موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

 

 

 

حماية العباس «عليه السلام» للظعائن

                قد عرفت أن حماية العباس «عليه السلام» للظعائن كانت من حين سار الحسين «عليه السلام» من المدينة إلى أن نزل الغاضرية وكذلك العشرة أيام التي أقامها الحسين «عليه السلام» حتى أستشهد وكان العباس بن أمير المؤمنين «عليه السلام» أمير الحرس الحسيني الذي يقوم بحراسة المخيم وقد أكثر الشعراء من ذكر ذلك وهو منظم باللسانين العربي وأعلامي ومعروف في المراثي الحسينية واشتهر على ألسنة الذاكرين أن زينب الحوراء لما مروا بالسبايا على جثث القتلى خاطبت العباس «عليه السلام» بما يتضمن العتاب له على ترك حمايتها في مثل هذه الحالة التي صارت إليها وأوقعها الزمان فيها بعد فقد الحماة.

                ويذكر الذاكرون أيضاً أنه لما أقبل أهل الكوفة إليهن بالنياق ليركبن عليها جعلت النساء تركب بعضها بعضاً حتى بقيت زينب وحدها حولت وجهها إلى نحو العلقمي ونادت: أخي أبا الفضل أنت الذي أركبتني يوم خروجنا من المدينة فمن يركبني الآن يا ابن والدي، ولم يفسح لي المجال في تتبع هذه المقالة واستخراجها من مظانها وأعول فيها على مصادرها فإن كانت رواية فالعهدة على الراوي وإن كانت حكاية حال واستخراج من فحوى القصة فنعم الاستنباط إذ المعلوم إن شباب العلويين ويرأسهم أبو الفضل هم الذين ركبوا العقائل الحسينية حين خرجوا من المدينة فوجب أن يتولى ركوبهن للمسير عن وادي كربلاء لولا حيلولة المنية دون ذلك.

                للمؤلف:

أبا الفضل يا بن علي الفخار                                وصنو النبي وحامي الذمار

حميت ظعائن آل الرسول                                    بتلك الفيافي وتلك القفار

فما راعها رائع مزعج                                           ويمناك تحمل ذات الفقار

إلى أن نزلتم بوادي الطفوف                              وقد كنت كالحصن والمستجار

وبعد افتقادك سار النساء                                    بذل السباء وذل الإسار

(1) اسرار الشهادة: ص423.

(62)

فلو كنت حياً ترى زينباً                                        تصوب المدامع صوب القطار

وتلك العقائل بعد الحجاب                               سلبن الملاحف حتى الإزار

ولم يترك القوم من ساتر                                      لتلك المصونات حتى الخمار

تسترن قد قيل بالراحتين                                     عن الناظرين بضوء النهار

فقم يا كمي إلى ظعنكم                                        فقد سار يطوي وهاد القفار

ومن ألقاب العباس «عليه السلام» «حامل اللواء»

                قد شاع هذا اللقب بين الناس فتعرفه المسلمون القدماء بحامل لواء الحسين «عليه السلام» وتسميه عوام العرب اليوم بالبيرغچي وهذه نسبة تركية وتطلق عليه الفرس لفظ «علمدار حسين» وقد كان هذا اللقب وهو حمل اللواء أشهر ألقاب العباس الأكبر «عليه السلام» وأسيرها ذكراً لأن ذلك قد صدر من أخيه الإمام الحسين «عليه السلام» فعلاً وقولاً؛ أما الفعل فقد تكرر منه «عليه السلام» مراراً منها لما أراد الحملة قال: أنت حامل لوائي، ومنها لما وقف عليه صريعاً وسنورد جميع ذلك في فصل مقتله «عليه السلام» وقد أكثر الشعراء من مدحه بحمل اللواء كقول بعضهم عاقداً قول الحسين «عليه السلام»:

لمن اللواء أعطي ومن هو جامع                         شملي وفي ظنك الزحام يقيني

                في أشعار كثيرة يأتي بعضها في تأبينه «عليه السلام».

حمل اللواء عند الامم:

                حمل اللواء مكرمة عظيمة عند جميع الأمم والشعوب في سائر الأزمنة والعصور سوى هذه الازمنة التي نحن فيها وإن أجمعوا على إنه شعار الدولة فإن لحامل اللواء عند الأمم قاطبة في جميع الأزمان إلا ما استثنيناه مرتبة راقية ومكانة مكينة ومحل سامي لا من حيث شجاعة حامل اللواء فقط بل من حيث أنه نظام العسكر فمتى كان العلم ثابتاً فالجيش منتظم وشمله ملتئم، وإذا سقط اللواء تبدد العسكر.

                وعادة العرب ذات التفاخر بمآثرها ومجدها أن تجتمع تحت ألويتها وراياتها وتثبت في المراكز التي تثبت فيها الرايات فلا تزول والألوية ثابتة، لوما استحر القتل في القيسية يوم مرج راهط وكاد أن يستأصلهم الفناء تحت راياتهم نظر إلى ذلك رجل من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة فصاح: واقوماه!

(63)

ثم عمد إلى تلك الرايات فقطعها بسيفه فكان إذا ضرب الراية وسقطت تفرق أهلها حتى أتى على جميعها فنجت من القيسية شرمذة قليلة وقتل من أشرافهم ممن يأخذ شرف العطاء خمسمائة أو أكثر.

                ولما أنهزم أهل العراق يوم صفين ثبتت همدان تحت راياتهما وقتل منهم تحت راية من راياتهم مائة وخمسون رجلاً فيهم أحد عشر رئيساً؛ فاللواء نظام الجيش.

تحقيق معنى اللواء والفرق بينه وبين الراية:

                في تحقيق معنى اللواء والراية وأيهما أكبر وأعظم اضطربت كلمات أهل اللغة فمن قائل أن الراية دون اللواء واللواء أكبر منها، ويقال له العلم والبند وتسمية العوام البيرغ، ويعرف عند الأتراك بالتوغ والسنجق، والراية على إسمها الأول ويزعم بعض اللغويين أن الراية أعظم من اللواء ولا يصح لأن العرف يرى أن الراية دون اللواء والاصل عدم النقل.

أول من عقد لواءاً في العالم

                أتخاذ الرايات قديم جداً وأختلف الناس في أول من عقد لواء فقيل شيث ابن آدم «عليه السلام» وقيل إبراهيم الخليل «عليه السلام»، وقيل كابي الحداد من اصبهان في زمن الضحاك الازدهاق بيوراسف الجبار أو هو النمرود عند المؤرخين.

                قال ابن شهر آشوب (رحمه الله) في كتاب المناقب(1): محمد الكسائي في المبتدأ: إن أول حرب كانت بين بني آدم بين شيث وقابيل وذلك أن الله تعالى أهدى إليه حلة بيضاء ودفعت له الملائكة راية بيضاء فسلسلت الملائكة قابيل وحملته إلى عين الشمس فمات بها وصارت ذريته عبيداً لشيث، وفي الخبر: إن أول من أتخذ الرايات إبراهيم الخليل «عليه السلام»، إنتهى.

                وروى الحر العاملي (رحمه الله) في كتاب وسائل الشيعة(2) عن الصادق «عليه السلام» قال: أول من قاتل إبراهيم «عليه السلام» حين أسرت الروم لوطاً  فنفر إبراهيم «عليه السلام» حتى أستنفذه من أيديهم، ثم قال بعد أحاديث: وأول من عقد الرايات إبراهيم الخليل «عليه السلام» عليها «لا إله إلا الله».

(1) المناقب لأبن شهر آشوب 1/ 159.                       (2) وسائل الشيعة 2/ 436 طبع عين الدولة.

(64)

                وقال الحلبي الشافعي في سيرته(1): وأول من عقد الألوية إبراهيم «عليه السلام»: إن قوماً أغاروا على لوط «عليه السلام» فعقد لواء وسار إليهم بعبيده ومواليه.

                وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان(2) ذكر أن الفرس لا يحمل لواءها إلا رجل من أهل أصبهان ولذلك سبب خفي على كثير من أهل هذا الشأن وهو أن الضحاك المسمى بالازدهاق ويعرف بيوارسب وذي الحيتين لما كثر جوره على أهل مملكته من توظيفه عليهم كل يوم رجلين يذبحان وتطعم أدمغتهما للحيتين اللتين كانتا نبتتا في كتيفيه فيما تزعم الفرس فأنتهى بالنوبة إلى رجل حداد من أهل أصبهان يقال له كابي، فلما علم أنه لا بد من ذبحه أخذ الجلدة التي يجعلها على ركبتيه يتقي بها النار عن نفسه وثيابه وقت شغله ثم إنه رفعها على عص اوجعلها مثل البيرغ ودى الناس إلى قتال الضحاك وإخراج أفريدون جد بني ساسان من مكمنة وإظهار أمره، فأجابه الناس إلى ما دعاهم إليه من قتل الضحاك حتى قتله وأزال ملكه وملك أفريدون، وذلك في قصة طويلة ذات تهاويل وخرافات فتبركوا بذلك اللواء إذ انتصروا به وجلعوا حمل اللواء إلى أهل أصبهان من يومئذ، إلخ.

                وقال الخفاجي في شفاء الغليل(3): الدرفش بكسر أوله وفتح ثانيه وسكون الفاء أسم راية أفريدون ويقال له درفش كاوه، وكاوه أسم حداد من أصبهان كان الضحاك قتل ابناً له لعلته فأخذ الجلدة التي يتقي بها ساقيه من شرر النار ونصبها على عود وجعلها راية فاجتمع إليه من قتل الضحاك أقاربهم وأنتزعوا الملك منه وأعطوه لأفريدون فتيمن بتلك الجلدة ورصعها بلأحجار الثمينة، والدرفش بلغة الفرس الراية وكانت لم تزل منصوبة على رأسه يقال لها التاج، قال بديع الزمان الهمذاني.

أأفريدون ذو التاج                أم الإسكندر الثاني

                إنتهى، وأخطأ الخفاجي لم يعني البديع تلك الجلدة النخرة إنما عنى تاج الملك والإكليل السلطاني الذي يوضع على مفارق الملوك، وقصة كابي ذكرها الطبري، وذكر أن أول من عقد اللواء رجل من بابل خرج على الضحاك الجائر وأن منزله قرية برس بالعراق، وانظر القصتين في تاريخ الأمم والملوك(4)، وهذه الأقوال الأربعة يمكن التأليف بينها وجمعها بأن يقال: إن أول من عقد راية شيث

(1) السيرة الحلبية 2/ 134.                            (2) معجم البلدان 1/ 270.

(3) شفاء الغليل: ص91.                                 (4) تاريخ الأمم والملوك 1/ 99.

(65)

حارب بها الثائرين، وأول من عقد راية غازياً بها إبراهيم «عليه السلام» وأول من عقد راية ثائراً على ملك هو البابلي ومنتصراً لنفسه هو الأصبهاني.

مساهمة الشعوب في عقد الألوية:

                سار عقد اللواء في الأمم قاطبة وأعتنت به الشعوب القديمة أشد الاعتناء وعقدته القبائل كما عقدته الملوك، فالأعلام الملوكية مختلفة ألوانها ومميزاتها كجعل صليب أو تاج أو هلال أو شمس أو كوكب أو حيوان وألوانها حمر وبيض وصفر ومخططة وهكذا رايات القبائل وإن خلت من الرسم لها لون خاص يعرفه أفراد العشيرة فيجتمعون إليها كحمراء وبيضاء وسوداء أو ملونة.

                قال الجاحظ في البيان والتبيين(1): إنا نجد رؤساء جميع أهل الملل وأرباب النحل قد اتخذوا في الحروب الرايات والأعلام وإنما ذلك كل خرق سود وحمر وصفر وبيض، وجعلوا اللواء علامة للعقد والعلم في الحرب مرجعاً لصاحب الجولة، وقد علموا أنها وإن كانت خرقاً على عصي إن ذلك أهيب في القلوب وأهول في الصدور وأعظم في العيون.

الألوية عند قدماء البابليين

                قال المسعودي في مروج الذهب(2) في أخبار قدماء ملوك بابل ما لفظه: هم الذين طبعوا السيوف واتخذوا عدة الحرب وغير ذلك من الحيل والمكائد ونصبوا  قوانين الحرب بالقلب والميمنة والأجنحة، وجعلوا ذلك مثالاً لأعضاء جسد الإنسان، ورتبوا لكل جزء نوعاً من الألوية لا يوازيها غيره فجعلوا أعلام القلب في صورة الفيل وما عظم من أنواع الحيوان، وجعلوا أعلام الميمنة والميسرة على صورة السباع حسب عظمها واختلافها في انواعها، وجعلوا في الأجنة صورة ما لطف من السباع كالنمر والذئب، وجعلوا صور أعلام الكيمياء على صور الحيات والعقبان وما خفي فعله من هوام الأرض، وجعلوا ألوان كل نوع منها من السواد والبياض والصفرة والخضرة ولون السماء، وقد ذكر قوم أن الألوان ثمانية على حسب الموضع المستحق لها.

                ثم قال(3): وزعموا أن قضية القياس توجب أن تكون سائر أعلام الحرب حمراء إذا كانت أليق وأشكل بلون الدم وأكثر ملائمة إذ كان لونها واحداً، إنتهى.

(1) البيان والتبيين 3/ 80.                                               (2) مروج الذهب 1/ 135.

(3) مروج الذهب 1/ 139.

(66)

                أما متنبي الغرب الحسن بن هاني الاندلسي (رحمه الله) فضل أن تكون راية الحرب بيضاء وتكتسي لون الحمرة بالدماء عند الطعن فذاك حيث يقول في ممدوحة:

فكأنما وجناتهم محمرة                           رايات يحيى بالدم المسفوك

                فذكر أن أحمرار راياته لم يكن ذاتياً بل هو عرضي من صبغ الدماء في الحرب.

الألوية عند الملوك الإسلاميين في القرون الوسطى

                قال ابن خلدون في مقدمة التاريخ(1): وأما تكثير الرايات وتلوينها وإطالتها فالقصد به التهويل وربما تحدث في النفوس من التهويل زيادة في الإقدام وأحوال النفوس وتلويناتها غريبة، والله الخلاق العليم.

                ثم قال: فأما الرايات شعار الحروب من عهد الخليفة ولم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب من عهد الخليفة ولم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب والغزوات، ولعهد النبي (ص) ومن بعده من الخلفاء، ثم ذكر كلاماً مطولاً وقال: ما كان العامل صاحب الثغر أو قائد الجيش يعقد له الخليفة من العباسيين والعبيديين لواءه ويخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرايات والآلات فلا يميز بين موكب العامل والخلفية إلا بكثرة الألوية وقلتها أو بما اختص به الخليفة من الألوان لرايته كالسوداء في رايات بني العباس فإن راياتهم كانت سوداء حزناً على شهدائهم من بني هاشم ونعياً على بني أمية في قتلهم ولذلك سموا بالمسودة.

                ولما افترق أمر الهاشميين وخرج الطالبيون على العباسيين في كل جهة ومصر ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك فأتخذوا الرايات بيضاً فسموا المبيضة لذلك سائر أيام العبيديين ومن خرج من الطالبيين في ذلك العهد بالمشرق كالداعي بطبرستان وداعي صعده ولما نزع المأمون عن لبس السواد وشعاره في دولته عدل إلى لون الخضرة.

                وأما الاستكثار منها فلا يتناهى وقد كانت آلة العبيديين لما خرج العزيز لما فتح الشام خمسمائة من البنود وخمسمائة من الابواق.

                واما ملوك البربر من صنهاجة وغيرها فلم يختصوا بلون واحد بل وشوها

(1) مقدمة تاريخ ابن خلدون: ص216.

(67)

بالذهب واتخذوها من الحرير الخالص ملونة وأستمروا على الأذن فيها لعمالهم حتى جاءت دولة الموحدين ومن بعدهم من زناته قصروا الآلة من الطبول والبنود على السلطان وحضروها على من سواه من عماله وجعلوا لها موكباً خاصاً يتبع أثر السلطان في مسيره سموه الساقة وهم بين المكثر والمقل؛ فمنهم من يقتصر على سبع من العدد تبركاً بالسبعة كما هو في دولة الموحدين وبني الأحمر بالأندلس، ومنهم من يبلغ العشرة والعشرين كما هو عند زناته، وقد بلغت في أيام أبي الحسن فيما أدركناه مائة من الطبول ومائة من البنود ملونة بالحرير، منسوجة بالذهب ما بين كبير وصغير، ويأذنون للولاة والعمال والقواد في اتخاذ راية واحدة صغيرة من الكتان بيضاء وطبل صغير أيام الحرب لا يتجاوزون ذلك.

                وأما دولة الترك يعني العثمانيين لهذا الحد بالمشرق فيتخذون أولاً راية واحدة عظيمة وفي رأسها خصلة كبيرة من الشعر يسمونها الشالش والختر وهي شعار السلطان عندهم، ثم تعددت الرايات عندهم ويسمونها السناجق واحدة سنجق وهي الراية بلسانهم، إلخ.

                وقال الوزير الصدر الاعظم أحمد جودة باشا في تاريخه(1)أاااا ولفظه: وذكر واصف أفندي في تاريخه مقالة على سبيل الاستطراد بين فيها ما كان للاولية والتوغات من الاعتبار والمنزلة أحببنا إيرادها هنا ملخصة، قال فيها: إن السر في إحداث التوغ والسنجق واللواء هو أنه إذا أجتمع قوم تحت لواء واحد يحصل بينهم الاتحاد بمعنى أن هذا اللواء يكون علامة على اجتماع كلمتهم ودلالة على اتحاد قلوبهم فيكونون كالجسد الواحد ويألف بعضهم بعضاً أشد من أئتلاف ذوي الارحام وإذا كانوا في معركة القتال لا ييأسون من الظفر ما دام لواؤهم منشوراً بل تقوى همتهم ويشتد عزمهم فإذا سقط لواؤهم أخذوا من جانب الوهم موضوعاً للخوف والرهبة فينهزم بعضهم أو يتبدد البعض الآخر بخلاف ما إذا كان علمهم مرفوعاً خافقاً مزدهياً تبتهج به نفوسهم وتأخذهم نشوى الفرح والبسالة وتسلط على أعدائهم هزة الرعب فتأخذ بمجامع قلوبهم، وكما أن الموسيقى العسكرية تنعش ارواحهم وتحثهم على الإقدام والشجاعة كذلك مناظر الألوية وتموجها فإنها تحدث فيهم دواعي الغيرة وتجلب لأعدائهم الدهشة والفتور.

                كان لجميع الأمم السالفة والدول الماضية آلات موسيقى متنوعة وألوية وأعلام عديدة ولم يكن في زمن الرسالة موسيقى بل أعلام فقط فإن في السنة

(1) تاريخ أحمد جودة باشا 1/ 34.

(68)

الأولى من الهجرة أرسل رسول الله (ص) سرية قدرها عشرين نفساً من المهاجرين برئاسة عمه حمزة بن عبد المطلب («رضوان الله عليه») ليتعرضوا قافلة لقريش كانت قادمة من الشام معها ثلاثمائة مقاتل تحت رئاسة أبي جهل، فعقد بيده المباركة علماً أبيض وسلمه لأبي مرثد («رضي الله عنه») وهذا أول لواء عقد في الإسلام وأول سرية ألف من المسلمين لطلب المغانم، ثم كان أبو مرثد أول من حمل لواء للمسلمين وكان هذا اللواء المبارك يعقد في كل غزوة وسرية إلى حين غزوة خيبر وكان يطلق على الكتيبة اسم سرية حتى يبلغ عددها أربعة آلاف فإذا كان فيها حضرة سلطان الأنبياء عليه أفضل التحيات سميت غزوة.

                واللواء هو العلم الذي ينصب في محل إقامة أمير الجيش علامة له وقد عقد لواء آخر أسود في واقعة خيبر وسمي راية وعلماء اللغة يقولون: اللواء والراية بمعنى واحد، وأما في أصطلاح عصرنا هذا أعني عند العثمانيين فإنه يقال للواء بيرغ وللراية سنجق، وقد تعددت الألوية والرايات في زمن الخلفاء، أما العباسيون فكانت ألويتهم سوداء وكان لباسهم أسود فسموهم المسودة دلالة على حزنهم ومساءتهم لشهداء كربلاء، وألوية العلويين الذين خرجوا على العباسيين بيضاً فسموهم المبيضة(1) وكانت الألوية أيام المأمون خضراً وكان اللباس الخضرة أيضاً وذلك أن المأمون غير اللباس الأسود بالأخضر ثم رجع إلى الأسود.

                وأما عدد الألوية والرايات عند باقي الدول فكانت عند البعض كثيراً وعند البعض الآخر قليلاً، فكان في صفوف دولة بني الأحمر بالأندلس ما يزيد على مائة لواء كلها مزخرفة بالذهب مزينة بالأشكال والصور الغريبة، وأما ألوية ملوك القدماء في الممالك الشرقية وبلاد دشت وترك وملوك الصين والهند فكانت عظيمة عليها علامات ملونة ومنسوجة من أذناب الحيوان شبيهة بالشعور المرسلة وكانت تحمل امام الجيش وتسمى حاليش، وكان هذا بعينه عند آل جنكيز وآل هلاكو وقد استعملته الدولة الأيبوية والموالك السجوقيون ولاكنهم جعلوا على رأسه صورة زورق مذهبة وعقدوا الشعر المحلول المار ذكره ظفائر فزدان بذلك وهذا كان يسمى توغ عند الدولة العلية في القديم.

                وكانت تستعمل راية أخرى في الدولة الشرقية السالف ذكرها تنشر على رأس الملك وتسمى عصابة وسطفة وسنجق فلا يستعملها غير السلطان، وفي دولة

(1)  أهمل هذا المؤرخ ألوية الأمويين الذين خرجوا على العباسيين فإنها كانت حمراً وسموهم المحمرة لذلك.

(69)

الخلفاء وضعوا على رأس الألوية والسناجق علماً في صورة الهلال من النحاس المطلي وعلامة أخرى شبيهة بدائرة الشمس مدورة مشقوقة الوسط، ولما تغلب بعض الامراء والسلاطين على الخلفاء وتحكموا أستنكفوا من استعمال تلك الألوية ووضعوا على ألويتهم وسناجقهم كرة مذهبة تشبه فلكة المغزل وأقاموا على الألوية الكبيرة صفائح مذهبة منقوشة بالأشعار وزينوها بألوان سود وهذه الألوية والرايات ذات الهلال الأسود والاخضر التي كانت في القديم مخصوصة بالخلفاء قد انتقلت إلى مشائخ الصوفية وإلى الجوامع والتكيات وكانت تنشر امام جنائز الأكابر وترفع في أيام عاشوراء أو ماثلها من الأيام المشهورة، ولا غرو فإن هذه عادة الدنيا في أهلها فإنه متى انقضت أيام دولة أو إمارة منها أهملت رسومها وآثارها وما كان دليلاً على شهرتها وطرحت في زوايا النسيان.

                وكانت الدولة العلية يعني العثمانية تستعمل لواءاً مخصوصاً للوزراء أسمه بورك ببرغي عوضاً عن اللواء الابيض وأستعملت أيضاً سنجقاً كبيراً بدلاً من العصابة أو المشطقة وجعلت الشعر الذي يعقد على الألوية ويعرف بأسم توغ في غاية الاهمية فخصت كل أمير من الأمراء بواحد منه وخصت أمير الأمراء بأثنين، والوزراء بثلاث، وحضرة السلطان بتسعة.

                اعلم أن التوغ ما زال معروفاً عند الدولة إلى زمن غير بعيد كما ذكره واصف أفندي ولكن لما رتب النظام الجديد غيرت هذه الأصول بالكلية وألغي إعطاء التوغ إلى الباشوات بالمرة، إنتهى.

أعلام الدولة الحديثة وراياتها:

                حيث أن الراية شعار الدولة والإشارة إلى تابعيها والعلامة الصحيحة لها لذلك كثرة الرايات والأعلام فلا تخلو بناية حكومية ولا دائرة من الدوائر ولا طائرة ولا بارجة ولا باخرة من راية دولتها وسواء في ذلك الحرب والسلم، وأما العلامة المميزة لتلك الراية فقد أشترك العامة في معرفتها كالهلال للدولة العثمانية والصليب الأحمر لروسيا، والأسد للأيرانية، وأمثالها اضربنا عن ذكرها للاختصار، وأما ألوانها لمختلفة فمنها الحمراء والزرقاء والسوداء وسائر الألوان المحضة والمتزجة كذات اللونين والأربعة ولكن هناك رايات جعلت علامات يشار بها إلى أمور خاصة كالحمراء للخطر، والخضراء للسلامة، والبيضاء للأمان والتسليم وأمثال ذلك مما لا يهم إيراده.

(70)

ألوية القبائل العربية وراياتها

                اللواء عند العرب لزعيم القبيلة ولقائد الجيش وأمير العسكر يحمله أمامه من قبيلته أو من جنده أشهرهم ذكراً وأعظمهم بطولة واشدهم بأساً وشجاعةواكثرهم نجدة وبسالة، وربما حمله الزعيم بنفسه، وحامل اللواء سواء كان هو الزعيم أو غيره ليحافظ على اللواء أشد من محافظته على نفسه، فلو طعن أو ضرب لم يكترث بنفسه ما دام متمكناً من إمساك اللواء ولو قطعت اعضاؤه وأبينت مفاصله فلا يعبأ بسقوط أي عضو منه مالم يسقط اللواء منه لأن حفظ نظام الجيش منوط به فإنه متى سقط اللواء تضعضع العسكر، وربما فروا وتبددوا لذلك.

                لذلك لما قطعت يدا جعفر بن أبي طالب وهو الطيار شقيق أمير المؤمنين «عليه السلام» يوم مؤتة ضم الباقي من يديه القطيعتين على اللواء لئلا يسقط فيتضعضع جيش المسلمين، فضرب على رأسه فوقع ميتاً فأخذ اللوا زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله (ص) الأمير الثاني لهذا الجيش لأن رسول الله (ص) جعل الأمراء في هذه السرية ثلاثة: الأمير الأول جعفر بن أبي طالب، والأمير الثاني زيد بن حارثة الكلبي مولاه، الأمير الثالث عبد الله بن رواحة الأنصاري شاعره، استشهد هؤلاء الأمراء الثلاثة وأخذ اللواء خالد بن الوليد وكان في البعث ففر بالمسلمين لقوة شوكة العدو فعيرهم المسلمون بالفرار والحقيقة ليس هو بفرار ولكنه حزم القائد واحتذى حذو الطيار ابن أخي أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» كما سنذكر.

                وقد كان لواء المشركين من قريش يوم أحد في بني عبد الدار فقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» حملة اللواء التسعة وقيل أحد عشر فلما قتلوا جميعاً أخذه عبدهم صوأب فشد عليه أمير المؤمنين «عليه السلام» فقطع يده اليمنى فأخذ اللواء باليسرى ورفعه لقريش فضربه أمير المؤمنين على اليسرى فأحتضن اللواء بباقي يديه وبرك عليه وقال: هل أعذرت يا آل عبد الدار في لواءكم؟ فضربه أمير المؤمنين «عليه السلام» فقتله فأخذت اللواء أمرأة منهم حارثية فرفعته لقريش فلاذوا به، هكذا كانت محافظة العرب على الألوية.

                لما كانت حرب صفين دفع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» لواءه الأعظم إلى هشام بن عتبة بن أبي وقاص الزهري المرقال وخاض به الأهوال العظيمة وسقى أهل الشام الكأس المصبرة، وفي آخر أيام الحرب شد على كتيبة

(71)

من تنوخ فقتل منها تسعة عشر بطلاً فطعنه رجل منهم فشق بطنه وسالت أمعاؤه فأمسكها بيده ووقف في مكانه ورفع لواءه، فلما رأى أمير المؤمنين «عليه السلام» لواءه قد وقف ولم يتقدم أرسله إليه: يا هاشم! شد باللواء، فقال للرسول: إقرأ أمير المؤمنين عني السلام وأخبره بما ترى ورفع يده عن بطنه فسقطت أمعاؤه وسقط ميتاً  وأخذ اللواء أبنه عبد الله بن هاشم، فهذا هو الثبات المدهش، هذا الكرم والوفاء، هذا هو الحفاظ المحمود، هذه الرجولية والبطولية، هذه الشجاعة العجيبة والبسالة المستغربة، هذا هو الإخلاص والتفادي عن وصمة العار ووصم الذل، هذا هو البلاء العظيم، فلتكن هكذا حملة الأعلام وحماة الألوية وإلا فلا.

حامية اللواء الأعظم:

                لا بد لقائد القوات المقدم وزعيم الجيش وعميد العسكر أن ينتخب من أبطال الجيش المجربين وفرسانه المعروفين بالنجدة والبسالة، والمشهود لهم بالشجاعة والفروسية فيؤلف منهم كتيبة تكون حامية للواء الاعظم وردءاً لصاحب العلم الأكبر، وقد كانت في صفين كتيبتان: أحدهما لأهل الشام تسمى الخضرية لأن علامتها الخضرة، وثانيهما لأهل العراق تسمى رجراجة لأرتجاجها بالسلاح، وكل واحد من الكتيبتين مؤلفة من عدد كبير من الأبطال المشتهرين بالفروسية، قيل إن كل واحدة منهما عشرة آلاف ذراع أعدتا لحماية اللواء والمكافحة عن العلم الأعظم.

                فيجب على زعيم كل جيش وقائد كل عسكر أن يتخير نخبة أبطاله وينتخب كل جريء مجرب يؤلف منهم حامية للعلم وحرساً للواء يرصده ويراقبه ليذب عنه من قصده من الأعداء، فإن العدو يعلم أنه متى سقط اللواء أختل نظام الجيش وتبدد جمعه وذهب جنده شتاتاً فلذلك تقصد حامية الأعداء مركز صاحب اللواء فإذا كان لذلك اللواء حامية كافحت عنه وصدت هجمات عدوها فحافظ حامل لواءها على مركزه مستقراً ثابتاً، وإذا لم تكن له حامية فربما فر وربما قتل فأختل النظام، وإذا كانت الحامية يأخذه بعضهم إن قتل أو فر وأكثر ما تكون حامية اللواء عند العرب من شجعان قوم حامله لأن اللواء مجد وفخار ومكرمة لحامله وقومه أوثق الناس في نفسه على  المحافظة عليه لأن مجده لهم وكرامة فيهم، ولو سقنا الحكايات طال بنا المقام وحسبك ما قاله آل عبد الدار يوم أحد لأبي سفيان لما طلب منهم اللواء فشتموه وقالوا: ندفع مكرمتنا لغيرنا، راجع قصة أحد في التاريخ.

(72)

                واللواء يرفع أمام الجيش فلا يتقدم الجيش في الزحف حتى يتقدم اللواء، وكذلك راية القبيلة فإنهم يطوفون بها ويقفون عندها فإذا وقفت وقفوا وإذا سارت ساروا تبعاً لها وهذا يشبه راية الأنذار التي أستحدثها الدول المتمدنون اليوم وتتمايز القبائل والعشائر براياتها ويتفانون حولها إذا ثبتت في مركزها، وفي قصة القيسية يوم المرج وهمدان يوم صفين ما يكفيك شاهداً فحامل اللواء هو بمنزلة القطب للرحى وكانوا يعقدون الألوية والرايات بالرماح ولذلك يقول مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» يوم البصرة لولده محمد بن الحنفية («رضوان الله عليه»):

إطعن بها طعن أبيك تحمد                   لا خير في الحرب إذا لم توقد

بالمشرفي والقنا المسدد

                كانوا يختارون الرمح اللين ذا الاهتزاز والتأود، ذكر أهل السير أن أمير المؤمنين علياً «عليه السلام» لما دفع لواءه الاعظم للمرقال يوم صفين دعى برمح ليشده به فأتي برمح فهزه فأنكسر، فأتي بآخر فوجده جاسياً فألقاه، فأتي بثالث فوجده ليناً فعقد فيه لواءه.

تسلسل اللواء في بني هاشم

                قد عرفت أن أول من عقد لواءاً شيث بن آدم «عليه السلام» ثم أنتقل إلى إبراهيم الخليل فورثه أبنه إسماعيل لأنه أكبر ولده، ثم ابنه نابت بن إسماعيل، وبقي في أعقابه هكذا عند أجداد رسول الله (ص) حتى إنتهى إلى قصة بن كلاب فجعله قصي لأبنه عبد الدار، ولما وقع التنافس بين ولد قصي وثاروا للحرب أعان عبد مناف قبائل من قريش فعقد عبد مناف له ولحلفاءه المطيبين راية لأن اللواء عند أخيه عبد الدار ولما اصطلحوا بقيت الراية عند عبد مناف فورثها ابنه هاشم ثم ابنه عبد المطلب ثم أبو طالب بن عبد المطلب فصارت إلى رسول الله (ص) فدفعها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» وبقي اللواء في بني عبد الدار حتى كان يوم بدر وحاربوا رسول الله (ص) فأخذ اللواء منهم فلما هزمهم دفع اللواء إلى مصعب ابن عمير لأنه من بني عبد الدار وكان معه، وقيل: دفعه إليه يوم أحد لما عرف أن قريشاً دفعوا لواءهم إلى آل عبد الدار، قال: نحن احق منهم بالوفاء فدفعه إلى مصعب بن عمير («رضي الله عنه») فلما أستشهد بأحد دفع اللواء إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» فأجتمع اللواء والراية في بني هاشم وكانا معاً عند أمير المؤمنين «عليه السلام».

(73)

                قال محمد بن علي بن شهر آشوب (رحمه الله) في المناقب(1): قال أهل السير: إنه كانت راية قريش ولواءها جميعاً بيد قصي بن كلاب ثم لم تزل الراية في بني عبد المطلب فلما بعث النبي (ص) أقرها في بني هاشم ودفعها إلى علي «عليه السلام» في أول غزوة غزاها حملت فيها راية وهي غزوة ودان فلم تزل معه وكان اللواء يومئذ مع عبد الدار فأعطاه النبي (ص) مصعب بن عمير فأستشهد يوم أحد فأخذه النبي (ص) ودفعه إلى علي «عليه السلام» فجمع له الراية واللواء يومئذ وهما أبيضان.

                ذكره الطبري في تأريخه والقشيري في تفسيره «تنبيه الذاكرين» عن زيد بن علي عن آباءه قال: كسرت زند علي «عليه السلام» يوم أحد وفي يده لواء رسول الله (ص) فسقط اللواء من يده فتحاماه المسلمون أن يأخذوه فقال رسول الله (ص) فضعوه في يده الشمال فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة.

                المواعظ والزواجر عن العسكري أن مالك بن دينار سأل سعيد بن جبير عن ذلك فنظر إلي وقال: كأنك رخي البال، فغضبت وشكوت ذلك إلى القراء فقالوا: سألته وهو خائف من الحجاج وقد لاذ بالبيت فاسأله الآن، فسألته فقال: كان حاملها وكان حاملها علي «عليه السلام» سمعته من ابن عباس إلخ.

اللواء مكرمة القبيلة

                لا يخفى على كل نيقد بصير وماهر خبير أن كل غزوة غزاها رسول الله (ص) بنفسه فأمير المؤمنين «عليه السلام» معه إلا في غزوة تبوك فإنه خلفه بالمدينة ولا ننظر إلى قول الحلبي الشافعي وغيره من المعاندين حيث قالوا في غزوة بواط حمل لواء النبي (ص) سعد بن أبي وقاص إذ المعلوم لكل من لاحظ أطوار العرب وعرف عاداتها ودرس شؤونها علم أن حامل اللواء لا بد أن يكون من رهط الزعيم لأن مكرمتهم لا يدفعونها لغيرهم ولذلك لما طلب أبو سفيان بن حرب الأموي يوم أحد اللواء من آل عبد الدار امتنعوا وأغلظ له أبو سعد في ذلك وغاضهم قوله فحموا وتفانوا على اللواء.

                وفعل امير المؤمنين علي «عليه السلام» يوم صفين كان مقابلة لمعاوية بن أبي سفيان حيث دفع لواءه الاعظم إلى عبد الرحمن  بن خالد بن الوليد ليقوي عزم قريش بما يحبوهم به من الكرامة ويخذلهم عن أمير المؤمنين «عليه السلام» فدفع

(1) المناقب لابن شهر آشوب 2/ 159.

(74)

لواءه لهاشم المرقال له الغرض بعينه فالعادة الجارية امتناع العرب من تسليم لواءها لغيرها فكيف يدفع رسول الله (ص) وهو سيد بني هاشم لواءهم وهو مكرمة ومفخرة إلى سعد بن أبي وقاص مع وجود حمزة وعلي «عليهما السلام» وهما اشجع العرب فمن سعد بن أبي وقاص الهياب الذي تعاضدت التواريخ السنية كتاريخ الطبري والبلاذري وابن الأثير وغيرهم بذكر رعبه وخوره في حرب القادسية وهو أمير للمسلمين فيها من قبل الخليفة عمر بن الخطاب فأحتجر في القصر أحتجار الضب في الوجار مع النساء والصبيان يزعم أن خراجاً – دنبلاً – خرج به فولى خالد بن عرفطة على الجيش وقد ذمه المسلمون وعيروه بالجبن فأكثروا، قال بعضهم يخاطب الخليفة:

تذكر هداك الله وقع سيوفنا                بباب قديس والمكر صرير

أنخت بباب القادسية ناقتي                                وسعد بن وقاص علي أمير

                وقال آخر:

نقاتل حتى أنزل الله نصره                                  وسعد بباب القادسية معصم

فأبنا وقد آمت نساء كثيرة                                    ونسوة سعد ليس فيهم أيم

                وقال جرير بن عبد الله البجلي أحد الصحابة وقواد الجيش العظماء:

أنا جرير كنيتي أبو عمرو                                     قد نصر الله وسعد في القصر

                ونظرت زوجة سعد وهي معه في القصر وكانت قبله تحت المثنى بن حارثة الشيباني إلى جلاد  المسلمين مع الفرس فقالت: هيجاء ولا مثنى لها، فلطمها سعد فقالت له: أغيره وجبناً!.

                هذه بعض الحكايات التأريخية عنه وقد انهزم يوم أحد وحنين فيمن انهزم من المسلمين وهذه الأمور معروفة عند أهل التاريخ، ولا تخفى على النبي (ص) حالة أصحابه فكيف يدفع لواءه لمن هو مظنة عدم الثبات في وقت هو بأقصى ما يكون من الحراجة لقلة من معه مع تكالب العرب عليه وإجلابهم على حربه ويدع من هو يقيني الثبات قطعي النكاية وهو منه، يا عجباً لا يعتمد في تبليغ براءة إلا عليه ويعزل الخليفة الأول ويقول: لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني كيف لا يقول لا يحمل لوائي إلا أنا أو رجل مني؟! إن هذه مباهتة غير خافية على ذوي اللب والبصيرة.

(75)

لواء علي «عليه السلام» يوم صفين

                ولا يقاس هذا بما صنع أمير المؤمنين علي «عليه السلام» يوم صفين كما ذكرنا حيث أنه اخرج اللواء من بني هاشم ودفعه إلى هاشم المرقال قد ذكرنا إن أراد أولاً مقابلة معاوية حيث أخرج لواء بني أمية منهم ودفعه إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي ليريه أن في أصحابه من هو أعظم من عبد الرحمن وغيره وأصبر على الجلاد وأعرف بفنون الحرب وهو المرقال لأن معاوية يزعم أن قريشاً كلها معه وليس مع علي «عليه السلام» إلا من لا غناء به ولا كفاءة معه فكذبه أمير المؤمنين «عليه السلام» بدفع لواءه إلى هاشم الذي عرفه معاوية وأهل الشام في حروب الروم أيام الخلفاء وكانت الجنود الشامية تبغض ملاقاته لما عرفوا من شجاعته وتجربته حين شهد معهم فتوح الشام والعراق وظهر له أثر عظيم وغناء مقدر في تلك المغازي خاصة اليرموك والقادسية وجلولاء ونهاوند وأمثالها وتلك المواقف أودعت في قلوب أهل الشام له روعة وزرعت في نفس اميرهم معاوية هلعاً وجبناً ورهبة أن يكون حامل لواء جيش علي «عليه السلام» هو المرقال، ولا شك معاوية وأهل الشام حيث يكون القائد الأعظم علي بن أبي طالب وآمر التنظيمات والخطط العسكرية هو الأشتر وأمير الحامية هو قيس بن سعد، وأمير الدعاية عمار بن ياسر، وأمير الزهاد والمتقشفين عبد الله بن بديل فهو الفناء لأهل الشام فأين مقام هذا من مقام سعد بن أبي وقاص الذي لم يمارس حرباً قبلها.

                وقد صرحت فلتات لسان معاوية عما في قلبه من كراهيته أن يحمل المرقال لواء أمير المؤمنين «عليه السلام» لخبرته بالحرب ومهارته بفنونة وإنه من أنجد الرجال شجاعة وبأساً وأشهرهم ذكراً في الجرأة والإقدام، وأشدهم ثباتاً في مقام تزل فيه الأقدام، نظر إليه يوماً من أيام صفين وهو يزحف باللواء زحفاً وكان يعرف بالمرقال لإرقاله في الحرب: إني أرى لصاحب الراية السوداء عملاً لأن دام عليه لتفنين العرب اليوم.

                وقال يوم آخر: إن اللواء مع المرقال ولئن زحف به اليوم إنه اليوم الأطول لأهل الشام.

                ونظر إليه يوم آخر مقبلاً فقال: من هذا؟ فقيل: هاشم، فقال: أعور بني زهرة قاتله الله، إلى غير ذلك مما ظهر في فلتات لسانه الدالة على رعبه وخوفه منه

(76)

فلذلك ود أن يحمله كل أحد غير هاشم، وأحب أمير المؤمنين «عليه السلام» إرعابه وإرغامه بما يكره.

                وهناك سبب ثالث غير السببين اللذين ذكرنا وهو أن في الجيشين المتقابلين بصفين جيش اهل العراق البالغ تسعين ألفاً وجيش أهل الشام البالغ مقداره مرتين وقد ضم كل واحد منهما تحت جناحيه وطوى في طيات قبه أبطال العرب الذين يكسر المائة منهم ألفاً من الفرس والرومان، ويقوم الفرد منهم مقام العشرة إلى المائة من الأمم فيحتاج أن يكون حامل لواءهم مجرباً محنكاً ماهراً بأساليب الحرب قد مارسها واختبرها مراراً وليس في بني هاشم بصفين من دخل حرباً قبل حرب البصرة أحد سوى ابن عباس وقد شغله بإمرة الميسرة.

                وهناك سبب رابع هو ان همة معاوية وأهتمامه القضاء على أهل البيت الهاشمي بكل ما يتمكن منه وجل سعيه في أن لا يبق لبني هاشم نافخ ضرمة وحامل اللواء معرض للتلف ولتكالب معاوية على استئصال الهاشميين كان أمير المؤمنين «عليه السلام» لا يأذن للحسن والحسين «عليهما السلام» ولا ليغرهما من بني هاشم أيام صفين إلا قليلاً في وقائع خاصة أذن فيها لولده محمد بن الحنفية ولابن أخيه عبد الله بن جعفر وقد أخبر «عليه السلام» عن قصد معاوية في إبادة أهل هذا البيت في نهيه للعباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وجميع هذه الأسباب منتفية عن سعد بن أبي وقاص فأعقل أيها الحر المتفكر.

ألوية النبي (ص)

                ويذكر الحلبي الشافعي في غزوة العشيرة أن لواء النبي (ص) حمله حمزة بن عبد المطلب وفي غزوة سفوان وهي بدر الأولى حمل لواءه علي بن أبي طالب «عليه السلام» وقال في غزوة بدر الثانية وهي بدر الكبرى: دفع النبي (ص) اللواء وكان أبيض إلى مصعب بن عمير وكان أمامه رايتان سوداوتان أحدهما مع علي بن أبي طالب «عليه السلام» يقال لها العقاب والأخرى مع بعض الأنصار.

                وعن ابن عباس: إن رسول الله (ص) أعطى علياً «عليه السلام» الراية يوم بدر وهو ابن 20 سنة.

                وفي الأمتناع: إنه (ص) عقد الألوية وهي ثلاث لواء يحمله مصعب بن عمير ورايتان سوداوتان أحدهما مع علي بن أبي طالب «عليه السلام» والأخرى مع بعض الأنصار، أما لواء قريش فكان بيد إبليس لعنه الله في صورة سراقة بن جشعم المدلجي.

(77)