موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

 

 

 

وكان كما قاله عمه                 أبو طالب أبيض ذو غرر

به الله يسقي صور الغمام                     وهذا العيان لذاك الخبر

                فقال رسول الله (ص): إن يك شاعر محسن فقد احسن، انتهى.

الاستسقاء بعلي والحسنين «عليهم السلام»

الاستسقاء بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»:

                كثير أيام خلافته، ويكفيك أدعيته في الاستسقاء التي رواها الصدوق «رحمه الله» في الفقيه(1) والرضي الموسوي «رحمه الله» في نهج البلاغة ولولا طولها لأوردتها فإنها آية من آيات البلاغة ومعجزة من معجزات الإبانة والإفصاح.

الاستسقاء بالحسن والحسين «عليهما السلام»:

                روى الصدوق (رحمه الله) في الفقيه(2) قال: جاء قوم من أهل الكوفة إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» فقالوا: يا أمير المؤمنين! أدع لنا بدعوات في الاستسقاء، فدعا علي «عليه السلام» بالحسن والحسين «عليهما السلام» فقال: ياحسن! أدع، فقال الحسن «عليه السلام»: (اللهم هيئ لنا السحاب بفتح الأبواب بماء عباب ورباب بأنصباب وأنسكاب وأسقنا مطبقة مغدقة مونقة أفتح أغلاقها وسهل إطلاقها وعجل سياقها بالاندية في الأروية بصوب الماء يا وهاب أسقنا مطراً قطراً مطلاً طبقاً مطبقاً عاماً معماً رشاً مرشاً واسعاً كافياً عاجلاً طيباً مباركاً سلاطح بلاطح يناطح الأباطح مغدوقاً مطبقاً آمين).

                ثم قال للحسين «عليه السلام»: أدع، فقال الحسين «عليه السلام»: (اللهم معطي الخيرات من مظانها ومنزل الرحمات من معادنها ومجري البركات على أهلها منك الغيث وأنت الغياث المستغاث ونحن الخاطئون وأهل الذنوب وأنت الغفار لا إله إلا أنت ارسل السماء علينا ديمة مدرارا وأسقنا الغيث واكفاً مغزاراً غيثاً مغيثاً واسعاً مسبغاً طلاً مريئاً مريعاً غدقاً مغدقاً عباباً مجلجلاً واضحاً ضحضاحاً بساساً مسبلاً عاماً ودقاً مطفاحاً ندفع الودق بالودق دفاعا، ونطلع القطر منه غير خلب البرق ولا مكذب الرعد تنعش به الضعيف من عبادك وتحيي به الميت من بلادك منة علينا منك آمين رب العالمين) فما أتم كلامه حتى صب الله الماء صباً، انتهى.

(1) من لا يحضره الفقيه: ص105.                 (2) من لا يحضره الفقيه: ص106.

(24)

زاد ملا عبد الله في (مقتل العوالم)(1): فأقبل أعرابي من نواحي الكوفة فقال: تركت الأودية والآكام يموج بعضها في بعض، إنتهى ولكنه ذكرها للحسين «عليه السلام» خاصة.

الاستسقاء بالعباس بن عبد المطلب

                من أراد أن يعرف فضيلة الشخص فلينظر إلى أثره فإن الإمام الذي يستسقي به الناس ويستغيث فيه رعيته اولى بمنصب الإمامة ممن يستسقي برعيته ويستغيث بهم، لا أحسب صاحب الانصاف لا يميز هذا وقد عرفت أن علياً وأبنيه «عليهم السلام» أستغاث بهم الناس فأغيثوا وأستسقوا بهم فسقوا، وهذا عمر بن الخطاب وهو الخليفة والإمام تفزع الناس إليه وتستغيث به فيفزع إلى رجل قد شمله يمنهم وبركتهم مستغيثا به وهو العباس عم النبي (ص) وهذه القصة مشهورة نقلها عامة المحدثين من أهل السنة وذكرها الحافظ الهيثمي الشافعي في الصواعق المحرقة والمحب الطبري الشافعي في ذخائر العقبى والماوردي الشافعي في أعلام النبوة وهذه نصه(2): ومن أعلام (ص) ما أظهره الله من كرامته في عمه العباس حين استسقى به عمر متوسلاً إليه بعمه فخرج يستسقي به وقد أجدب الناس فقال: اللهم إني أتقرب إليك بعم نبيك وبقية آبائه وكبير رجاله فأحفظ اللهم نبيك في عمه فقد دلونا به إليك مستشفعين به إليك مستغفرين.

                فقال العباس وعيناه تنضحان: (اللهم أنت الراعي لا تهمل الضالة فقد ضرع الصغير ورق الكبير وأرتفعت الشكوى وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم فأغثهم بغيائك من قبل أن يقنطوا فيهلكوا فإنه لا ييأس من روحك إلا القوم الكافرون)، فنشأت السحاب وهطلت السماء فطفق الناس بالعباس يمسحون أركانه ويقولون هنيئاً لك ساقي الحرمين، وقال حسان بن ثابت:

سأل الخليفة إذ تتابع جدبنا                 فسقى الغمام بغرة العباس

عم النبي وصنو والده الذي               ورث النبي بذاك دون الناس

أحيا به الله البلاد فأصبحت               مخضرة الأجناب بعد اليأس

                وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب يفخر بذلك:

بعمي سقى الله الحجاز وأهله            عشية يستسقي بشيبته عمر

  • مقتل عوالم العلوم: ص15. (2) أعلام النبوة: ص78.

(25)

توسل بالعباس في الجدب راغبا        فما كر حق جاء بالديمة المطر

                إنتهى، وهي واردة من طرقنا أيضا وإن اردتها فأطلبها من ( من لا يحضره الفقيه) للصدوف القمي(1) وهذا الاستسقاء إنما كان بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» وأولاده حقيقة بالعباس صورة ففي بعض طرق الحديث الذي رواه الحافظ ابن عساكر الشافعي في تاريخ الشام(2) وهو نص لمن ترك نص لمن ترك المجازفة وجانب المكابرة ولفظة عن جابر: إن السنة أصابت أهل المدينة سنة الرمادة استسقوا ثلاث مرات فلم يسقوا، فقال عمر: لأستسقين غدا بمن يسقينا الله به فأخذ الناس يقولون: بعلي بحسن بحسين، فأرسل إلى بني هاشم أن تطهروا وألبسوا من صالح ثيابكم وخرج العباس وعلي «عليهما السلام» أمامه والحسن «عليه السلام» عن يمينه والحسين «عليه السلام» عن يساره وبنو هاشم خلف ظهره، فقال لعمر: لا تخلط بنا غيرنا ثم أتى المصلى فوقف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (اللهم إنك خلقتنا ولم تؤامرنا وعلمت ما نحن عاملون فلم يمنعك علمك فينا عن رزقنا اللهم فكما تفضلت علينا في أوله فتفضل علينا في آخره)، فما برحنا حتى سحت السماء علينا سحا، فما وصلنا إلى منازلنا إلا خوضا، فقال العباس: أنا ابن المسقي – كررها خمس مرات(3) -.

                فقيل لموسى بن جعفر «عليه السلام» كيف ذاك؟ قال: الستسقى فسقي عام الرمادة، واستسقى عبد المطلب فسقي زمزم فنافسته قريش فقالوا أئذن لنا في ها فأبى فحاكموه إلى راهب إيلياء فلما كان في الطريق قال للقرشيين: أسقونا؟ فأبوا فركب راحلته لما نهضت انبعثت من تحت خفها عين فشرب وسقاهم فقالوا: إن الذي أسقاك في الفلاة هو الذي أسقاك زمزم فأرجع فلا خصومة لنا معك.

                وكان له أرض بالطائف فغلبه عليها بنو ذباب وبنو كلاب ثم غلبهم عليها فحاكموه إلى سطيح الكاهن فلما كان بالطريق استسقىبني كلاب وبني ذباب فلم يسقوه وقالوا: موتوا عطشا فركب راحلته وخرج فأنبعثت له عين ماء فرجع إليه أصحابه فشربوا وشرب معهم بنو كلاب وبنو ذباب بعدما أراقوا ماءهم الذي معهم

  • من لا يحضره الفقيه: ص107. (2) تاريخ دمشق 7/ 347.

(3) سقي عبد المطلب خمسا هي: زمزم، والعين في مخاصمة قريش له في زمزم، والعين في مخاصمة حرب بن أمية له، واستسقى لقريش، واستسقى لقيس فهذه خمس مرات فصلها التأريخ. (المؤلف).

(26)

ثم رحلوا إلى سطيح فقالت بنو ذباب: ما ندري أصادق فيما يقضي بيننا، فخبأ رجل منهم ساق جرادة فلما قدموا عليه قال الرجل: إني خبأت لك خبيئاً فما هو؟ فقال: ظهره كالفقار طار فأستطار وساق كالمنشار، ألق ما في يدك فألقى ساق جرادة وخبأ رجل منهم تمرة وقال: خبأت لك خبيئة، فقال: طال فبسق وأينع فاطعم ألق التمرة، وخبأ له آخر رأس جرادة خرزها في مزادة فعلقها في عنق كلب يقال له يسار فقال: خبأت لك فما هو؟ قال: رأس جرادة خرزت في مزادة في عنق كلبك يسار ثم أختصموا إليه فقضي لعبد المطلب بالمال فغرموا لعبد المطلب مائة ناقة وغرموا لسطيح مائة ناقة فقدم عبد المطلب فأستعار قدوراً فنحر وأطعم الناس حوله ثم أرسل إلى جبال مكة فنحر فأكلته السباع والطير والناس، والخامسة أسقى الله إسماعيل زمزم ألخ، وذكر أشعاراً قيلت في مدح العباس.

                ومن تدبر القضايا وتبحر فيها علم أن الأستسقاء كان بعلي وأبنيه الحسن والحسين «عليهم السلام» ولكن السياسة العمرية أبت إلا عجرفية وأنحرافاً فناطت الأمر بالعباس تعمية وتمويها بأنه هو الذي استقى فسقي، ورمز هذه السياسة إلى صرف الناس عمن له حق الخلافة وأهلية الإمامة والزعامة دون العباس الذي أجمعوا إنه لا حق له لأنه من مسلمة الفتح بزعمهم فأخرجوه من السقيفة والشورة معاً لذلك، ولكن العباس العم المبارك كان يعرف إشارات السياسة ويترجم رومزها لذلك صارح الخليفة بأن لا يخلط بهم غيرهم.

                وهل تعرف فائدة هذا الشرط وما الغرض منه؟ أما الفائدة فلأجل أن لا يتوهم المتوهم الساذج أن هذه الكرامة ظهرت لأجل الخليفة عمر أو لأجل أعيان الصحابة الموجودين فإذا أنفرد الهاشميون زال هذا الوهم وتبين الحق المحض، وأما الغرض فهو رمز خفي يشير فيه إلى أن من منه الاجابة وقد توسل ثلاثا أن يسلم الإمرة لمن سأل مرة فأستجيب له لكرامته عند الله وعناية الله به، هذه حسرة في نفس العباس بثها وزفرة أخرجها الأسف على ما فاتهم من إدراك المنصب الإلهي الذي كان لهم وكانت هذه الحسرة تخالج نفس العباس بن عبد المطلب منذ قال لعلي «عليه السلام»: يا ابن أخي دعني أبايعك فيقال عم رسول الله بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك اثنان وتجد ضمير العباس بن عبد المطلب يتوقد حماساً ويسطر على طرس الفكر ما رمزه إذا دهى الإسلام بالدواهي وأصيب بالفوادح النكراء دعى لتفريجها علي فعباس فحسن فحسين، وإذا كانت إمرة وأمر نهي وقسمة أموال وأمثالها دعي لها رجال سواهم ولسان حاله ينشد متمثلاً:

(27)

وإذا تكون كريهة أدعى لها                  وإذا يحاس الحيس يدعى جندب

ومن أنواع السقاية السليمة تفجر الماء من الأرض الصماء على جهة المعجزة والكرامة:

                وهذا النوع خاصة ببني هاشم فقد فجر الله لعبد المطلب عيناً بعد أن أخرج له زمزم ونازعته قريش وحاكموه إلى كاهنة بني سعد بن هذيم وكانت بمشارف الشام وفجر له عيناً أخرى حين نازعه حرب بن أمية وبنو كلاب على ماله الذي بالطائف المعروف بذي الهدم واكتفينا بالإشارة إلى القصتين بما قدمنا في أستسقاء عمر بالعباس مراعاة للاختصار وأوردناهما تفصيلاً في كتابنا (الميزان الراجح) في ترجمة عبد المطلب وأطلب قصة المنازعة على زمزم من السيرة الهاشمية(1) وقصة المنازعة على ذي الهدم من مجمع الامثال للميداني في شرح قولهم: الأده فلاده.

نبوع العين لرسول الله (ص) بسوق ذي المجاز:

                ذكر البرهان الحلبي في سيرته(2) عن أبي طالب بن عبد المطلب قال: كنت بذي المجاز وهو موضع على فرسخ من عرفة وكان سوقاً للجاهلية مع ابن أخي – يعني النبي (ص) – فأدركني العطش فشكوت إليه فقلت له: يا ابن أخي! قد عطشت وما قلت له ذلك وأنا أرى عنده شيئاً إلا الجزع أي لم يحملني على ذلك إلا الجزع وعدم الصبر. قال: فثنى وركه ونزل عن دابته ثم قال: يا عم! عطشت؟ قلت: نعم، فأهوى بعقبه إلى الأرض – وفي رواية إلى صخرة – فركضها برجله وقال شيئا فإذا أنا بالماء لم أرى مثله، فقال: أشرب فشربت حتى رويت، فقال: أرويت؟ قلت: نعم، فركضها ثانية فعادت كما كانت، انتهى.

نبوع العين لأمير المؤمنين «عليه السلام» في مسيرة إلى صفين

                رواها جماعة من المحدثين منهم من الشيعة نصر بن مزاحم في كتاب صفين، وأبن شهر آشوب في المناقب، والصدوق في الأمالي، والمفيد في الارشاد، والمجلسي في البحار، ومن السنة ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي في شرح النهج، والخطيب البغدادي الشافعي في تأريخ بغداد وغيرهما.

                قال المجلسي في بحاره(3): قال في المناقب: ذكر أهل السير عن حبيب بن الجهم وأبي سعيد التيمي، والنطنزي في الخصائص، والاعثم في الفتوح،

  • سيرة ابن هشام 1/ 134. (2) السيرة الحلبية 1/ 39.
  • بحار الأنوار 9/ 657.

(28)

والطبري في كتاب الولاية بإسناد له عن محمد بن القاسم، وأبو عبد الله البرقي عن شيوخه عن جماعة من أصحاب علي «عليه السلام» أنه نزل أمير المؤمنين «عليه السلام» بالعسكر عند وقعة صفين عند قرية صندودا فقال مالك الأشتر: تنزل على غير ماء، فقال يا مالك! إن الله سيسقينا في هذا المكان فأحتفر أنت وأصحابك، فأحتفروا فإذا هم بصخرة سوداء عظيمة فيها حلقة لجين فعجزوا عن قلعها وهم مائة رجل، فرفع أمير المؤمنين «عليه السلام» يده إلى السماء وهو يقول كلمات رموز قال في آخرها: آمين رب موسى وهارون، ثم أجتذبها فرماها عن العين أربعين ذراعاً فظهر ماء أعذب من الشهد وأبرد من الثلج وأصفى من الياقوت فشربنا وسقينا، ثم رد الصخرة وأمرنا أن نحثوا عليها التراب وسرنا غير بعيد فقال: من فيكم يعرف موضع العين؟ قلنا: كلنا، فرجعنا فخفي مكانها علينا فإذا راهب مقبل من صومعة، فلما بصر به أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: شمعون؟ قال: نعم هذا أسم سمتني به أمي ما أطلع عليه إلا الله وأنت، قال: وما تشاء يا شمعون؟ قال: هذه العين، قال: هذه عين ناحرما وهي من الجنة شرب منها ثلاثمائة وثلاثة عشر وصياً وأنا آخر الوصيين شربت منها. قال: هكذا وجدت في جميع كتب الانجيل وهذا الدير بني على هذه الصخرة ومخرج الماء من تحتها ولم يدركه عالم قبلي غيري وقد رزقنيه الله، ثم أسلم ثم رحل أمير المؤمنين «عليه السلام» والراهب معه حتى نزل صفين، فلما التقى الصفان كان أول من أصابته الشهادة، فنزل أمير المؤمنين «عليه السلام» وعيناه تهملان وهو يقول: المرأ مع من أحب، الراهب معنا يوم القيامة، ألخ.

                وفي حديث نصر بن مزاحم العطار في كتاب صفين(1): قال أبو سعيد التيمي المعروف بعقيصا قال: كنا مع علي «عليه السلام» في مسيره إلى الشام حتى إذا كنا بظهر الكوفة من جانب هذا السواد عطش الناس وأحتاجوا إلى الماء، فأنطلق بنا علي «عليه السلام» حتى أتى بنا على صخرة ضرس من الأرض كأنها ربضة عنز فأمرنا فأقتلعناها فخرج لنا ماء فشرب الناس منه وأرتووا ثم أمرنا فأكفأناها عليه. قال: وسار الناس حتى إذا مضينا قليلا قال علي «عليه السلام»: منكم أحد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه؟ قالوا: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فأنطلقوا إليه، فأنطلق منا رجال ركبانا ومشاة فأتصصنا الطريق حتى انتهينا إلى المكان الذي نرى أنه فيه، قال: فطلبنا فلم نقدر على شيء حتى إذا عيل علينا أنطلقنا إلى دير

  • وقعة صفين: ص77.

(29)

قريب منا فسألناه عن الماء الذي هو عندهم قالوا: ما قربنا ماء، قلنا: بلى إنا شربنا منه، قال: أنتم شربتم منه؟ قلنا: نعم، قال:مابني هذا هذا الدير إلا لذلك الماء، وما أستخرجه إلا نبي أو وصي نبي، انتهى.

                وما تحدث به الخطيب البغدادي الشافعي في تأريخ بغداد(1) عن ابي سعيد عقيصا قريب من حديث نصر إلا أنه قال: أرتفع من الأنبار وصرح بقول الراهب أن لا يخرجه إلا نبي أو وصي نبي وقال لفظ حديث الأعمش والآخر بمعناه،ورواه محمد بن فضيل عن الأعمش هكذا وإيراد الألفاظ تطويل.

نبوع العين للحسين «عليه السلام» يوم كربلاء

                ذكر عبد الخالق اليزدي في مصائب المعصومين في حديث عاشوراء ما لفظه(2): فلما أشتد بهم العطش أخذ الحسين «عليه السلام» فأساً وجاء إلى وراء خيمة النساء فخطى في الأرض تسعة عشر خطوة نحو القبلة ثم حفر هناك فنبعت له عين من الماء العذب فشرب الحسين «عليه السلام» وشرب الناس بأجمعهم وملأوا أسقيتهم ثم غارت العين فلم ير لها أثر، وبلغ ابن زياد لعنه الله فأرسل إلى عمر بن سعد لعنه الله: بلغني أن الحسين يحفر الآبار ويصيب الماء ويشرب هو وأصحابه؛ فأنظر إذا ورد عليك كتابي فأمنعهم من حفر الأبار ما أستطعت وضيق عليهم ولا تدعهم يذوقوا الماء وأفعل بهم كما فعلوا بعثمان فعندها ضيق عمر بن سعد عليهم غاية التضييق إلخ.

كلمة المؤلف حول هذه العجرفية النكراء:

                لم يزل عبيد الله بن زياد ينحوا مناحي معاوية بن أبي سفيان في العجرفية ويحذوا حذوه في الميل عن خطة العدل وجادة الانصاف فهو يسير على خطته التي اختطها ويسايره في طريقه المهلك جنبا لجنب.

                كان معاوية في إمساكه شريعة الفرات وبمنعه الماء عن أهل العراق جيش أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» يوم صفين يهتف معلناً: أقتلوهم عطشا كما قتلوا عثمان، يستغوي بذلك جيش الطغام المحتشد حوله من غوغاء أهل الشام ويستغوي سقاط العرب وإجلاف الأمة الذين جمعوا من النذالة والشقاوة لؤم العنصر ودناءة الأعراق وقبح العقيدة مع الجهل الفاضح والغباوة المفرطة قد طرقتهم الأخبار الصادقة والأنباء المصرحة لهم بغير تعمية ولا تغليط أن عليا «عليه

(1) تأريخ بغداد 13/ 305.                                           (2) مصائب المعصومين: ص234.

(30)

السلام» في حصار عثمان قد التزم خطة الحياد التام بعد أن رد عليه عقمان نصائحه وإرشاداته في إظهار الإنصاف للأمة ونشر العدل في أهل الإسلام والرفق بأصحاب محمد (ص) فرفض عثمان تلك النصائح رفضاً باتاً ورد هاتيك الإرشادات رداً علنياً غير مكاتم ولا مسر مؤثراً هوى مروان الأحمق، شارياً رضا الوزغ المائق الطريد اللعين بسخط الله، وأختار شغب الأمة الصالحة بسياسة مروان الملعونة حتى أن زوجته نائلة عنفته وقالت: أغضبت الشيخ الناصح علي ابن أبي طالب فهو غير عائد إليك ولن يدعك مروان حتى يوردك الحتف أو ما هذا معناه فزجرها فالتاثت عليه الأمور وأرتبكت الأحوال وأختل النظام السياسي وزل عن محوره فأنثالت عليه جيوش المسلمين الذي أستنهضتهم صرخة الصحابة وضجيج أمهات المؤمنين سيما أم المؤمنين عائشة وصاحبتها حفصة إذ نادتا أن ثوب النبي لم يبلى وعثمان قد أبلى سنته، وعائشة هي التي سمته نعثلاً، وطلحة والزبير المعدودين في العشرة ومن الحواري القائلين هلموا إلينا فإن الجهاد عندنا بالمدينة.

                فتداعى المسلمون إجابة لهن ولهم على حربه من أقطار الأرض حتى حصروه في داره، هذا وأمير المؤمنين «عليه السلام» يدافع عنه دفاعا سياسياً نظراً لما يجيء به المستقبل وتولده العاقبة من انتشار الفتن في الإسلام وحقاً كان ذلك فإن عثمان كما قيل الفتنة الكبرى فدافع عنه أمير المؤمنين «عليه السلام» لذلك دفاعاً سهلاً مع التزامه الخطة الحيادية وإحكامه القواعد السلمية وتركه الدخول في مهرجانات الحرب التي لم تضطره إليها الظروف الحرجة التي حدثت به فهو «عليه السلام» لم يزل يواصل عثمان بإرسال قرب الماء إليه مع أولاده وخدمه حين صدت أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان ومنعت وأريق الماء الذي كانت تحمله إلى عثمان في حصاره فلم يشرب عثمان الماء مدة الحصار إلا من ناحية أمير المؤمنين «عليه السلام» لأن المتجاسر على منع غيره لا يتجاسر على منعه فحتى ذبح عثمان ريان الكبد من فضل أمير المؤمنين «عليه السلام».

                ثم تقابل أدعياء بني أمية الشجرة الملعونة في القرآن تلك الفعلة الكريمة واليد البيضاء بالجحود والكفران فتضحي ولده الحسين «عليه السلام» يوم الطف عطشاناً زاعمين إنهم يريدون الاقتصاص منه لعثمان تلك بهرجة المموهين وهم سفالة الأسفلين وحثالة الأرذلين لا لعمر الله ليسوا من أهل القصاص ولا أرباب القصاص ولا من الذين يهمهم أمر عثمان وليس يساوي دم عثمان عند معاوية قلامة، ولا يوازن ذرة من قمامة لولا أن نصبه شرك الاحتيال لاحتبال الخلافة وانتشال صولجان الحكم واغتصاب تاج المملكة الإسلامية.

(31)

                كيف وقد تربص معاوية بعثمان ولج في تخذيل الناس عن نصرته واقعدهم عن المسير إليه فقد نهض يزيد القسري مهتماً بنصرته عازماً على المسير إلى المدينة لاستنقاذه فثبطه معاوية واقعده مموهاً عليه بالتسويف والمواعيد الكاذبة حتى قتل عثمان ولو سار لأدركه حياً، وهذا أمر نصت عليه الأسفار التأريخية المعتبرة وخلدته الصحف الأثرية المعتمدة.

                فأستبان أن غرض معاوية التوصل إلى نيل السلطان وأختطاف الإمرة بواسطته لذلك لم يجد بداً من نسبة قتله إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» وما خبأته نفس معاوية الشرهة قد اخرجته فلتات لسانه، أليس هو القائل لأم المؤمنين عائشة: ليتك قتلت يوم الجمل؟ قالت: مالك تتمنى موتي؟ قال: إنك تموتين بأجلك وتدخلين الجنة بمشيئة الله ونجعلك من أكبر التشنيع على علي بن أبي طالب! وهذا خبث عظيم وشرارة جبارة وإذا كان هذا رأيه في أم المؤمنين تصريحاً فهو رأيه في عثمان تلويحاً، ولو كان من أهل المودة لعثمان لجعل لولده نصيباً من السلطان أو عظمهم وأكرمهم.

                أليس هو الذي عزل مروان عن المدينة لأن لم يضرب عمرو بن عثمان لما أستعدت عليه زوجته رملة بنت معاوية أنه لم يواقعها؟.

                أليس معاوية الذي أجاب سعيد بن عثمان جواباً غليظاً لما قال له: إنك نلت الملك بأبي عثمان؟ كل هذه الأمور قد أوقفنا عليها التاريخ فأي قصاص لبني أمية عند بني هاشم إن قتل المسلمون عثمان عطشا والصحابة ملئ المدينة فلو كان هذا عندهم حراما أو أنه يحب ما تركوا القيام به وإنما كان الفضل لأمير المؤمنين «عليه السلام» فيها على عثمان خاصة وعلى بني أمية عامة، ودعوى المدعين أن الصحابة عجزوا عن مقاومة الجيش الغازي لعثمان فمكابرة وتمويه، الجيش الغازي على أكثر الأقوال ألف وخمسمائة وقيل ألف وقيل ثمانمائة، والصحابة وأبناؤهم ألوف وقد قاوموا وهم ثمانمائة جيش قريش وهم ثلاثة آلاف، وجيش الأحزاب يوم الخندق وهو عشرة آلاف فكيف يعجزون عن جيش أقل من عددهم وقد غزاهم في دارهم؟ ولا يقاس بهذا جيش الحرة فإنه كثير وأدخل بخيانة فأستدبرهم فهلكوا بهذا السبب؛ فافهم وخذ النصيحة تنجيك من الهلكة.

نبوع العين لعبد الله بن  جعفر

                وقد شمله يمن النبي وعلي والحسن والحسين «عليهم السلام». قال الحافظ

(32)

ابن عساكر الدمشقي الشافعي في تأريخه(1). كان عبد الله بن جعفر أسلف الزبير ألف ألف درهم، فلما توفي الزبير قال ابنه عبد الله لابن جعفر: إني أجد في ديوان أبي أن له عليك ألف ألف درهم، قال: هو صادق فأقبضها إذا شئت، ثم لقيه بعد فقال: يا أبا جعفر! إنما وهمت المال لك عليه، قال: فهو له، قال: لا أريد ذلك، قال: فأختر إن شئت فهو له وإن كرهت ذلك فلك فيه نظرة ما شئت فإن لم ترد ذلك فبعني من ماله ما شئت، فقال: أبيعك ولكن أقوم، فقوم الأموال ثم أتاه فقال: أحب أن لا يحضرني وأياك أحد، فقال عبد الله: يحضرنا الحسن والحسين «عليهم السلام» فيشهدان لك، فقال: ما أحب أن يحضرنا  أحد، قال: أنطلق، فمضى معه فأغطاه خراباً وسباخاً لا عمارة له وقومه عليه حتى إذا فرغ قال عبد الله لغلامه: ألق لي في هذا الموضع مصلى، فألقى له في أغلظ موضع من تلك المواضع مصلى، فصلى ركعتين وسجد فأطال السجود يدعو، فلما قضى ما أراد من الدعاء قال لغلامه: أحفر في موضع سجودي فحفر فإذا عين قد أنبطها الله فقال له ابن الزبير: اقلني، فقال: أما دعائي وإجابة الله إياي فلا أقيلك، فصار ما أخذ منه أعمر مما في يد ابن الزبير، انتهى.

من أنواع السقاية السلمية

                سقاية الاضياف والمجتازين، وقد دلت على هذا النوع أحاديث كثيرة نذكر بعضها تيمناً، وهذا النوع لا يخص بني هاشم بل يعم جميع المسلمين، ولفضيلته جعل المسلمون السقايات المسماة بـ (السبيل) في الطرق والجواد التي هي مظنة العطش، فقد ذكر الدربندي في أسرار الشهادة(2) عن الصادق «عليه السلام»: من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمن أعتق رقبة، ومن سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء كان كمن أحيا نفساً ومن أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً.

                وعن النبي (ص) قال: إن الله يحب إبراد الكبد الحراء، ومن سقى كبداً من بهيمة أو غيرها أظله الله يوم لا ظل إلا ظله، إنتهى في أحاديث كثيرة متقاربة المعنى، وهي وغيرها نص في فضل من سقى الماء في السلم آمناً على نفسه من القتل، واثقاً بسلامته من النتلف، فكيف لو قارن سقي الماء مظنة تلف النفس والإشراف على العطب، وهذه الفضيلة أمتاز بها مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي

  • تاريخ مدينة دمشق 7/332. (2) أسرار الشهادة: ص73.

(33)

طالب وولده العباس الأكبر ( «عليهما السلام») والشبل من ذاك الأسد.

                وأنا اقول بلا تجاسر على مولانا أمير المؤمنين «عليه السلام»: إن موقف العباس «عليه السلام» أفظع هولاً وإن كان كلا الموقفين رهيب حيث أن أمير المؤمنين «عليه السلام» سقى الصحابة في بدر والحديبية وليس فكره متعلقاً بشيء سوى عطش رجال كبار يصبرون على مكابدة الظمأ ويستطيعون معاناة شدة العطش وأما حراجة الموقف من حيث قوة العدو وشدة شوكته فلا يرهبه أمير المؤمنين «عليه السلام» لأنه لا يخاف الأعداء قلوا أو كثروا، وكيف وهو القائل لأهل الكوفة، أخرجوا معي ثم فروا عني فإني والله لا أبالي أوقعت على الموت أو وقع الموت علي، ولألف ضربة بسيف في سبيل الله اهون علي من موتة على فراش، وهو القائل يوم البصرة وقد طلب شراباً فأتوه بعسل فذاقه فقال: هذا عسل طائفي، فقال له ابن أخيه جعفر: عجباً منك يا عم في مثل هذا الموقف تعرف الطائفي من غيره، فقال: والله يا ابن أخي ما ملأ صدر عمك من جمعهم هذا شيء.

                وإن أبا الفضل العباس بن علي «عليه السلام» سقى العطاشى بكربلاء وكان قصد المسناة دع عنك ما عليها من العسكر العظيم فإنه ابن أبيه لا يرهب الجموع المتكدسة أمامه قلت أم كثرت وليس فكره متعلقاً بعطش الكبار فقط بل قصد المشرعة بعد أن سمع صراخ الأطفال وضجيج النساء: وأعطشاه، فهزته الحمية الشماء وأنهضته الهمة العالية حين سمع لهن، رنة عظيمة لشدة الظمأ والصبية يتصارخون فمنهم من قصد مخيم الأنصار يطلب منه الماء، ومنهم من تعلق بأذيال الحوراء زينب وإنها «عليها السلام» - كما في بعض المقاتل – رجت لبعض مضارب الأنصار تطلب فيه ماء لبعض الصبية الرضع وخلفها لمة كبيرة من الصبيان كلهم ينادون واعطشاه، فأبت مروة العباس «عليه السلام» وشيمته أن يغضي على تلك الحالة المزعجة وارتاع لها وارتاح لورد المنية قبل ورد المباح المحرم عليهم وصمم بعزمه الثابت على قصد المشرعة وإن أقامت عليها سداً منيعاً أسلحة الأعداء فاعتقل القناة عاقداً بها العلم حاملاً للقربة منتضياً مرهفه فما عاد إلا بالماء على رغم الأعداء.

السقاية الحربية

                لا خفاء إنها أجل السقايات وإن كانت السقاية على نحو المعجزة عظيمة في بابها ولكن هذه تمتاز على الجميع لما فيها من المخاطرة بالنفس وتعريضها للتلف

(34)

ولا يتجاسر عليها إلا من تمت شجاعته وكملت مروته وحميته وهذه أختص بها أمير المؤمنين «عليه السلام» وأنجاله دون سائر الصحابة وسائر العرب.

                روى ابن شهر آشوب في كتاب المناقب(1) قال: في كتاب فضائل الصحابة عن أحمد وخصائص العلوية عن النطنزي قال الحارث: لما كانت ليلة بدر قال النبي (ص): من يستقي لنا فأحجم الناس فقام علي «عليه السلام» فأحتضن قربة ثم أتى بئراً بعيدة القعر مظلمة فأنحدر فيها فأوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل تأهبوا لنصر محمد وحزبه فهبطوا من السماء لهم لغط يذعر منه من سمعه فلما حاذوا البئر سلموا عليه من عند آخرهم إكراماً وتبجيلاً.

                محمد بن ثابت بإسناده إلى ابن مسعود، والفلكي المفسر بإسناده إلى محمد ابن الحنفية قال: بعث رسول الله (ص) علياً «عليه السلام» في غزوة بدر أن يأتيه بالماء حين سكت أصحابه عن إيراده فلما أتى القليب وملأ القربة فجاءت ريح فأهرقته وهكذا في الثانية والثالثة، فلما كان في الرابعة ملأها فأتى به النبي (ص) فأخبره بخبره فقال رسول الله (ص): أما الريح الأولى فجبرئيل في ألف من الملائكة سلموا عليك، والريح الثانية ميكائيل في ألف من الملائكة سلموا عليك، والريح الثالثة إسرافيل في ألف من الملائكة سلموا عليك.

                وقد رواه عبد الرحمن بن صالح بإسناده عن الليث فكان يقول: كان لعلي «عليه السلام» في ليلة واحدة ثلاثة آلاف منقبة وثلاثة مناقب ثم يروي هذا الخبر ثم ذكر ابيات السيد الحميري وهي قوله (رحمه الله):

أقسم بالله وآلائه                                   والمرء عما قال مسئول

إن علي بن أبي طالب                            على التقى والبر مجبول

وإنه كان الإمام الذي                           له على الأمة تفضيل

يقول بالحق ويعني به                           ولا تلهيه الأباطيل

كان إذا الحرب مرتها القنا                   وأحجمت عنها البهاليل

يمشي إلى الروع وفي كفه                     أبيض ماضي الحد مصقول

مشي العفرني بين أشباله                      أصحره للقنص الغيل

ذاك الذي سلم في ليلة                         عليه ميكال وجبريل

جبريل في ألف وميكال في                  ألف ويتلوهم اسرافيل

(1)  المناقب لأبن شهر آشوب 2/ 165.

(35)

في يوم بدر بدداً كلهم                          كأنهم طير أبابيل

سقاية علي «عليه السلام» للصحابة يوم الحديبية

                روى الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإرشاد بإسناده إلى عبد الله بن سالم قال: لما خرج رسول الله (ص) في عمرة الحديبية نزل الجحفة فلم يجد بها ماء فبعث سعد بن مالك – يعني ابن أبي وقاص – بالروايا حتى إذا كان غير بعيد رجع سعد بالروايا وقال: يارسول الله! ما أستطيع أن أمضي وقد وقفت قدماي رعباً من القوم، فقال له النبي (ص): أجلس، ثم بعث رجلاً آخر فخرج بالروايا حتى إذا كان بالمكان الذي إنتهى إليه الأول رجع فقال له رسول الله (ص) لم رجعت؟ فقال: يا رسول الله! الذي بعثك بالحق نبياً ما أستطعت أن أمض رعباً، فدعا رسول الله (ص) أمير المؤمنين «عليه السلام» فأرسله بالروايا وخرج السقاة وهم لا يشكون في رجوعه لما رأوا من رجوع من تقدمه، فخرج «عليه السلام» بالروايا حتى ورد الحرار فاستقى ثم أقبل بها إلى النبي (ص) فلما دخل كبر النبي (ص) ودعا له بخير، إنتهى.

سقاية الحسين «عليه السلام» لأهل العراق

                قد تكررت سقاية الحسين «عليه السلام» لأهل العراق سقاهم ثلاث مرات بدعائه وسيفه ووعائه: أما سقايته لهم بدعائه فقد تقدمت: وأما سقايته لهم بسيفه فقد روى بعض علماءنا أن معاوية لما ملك الشريعة على أهل العراق يوم صفين بعث أمير المؤمنين «عليه السلام» في الخيل الحسين بن علي «عليهما السلام» ومالك بن الحارث الأشتر فأزالا أهل الشام عنها وملكاها فوردها أهل العراق وصارت في أيديهم حتى انقضت الحرب.

                وأما سقايته لهم بإناءه ووعاءه فذاك لما لقيه الحر بن يزيد الرياحي وقد أثر العطش فيه وفي جنده.

                روى أبو جعفر الطبري في التاريخ(1) عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الاسديين، ورواها الشيخ المفيد وغيره عنهما قالا: أقبل الحسين «عليه السلام» حتى نزل شراف فلما كان وقت السحر أمر فتيانه فأستقوا من الماء فأكثروا ثم ساق القصة في مسيره ولقاء الحر وقال: فقال الحسين «عليه السلام»: أسقوا

(1) تاريخ الطبري 6/338.

(36)

القوم وارووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفاً، فقام فتيانه وسقوا القوم من الماء حتى أرووهم من الماء وأقبلوا يملأون القصاع والطساس والانوار من الماء ثم يدونونها من الفرس فإذا عب فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه وسقوا آخر حتى سقوا الخيل كلها.

                قال هشام: حدثني لقيط عن علي بن الطعان المحاربي قال: كنت مع الحر بن يزيد فجئت في آخر من جاء من أصحابه فلما رأى الحسين ما بي وبفرسي من العطش قال: أنخ الراوية، والراوية عندنا السقاء، ثم قال: يا ابن أخي! أنخ الجمل فأنخته فقال: أشرب، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء فقال: أخنث السقاء أي أعطفه، قال: فجعلت لا أدري كيف افعل، قال: فقام الحسين فخنثه فشربت وسقيت فرسي ألخ.

                هذه هي الهمم العالية وهذه شيم الأحرار الراقية، هذه شمائل السادات العظماء أحيا سلام الله عليه تلك النفوس الشريرة والارواح الخبيثة أنفس الطغاة الطغام التي هي بالهوان أولى منها بالكرامة، وبالإتلاف أحرى منها بالسلامة لأن هذه العصابة الفاجرة والفئة الجائرة أقبلت مصرة على محق الحق وعازمة على جد أصول العدل ومصممة على أستئصال جرثومة الوحي وقطع شجرة النبوة الباسقة فروعاً وأغصاناً وجادة كل الجد جاهدة على إطفاء نور الله المضيء في بلاده.

                وقد سنحت الفرصة بقطع دابر هذه العصابة المتمردة وأمكنت الحازم الأريب من استئصالها وأبادتها فيستريح العالم الإسلامي من جورها وعدوانها ولكن أبت نفسه الحرة وأعراقه الكريمة وشيمه النفاحة بالفواضل عن ارتكاب الفعلة التي لا تلائم طباع الاحرار ولا تتفق مع شيم الازكياء وإن عدها المحاربون حزماً ويقظة وأتخذوها فرصة سانحة وأعتبرها الساسة فتحاً معجلاً.

                فإنه «عليه السلام» وكل ذي حفيظة شماء وأنف وشمم يراها ويعدها دناءة وخسة ويعتدها وصمة لا تناسب مجده التليد، ولا تلائم شرفه العتيد فأمر بإروائهم حيث أشرفوا على التلف وأشفوا على الهلاك، ولو صادفت هذه الفعلة الكريمة نفوس عرب اقحاح وأماجد أحرار ولو كانت منه إلى رجال شرف ومفخرة لكانت منة من أعظم المنن ونعمة من أكبر النعم طوقهم بها كريم وأسدى لهم يداً بيضاء يجب شكرها على أعقاب الأعقاب ونسل النسل، ولكن ياللأسف صادفت تلك المنة العظيمة واليد البيضاء نفوس أهل الكوفة الخسيسة ذات الأكباد الغليظة والطباع الجافية الجلفية والاعراق الدنيئة فأصبح الشكر الواجب عليه كفراناً

(37)

وجحوداً، لم يمض على هذه القصة أكثر من عشرة أيام حتى قابله اولئك الأوغاد الطغام بأشد ما يكون من القسوة، وأظهروا من الغلظة والجفاء والوقاحة القحة والصلف والفظاظة مالم يقع له نظير، وحصروه في فلاة جرداء مقفرة ومفازة بعيدة عن الريف، ومنعوه ورد المباح المشترك بين سائر الحيوان، ويقول قائلهم بلا أكتراث ولا مبالاة ولا حياء ولا أمتعاض مما يأنف منه الاحرار، ولا يجسر على التلفظ بما دونه العربي الكريم: يا حسين! أنظر إلى ماء الفرات كأنه بطون الحيات والله لا تذوق منه قطرة واحدة إلخ.

                مع علمهم أنه ابن رسول الله (ص) وريحانته وابن سيد الأوصياء وابن سيدة النساء، وهو وأخوه سيد شباب أهل الجنة وإنه إمام حق مفترض الطاعة نصاً صريحاً لقول رسول الله (ص) فيه وفي أخيه الحسين «عليه السلام»: «ولداي هذان إمامان قاما أو قعدا»، فلم يرعوا تلك الحرمة ولم يفوا بتلك المنة، ولم يجازوا بتلك اليد ولا بأبعاضها فقد حملته ارقة وأخذته الرأفة حتى بدوابهم التي تحملهم إلى حربه فأمر بترشيفها وإروائها فمارق أولئك الأجلاف ولا على طفلة الرضيع فيرسلوا إليه جرعة من الماء قبل أن يرسلوا السهم الشرير إلى نحره الشريف وقد أحسن من قال:

أرى الإحسان عند الحر ديناً               وعند النذل منقصة وذما

كماء المزن في الأصداف در                 وفي بطن الافاعي صار سما

مقدرة الحسين «عليه السلام» وعظمته

                وانظر إلى هذه المقدرة العظيمة مقدرة الحسين «عليه السلام» على إرواء ألف فارس وألف فرس وكل فرس لا ترويه قربة لأنها تشرب أربعاً وخمساً، وهذه المقدرة تدل على أن سلطنة الحسين «عليه السلام» عظيمة، وأن استعداده الملوكي أكبر استعداد لم يستعد ملك كان في العالم قبله لأنا لم نسمع أن ملكاً من الملوك المعاصرين له أو السابقين لعصره أروى بالفاضل عن كفاية جيشه هذا المقدار، ومن أروى بفاضل ماءه هذا العدد فهو عظيم جداً لا شك أن مع الحسين «عليه السلام» من العائلة والاتباع والخدم والكرياء ومن صحبه في الطريق من أهل الامصار قاصداً إلى وطنه ما لا يقل عن الألفين، وكم تعد لهم من الدواب التي تحملهم وتحمل أزوادهم وأثقالهم وتحمل الماء الذي هذا مقداره حتى يكفي الفاضل منه ألف فارس والف فرس، فإذا قست ذلك إلى هذا العدد ثبت أن ليس

(38)

في مقدرة ملك من ملوك الدنيا قبل عصر الحسين «عليه السلام» وبعده إلى زمن ظهور الآلات البخارية والمضخات والانابيب فقد ورد في سير كثير من الملوك أنه متى اجتاز بمنزل لا ماء فيه أثر بجنده العطش وإن الحسين «عليه السلام» بنفس الماء الذي سقى به هؤلاء الأجلاف يكفي الجيش الضخم في أي منزل على غير ماء.

                للمؤلف:

سبط النبي علا كل الملوك علا                          وفاقهم باقتدار غير محدود

بفاضل الماء روى ألف راحلة                            وألف شخص لهيف القلب مجهود

هم أهل بيت لهم في كل معضلة                        فضل على الناس لا يحصى بتحديد

إن تذكر الرشد فالإرشاد شيمتهم                     أو تذكر الجود كأنوا الأس للجود

لكن من عجب الأيام إن حكمت                     آل الطليق بآل المصطفى الصيد

تلك السكارى نشاوي في أسرتها                       وآل خير الورى صرعى على البيد

سقاية ابي الفضل العباس «عليه السلام» لعطاشى كربلاء

                قد تكررت منه السقاية وليست سقاية واحدة كما توهمه بعض أهل المقاتل بل هي ثلاث مرات جلب فيها الماء لعطاشى عيال أخيه الحسين «عليه السلام» حسبما أستفدنا ذلك من الأخبار الواردة في قصة المقتل الشريف.

الساقة يوم كربلاء ثلاثة:

                اثنان علويان العباس الأكبر وعلي بن الحسين الأكبر، وواحد همداني هو برير ابن خضير.

                أما علي بن الحسين «عليه السلام» فذكر قصة سقايته فخر الدين الطريحي في المنتخب(1) فراجعها، ورواها الصدوق القمي (رحمه الله) في الأمالي وأنه بعثه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً راجعها في قصة المقتل من الأمالي، ورواها الدربندي في أسرار الشهادة(2).

                وأما سقاية برير فرواها صاحب اسرار الشهادة وتبعه صاحب معالي السبطين وتركنا ذكر القصتين حذر التطويل وفوت الغرض المقصود.

(1) المنتخب 2/ 55 طبع الحجري النجف. المطبعة المرتضوية.

(2) أسرار الشهادة: ص262.