نظف معلفه بخرقة كافئة على ذلك بزيادة علف فتلفت حنا المذكور يميناً وشمالاً حتى وقع نظره على خرقة بيد أحد الحضور فألتقطها بفمه وأسرع إلى أصطبله وأخذ ينظف معلفه بتلك الخرقة حتى نظفه تماماً ثم بعد ذلك أعاد الخرقة إلى صاحبه الأصلي فأندهش الحظور أندهاشاً عظيما، وأشتهر أمره حتى تسابقت الأغنياء لمشتراه بالمبالغ الطائلة إلى أن وصل ثمنه (707) جنيهاً ولكن صاحبه أبى أن يبيعه مهما بلغ ثمنه قولاً منه إنه لا يطيق فراقه.

(140)