موسوعة بطل العلقمي

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي

المؤلف : تأليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

(2) الحسين السبط «عليه السلام» شهيد كربلاء


ريحانة رسول الله (ص) ما أختص به من الفضل نحن لا نذكر في فضله إلا ما روته حفاظ أهل السنة وهو إن كان كثيراً نذكر منه ما لا يخل ولا يمل.
روى الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي في الجامع الصغير عن البراء بن عازب قال: قال النبي (ص) حسين مني وأنا منه، أحب الله من أحب حسيناً، الحسن والحسين سبطان من الأسباط.
قال الحافظ العزيزي الحنفي في السراج المنير في شرحه(1): وسببه كما في ابن ماجة عن سعيد ابن أبي راشد أن يعلى بن مرة حدثهم أنهم خرجوا مع النبي (ص) إلى طعام دعوا له فإذا حسين يلعب في السكة، قال: فتقدم النبي (ص) أمام القوم وبسط يديه فجعل الغلام يفر ها هنا وها هنا فيضاحكه النبي (ص) حتى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى في فاس رأسه فقبله وقال: حسين مني وأنا منه، الحديث، وهذا حديث صحيح ومشهور عند الحفاظ وله طرق عديدة وليس قوله: «حسين مني وأنا منه» إنه منسوب إليه نسبة القرابة للقرابة ولا أنه منسوب إليه نسبة المنتسب لمن نسب إليه فقط وإلا لما كان لهذا التخصيص كبير فائدة لمشاركة غيره من الارحام له، ولا المقصود بيان أنه ابن بنته خاصة وإلا فقد شاركه غيره من أبناء بناته كعلي بن زينب ابنته الكبرى شقيق امامة ولكنه ورد لبيان أن دم الحسين «عليه السلام» ولحمه أختلط بدم النبي(ص) ولحمه على جهة الامتزاج وأن نفسيهما واحدة في واقع الأمر وإن اختلف الجسمان، على حد ما قيل:
روحي مع روحك ممزوجة وربما تمزج روحان
لانه ورد في الاحاديث المعتبرة وصرح به بعض فطاحل العلماء أنه (ص) ظهرت معجزته في الحسين «عليه السلام» حيث كان يلقمه إصبعه ولسانه فيمتص
(1) السراج المنير 6/ 208.
(343)
منها ما يغذيه ويغنيه عن لبن المرضعات حتى نبت لحمه من لحم رسول الله (ص) وأختلط جوهره بجوهره فكان الحسين «عليه السلام» منه بهذه النسبة وقد قال السيد مهدي الطبطبائي بحر العلوم «رحمه الله» في قصيدته:
ذادوا عن الماء ظمئاناً مراضعه من جده المصطفى الساقي أصابعه
يعطيه إبهامه آناً وأونة لسانه فاستوت منه طبائعه
مرتضع لم يرتضع أبداً من ثدي أنثى ومن طه مراضعه
لله غرس سقاه رسول الله من يده فطاب من بعد طيب الأصل فارعه
وهنا يحمل الحقد واللجاج السيد علي جلال الحسيني في كتابه (الحسين) على انكار المعجزة النبوية لأنها فضيلة للحسين «عليه السلام» إمام الشيعة فينتقد الكليني وغيره من علماء الشيعة الذين رووا هذا الحديث بأنه لا يقبله العقل وأنه مخالف لطبيعة البشر ومن الأسف جداً أنه يدعي كل واحد حكم العقل ولا يدري ما العقل وما الذي يحيله العقل وما الذي يخالف الطبيعة.
ويقال لهذا الماهر الفني: ما المعجزة؟ وهل هو إلا نقض الطبيعة ومصادمتها؟ وهل سمعت في أخبار الخليل «عليه السلام» واختفائه في الغار وأن الله فجر له من إبهامه لبناً وعسلاً عاش عليه أياماً؟ قل هذا لا يقبله العقل وهذا خلاف الطبيعة.
بقاء موسى «عليه السلام» في التابوت وتحريم الله تعالى عليه المراضع أياماً حتى أعيد إلى أمه، لا يقبل العقل.
بقاء يونس في بطن الحوت بلا طعام لا يقبله العقل وهو خلاف الطبيعة:
أيها الأستاذ، ليس من شرط حياة المولود التغذية بلبن الأنثى بل شرط التغذية بما يناسب الطبيعة من أي لبن كان واي غذاء كان، حتى من الألبان الصناعية، ويزعم الأطباء أن اللبن الصناعي أنفع للمولود، فإذا كانت الطبيعة لا تحيل الحياة بغير لبن الانثى فما الذي تنكر من هذه المعجزة؟ وما سقته من الشواهد التاريخية من أن له أخاً من الرضاعة ورؤيا أم الفضل كل ذلك لا يجديك نفعاً لأمرين:
الأول: إن إسم المرضعة يطلق على الظئر والحاضنة وإن لم ترضع، ويقال «الأخ الرضاعي» توسعاً في الكلام.
والثاني: إن القائل بأنه لم يرضع من ثدي اثنى الرضاع الكامل وعليه فيجوز
(344)
أنه ارتضع بعض الرضعات من بعض الإناث، فكان له إخوة من الرضاعة، بهذا فالحسين قطعة من لحم رسول الله (ص) غذيت بروحه حيث تفجر له اللبن من إبهامه كما تفجر لأبيه أمير المؤمنين «عليه السلام» فيما رواه الحلبي الشافعي وغيره والسيوف التي وزعت جسم الحسين «عليه السلام» بكربلاء إنما وزعت جسم رسول الله (ص) والخيل التي وطأت جثمانه إنما وطأت جثمان رسول الله (ص).
«أحب الله من أحب حسيناً» المراد بالمحبة محبة التبجيل والاحترام والطاعة والانقياد والاعتراف بما له من واجب الحق وهو الإمام على ما نص عليه في قوله: «ولداي هذان إمامان قاما أو قعدا»، ومن آثار المحبة سلامته من القتل والمذلة جميعاً فالأمة لو امتثلت في الحسين وآل محمد أمر النبي (ص) بالمحبة التي هي الطاعة والانقياد لهم، لكانت القوة والغلبة لهم على أعدائهم فلم يقتل علي والحسين بالسيف، ولا الحسن بالسم ودعوى المدعين إنهم يحبون آل الرسول وميلهم لغيرهم حتى سبب ذلك إضعافهم وتقوية أعدائهم فحلت فيهم بأسباب ذلك الفوادح والنكبات فمن المكابرة الصرفة والمباهتة المحضة والتمويه المزيف إذ المحبة شرطها مشاركة المحبوب في السراء والضراء، حلو العيش ومره.
ألا ترى المحبة الصادقة كيف قادت صاحبها إلى الجنان المزخرفة؟ هذا جون مولى أبي ذر يعرب عن محبته الصادقة وهو عبد أسود يقول له الحسين «عليه السلام»: يا جون! إنما تبعتنا لطلب العافية فلا تبل بنا، أنت في حل فاذهب حيث شئت، فيقول الصادق المودة المخلص في الولاء: أفي الرخاء ألحس قصاعكم وعند الشدائد أخذلكم؟ لا والله حتى يختلط هذا الدم الأسود بدمائكم.
ويقول الآخر وقد أذن له الحسين «عليه السلام» أن يمضي ليسعى في فكاك ولده المأسور بثغر الري: أكلتني السباع حياً إن فارقتك وأسأل عنك الركبان.
فلا تصدق المحبة الصحيحة والمودة الخالصة إلا بالطاعة والانقياد وقد قال الشاعر الموحد في حكمياته:
تعصي الآله وأنت تظهر حبه هذا لعمرك في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
فالمحبة من المعاني الخفية والأسرار القلبية وإنما تظهرها الأفعال والأعمال فمن كان صادق المحبة أطاع محبوبه وامتثل أوامره ونواهيه، وتابعه في العسر واليسر والسراء والضراء، وتحمل معه المصاعب ولاقى في سبيل محبته المشاق والمتاعب وكابد الاهوال والشدائد كما فعل المخلصون من شيعتهم فالمحبة ليست
(345)
دعوى مجردة ولا مقالة كاذبة فقد قطعت الألسن والأيدي وأبينت الرؤوس والمفاصل على المحبة.
ونعود إلى ماقطعنا من ذكر الأحاديث في فضل الحسين «عليه السلام».
روى الحافظ أبو عمر بن عبد البر المالكي في الاستيعاب على هامش الإصابة(1) عن معاوية بن مزرد عن أبيه قال: أبصرت عيناني هاتان وسمعت أذناي رسول الله (ص) وهو اخذ بكفي الحسين وقدماه على قدم رسول الله (ص) وهو يقول: «ترق عين بقة»، قال: فرق الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول الله (ص) ثم قال له رسول الله (ص): افتح فاك، ثم قبله، ثم قال: «اللهم إني أحبه».
وروى عز الدين ابن الأثير الجزري الشافعي في أسد الغابة(2) عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال كنت في مسجد رسول الله (ص) في حلقة فيها أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمرو بن العاص فمر بنا الحسين بن علي فسلم فرد القوم السلام فسكت عبد الله حتى فرغوا فرفع صوته وقال: عليك السلام ورحمة الله وبركاته، ثم أقبل على القوم فقال: إلا أخبركم بأحب أهل الأرض إلى أهل السماء؟ قالوا: بلى، قال: هو هذا الماشي، ما كلمني كلمة منذ ليالي صفين ولان يرضى عن أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم.
فقال أبو سعيد: ألا تعتذر إليه؟ قال: بلى، فتواعدا أن يغدوا إليه، قال فغدوت معهما فاستأذن أبو سعيد فإذن له فدخل ثم أستأذن لعبد الله فلم يزل به حتى أذن له فلما دخل قال أبو سعيد: يا ابن رسول الله (ص) إنك لما مررت بنا أمس فأخبره بالذي كان من قول عبد الله بن عمر.
فقال الحسين «عليه السلام»: يا عبد الله أعلمت إني أحب أهل الأرض إلى أهل السماء؟ قال: أي ورب الكعبة، قال: فما حملك على أن قاتلتني وأبي بصفين، فوالله لأبي خير مني؟!
قال: أجل، ولكن عمرو شكاني إلى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله إن عبد الله يقوم الليل ويصوم النهار فقال لي رسول الله (ص): صل ونم وصم وافطر وأطع عمراً، قال: فلما كان يوم صفين أقسم علي فخرجت، أما والله ما اخترطت سيفًا ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم.
(1) الاستيعاب بهامش الإصابة 1/ 382.
(2) أسد الغابة 3/ 234.
(346)
وأخرجه الحافظ العسقلاني الشافعي في الإصابة مختصراً، وهذا يدل على جمود أدمغة أهل الحجاز وبلادة هذا الصحابي الفقيه بزعمهم وقلة فقه في الدين أما علم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؟ ولا يطاع الله من حيث يعصى؟! وقد قال الله تعالى: (وإن جهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما)(1).
وأما قول النبي (ص) «أطع أباك» يعني في تخفيف الصوم والصلاة خاصة لا مطلقاً لأنه شكى إليه إكثاره منهما فخاف أن ذلك يضنيه وحيث أن العبادة على مقدار الوسع والطاقة كان التخفيف هو المطلب الشرعي وكان موافقاً لإرادة أبيه فأمره به، وهو صريح قوله: «صل ونم وصم وافطر وأطع عمراً» في هذا المتقدم من قوله «صل ونم» لا مطلقاً.
وذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد(2) في ترجمة محمد بن الحسن النقاش عن أبي العباس قال: كنت عند النبي (ص) وعلى فخذه الأيمن الحسين بن علي وعلى فخذه الأيسر ابنه إبراهيم تارة يقبل هذا وتارة يقبل هذا إذ هبط جبرئيل «عليه السلام» بوحي من رب العالمين، فلما سرى عنه قال: أتاني جبرئيل «عليه السلام» عن ربي فقال لي: يا محمد! إن ربك يقرؤك السلام ويقول لك: لست أجمعهما لك فأفتدي أحدهما بصاحبه.
فنظر النبي (ص) إلى إبراهيم فبكى، ونظر إلى الحسين فبكى ثم قال: إن إبراهيم أمه أمة ومتى مات لم يحزن عليه غيري، وأم الحسين فاطمة وابوه علي ابن عمي ولحمي ودمي ومتى مات حزنت ابنتي وحزن ابن عمي وحزنت أنا عليه وأنا أؤثر حزني على حزنهما، يا جبرئيل، يقبض إبراهيم، فديته بإبراهيم، قال: فقبض بعد ثلاث، فكان النبي (ص) إذا رأى الحسين «عليه السلام» مقبلاً قبله وضمه إلى صدره ورشف ثناياه وقال: فديت من فديته بابني إبراهيم، إنتهى.
ورميه أحد رواته بالكذب مردود عليه بعد أن رواه العمد والمعتبرون من الحفاظ وهم أجل المراجع عندهم مثل الدارقطني وابن شاهين وابن رزقويه وابن مجاهد وغيرهم من رواته من الحفاظ المذكورين ولولا هؤلاء ما عرف الخطيب ولا غيره غث الحديث من سمينه فالقادح فيهم منهم متهم وقدحه فيهم قدح في نفسه بلا أرتياب وقد تكلم في أعظم العلماء نباهة كأبي حنيفة أحد أئمة المذاهب والشيخ المفيد أعظم فقهائنا الإمامية وقدح في صحيح مسلم ومن كان هذا سبيله
(1) لقمان: 15. (2) تاريخ بغداد 2/ 304.
(347)
وحاله فقدحه لا يضرويجب الوقوف على عكس قوله لما عرفت.
وذكر المحب الطبري في ذخائر العقبى حديث البراء ويعلى المتقدمين عن السراج المنير(1)، ثم قال(2): عن أنس: لما قتل الحسين بن علي «عليهما السلام»جيء برأسه إلى ابن زياد «لعنه الله» فجعل ينكته بقضيب على ثناياه وقال: إن كان لحسن الثغر، فقلت في نفسي: لأسوأنك، لقد رأيت رسول الله (ص) يقبل موضع قضيبك، خرجه ابن الضحاك، رواه الحافظ الهيثمي وغيره بأتم من هذا.
وعن يزيد بن أبي زياد قال(3): خرج النبي (ص) من بيت عائشة فمر على بيت فاطمة «عليها السلام» فسمع حسيناً يبكي فقال: ألم تعلمي أن بكائه يؤذيني؟! خرجه ابن بنت منيع، إنتهى.
أحسب أن بكاء الحسين «عليه السلام» لقد أحبته في كربلاء عند فقد أخيه العباس وابنه علي الأكبر أشد أذى لرسول الله (ص) من بكائه وهو طفل في المهد.
وفي كفاية الطالب(4) عن ربيعة السعدي قال: لما أختلف الناس في التفضيل رحلت راحلتي وأخذت زادي وخرجت حتى دخلت المدينة فدخلت على حذيفة بن اليمان فقال لي: ممن الرجل؟قلت: من أهل العراق، قال: من أي العراق؟ قلت: رجل من أهل الكوفة، قال: مرحباً بكم يا أهل الكوفة، قال: قلت: قد أختلف الناس علينا في التفضيل فجئت لأسألك عن ذلك.
فقال: على الخبير سقطت، أما إني لا أحدثك إلا ما سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي: خرج علينا رسول الله (ص) – كأني أنظر إليه كما أنظر إليك – حامل الحسين بن علي على عاتقه، كأني أنظر إلى كفه الطيبة وأضعها على قدمه يلصقها إلى صدره، فقال: أيها الناس، لأعرفن ما أختلفتم فيه من الخيار بعدي: هذا الحسين بن علي خير الناس جداً وجدة، جده محمد رسول الله سيد النبيين، وجدته خديخة بنت خويلد سابقة نساء العالمين إلى الايمان بالله ورسوله.
هذا الحسين بن علي خير الناس أباً وخير الناس أماً، أبوه علي بن أبي طالب أخو رسول الله ووزيره وابن عمه وسابق رجال العالمين إلى الايمان بالله وبرسوله، وأمه فاطمة بنت محمد سيدة نساء العالمين.
هذا الحسين بن علي خير الناس عماً وعمة، عمه جعفر بن أبي طالب المزين بالجناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء وعمته أم هانئ بنت أبي طالب.
(1) ذخائر العقبى: ص122. (2) ذخائر العقبى: ص127.
(3) ذخائر العقبى: ص143. (4) كفاية الطالب: ص272.
(348)
هذا الحسين بن علي خير الناس خالاً وخير الناس خالة، خاله القاسم بن محمد رسول الله (ص).
وخالته زينب بنت محمد.
ثم وضعه على عاتقه فدرج بين يديه وجثا، ثم قال: أيها الناس! هذا الحسين بن علي جده وجدته في الجنة وأبوه وأمه في الجنة، وعمه وعمته في الجنة وخاله وخالته في الجنة وهو وأخوه في الجنة إنه لم يؤتى من ذرية النبيين ما أوتي الحسين بن علي ما خلا يوسف بن يعقوب.
قلت: هذا السند أجتمع عليه جماعة من أئمة الأمصار منهم ابن جرير ذكره في كتابه ومنهم إمام أهل الحديث ومحدث العراق ومؤرخه ابن ثابت الخطيب ذكره في تاريخه ومنهم محدث أهل الشام وشيخ أهل النقل ابن عساكر الدمشقي ذكره في تاريخه، إنتهى، وهذا القدر كاف.

نبذة من مزاياه وسجاياه:


ولنذكر نبذة من مزاياه وسجاياه المحمودة وليعلم الناظر أن لسيد الشهداء الحسين بن علي «عليهما السلام» اكمل المزايا وأجل الصفات التي بها يحصل الشرف ويتكامل المجد إذ كل خصلة منها توجب بنفسها استقلالاً لمن اتصف بها التقدم على غيره فكيف إذا أجتمعت كلها كالعلم والشجاعة وجرأة الجنان وفصاحة اللسان وحسن البيان والعفة والإباء والزهد والصلاح والعبادة والإيثار والشفقة والمروءة والسخاء وبذل المعروف والحلم إلى غير ذلك من معالي الأخلاق مع ما له من شرف الآباء المتصل والمجد الوراثي المتسلسل وله مكرمة قصرت عنها يد المتناول ودقت دونها عنق المتطاول وهي أعظم مكرمة وأجل فضيلة وهي ولادة رسول الله (ص) ولجميع هذه الخصال كانت له المنزلة الرفيعة عند أعيان الصحابة، وقد سمعت قصة عبد الله بن عمرو بن العاص وهاك بعض القضايا لتعرف حقيقة ذلك تفصيلاً.
ذكر الخطيب في تاريخ بغداد والكنجي في كفاية الطالب، والحافظ العسقلاني في الإصابة(1)- ولفظه-: عن عبيد بن حنين قال: حدثني الحسين بن علي «عليهما السلام» قال: أتيت عمر وهو يخطب على المنبر فصعدت إليه فقلت: إنزل عن منبر أبي وأذهب إلى منبر أبيك، فقال عمر: لم يكن لأبي منبر، وأخذني
(1) الإصابة 1/ 333.
(349)
وأجلسني معه أقلب حصى بيدي فلما نزل انطلق بي إلى منزله فقال لي: من علمك؟ قلت: والله ما علمني أحد، قال: بأبي لو جعلت تغشانا.
قال: فأتيته يوماً وهو خال بمعاوية وابن عمر بالباب، فرجع ابن عمر فرجعت معه فلقيني فقال لي: لم أرك، قلت: إني جئت وأنت خال بمعاوية فرجعت مع ابن عمر، فقال لي: أنت أحق من ابن عمر فإنما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثم أنتم، سنده صحيح وهو عند الخطيب، إنتهى.
فيه ثلاثة أمور يستراب منها: اتهام علي «عليه السلام» بتلقين الحسين «عليه السلام» ما قاله له وخلوته بمعاوية وهو من الطلقاء وقد كان يقصي الطلقاء ويبعدهم من كل كرامة كما فعل بأبي سفيان وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام، وإلزامه الحسين «عليه السلام» بالوقوف كل يوم على باب داره.
وفي كفاية الطالب لكنجي عن أبي مهزم قال: كنا في جنازة أمرأة ومعنا أبو هريرة فجيء بجنازة رجل فجعله بينه وبين المرأة فصلى عليهما، فلما أقبلنا إلى الحسين فقعد في الطريق فجعل أبو هريرة ينفض التراب عن قدميه بطرف ثوبه فقال الحسين «عليه السلام»: يا أبا هريرة! وأنت تفعل هذا؟ فقال أبو هريرة: دعني فوالله لو علم الناس ما أعلم لحملوك على رقابهم، رواه كاتب الواقدي في كتابه وأخرجه محدث الشام.
وقال سبط ابن الجوزي في التذكرة(1) وذكر ابن سعد في الطبقات قال: كان ابن عباس يمسك بركابي الحسن والحسين «عليهما السلام» حتى يركبا ويقول هما: ابنا رسول الله (ص)، الخ، وهذا القدر يكفي.

علم سيد الشهداء الحسين بن علي «عليهما السلام»:


وللعلم في صدر الإسلام مسالك محدودة منحصرة في الفقه والحديث والتفسير والخطابة وما شاكلها وفي كلها للحسين «عليه السلام» خبرة تامة ومهارة بالغة أقصاها، وليس هذا مذهبنا نحن الشيعة بل مذهبنا أن الإمام أعلم الخلق بكل العلوم ولكن نذكر مذهب أهل السنة فإنهم ذكروا للحسين «عليه السلام» فتاوى كثيرة ورووا عنه أحاديثاً وذكروا له خطباً وأشعاراً سنذكر بعضها.
قال ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة(2): قال بعض أهل العلم:
(1) تذكرة خواص الامة: ص134. (2) الفصول المهمة: ص179.
(350)
علوم أهل البيت لا تتوقف على التكرار والدرس ولا يزيد يومهم فيها على ما كان بالأمس لأنهم المخاطبون في أسرارهم المحدثون في النفس فسمو معارفهم وعلومهم بعيدة عن الإدراك واللمس من أراد سترها كمن أراد ستر وجه الشمس هذا مما يجب أن يكون ثابتاً مقرراً في النفس فهم يرون عالم الغيب ويقفون على حقائق المعاني في خلوات العبادة وتناجيهم ثواقب أفكارهم في أوقات أذكارهم بما تسنموا به غارب الشرف والسيادة وحصلوا بصدق توجههم إلى جناب القدس فبلغوا منتهى السؤدد والإرادة فهم كما في نفوس أوليائهم وأحبائهم وزيادة فما تزيد معارفهم في زمان الشيخوخة على معارفهم في زمن الولادة ومناقب واضحة الحجول بادية الغرر ومزايا تشرق اشراق الشمس والقمر ومزايا تزين عيون التواريخ وعنوانات الأثر فما سألهم مستفيد أو ممتحن فوقفوا ولا أنكر منكر أمراً إلا علموا وعرفوا ولا جرى معهم غيرهم في مضمار شرف إلا سبقوا وقصر محاوروهم وتخلفوا، إلى آخر كلامه(1).
ويعني هذا الفاضل أن علوم أهل البيت نقوش وارتسامات في النفس لصفائها وقوة إدراكها المعاني وسرعة الفهم والاستنباط والحدس وكل نفس مصفات عن دنس الأقذار، مطهرة من كل خبث ورجس فهي شديدة التعلق بالآثار العلوية وحقائق الأشياء لها منكشفة تمام الانكشاف، مشاهدة لها حاضرة لديها ومرئية عياناً ومعنى، محدثة أن لها مدداً إلهيا بواسطة الإلهام والإيحاء الرباني بإلقاء ما يطابق السؤال في النفس عند أول نظرة في إفاضات يفيضها على النفس الشفافة الصافية المصفات عن كل كدورة وهذه النفس السقيلة النورانية تنطبع فيها عامة المعقولات المدركة إنطباع المحسوسات في المرايا المجلوة بالواسطتين الإلهامية والحدسية من دون واسطة غريبة محصلة ومكتسبة من معاناة وممارسة فإذا كانت علوم أهل البيت كذلك فهي لا تحتاج إلى درس وتحصيل.
وقد كنت إسمع كثيراً من الاغاليط الشائعة التي تجري على ألسنة العوام نسبتهم للحسين «عليه السلام» القول المشهور عندهم وهو «من علمني حرفاً صيرني عبداً» وهذا مثل من أمثال العقلاء وليس من كلام الحسين «عليه السلام» وما كنت أظن الجهل يبلغ بأربابه إلى هذه المرتبة من البلادة، إذ ليس للحسين «عليه السلام» ولا لواحد من الأئمة المعصومين من أهل البيت «عليهم السلام» معلم سوى الله تعالى بوسائط ثلاثة:
(1) وهو كلام ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول، رواه عنه ابن الصباغ المالكي.
(351)
أولها: بالوحي النازل على رسول الله (ص) الواصل منه إليهم، وقد قال أمير المؤمنين «عليه السلام»: علمني رسول الله (ص) ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب، وقوله «عليه السلام»: هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله (ص).
ثانيها: بواسطة الإلهام وقد دلت على هذا أحاديث كثيرة من طريق أهل البيت استوفى روايتها علماء الشيعة كالكليني والطوسي والصدوق «رحمهم الله جميعاً».
ثالثهما: صدق الحدس من حيث صفاء النفس وقوة استعدادها في تلقي إفاضات يفيضها عليها واهب العلوم، وهذا كما ذكرنا من ارتسام الحقائق المدركة في هذه النفس كما ترتسم الصور الموجودة في المرآة الصقيلة ويشهد لهذا نفوس الفلاسفة المخترعين وهم دون أهل البيت في صفاء النفس وقوة استعدادها وهناك قسم رابع وهو عند علمائنا لا شك فيه وهو النقر في الأسماع وذلك حيث يسمع الإمام ملكاً يقرر الجواب لا يرى شخصه كما كانت العرب تسمع الهواتف تخبر بالأحداث المقبلة وفي هذا روايات من طريق أهل البيت «عليهم السلام» ومن كان مؤيداً بجميع هذه التأييدات الإلهية كيف يحتاج إلى تعليم البشر؟ اليس البشر بالنسبة إليه جهلاء والناس بالإضافة إلى معرفته أغبياء؟ وقد أجاد الشيخ بهاء الدين العاملي في رائيته التي مدح بها الإمام المهدي صاحب الزمان «عجل الله تعالى فرجه»، بقوله:
فعلم الورى إن قيس في جنب علمه كغرفة كف أو كغمسة منقار
قال الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب على هامش الإصابة(1) عن بشر بن غالب قال: سمعت عبد الله بن الزبير يسأل الحسين بن علي «عليهما السلام»: يا أبا عبد الله! ما تقول في فكاك الأسير على من هو؟ قال: على القوم الذين أعانهم، وربما قال: قاتل معهم، قال: وسمعته يقول: ياأبا عبد الله! متى يجب عطاء الصبي؟ قال: إذا استهل وجب له عطاؤه ورزقه، وسأله عن الشرب قائماً، فدعا بلقحة له فحلبت وشرب قائماً وناوله وكان يعلق الشاة المصلية فيطعمنا منها ونحن نمشي معه(2).
(1) الاستيعاب بهامش الإصابة 1/383.
(2) هذا الحكم في الأكل ماشياً ليبان الجواز وأنه غير حرام وإن كان مكروهاً كما هو مذهب الفقهاء.
(352)
وقال الحافظ العسقلاني في الإصابة(1): روى له أصحاب السنن أحاديثاً يسيرة، روى ابن ماجة وأبو يعلى عنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة وإن قدم عهدها فيحدث لها استرجاعاً إلا أعطاه الله ثواب ذلك، وروى عن أبيه وأمه وخاله هند بن هالة، روى عنه أخوه الحسن «عليه السلام»وبنوه علي زين العابدين وفاطمة وسكينة وحفيده الباقر والشعبي وعكرمة وشيبان الدؤلي وكرز التيمي وآخرون.

شجاعة الحسين «عليه السلام»:

 


لا برهان على شجاعته أعظم من موقفه في كربلاء إزاء تلك الجيوش والكتائب المحيطة به إحاطة الرحا بالقطب وقد أحدقت به من الجهات الأربعة وليست بمنقطعة بل العسكر يتلو العسكر وهو في نفر يسير حصوره في فلاة جرداء قاحلة لا ماء لهم ولا أقوات، فوقف سلام الله عليه غير مكترث بذاك الجمع الغفير ولا مرتهب، وأبدى من فنون البسالة ما أبهر العقول وحير الألباب، وقد كان «عليه السلام» إذا شد على كتيبة من الكتائب طارت كاليعافير أو قصد جمعاً فروا كالحمر المستنفرة، وقد اعترف له العدو المتكالب والخصم الألد بشدة البأس وصدق المراس.
قال الطبري في التاريخ(2): قال أبو مخنف عن الحجاج بن عبد الله بن عمار بن عبد يغوث البارقي وعتب على عبد الله بن عمار بعد ذلك مشهده قتل الحسين «عليه السلام» فقال عبد الله بن عمار: إن لي عند بني هاشم ليداً، فقلنا له: وما يدك عندهم؟
قال: حملت على الحسين بالرمح فانتهيت إليه فوالله لو شئت لطعنته ثم انصرفت عنه غير بعيد وقلت: ما أصنع أن أتولى قتله، يقتله غيري، قال: فشد عليه رجال ممن عن يمينه وشماله فحمل على من عن يمينه حتى انذعروا وعلى من شماله حتى انذعروا وعليه قميص له من خز وهو معتم، قال: فوالله ما رأيت مكسوراً(3) قط قد قتل أهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناباً منه، ولا أجراً مقدماً، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله، إن كانت الرجال تنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد عليه الذئب، الخ.
وقال كمال الدين ابن طلحة في مطالب السؤول(4): فدعا الناس إلى البراز
(1) الإصابة 1/ 232. (2) تاريخ الطبري 6/ 259.
(3) مكثوراً (نسخة). (4) مطالب السؤول: ص72.
(353)
فلم يزل يقاتل ويقتل كل من برز إليه من عيون الرجال حتى قتل منهم مقتلة كبيرة، الخ.
ونحن لا نحتج على إثبات شجاعة الحسين «عليه السلام» في هذا المختصر بأكثر مما ذكرنا، فإنها لا تحتاج إلى دليل كما لا يحتاج النهار إلى دليل، فقد ذكر أرباب المقاتل من أصحابنا أن الحسين «عليه السلام» لما ندب أهل الكوفة لمبارزته فكان تقدم إليه بطل جدله وسقى الأرض بدمه حتى أكثر فيهم القتل، فصاح عمرو بن الحجاج الزبيدي بهم: أتدرون يا حمقاء لمن تبارزون؟ هذا الانزع البطين، هذا ابن قتال العرب، والله لو بارزه أهل الدنيا واحداً بعد واحد لأفناهم، ولكن الرأي أن نفترق عليه فرقاً: فرقة بالسيوف وفرقة بالرماح وفرقة بالنبل والحجارة، ففعلوا ذلك حتى أثخنوه بالجراح، إلى آخر ما ذكروه في مقتله «عليه السلام»، وقد ظهر من شجاعته الباهرة ما لم يظهر من شجاع قبله فإنه ملأ قلوب الشجعان رهبة ورعباً وهو صريع فقد كان يرمق البطل بعينه فإذا فعل ذلك أرعد البطل ووقع السيف من يده، وإلى هذا يشير السيد حيدر الحلي «رحمه الله» في رثائه «عليه السلام» بقوله:
فما أجلت الحرب عن مثله صريعاً يجبن شجعانها
وقول السيد جعفر الحلي فيه «عليه السلام»:
ويوم الوغى تكفيه عن سيفه كرات عينيه إذا ما رنا
وليس علماء الشيعة رووا ذلك خاصة بل رواه مؤرخوا أهل السنة كالإسحاقي وغيره، وهذا لفظ الإسحاقي في تاريخ الأول(1): فطعنه سنان فألقاه عن فرسه وأجهز عليه خولى بن يزيد من حمير ونزل ليحز رأسه فارتعد فنزل أخوه شبل يزيد فاحتز رأسه ودفعه إلى أخيه خولى، الخ، ولكن الذي رواه أصحابنا أنه ابتدر إليه جماعة كل يرمي سيفه ويفر إذا رمقه الحسين «عليه السلام» بطرفه حتى جاء الشمر «لعنه الله»، ولذلك يقول الأزري فيه:
وأقبل الشمر والهندي في يده فكان ما كان من إنفاذ مسطور
ولولا أنهم حالوا بينه وبين الماء حتى أضربه الضعف وأنهك قواه العطش لافناهم.
قال الهيثمي في الصواعق المحرقة(2): لما شارف الكوفة سمع به أميرها
(1) تاريخ الاول: ص48. (2) الصواعق المحرقة: ص117.
(354)
عبيد الله بن زياد فجهز إليه عشرين ألف مقاتل فلما وصلوا إليه التمسوا منه نزول على حكم ابن زياد وبيعته ليزيد بن معاوية فأبى فقاتلوه وكان أكثر الخارجين لقتاله كاتبوه وبايعوه ثم لما جائهم أخلفوه وفروا منه إلى أعدائه إيثاراً للسحت العاجل على الخير الآجل، فحارب ذلك العدد الكثير ومعه من إخوته وأهله نيف وثمانون نفساً فثبت في ذلك الموقف ثباتاً باهراً مع كثرة أعدائه وعددهم ووصول سهامهم ورماحهم إليه ولما حمل عليهم وسيفه مصلت في يده أنشأ يقول:
أنا ابن علي الطهر من آل هاشم كفاني بهذا مفخراً حين أفخر
ثم قال: ولولا ما كادوه به من أنهم حالوا بينه وبين الماء لم يقدروا عليه إذ هو الشجاع القرم الذي لا يزول ولا يتحول، الخ.

أنفة الحسين «عليه السلام» من الرضوخ للمذلة ورفضه للهوان


قد كان «عليه السلام» حمي الأنف عظيم النفس لا يحتمل ضيماً ولا يحمل هواناً ولا يقبل اهتضاماً ولا يكسر بذخ نفسه وشمم أنفه في جواب أمير ولا يرد لسانه في محاورة سلطان خطير ولا خوف غائلة الاعتداء وحذر السطوة وقد سمعت ما قاله لمروان بن الحكم أمير الحجاز لمعاوية.
قال الحافظ ابن عساكر الشافعي في تاريخ الشام(1): قدم المسيب بن نجبة الفزاري ومعه عدد من الرجال على الحسين «عليه السلام» بعد وفاة الحسين «عليه السلام» فدعوه إلى خلع معاوية وقالوا: قد علمنا رأيك ورأي أخيك، فقال: إني أرجوا أن يعطي الله أخي على نيته في حب الكف ويعطيني على نيتي في حب جهاد الظالمين.
وكتب مروان بن الحكم إلى معاوية: إني لست آمن أن يكون الحسين مرصداً للفتنة واظن أن يومكم من الحسين طويلاً.
فكتب معاوية إلى الحسين «عليه السلام»: إن من أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء وفقد أنبئت أن قوماً من أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق وأهل العراق من قد جربت قد أفسدوا على أبيك وأخيك فاتق الله واذكر الميثاق فانك متى تكدني أكدك، فكتب إليه الحسين «عليه السلام»: اتاني كتابك وأنا بغير الذي بلغك عني جدير والحسنات لا يهدي لها إلا الله وما أردت لك محاربة ولا عليك خلافاً وما أظن لي عند الله عذراً في ترك جهادك ولا أعلم فتنة أعظم من
(1) تاريخ مدينة دمشق 4/ 327.
(355)
ولايتك أمر هذه الأمة.
فقال معاوية: إن أثرنا بأبي عبد الله إلا أسداً، إنتهى.
وقال اليافعي الشافعي في مرآة الجنان(1): كان الحسين «عليه السلام» يفر من مبايعة معاوية فضلاً عن مبايعة يزيد.
قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة(2): كان مال حمل من اليمن إلى معاوية فلما مر بالمدينة وثب عليه الحسين بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان: أما بعد، فإن عيراً مرت بنا من اليمن تحمل مالاً وحللاً وعنبراً وطيباً إليك لتودعها خزائن دمشق وتعل بها بعد النهل بني أبيك وإني احتجت إليها فأخذتهن والسلام.
فكتب إليه معاوية: من عبد الله معاوية إلى الحسين بن علي: أما بعد، فإن كتابك ورد علي تذكر أن عيراً مرت بك من اليمن تحمل مالاً وحللاً وعنبراً وطيباً إلي لأودعها خزائن دمشق وأعل بها بعد النهل بني أبي وإنك احتجت إليها فأخذتها ولم تكن جديراً بأخذها إذ نسبتها إلي لأن الوالي أحق بالمال ثم عليه المخرج منه وأيم الله لو تركت ذلك حتى صار إلي لم ابخسك حظك منه ولكنني قد ظننت يا ابن أخي أن في رأسك نزوة وبودي أن يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك ولكنني والله أتخوف أن تبلى من لا ينظرك فواق ناقة، وكتب في أسفل كتابه:
يا حسين بن علي ليس ما جئت بالمسائغ يوماً والعلل
أخذك المال وبم تؤمر به إن هذا من حسين لعجل
قد أجزناها ولم نغضب لها واحتملنا من حسين ما فعل
يا حسين بن علي ذا الأمل لك بعدي وثبة لا تحتمل
وبودي أنني شاهدها فإليها منك بالخلق الأجل
إنني أرهب أن تصلى بمن عنده قد سبق السيف العذل
فهو يتهدد الحسين «عليه السلام» بابنه الفاجر يزيد وفي كتاب الحسين «عليه السلام» لمعاوية في قتله لأصحاب أبيه كحجر بن عدي الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي ما يمثل لك الحقيقة جلية فراجعه في تاريخ ابن قتيبة «الامامة والسياسة»
(1) مرآة الجنان 1/ 136. (2) شرح نهج البلاغة 4/ 327.
(356)
وهو من أهل السنة وفي رجال الكشي وهو من الشيعة.
وأما حفاظ الحسين «عليه السلام» وحفظه الشرف عن كل ما يشينه وحمايته الشرع عن جميع ما يمس كرامته ولو كان في تلف النفس وانتهاك الأموال فأمر لا يستريب فيه ذو معرفة فإن نفس الحسين «عليه السلام» الأبية وروحه العزيزة قد أوقفته يوم كربلاء موقف المستميت الذي يرى النفس التي هي أعظ الأشياء النفسية وأغلاها وأرخصها كما قيل فيه:
وأرخص نفساً لا تكاد تسام
فقد بذل له الأمان فعافه لأنه مقرون بالدنية وضمن له حفظ سلامته فأباها لأنه محفوف بمذلة وهوان، واختار ما يختار الكرام أحرار النفوس وقد قال في ذلك:
الموت أولى من ركوب العار والعار أولى من دخول النار
فكان الموت المر المذاق الكريه المطعم الذي هو عند غيره أمر من العلقم عند الذ من الشهد المصفى فسار إلى المنية على العز سير المستعجل وقصدها قصد الطالب المسرع وما سمعنا قبله بمن تلقى المنية مبتهجاً، ولاقى حتفه آنساً طرباً، إن ذلك الموقف الذي وقفه الحسين «عليه السلام» على حسين لا ناصر له وقد ضحى بكل أحبته، ولا معين له حيث أباد الأضداد جميع أعوانه.
يتلقى الجموع فرداً ولكن كل عضو في الروع منه جموع
فالحسين «عليه السلام» هو الذي أسس الحفاظ العربي الحر بحماس الدين وحمية النسب وشهامة النفس، وهو الذي سن لأشرف سنة التضحية كما سيجيء في الفصل الثاني في الآباء وقد سنه تفادياً من الذل وتخلصاً من العدوان الصارم وابتكر طريقة التفادي والأنفة من الاستعباد الشائن بشرف الأحرار الأغيار، فكل من جاء بعده تأسى به كأبني الزبير وبني المهلب وقتيبة بن مسلم الباهلي والمقتدر العباسي ومحمد وإبراهيم الحسنيين، هكذا يزعمون وكل من استمات من الأكابر ذكره واحتج بموقفه كما قال مصعب بن الزبير ومروان بن محمد آخر ملوك بني أمية والمقتدر كذا يدعون «وكل يدعي وصلاً بليلى».
سنذكر في إباء العباس «عليه السلام» أن نهج الحسين «عليه السلام» في الآباء لم ينهجه قبله أحد ولا سار أحد بعده مثل سيره، هب إنهم كما زعموا وزعم لهم الزاعم في إقتفاء طريقته فلا شك أن الفضيلة في كل طريقة فخر تخص شارعها
(357)
لا تعدوه وكل من سن صالحاً ومحموداً فهو الواجب الشكر عليه دون غيره ممن حذا حذوه واستن بسنته.
قال ابن أبي الحديد(1): سيد أهل الآباء الذي علم الناس الحمية والموت تحت ضلال السيوف اختياراً له على الدنية أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب «عليهما السلام» عرض عليه الأمان وأصحابه فأنف من الذل خاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان مع أنه لا يقتله فأختار الموت على ذلك(2).
وسمعت النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلوي البصري يقول: كأن أبيات أبي تمام في محمد بن حميد الطائي ما قيلت إلا في الحسين «عليه السلام»:
وقد كان فوت الموت سهلاً فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
ونفس تعاف الموت حتى كأنه هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر
فأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها من دون أخمصك الحشر
تردى ثياب الموت حمراً فما بدا لها الليل إلا وهي من سندس خضر
لم يعط الحسين «عليه السلام» الأمان مرة واحدة بل تكرر إعطاؤهم إياه الأمان.
قال أبو جعفر الطبري في التاريخ(3): قام عبد بن جعفر إلى عمر بن سعيد بن العاص فكلمه وقال: أكتب إلى الحسين كتاباً تجعف له فيه الأمان وتمنيه في البر والصلة، وتوثق له في كتابه وتسأله الرجوع لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع، فقال له عمرو بن سعيد: أكتب ما شئت وأتني به حتى أختمه.
فكتب عبد الله بن جعفر الكتاب ثم أتى به عمرو بن سعيد فقال له: إختمه وابعثه مع أخيك يحيى بن سعيد فإنه أحرى أن تطمئن نفسه إليه ويعلم أن الجد منك.
ففعل، وكان عمرو بن سعيد عامل يزيد بن معاوية على مكة فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر ثم انصرفا بعدما قرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب وجهدنا به وكان مما أعتذر به إلينا أن قال: إني رأيت رسول الله (ص) وأمرني بأمر فأنا ماض له علي أو لي، فقالا له: ما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدثت بها أحداً وما أنا محدث بها حتى ألقى ربي.
(1) شرح نهج البلاغة: 1/ 302. (2) تاريخ الطبري 6/ 314.
(3) تاريخ الطبري 6/191.
(358)
لم يكن رأي الحسين «عليه السلام» منذ بدأ الأمر إلا المشي على خطة الآباء والسير على جادة الحفاظ يردد ذلك مراراً في أقواله إنشاءاً وإنشاداً.
قال الطبري(1): عن أبي سعيد المقبري قال: نظرت إلى الحسين «عليه السلام» داخلاً مسجد المدينة وإنه يمشي وهو معتمد على رجلين يعتمد على هذا مرة وعلى هذا مرة وهو يتمثل بقول ابن مفرغ:
لا ذعرت السوام في فلق الصبح مغيراً ولا دعيت يزيدا
يوم أعطي من المهابة ضيماً والمنايا يرصدنني أن احيدا
قال: فما بلغ يومين حتى بلغني أنه سار إلى مكة، الخ، وذكرها غيره.
وأما من ادعى أنه سار على منهاجه وأقتفى أثره في إباء الضيم ورفض الهوان واختيار الموت على الحياة حفاظاً من أكابر الرجال فكثيرون منهم مصعب بن الزبير – على ما ذكره المبرد في الكامل وغيره – فإنه لما فر أصحابه عنه وبقي نفر يسير من أصحابه كسر جفن سيفه وأنشد:
فإن الأولى بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التآسيا
فعلم أصحابه أنه قد استقتل، ومنهم مروان الحمار الجعدي آخر ملوك بني أمية.
قال الراغب في المحاضرات(2): لما وقعت العزيمة على مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، أهاب الناس أن يرجعوا فلم يولوا فانتضى سيفه وقاتل قتال مستقتل، فقيل له: لا تهلك نفسك ولك الأمان، فتمثل بأبيات قالها الحسين «عليه السلام» يوم قتل، وهي:
أذل الحياة وذل الممات وكلاً أراه طعاماً وبيلا
فإن كان لا بد إحداهما فسيراً إلى الموت سيراً جميلا
وغيره يذكر القصة لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وكان مع مروان هذا وقتله بنو العباس معه.
ومنهم المقتدر العباسي كما في صلة تاريخ الطبري(3): إن المقتدر لما عمل على الخروج إلى مؤنس لبس ثيابه وجلس على مسودة وقال لامه: يا أماه! أستودعك الله هذا يوم الحسين بن علي ثم تمثل بقول علي بن الرومي:
(1) تاريخ الطبري 6/ 191. (2) المحاضرات 2/ 60.
(3) ذيل تاريخ الطبري 12/ 91.
(359)
طامن حشاك فإن دهرك موقع بك ما تحب من الأمور وتكره
وإذا حذرت من الأمور مقدراً فهربت منه فنحوه تتوجه

سخاء الحسين بن أمير المؤمنين «عليهما السلام»:


كان «عليه السلام» أجود أهل زمانه وأسخاهم كفاً وأبذلهم للجزيل، يعطي الألوف ويعتذر من القلة ويغني السائلين ويرى نفسه أنه ما سد لهم خلة.
قال كمال الدين بن طلحة في مطالب السؤول(1): وقد اشتهر النقل عنه «عليه السلام» أنه كان يكرم الضيف ويمنح الطالب ويصل الرحم وينيل الفقير ويسعف السائل ويكسو العاري ويشبع الجائع ويعطي الغارم ويشد من الضعيف ويشفق على اليتيم ويعين ذا الحاجة وقل أن وصله مال إلا فرقه وقيل إن معاوية لما قدم مكة وصله بمال كثير وثياب وفيرة وكسوة وافية فرد الجميع عليه ولم يقبله منه وهذه سجية الجواد وشنشنة الكريم وسمة ذي السماحة وصفة من قد حوى مكارم الأخلاق فأفعاله المتلوة شاهدة له بصفة الكرم ناطقة بأنه متصف بمحاسن الشيم، إنتهى.
ولا دليل عليه أقوى من قول جده رسول الله (ص) فيما رواه المحب في ذخائر العقبى(2) والكنجي في كفاية الطالب(3) ولفظهما عن أبي رافع عن فاطمة بنت رسول الله (ص) أنها أتت أباها بالحسن والحسين «عليهما السلام» في الشكاة التي مات فيها، فقالت: ورثهما يا رسول الله شيئاً، فقال: أما الحسن فله هيبتي وسؤددي، وأما الحسين فله جرأتي وجودي.
قال نور الدين بن الصباغ في الفصول المهمة(4): قال أنس كنت عند الحسين «عليه السلام» فدخلت عليه جارية فجائته بطاقة ريحان، فقال لها: أنت حرة لوجه الله، فقلت له: جارية تحييك بطاقة ريحان لا حظ لها ولا بال فتعتقها؟! فقال: أما سمعت قول الله: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منا)(5)، وكان أحسن منها عتقها.
هذه كلمات له حكمية ذكرها في نور الأبصار في خطبة حكمية هذا لفظها: «أيها الناس! نافسوا في المكارم، وسارعوا في المغانم، ولا تحتسبوا بمعروف لم تعجلوه وأكتسبوا الحمد بالمنح ولا تكسبوه بالباطل، فمهما يكن لأحد عند أحد
(1) مطالب السؤول: ص73. (2) ذخائر العقبى: ص129.
(3) كفاية الطالب: ص277. (4) الفصول المهمة: ص184.
(5) النساء: 86.
(360)
ضيعة ورأى أنه لا يقوم بشكرها فالله له بمكافئته بمكان وذلك أجزل عطاءاً وأعظم أجراً، وأعلموا أن المعروف يكسب حمداً ويعقب أجراً، فلو رأيتم اللئم رجلاً لرأيتموه منظرا قبيحاً تفر منه القلوب وتغض منه الأبصار، أيها الناس! من جاد ساد، ومن بخل ذل وإن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعفى الناس من عفى عن قدره وإن أوصل الناس من وصل من قطعة ومن أراد بالصنيعة إلى أخيه وجه الله كافأه الله بها وقت حاجته وصرف عنه من البلاء أكثر من ذلك ومن نفس عن أخيه كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة ومن أحسن أحسن الله إليه والله يحب المحسنين.

عبادة الحسين «عليه السلام» وتقواه:


لقد علم المحققون أن أهل البيت «عليهم السلام» أعبد الناس وأكثرهم صياماً وصلاة وحجاً وصدقة إلى غير ذلك وبكلمة جامعة هم اخيار الأمة وصلحاؤها، عنهم يؤخذ الزهد والعبادة وقد كان الحسين «عليه السلام» أكثر الناس صلاة فقد كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة وحج إلى بيت الله الحرام خمساً وعشرين حجة ماشياً على قدميه والنجائب تقاد معه.
قال الحافظ ابن عبد المالكي القرطبي في الاستيعاب(1): كان الحسين «عليه السلام» فاضلاً ديناً كثيرالصوم والصلاة والحج.
وقال مصعب الزبيري(2): حج الحسين بن علي خمساً وعشرين حجة ماشياً، الخ.
وقال كمال الدين ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول: وكان في العبادة مقتدياً بمن تقدم حتى نقل عنه أنه حج خمساً وعشرين حجة إلى الحرم ونجائبه تقاد معه وهو ماش على القدم، الخ.
وقال ابن عبد ربة المالكي القرطبي في العقد الفريد(3) وذكر الحج ماشياً كما مر، وقيل لعلي بن الحسين «عليهما السلام»: ما أقل ولد أبيك؟ قال: العجب كيف ولدت له، كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة فمتى كان بتفرغ للنساء؟!.
(1) الاستيعاب 1/ 378.
(2) الاستيعاب 1/382.
(3) العقد الفريد 3/ 43.
(361)