موسوعة بطل العلقمي

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي

المؤلف : تأليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

زهد الحسين «عليه السلام» ونسكه:


وحسبك دليلاً على الزهد في الدنيا بذل الاموال الجليلة في سبيل الطاعات وإنفاقها في البر والصلة والصدقة على الفقراء والمحتاجين، ولو لم يكن زاهداً في الدنيا منصرفاً عنها إلى الآخرة لأنفقها في سبيل مشتهياته وملاذه الدنيوية من ألبسة فاخرة ومراكب فارهة ومساكن مزخرفة عادة المترفين من المتمولين، ومن الزهد الحج مشياً ومجالسة الفقراء والمساكين.
قال المحب الطبري الشافعي في ذخائر العقبى: روى الإمام علي بن موسى الرضا «عليهما السلام» دخل الخلاء فوجد لقمة ملقاة فرفعها فقال: يا غلام أذكرينها إذا خرجت، فأكلها الغلام، فلما سأله عنها قال: أكلتها يا مولاي، قال: إذهب أنت حر لوجه الله تعالى ثم قال: سمعت جدي رسول الله (ص) يقول: من وجد لقمة ملقاة فمسح او غسل ثم أكلها أعتقه الله من النار، فلم أكن لأستعبد رجلاً أعتقه الله من النار، إنتهى.

فصاحة الحسين «عليه السلام» وبلاغته:


ومن المعلوم لدى كل عارف أن الفصاحة لهم تنتمي واليهم البلاغة تنتهي وهم أمراء الكلام المسيطرون على فنون، وفي بيوتهم نبتت دوحته وعليهم تهدلت أفنانه، وعندهم نزل الكتاب المجيد وهم أعظم برهان على كون قريش أفصح العرب لأن القرآن المجيد نزل بلغتهم دون سائر اللغات، وأفصح قريش بنو هاشم وأفصح بني هاشم محمد المصطفى (ص) وقوله (ص): «أنا أفصح من نطق بالضاد» مشهور، وأميرالمؤمنين علي المرتضى «عليه السلام» واعتراف البلغاء بأنه إمام اهل البلاغة معلوم، والإمام الحسين «عليه السلام» هو الوارث لهما وقد كانت خطبه «عليه السلام» جديرة أن تسمى معجزة البلاغة من حيث أنها جمعت بين جزالة المعاني وسلاسة الألفاظ، والحماس فيها لامع، وقد تفنن في كل خطبة من خطبه فنوناً شتى في الوعظ والإنذار والتحذير من سخط الله ومقته للجائرين ومن التزهيد بدار الفناء والتهالك على نيل النعيم الزائل والترغيب النعيم الخالد وإظهار مظلوميته وبيان أختصاب حقوقه وإبداء ما خفي على الناس من أعمال الجائرين والتسلية لنفسه ولمن وطن نفسه معه على ملاقات الشدائد والأهوال فيه سبيل تحرير الأمة العربية عن جور الأستبداد.
ولا برهان على فصاحة الحسين «عليه السلام» أقوى من تحرية المناسبات في ذلك الموقف الحرج والموطن الرهيب الذي تزل فيه الأقدام وتطيش فيه العقول
(362)
فلا يضع اللفظ إلا حيث يقتضيه المقام المناسب له وهذا عجيب جداً فأنا إذا نظرنا في تاريخ الأمم والشعوب قاطبة لا نجد رجلاً أحاطت به الأرزاء من كل ناحية، واكتنفته الكوارث من كل وجهة وهو رابط الجأش مطمئن النفس غير قلق ولا منزعج، وصدق راثيه بقوله فيه:
فما سمعت أذني ولا أذن سامع بأثبت منه في اللقا وهو واحد
أنى تسمع أذن السامع بمثل ثبات هذا الإمام العظيم، فإن أعظم بطل يظهره التاريخ مثالاً للبطولة والفروسية حقيقة هو الحسين «عليه السلام» فأنك لو سحت في فيافي التاريخ الفسيحة وجلت في متسع الأثر منذ الطفولية إلى عصر الشيخوخة لم تشاهد بطلاً كالحسين «عليه السلام» يقف في مثل تلك المعركة الهائلة والمعمعة المدهشة وقد أحاطت به المنية من الجهات الست وقد فدح بأعز الحماة وأحب الأنصار وهو على أعظم ما يكون من الظمأ وتقرع آذانه صرخة الحريم المحجوبة والعقائل المصونة ومع ذلك كله يتحرى أساليب البلاغة وأفانين الفصاحة بصفاء فكر وحسن رؤية غير مندهش البال ولا قلق الفكر فيأتي بالأشياء منزلة في منازلها المناسبة لها كما يأتي يمثل ذلك الآمن المطمئن الذي يراعي مطالبه العلمية بدقة فكر وتأمل عميق ومع ذلك ربما أخطأ، وهذا الإمام العظيم «عليه السلام» في هذا الموقف المزعج الذي تختلس فيه المهج والنفوس وتستلب فيه الأرواح يضع الكلمات مواضعها ويودعها محلها فيصب ولا يخطئ فتجدها مستقرة في موضعها غير قلقة ولا ركيكة مفككة فهذا لم يكن في العالم قبله ولم يشتم التاريخ على فرد يشاكله إلا ما خلده من صفة جده محمد المصطفى (ص) وأبيه علي المرتضى بطل العالم لا بطل الإسلام خاصة الذي لم تخف عليه معرفة العسل الطافئ من غيره في خطة الحرب المهولة.
فهذا علي أمير المؤمنين «عليه السلام» له قوة هذا التمييز في معمعة الجمل الشديدة ذات الأهوال وهذا الحسين «عليه السلام» سيد أهل الآباء يقضي أمره بالعجب في تلك المعركة الطاحنة لا يضع الكلمة إلا موضعها المناسب لها، ولا يلفظ اللفظة إلا في محلها الذي تقتظيه بحيث لو وضعت في غيره لاختلت وتفككت وهذا أعجب العجب لم يشغله ذلك الموقف المرهب ولا ما أحاطت به من المحن الصعبة أن يراعى جانب البلاغة فيضع كل لفظ في محله، فتراه يقل في آل عقيل: «اللهم اقتل قاتل آل عقيل» فهذا الموضع هذا حقه من الكلام وحصته من البلاغة ونصيبه الأوفى من الإعجاز الخطابي لأن هذا البيت قد خلا
(363)
ولم يبق منه إلا طفل صغير فالجائر المعتدي عليهم وأبادهم وأخلا دارهم لحقيق بأن يقتله الله، وحري بأن يقطع دابره.
وفي مقام الشوق وشدة الوله بالولد الصالح والإبن الكافي وجدير بمن أشتد شوقه بولده وتكامل سروره برؤية ابنه الفذ وقرة عينه وثمرة قلبه الوحيد المعدوم النظير والذي لا مثيل له ولا شبيه في ذوي أسنانه أن يقول عند افتقاده: «على الدنيا بعدك العفا» لأنه موضع إعجابه وداعي سروره وابتهاجه في دنياه فعليها الدمار بعده ويعفيها الغبار، فهو لا يحب البقاء بعده فيها لأنه زهرة دنياه وزهوة عيشه.
وفي مقام الاستغاثة التي تجب لها النصرة والمعونة مراعاة لجانب المستغيث وإجابة لدعوة الداعي اللهيف ولم تسمح الظروف له بالمساعدة فكان المناسب له أن يقول: «عز على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك فلا ينفعك».
وفي مقام التسلية عن عظيم المصاب حيث لا مجال للذب عن الفقيد المذبوح ظلماً إلى جنبه: «صبراً بني عمومتي».
وفي مقام شكاية العدو في اجترامه جرماً لم يقع نظير في العالم فالمناسب أن يقول عند ذبح طفلة الرضيع: «اللهم لا يكن عليك اهون من فصيل ...».
وحيث يكون الناصر من الأرحام القرابة شديد الممانعة عظيم المدافعة كالأخ الناصح والشقيق المشفق فإنه يكون على العادة المألوفة تاليا للأخ الرئيس بأن يلزم ظهره فيحميه ويدفع عنه من يأتيه من قبل ظهره لأن الرئيس الكبير يأنف من الالتفاف إلى خلفه لأن الالتفاف عندهم من أمارات الرعب ودلائل الحماقة فلا يلتف الرئيس إلى ورائه مهما كان المحيط مهولاً، فإذا كان له أخ شديد البطش عظيم النكاية فهو الذي يحميه من خلفه ويرد عنه من استظهره فهو بحياته واثق بالمنعة فلا ينظر إلا إلى قدامه، وفي فقده يتمكن العدو من ظهره فمناسب أن يقول: «الآن انكسر ظهري»، فلزمه أن يدافع عن نفسه من جميع الجهات، فهذه الأساليب البليغة لو تحراها الهادئ البال المطمئن الخاطر لما تيسر له ذلك.
ومن خطب الحسين «عليه السلام»: هذه الخطبة الرنانة الحماسية العجيبة التي تقطر كل فقرة منها حماسًا وتتفجر كل لفظة منها بسالة رواها جماعة من علماء أهل السنة منهم الحافظ ابن عساكر الدمشقي الشافعي في تاريخه وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول وآخرون، ورواها كثير من الشيعة فأطلبها منهم، إنتهى.
(364)
وقال «عليه السلام» في خطبة له في التسلية لنفسه وأصحابه وذكرها الحافظ أبو نعيم الاصفهاني الشافعي في حلية الأولياء(1) ورواها غيره من علماء السنة وذكرها أكثر علماء الشيعة أمثال الشيخ المفيد والمجلسي، نصها عن الحلية: عن محمد ابن الحسن قال: لما نزل القوم بالحسين «عليه السلام» وأيقن أنهم قاتلوه قام في أصحابه خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها ولم يبق منها إلا كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل إلا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناها عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما، إنتهى.
هذه الخطبة البليغة الوجيزة لم يرد إلا التسلية لنفسه ولسالكي سبيله من أصحابه من أن هذه الدنيا لا تسوى شيئاً، وغرضه «عليه السلام» أن يرغبهم عنها ويزهدهم في هذا العمر المنقضي الذي لم يبق منه إلا اليسير بقوله «عليه السلام»: «لم يبق منها ... الخ»، أي: إن العمر قد انقضى ولم يبق منه إلا اليسير كالصبابة التي هي الماء القليل الباقي في الإناء بعد الشرب، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل لأن العيش إذا كان آخر العمر يكون أخس أوقات الحياة البشرية لأنه يصادف الكبر والهرم ووقت الشيخوخة وانحلال القوى فليست لذته كلذة الشباب، فالأيام الباقية من ذلك العمر القليل التي هي مقدار صبابة الإناء فهي خسيسة بل أخسة وأرذله لأنه وقت ضعف القوى والوهن وانحلال البنية، كما أن المرعى الوبيل وهو التالف الذي أتلفه الرعي فلم يبق منه إلا أصوله وهو مما يزهد فيه الرعاة فيطلبون غيره من المراعي الجميلة ذات النبات الملتف المونق، فكذلك الباقي من هذا العمر فإنه لا خير فيه ويجب أن يزهد في العيش الذي يصاحبه ويرغب فيها هو أحسن وأجل وهو الجنة فينبغي أن لا يؤسف على مثل هذا العمر القصير في وقت اقباله فكيف يؤسف عليه في وقت إدباره، فالرغبة عنه أولى من الرغب فيه، مع كون الإنسان لم يصادف معه ذلاً ولا هواناً فكيف إذا قارنته المذلة وأنيط به الهوان فلا يصلح للعاقل أن يؤثره على العز ونصرة الدين والذب عنه والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فسيد الشهداء «عليه السلام» يخبر أصحابه بما هو المرتكز في النفوس وتعرفه العرب في قديمها وحديثها أن الإنسان منهم إذا عاش زمناً ورأى طلائع
(1) حلية الأولياء 1/ 35.
(365)
الشيب يحتقر الباقي من عمره فيسلي نفسه عن دنياه، فبينما العربي يقول في التسلية لنفسه لم يبق من العمر إلا كظمأ حمار – كما قاله مروان بن الحكم بعد وقعة مرج راهط يظهر الندم على إسرافه في الدماء وغيره من العرب تكلموا بهذا – وقد يرتقي العربي إلى ما هو أنبل في نظره فيقول: أنا هام اليوم أو غد – كما قال شتير العامري – وقد جمعهما معاً اليمان أبو حذيفة بن اليمان العبسي وثابت بن وقش الأشهلي الأنصاري «رضي الله عنهما» وكان شيخين كبيرين خلفهما رسول الله (ص) يوم أحد مع الذراري والنساء لكبرهما فقال أحدهما لصاحبه – كما ذكر ابن إسحاق -: لا أباً لك ماذا تنتظر فوالله إن بقي لواحد منا من عمره إلا كظمأ حمار إنما نحن هامة اليوم أو غد ثم ذكر شهادتهما، فليس للعرب قدرة على أبلغ من هذا التعبير عن تصرم العمر ومن استهجن هذا اللفظ ولم يقدر على الإتيان بغيره مما خال من البشاعة لم يتصرف في اللفظ بل يبقيه كما هو ويقول لم يبق من العمر إلا اليسير – كما قاله المقطع العامري صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» وقد أراد معاوية قتله – لقصة ذكرها نصر بن مزاحم في كتاب صفين – وهكذا يقول العامري اليوم: «ما بقى من العمر شي يسوه»).
والإمام الحسين بن علي «عليهما السلام» أراد هذا المعنى ولكنه لما كان امير الكلام وابن أميره، والفصاحة والبلاغة كائنة له طوع إرادته فهو يأتي بأساليب البيان البديعة ويتنكب ما فيه غضاضة وسماجة فيأتي بأبدع أسلوب وأتقن لفظ وأحكمه فيقول «عليه السلام»: «لم يبق منها إلا كصبابة الإناء»، هذا اللفظ البديع المرصف غاية في الفصاحة يأخذ بقلب السامع ويستلب لبه بحسنه ولطفه ويؤكد لنا هذا قول أصحابه الكرام في جوابه «عليه السلام»: «لو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها»، وتقسم فقرات هذه الخطبة الوجيزة إلى ثلاثة أقسام من مطالب السعادة الخالدة:
أولها: التسلية عن دنيا تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها، أما التغير فبظهور المنكرات والتجاهر بالفسوق والفجور الذي يأنف الغيور من الحياة مع مشاهدته ولا يستطيع تغييراً له، وأما التنكر فعبارة عن اقتران العيش بضروب من المذلة والهوان مما يصعب على الحر الكريم استمرار الحياة في مقاساته وإن خف احتماله على الوضعاء والسفلة والأراذل الساقطين، وأما إدبار المعروف فكناية تقسيم الأذناب وتأخير الرؤوس وتأمير الوضعاء وعزل العظماء، قال الشاعر:
دع الدنيا وزينتها لوغد وحاذرها إذا كنت الرشيدا
(366)
أترجوا الخير من دنيا أضاعت حسين السبط وأختارت يزيدا
وقال فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري:
أرى الأيام تفعل كل نكر وما أنا في النوائب مستزيد
وتلك قريشكم قتلت حسيناً وكان على خلافتكم يزيد
الثاني: الدعاية إلى تغيير المنكر وإحياء العدل والإحسان وذلك لما أخذه الله على العلماء أن لا يقاروا الجبابرة على أعمال المنكر وقد صرحت الأحاديث الكثير بأن من رأى منكراً فلم يغيره فعليه كذا من التغليظ في العقوبة والمقت الشديد.
الثالث: التأسيس لطريقة حرة والابتكار لسنة صالحة للاقتفاء لها وهي الآباء الخالص من كل شائبة، فإن من يرى الموت سعادة والحياة سأماً ويبرم بها في صحبة الجائر المتعسف والظالم المستعبد للأحرار فجدير بكريم النفس حر الفعال أن بعد الحياة معه مقتاً، والموت في مقاومته سعادة بلى والله، هي السعادة الخالدة والحياة الباقية دنياً وأخرة، قال أبو فراس الحمداني:
هو الموت فاتر ما علا لك ذكره ولم يمت الإنسان ما حيي ذكره
فأصبح موت الحسين «عليه السلام» على الحق حياة خالدة أبدية، وحياة يزيد القصيرة المشؤومة ميتة خامدة سرمدية.
للمؤلف:
فانشر يزيد وعصبة من حزبه أهل الفجور بقية الاشرار
ليروا قباب بني النبوة أصبحت ركن المطاف وكعبة الزوار
ما كان بيت الله أكثر زائراً من قبر سبط محمد المختار
تأتيه من شرق البلاد وغربها وإليه صار الحشر في الأمصار
لا يستطيع الحاسبون عدادها كالقطر عند تراكم الأمطار
فضجيجهم حول الضريح بألسن شتى يزلزل سبعة الأقطار
وتضيء من بعد قباب شيدت للطيبين كأنجم الاسحار
فبأي مزبلة أبن لي مفصحاً ألقي يزيدكم الشرير الشاري(1)
قد كان في التابوت في جبى لظى وبذاك أصبح شر أهل النار
(1) الشاري: الخارجي.
(367)
وخطب سيد الشهداء «عليه السلام» كثيرة منها ما يأتي وكلها في اعلى درجة من البلاغة والفصاحة وأتمنى على الله تعالى فراغاً وتمكيناً لشرحها وبيان ما اشتملت عليه من المعاني الجليلة.

أشعار الحسين «عليه السلام»:


ليس الحسين «عليه السلام» ولا أهل البيت «عليهم السلام» ممن يتخذ الشعر صنعة ويعده مهنة، وليست أشعارهم بإجهاد قريحة ولا بتكليف طبع وإنما ينشؤن أشعاراً في المناسبات الوقتية من الوعظ والإرشاد والفخر بدون ترو ولا إمرار على الخاطر كما يفعله الشعراء المتكلفون، والشعر أقل صفاتهم وأدنى وسائلهم وإنما قالوها لميل الناس إلى الشعر وولعهم بالمنظوم من الكلام، وقد قال قيس بن عاصم المنقري سيد الوبر وزعيم تميم لرسول الله (ص) لما وعظه: أحب يا رسول الله أن ان تكون هذه الموعضة في أبيات من الشعر لنفخر بها على من يلينا من العرب، القصة المشهورة.
وأشعار الحسين «عليه السلام» كثيرة نذكر بعضها، فمنها ما ذكره الشبلنجي الشافعي في نور الأبصار عن ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ونصه(1): وأما نظمه «عليه السلام» فمن ذلك ما نقله ابن أعثم صاحب كتاب الفتوح وهو أنه «عليه السلام» لما أحاطت به جموع ابن زياد وقتلوا من قتلوا من أصحابه ومنعوهم من الماء وكان له ولد صغير فجاءه سهم فقتله فزمله الحسين «عليه السلام» وحفر له بسيفه وصلى عليه ودفنه وقال:
غدر القوم وقدماً رغبوا عن ثواب الله رب الثقلين
قتلوا قدماً علياً وابنه حسن الخير كريم الأبوين
حسداً منهم وقالوا أقبلوا نقتل الآن جميعاً للحسين
خيرة الله من الخلق أبي ثم أمي فأنا ابن الخيرتين
فضة قد صفيت من ذهب فأنا الفضة وابن الذهبين
من له جد كجدي في الورى أو كشيخي فأنا ابن القمرين
فاطم الزهراء أمي وأبي قاصم الكفر ببدر وحنين
وله في يوم أحد وقعة شفت الغل بغض العسكرين
(1) نور الإبصار: ص186.
(368)
ثم في الاحزاب والفتح معاً كان فيها حتف أهل الوثنين
إنتهى، وهي قصيدة طويلة مذكورة في المقتل الصغير المنسوب لأبي مخنف.
قال الشبلنجي: ومن ذلك ما حكي ان الفرزدق لقيه «عليه السلام» وهو متوجه إلى الكوفة فقال: يا ابن رسول الله! كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمك مسلم بن عقيل؟! فترحم «عليه السلام» على مسلم بن عقيل وقال: أما إنه قد صار إلى رحمة الله تعالى ورضوانه وقضى ما عليه وبقي ما علينا، وأنشأ يقول:
فإن تكن الدنيا تعد نفيسة فإن ثواب الله أعلى وأنبل
وإن تكن الأبدان للقتل أنشأت فقتل امرىء في الله بالسيف افضل
وإن تكن الأرزاق قسماً مقدراً فقلة حرص في الرزق أجمل
وإن تكن الأموال للترك جمعها فما بال متروك به المرء يبخل
وذكرها ابن عساكر في تاريخه أيضاً، وقوله «عليه السلام» من قصيدة طويلة:
ذا اسنتصر المرء أمرءأً لا يداً له فناصره والخاذلون سواء
أنا ابن الذي قد تعلمون مكانه وليس على الحق المبين خفاء
أليس رسول الله جدي ووالدي أنا البدر إن غال النجوم عماء
ألم ينزل القرآن وسط بيوتنا صباحاً ومن بعد الصباح مساء
ينازعني والله بيني وبينه يزيد وليس الأمر حيث يشاء
فيا نصحاء الله أنتم ولاته وأنتم على أديانه أمناء
بأي كتاب أم بأية سنة تناولها من أهلها البعداء
ومن شعره «عليه السلام» وذكره ابن عساكر في التاريخ(1) عن الأعمش:
كلما زيد صاحب المال مالاً زيد في همه وفي الأشغال
قد عرفناك يا منغصة العيش ويا درا كل فإن وبالي
ليس يصفوا لزاهد طلب الزهد إذا كان مثقلاً بالعيال
وزار مقابر الشهداء بالبقيع وطاف بها وقال:
(1) تاريخ مدينة دمشق 4/324.
(369)
ناديت سكان القبور فأسكتوا فأجابني عن صمتهم ندب الحشا
نادت أتدري ما صنعت بساكني مزقت جثماناً وخرقت الكسا
وحشوت أعينهم تراباً بعدما كانت تباينت المفاصل والشوا
وقطعت ذا من ذا ومن هذا كذا فتركتها رمماً يصول بها البلا
ومن شعره في زوجته الرباب الكلبية وذكره السهيلي في شرح السيرة الهشامية(1):
أحب لحبها زيداً جميعاً ونثلة كلها وبني الرباب
وأخرى إنها من آل لام أحبهم وطر بني ذياب
ومن شعره فيها وذكره الطبري في التأريخ(2):
لعمرك إنني لأحب داراً تحل بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل جل مالي وليس للائمي فيها عتاب
وليست لهم وإن عتبوا جميعاً حياتي أو يغيبني التراب

دعوات الحسين «عليه السلام» المستجابة:


إن ضبط مثل دعوات الحسين «عليه السلام» يحتاج إلى سفر ضخم ولكنا نقتصر على بعض ما ذكره علماء أهل السنة:
فمنه ما رواه المحب الطبري الشافعي في ذخائر العقبى(3) عن رجل من كليب قال: صاح الحسين بن علي «عليهما السلام»: أسقونا ماءاً، فرماه رجل منهم بسهم فشق شدقه، فقال «عليه السلام»: لا أرواك الله، فعطش الرجل إلى أن رمى نفسه في الفرات فشرب حتى مات، رواه الملا.
وعن العباس بن هشام بن محمد الكوفي عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له زرعة، شهد قتل الحسين «عليه السلام» فرمى الحسين «عليه السلام» بسهم أصاب حنكه وذلك أن الحسين «عليه السلام» دعا بماء فشرب فرماه فحال بينه وبين الماء، فقال: اللهم أظمأه، قال فحدثني من شهد موته وهو يصيح من الحر في بطنه والبرد في ظهره وبين يديه الثلج والمرواح وخلفه الكانون وهو يقول: أسقوني أهلكني العطش، فؤتى بالعس العظيم فيه السويق والماء واللبن لو شربه
(1) الروض الانف 1/66. (2) تاريخ الطبري 13/ 19.
(3) ذخائر العقبى: ص144.
(370)
خمسة لكفاهم فيشربه ثم يعود فيقول: أسقوني أهلكني العطش، قال: فانقد بطنه انقداد البعير، خرجه ابن أبي الدنيا، ثم ذكر حديث حوزة وسنذكره عن الطبري.
وحديث زرعة ذكره الكنجي الشافعي في كفاية الطالب(1): والحافظ الهيثمي المكي الشافعي في الصواعق المحرقة(2) ولم يسمه، وهذا الخبيث هو زرعة بن شريك التميمي الدارمي ثم الأباني عدو الله سنذكر خبره في شهادة العباس «عليه السلام» في الجزء الثالث من هذا الكتاب لأنه له شركة في قتله «سلام الله عليه».
قال الطبري في التاريخ(3): أبو مخنف عن حميد بن مسلم الازدي قال: بعث عمر بن سعد عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين «عليه السلام» وأصحابه وبين الماء أن يسقوا منه قطرة وذلك قبل قتل الحسين «عليه السلام» بثلاث، قال: ونازله ابن أبي حصين الأزدي وعداده في بجيلة، فقال: يا حسين! ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشاناً، فقال الحسين «عليه السلام»: اللهم اقتله عطشاً ولا تغفر له ابداً، قال حميد بن مسلم: والله لقد عدته بعد ذلك في مرضه فوالله الذي لا اله إلا هو لقد رأيته يشرب حتى يبغر ثم يقيء ثم يعود فيشرب حتى يبغر فما يروى، فما زال ذلك دأبه حتى لفظ غصته – يعني نفسه -.
وقال الطبري(4): قال أبو مخنف: حدثني حسن أبو جعفر قال: ثم إن رجلاً من بني تميم يقال له عبد الله بن حوزة جاء حتى وقف أمام الحسين «عليه السلام» فقال: يا حسين! يا حسين!، فقال له الحسين «عليه السلام»: ما تشاء؟ قال: أبشر بالنار، قال «عليه السلام»: كلا إني أقدم على رب رحيم وشفيع مطاع، من هذا؟ قال له أصحابه: هذا إبن حوزة، قال: رب حزه إلى النار، قال: فاضطرب به الفرس في جدول فوقع فيه وتعلقت رجله في الركاب ووقع رأسه في الأرض ونفر الفرس فأخذ يمر به فيضرب برأسه كل حجر زكل شجرة حتى مات.
قال أبو محنف وأما سويد بن حية فزعم أن عبد الله بن حوزة حين وقع عن فرسه فقيت رجله اليسرى في الركاب وارتفعت اليمنى فطارت به فرسه يضرب رأسه بكل حجر وأصل شجرة حتى مات.
وعن عبد الجبار بن وائل بن حجر الحضرمي عن أخيه مسروق بن وائل قال: كنت في الخيل ممن سار إلى الحسين «عليه السلام» فقلت أكون في أوائلها
(1) كفاية الطالب: ص287. (2) الصواعق المحرقة: ص 125.
(3) تاريخ الطبري 6/224. (4) تاريخ الطبري: 6/ 240.
(271)
لعلي أصيب رأس الحسين «عليه السلام» فأصيب به منزلة عند عبيد الله بن زياد، قال: فلما انتهيت إلى الحسين «عليه السلام» تقدم رجل من القوم يقال له ابن حوزة فقال: أفيكم حسين؟ قال: فسكت الحسين «عليه السلام»، فقال: ثانية، فسكت، حتى إذا كانت الثالثة قال «عليه السلام»: قولوا له: هذا الحسين، فما حاجتك؟ قال: ياحسين! أبشر بالنار، قال «عليه السلام»: كذبت بل أقدم على رب غفور وشفيع مطاع، فمن أنت؟ قال: ابن حوزة، قال: فرفع الحسين «عليه السلام» يديه حتى رأينا بياض إبطيه من فوق الثياب ثم قال: اللهم حزه إلى النار، قال: فغضب ابن حوزة فذهب ليقحم إليه الفرس وبينه وبينه نهر، قال: فعلقت قدمه بالركاب وجالت به الفرس فسقط منها فانقطعت قدمه وساقه وفخذه وبقي جانبه الآخر معلقاً بالركاب، قال: فرجع مسروق وترك الخيل من ورائه، قال: فسألته، فقال: لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئاً لا أقاتلهم أبداً.
وقال(1): قال رجل من بني أبان بن دارم : ويلكم! حولوا بينه وبين الماء لا تتام إليه شيعته، قال: ويضرب فرسه وأتبعه الناس وينتزع الأباني بسهم فأثبته في حنك الحسين «عليه السلام»، قال: فانتزع الحسين «عليه السلام» السهم ثم بسط كفيه فامتلآ دماً، ثم قال الحسين «عليه السلام»: اللهم إني أشكوا إليك ما يفعل بابن بنت نبيك، قال: فوالله إن مكث الرجل إلا يسيراً حتى صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروي.
وذكر ابن عساكر(2) سمى الدارمي زرعة «لعنه الله»، وذكر حديث القاسم بن الأصبغ وسيجيء في مقتل العباس «عليه السلام».

الإنذارات بقتل الحسين «عليه السلام»:


من حين ولادته إلى حين شهادته كثيرة جداً ونحن نورد بعض ما أورده حفاظ أهل السنة خاصة مقتصرين على بعض ذلك دون الإحاطة لضيق هذا الكتاب عن احتمال التطويل الزائد.
قال المحب الطبري الشافعي في ذخائر العقبى(3): عن أنس: إن رسول الله (ص) قال: إن ابني هذا – يعنى الحسين «عليه السلام» - يقتل بأرض من العراق فمن أدركه منكم فلينصره، قال: فقتل أنس مع الحسين «عليه السلام»، الخ.
(1) تاريخ الطبري: 6/ 228.
(2) تاريخ مدينة دمشق 4/ 338.
(3) ذخائر العقبى: ص146.
(372)
وذكر ابن عساكر(1) ليس هو أنس بن مالك خادم النبي (ص) إنما هو أنس بن الحارث الأسدي ثم الكاهلي «رضوان الله عليه» وكان صحابياً.
وعن أنس بن مالك قال: استأذن ملك القطر ربه أن يزور النبي (ص) فإذن له، وكان في يوم أم سلمة، فقال النبي (ص): يا أم سلمة! أحفظي الباب علينا لا يدخل أحد، فبينا هي على الباب إذ دخل الحسين بن علي «عليهما السلام» طفر فاقتحم فدخل فوثب على رسول الله (ص) فجعل رسول الله (ص) يلثمه ويقبله، فقال له الملك: أتحبه؟ قال (ص): نعم، قال: إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل به، فأراه، فجاء بسهلة أو تراب أحمر فأخذته أم سلمة فجعلته في ثوبها، قال ثابت: كنا نقول إنها كربلاء، خرجه البغوي في معجمه.
وخرجه أبو حاتم في صحيحه، وقال: إن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه؟ قال: نعم، فقبض قبضة من المكان الذي قتل فيه، فأراه إياه، وذكر باقي الحديث.
وخرجه أحمد في مسنده وقال: قالت: فجاء الحسين «عليه السلام» يدخل فمنعته فوثب فدخل فجعل يقعد على ظهر النبي (ص) وعلى منكبه وعلى عاتقه، قالت: فقال الملك، وذكر الحديث، قال: فضرب بيده على طينة حمراء فأخذتها أم سلمة فصرتها في خمارها، قال ثابت: فبلغنا أنها كربلاء.
وعنها قالت: رأيت رسول الله (ص) وهو يمسح رأس الحسين «عليه السلام» ويبكي، فقلت: مما بكاؤك؟ فقال: إن جبرئيل أخبرني أن أبني هذا يقتل بأرض يقال لها كربلاء، قالت: ثم ناولني كفاً من تراب أحمر وقال: إن هذا من تربة الأرض التي يقتل بها، فمتى صار دماً فأعلمي أنه قد قتل، قالت أم سلمة: فوضعت التراب في قارورة عندي وكنت أقول: إن يوماً يتحول فيه دماً ليوم عظيم، أخرج الملا في سيرته، وأخرج أحاديثاً كثيرة بهذا المعنى.
وقال الحافظ الهيثمي(2): أخرج ابن سعد والطبراني عن عائشة أن النبي (ص) قال: أخبرني جبرئيل أن ابني الحسين «عليه السلام» يقتل بعدي بأرض الطف جائني بهذه التربة فأخبرني أن فيها مضجعه.
وعن أم الفضل بنت الحارث أن النبي (ص) قال: أتاني جبرئيل «عليه السلام» فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا – يعني الحسين «عليه السلام»- وأتاني بتربة حمراء، خرجه أبو داود والحاكم.
(1) تاريخ مدينة دمشق 4/ 338. (2) الصواعق المحرقة: ص115.
(373)
وأخرج أحمد: لقد دخل على البيت ملك لم يدخل علي قبلها فقال لي: إن ابنك حسيناً هذا مقتول وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها، قال: فأخرج تربة حمراء.
ثم ذكر حديث ملك القطر وحديث جبرئيل «عليه السلام» بطرق عديدة منها عن عائشة وعن أم سلمة وروى هذه الأحاديث غيرهما مثل الحافظ ابن عساكر أو ضرابه من علماء أهل السنة، ورواها جماعة من الشيعة منهم رئيس المذهب ابن قولويه في كامل الزيارة وابن شهر آشوب في المناقب وغيرهما.
أما الإنذار بشهادة الحسين «عليه السلام» من جهة أبيه أمير المؤمنين «عليه السلام» فقد قال الشبلنجي الشافعي في نور الأبصار(1): روى الحافظ عبد العزيز الجنابذي في كتاب معالم العترة الطاهرة مرفوعاً إلى الأصبغ بن نباتة قال: أتينا مع علي «عليه السلام» في سفره فمررنا بأرض كربلاء، فقال علي «عليه السلام»: ها هنا مناخ ركابهم وموضع رحالهم ومهراق دمائهم، فتية من آل محمد يقتلون بهذه العرصة تبكي عليهم السماء والأرض.
وقال المحب الطبري الشافعي في ذخائر العقبى(2): عن عبد الله بن يحيى عن أبيه إنه سافر مع علي «عليه السلام» وكان على مطهرته، فلما حاذى بنينوى وهو منطلق إلى صفين فنادى علي «عليه السلام»: صبراً يا أبا عبد الله، صبراً يا أبا عبد الله، صبًرا يا أبا عبد الله بشاطئ الفرات، فقلت له : وما ذاك يا أبا الحسن؟ فقال: دخلت على رسول الله (ص) وعيناه تفيضان، ثم ذكر الحديث السابق.
وقال الحافظ الهيثمي الشافعي في الصواعق المحرقة(3): أخرج ابن سعد عن الشعبي قال: مر علي «عليه السلام» بكربلاء عند مسيره إلى صفين فلما حاذى نينوى «قرية على الفرات» فوقف وسأل عن إسم هذه الأرض، فقيل: هذه كربلاء، فبكى طويلاً حتى بل الأرض من دموعه ثم قال: دخلت على رسول الله (ص) وهو يبكي فقلت: ما يبكيك؟ قال: كان عندي جبرئيل «عليه السلام»، ثم ذكر الحديث كما مر.
قال: وروى الملا أن علياً «عليه السلام» مر بقبر الحسين «عليه السلام» فقال: ها هنا مناخ ركابهم، ها هنا موضع رحالهم، ها هنا مهراق دمائهم فتية من آل محمد يقتلون بهذه العرصة تبكي عليهم السماء والأرض.
(1) نور الإبصار: ص114. (2) ذخائر العقبى: ص148.
(3) الصواعق المحرقة: ص115.
(374)
وقال الكنجي الشافعي في كفاية الطالب(1) عن شيبان من مخروم وكان عثمانياً قال: إني لمع علي «عليه السلام» فقال: يقتل: يقتل في هذا الموضع شهداء ليس مثلهم شهداء إلا شهداء بدر، فقلت: بعض كذباته، وثم رجل حمار فقلت لغلامي: خذ رجل هذا الحمار فأوتدها في مقعهده وغيبها، وضرب الدهر ضرباته فلما قتل الحسين انطلقت ومعي أصحابي فإذا بجثة الحسين بن علي على رجل ذلك الحمار وإن أصحابه ربضة حوله، الخ.
وهذا الحديث رواه الحافظ ابن عساكر الشافعي في تاريخ الشام في ترجمة الحسين «عليه السلام»(2).
وقال الطبراني: عن أبي وثيمة: كنت مع علي «عليه السلام» بنهر كربلاء فمر بشجرة تحتها بعر الغزلان فأخذ منه قبضة فشمها ثم قال: يحشر من هذا الظهر سبعون الفاً يدخلون الجنة بغير حساب، قلت: هكذا أخرجه الطبراني في معجمه الكبير، إنتهى، ورواه ابن عساكر.
وحديث بعر الغزلان رواه الفاضل المجلسي في بحار الأنوار عن ابن عباس مطولاً وفيه مرور المسيح عيسى ابن مريم بكربلاء وإخباره للحواريين بقتل الحسين «عليه السلام» وأنه شم ذلك البعر ودعا الله ببقائه صحيحاً إلى أن يشمه أبوه أمير المؤمنين «عليه السلام»، الحديث بطوله.
وذكر ابن أبي الحديد حديث هرثمة(3) وذكر أحاديثاً غيره، وكذلك سبط ابن الجوزي.

إنذار الحسين «عليه السلام» عن نفسه بقتله(4):


قال أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري في الأخبار الطوال من قصة نزوله «عليه السلام» بكربلاء: فقرأ الحر الكتاب «يعني كتاب ابن زياد» ثم ناوله الحسين «عليه السلام» وقال: لا بد من إنفاذ أمر الأمير عبيد الله بن زياد، فأنزله بهذا المكان ولا تجعل للأمير علي علة، فقال الحسين «عليه السلام» تقدم بنا قليلاً إلى هذه القرية التي هي منا على غلوة وهي الغاضرية أو هذه الأخرى التي تسمى السقبة فنزل في أحدهما.
فقال الحر: إن الأمير كتب إلي ان أحلك على غير ماء ولا بد من الانتهاء إلى أمره.
(1) كفاية الطالب: ص 270. (2) تاريخ مدينة دمشق 4/ 331.
(3) تاريخ مدينة دمشق 4/ 338. (4) شرح نهج البلاغة 1/ 278.
(375)
فقال زهير بن القين: بأبي أنت وأمي يا أبن رسول الله! لو لم يأتنا غير هؤلاء لكان فيهم كفاية فكيف بمن يأتينا من غيرهم، فهلم بنا نناجز هؤلاء فإن قتال هؤلاء أيسر علينا من قتال من يأتينا من غيرهم، قال الحسين «عليه السلام»: فإني أكره أن أبدأهم بقتال حتى يبدؤنا.
فقال له زهير: ها هنا قرية بالقرب منا على شط الفرات وهي عاقول حصين الفرات يحدق بها إلا من وجه، فقال الحسين «عليه السلام»: وما إسم تلك القرية؟ قال: العقر، قال الحسين «عليه السلام»: نعوذ بالله من العقر، فقال الحسين «عليه السلام» للحر: سر بنا قليلاً حتى ننزل، فسار معه حتى أتى كربلاء، فوقف الحر وأصحابه أمام الحسين «عليه السلام» ومنعوه من المسير وقال: أنزل بهذا المكان فالفرات منك قريب، قال الحسين «عليه السلام»: وما إسم هذا المكان؟ قالوا: كربلاء، قال: ذات كرب وبلاء، ولقد مر أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين وأنا معه فوقف فسال عنه فأخبر باسمه فقال: ها هنا محط ركابهم، وها هنا مهراق دمائهم، فسئل عن ذلك فقال: ثقل من لآل محمد ينزلون ها هنا، ثم أمر الحسين «عليه السلام» باثقاله فحطت بذلك المكان يوم الاربعاء غرة المحرم سنة (61) هجرية، وقتل بعد ذلك بعشرة أيام وكان قتله يوم عاشوراء.
وقال سبط ابن الجوزي في التذكرة(1): فلما قيل للحسين «عليه السلام» هذه أرض كربلاء شمها وقال: هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله (ص) وأنني أقتل بها.
وفي خطبته «عليه السلام» المشهورة رواها المجلسي وغيره من الشيعة، ومن السنة الشيخ أحمد مفتاح مدرس الإنشاء في كتابه مفتاح الأفكار(2) التي خطبها بمكة حين عزم على الخروح منها قاصداً أرض العراق:
خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مضجع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تتناهبها عسلان الفوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضاناً، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن نشذ عن رسول الله (ص) لحمته وهي مجموعة له غداً في
(1) تذكرة خواص الأمة: ص142.
(2) مفتاح الافكار: ص148 المطبوع بمصر سنة 1134.
(376)
حضيرة القدس تقر بهم عينه ويثلج بهم قلبه، إلا ومن كان باذلاً فينا مهجته موطناً على لقاء الله نفسه فليرتحل معنا فإني راحل مصبحاً غداً إن شاء الله تعالى، إنتهى.
جمع «عليه السلام» في هذه الخطبة القصيرة فنون العلم والحكمة وحري بها أن تسمى معجزة الخطابة، نعم إن سيد الشهداء من بيت النبوة والإمامة وهم أمراء الكلام وملاك الخطاب، قف وانظر نظر الاعتبار فيما تضمنته هذه الكلمات الوجيزة واشتملت عليه عباراتها البارعة من الوعظ والانذار والتحذير من الدنيا والتسلية لنفسه «عليه السلام» ولسالكي سبيله عن العيش التعيس والتبشير بما سيصير إليه والأخبار عما يجري عليه مستنهضاً لنصرته أهل التوطين لأنفسهم على بذل الأرواح النفيسة في سبيل رضا الرب العظيم.
فوعظ «عليه السلام» بقوله: «خط الموت، الخ» يريد أن الموت أحاط بالبشر واكتنفهم كما تحيط القلادة بالجيد والرقبة وهذه قضية شاهدها الوجدان ودليلها العيان ولا يعني «عليه السلام» أنه يخبر الناس أن الموت لا بد منه فقط، إن هذا أمر مرتكز في النفوس معلوم بالبداهة لدى الجميع ولكنه «عليه السلام» أراد أن ينبههم إلى اختيار الموتة الحميدة التي تكسب صاحبها حمد الدنيا وكرامة الآخرة فأخبر سامعي خطابه أن الموت الذي قد عرفتموه وأنه محيط بكم ولا محيص لكم عنه ولا منجا فأستعدوا له بأختيار موتة تنالون فيها الحمد والكرامة وهي الشهادة والقتلة السعيدة في نصرة الدين ثم سلى نفسه وعزاها وأخبر من يريد الالتحاق به والسير على منهاجه باختيار الموتة الكريمة على سائر أنواع الموت.
وبين أنه «عليه السلام» على يقين من حمد العاقبة وبصيرة من أن خاتمة الخير له ولأتباعه، فقال: : «ما أولهني إلى أسلافي، الخ» يعني إنه «عليه السلام» شديد الوله والشوق إلى جده المصطفى وأبيه المرتضى وأمه الزهراء الحوراء وأخيه المجتبى والشهداء من عمومته الكرام كحمزة أسد الله وأسد رسوله وجعفر الطيار ذي الجناحين فهو «عليه السلام» شديد الاشتياق إلى لقائهم كما اشتاق يعقوب إلى لقاء يوسف بعد الغيبة الطويلة.
ثم إنه «عليه السلام» أخبر الأمة الحاضرة أن خروجه ليس باختيار أختاره ولا رأي رآه ولكنه اختيار إلهي وتدبير رباني اوحاه الله إلى نبيه محمد (ص) يخبره بأن دينه القويم وشرعه المستقيم ستقاومه الحكومة الأموية الظالمة والدولة الفاجرة المبتدعة وإنه قد أمره بأنه ارتضى لمقاومة أولئك الظلمة الفجرة سبطه الحسين «عليه السلام» وأختاره لتجديد ما أخلقته تلك الدولة الأموية المتمردة من طراز
(377)
سنته الجديدة ومعيداً لما طمسته من آثار شرعة النيرة وإنه سيقتل في سبيل الدعوة إلى دينه مظلوماً شهيداً نائياً عن الأوطان في فلاة من الأرض تنتابها الضباع الساغبة والذئاب الضاربة.
وأخبر «عليه السلام» أنه ماض لهذا الأمر الإلهي صابر على شدة هذا البلاء منتظر من ربه مزيد الحباء والكرامة بما وعده على لسان جده الصادق ولهذا يقول: «نصبر على بلاءه».
وقوله «عليه السلام»: «كأني بأوصالي، الخ» بناءاً على أنها السباع السغاب لا يعني أن السباع تأكل لحمه وتملأ أكراشاً وأجربة أجوافها الساغبة منه حقيقة من حيث أن لحوم ولد فاطمة «عليها السلام» محرمة على السباع، بل يريد حمل المخاطبين وقت إلقاء الخطاب على المتعارف المشهور من أن القتيل إذا قتل في فلاة من الأرض شاسعة أو مفازة نائية عن الاوطان سكانها الوحوش الضارية ونزالها السباع العادية وليس لذلك القتيل فئة ولا أنصار يحملون أشلائه المتوزعة وأعضاءه المتقطعة كان معرضاً لأن تنتهب الضباع والذئاب تلك الأشلاء الموزعة فتملأ أكراشها الساغبة وأجوافها الفارغة، فهو «عليه السلام» يخبرهم أنه قد وطن نفسه على تلك الحالة طاعة الله وتوصلاً إلى مرضاته ولو فعل به ما وصف لولا الحراسة الإلهية له «عليه السلام» خصوصاً ولولد فاطمة «عليه السلام» عموماً.
ثم يخبر «عليه السلام» أن له بذلك الأمر تمام الأنس وشدة الرغبة لأنه يروم الالتحاق بجده المصطفى وأبيه وأمه وأهله البررة الذين هم أعز الخلق عنده وأحبهم لديه وحري بمن يطلب لقاء الأحبة أن يكون شديد الأنس بادي السرور والابتهاج بلقائهم.
وهذه من الامور التي لا شك فيها إلا معوج السليقة، إن رسول الله (ص) لن تشذ عنه لحمته بل يجمع الله تعال لرسوله ذريته في حضيرة القدس فالحسين «عليه السلام» على علم من ذلك ويقين وقد تضافرت الأحاديث بهذا المعنى وتناقلها الفريقان السنة والشيعة وكذلك تلتحق شيعة الذرية الطاهرة بالذرية المطهرة حسبما نطقت به الأحاديث المعتمدة.
وفي هذه البيانات كلها ظهرت الحقيقة لأهل مكة ومن حضرها من أهل الاصقاع النائية حالة الحسين «عليه السلام» ولم يبقى شك ولا تشكيك في أن نهضته «عليه السلام» للدفاع عن الدين فقط وأنه مقتول في سبيل الانتصار للملة وتكون تضحيته لنفسه في فلاة موحشة وأرض مقفرة سكنتها الوحوش وكشف بها
(378)
لمتبعيه نقاب الحقيقة بأنه قادم على الموت لا على امتلاك العراق وسلطنته حتى لا يقول بعض من لا بصيرة له خدعنا أو غرنا قد كنا نحسب أن السلطان له فأتبعناه فلما كشف الحقيقة وأبان الواقع زال الشك في أنه القتل في سبيل نصرة الدين لا غير.
فندب حينئذ طلاب الدين وعشاق الشهادة ومن يروم الانتصار لله والنهوض في الجهاد تقرباً إليه خالصاً من كل شائبة طمع بقوله: «فمن كان باذلاً، الخ» لهذا لم يتبعه إلا الخلص من أهل بيته والخواص من شيعته.
وهذه الخطبة رواها المجلسي وغيره من العلماء وتركنا أكثر الانذارات الواردة عن جده وابيه وأخيه وعنه «عليهم السلام» للأختصار.
أما إنذارات أهل الكتاب فكثيرة أيضا رواها العلماء عن كعب الأحبار وغيره ومها عن الدولابي الحنفي في الكنى والأسماء(1) عن رأس الجالوت قال: كنا نسمع أنه يقتل بكربلاء ابن بنت نبي فكنت إذا دخلتها ركضت دابتي حتى أخلفها، فلما قتل الحسين جعلت أسير على هنيئتي، إنتهى.