الحركة العلمية

مرحلة ترسيخ ألإجتهاد في حوزة كربلاء

Post on 09 تموز/يوليو 2016

مرحلة ترسيخ ألإجتهاد في حوزة كربلاء

مرت ثلاثة قرون متتالية على حوزة كربلاء، والحركة العلمية فيها متواصلة لكنها فاترة نسبيا ، اوأن ساحتها اصبحت وقفا على المدرسة ألإخبارية حتى أواخر القرن الثاني عشر ، حينما لمع نجم عالم كبير ، ومحقق فهامة ،وفقيه متبحر، هو الشيخ آغا الوحيد البهبهاني ، الذي تصدى للتوفيق بين المدرستين وإرجاع حالة التحقيق العلمي إلى الحوزة ، وإستطاع بمنطقه المقنع ، وتعبيراته المبرهنة ، وإستدلالاته الرصينة ، من أن يغير رأي الكثيرين، فقد كان هذا العالم النحرير والمفكر الفطن ، الذي قيل عنه : إنه مجدد المذهب على رأس المائة الثانية عشرة متكلما لبقا وحصيفا ، حيث مكنته قدرته العلمية الهائلة ، وتعبيراته ألإستدلالية المتزنة من أن ينهض لمجادلة ومناقشة المسائل الخلافية ، مدعوما بمجملة من مؤلفاته ومحاججاته الشفوية، ودروسه وتقريراته ألأصولية التي كان يلقيها على تلامذته الكثيرين ، الذين إلتفوا حوله بالمئات ، حتى إنكمشت في عصره الخلافات الحادة ورجعت الحوزة إلى سابق عهدها في البحث والتحقيق على ضوء المدرسة ألإجتهادية المعروفة. وقد وصفه تلميذه المبرز، العالم الجليل والفقيه النحرير السيد محمد مهدي بحر العلوم المتوفى سنة 1212 هـ ، في بعض إجازاته بقوله: شيخنا العالم العامل، وأستاذنا الحبر الفاضل، الفهامة المحقق النحرير، والفقيه العديم النظير ، بقية العلماء ونادرة الفضلاء ، مجدد ما إندرس من طريق الفقهاء ، ومعيد ما إنمحى من أثر القدماء ، البحر الزاخر ، وألإمام الباهر، الشيخ محمد باقر إبن الشيخ ألأجل ألأكمل ، والمولى ألأعظم ألأبجل ، المولى محمد أكمل، أعزه ألله برحمته الكاملة ، وألطافه السابغة الشاملة.

وترجمه الشيخ آغا بزرك الطهراني في كتابه «الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة» فقال عنه: هو الشيخ ألآغا محمد باقر ـ الشهير بألأستاذ ألأكبر وبالوحيد ـ إبن المولى محمد أكمل ألأصفهاني البهبهاني ، مجاهد كبير ، ومؤسس محقق ، وأشهر مشاهير علماء ألإمامية واجلهم في عصره ، ولد بأصفهان في سنة 1118 هـ ، أو 17 ، أو 16 ، نشأ بها ثم إنتقل إلى بهبهان مع والده فاشتغل بها عليه ردحا من الزمن ، ثم هاجر إلى كربلاء فجاورها وحضر على أركان الملة وأقطاب الشريعة من سدنة المذهب وفحول العلماء والغريب أن المترجمين له من القدماء والمتأخرين ، لم يشيروا إلى أحد من مشايخه إلا والده الجليل، وقد عرفنا من بعض مؤلفاته إنه من تلاميذ العلامة السيد صدر الدين الرضوي مؤلف «شرح الوافية التونية» ، فإنه ذكره في «رسالته في ألإجتهاد والتقليد» ، التي الفها في سنة 1155 هـ ، وقد عبر عنه هناك بقوله: السيد السند ألأستاذ ، ومن عليه ألإستناد (دام ظله) ومن دعائه له كذلك إستفدنا أن وفاة السيد صدر الدين كانت بعد تلك السنة ، وعلى أي حال فإن المترجم لما ورد كربلاء المشرفة قام بأعباء الخلافة ونهض بتكاليف الزعامة وألإمامة ، ونشر العلم بها وإشتهر تحقيقه وتدقيقه وبانت للملأ مكانته السامية ، وعلمه الكثير ، فانتهت إليه زعامة الشيعة ورئاسة المذهب ألإمامي في سائر ألأقطار، وخضع له جميع علماء عصره ، وشهدوا له بالتفوق والعظمة والجلالة ، ولذا أعتبر مجددا للمذهب على رأس هذه المائة، وقد ثنيت له الوسادة زمنا إستطاع خلاله أن يعمل ويفيد ، فهو الوحيد من شيوخ الشيعة ألأعاظم الناهضين بنشر العلم والمعارف ، وله في التاريخ صحيفة بيضاء، يقف عليها المتتبع في غضون كتب السير ومعاجم الرجال، والحق إنا وإن أطنبنا في ذكره ، وأشدنا به فلا شك أنا غير واصفيه على حقيقته ، وقد أحسن وأنصف الشيخ عبدالنبي القزويني في «تتميم ألأمل» ، حيث إعترف بالعجز عن توصيفه وتعريفه ، فكيف يوصف وبأي مدح من خرج من معهد درسه جمع من أعلام الدين وعباقرة ألأمة وشيوخ الطائفة ونواميس الملة كالمولى مهدي النراقي والميرزا أبي القاسم القمي والميرزا مهدي الشهرستاني والسيد ألأعرجي والشيخ أبي علي الحائري والشيخ ألأكبر كاشف الغطاء (الشيخ جعفر) ، والسيد مهدي بحر العلوم، والشيخ أسد ألله الدزفولي والسيد أحمد الطالقاني النجفي ، والسيد محمد باقر حجة ألإسلام ألأصفهاني وغيرهم من مشيدي دعائم الدين ، ومقومي أركان المذهب ، اعلى ألله درجاتهم جميعا. توفى المترجم في الحائر الشريف في سنة 1208 هـ ، ودفن في رواق حرم الحسين عليه السلام مما يلي أرجل الشهداء ، ورثاه جمع كبير من علماء ذلك العصر وشعراءه، كالشيخ محمد رضا النحوي والشيخ مسلم إبن عقيل . . . والسيد محمد زيني ، والشيخ علي بن محمد حسين الكاظمي المعروف بـ «زيني»أيضا، والشيخ محمد علي ألأعسم وغيرهم، وله تصانيف جليلة ، ورسائل كثيرة ملأها بنظراته العميقة وأفكاره العالية ، يقول بعض مترجميه أنها قرب ستين رسالة وكتاب، إلا أني رأيت فهرسها بخطه الشريف على ظهر بعض تصاينفه التي رأيتها في مكتبة السيد محمد علي السبزواري كتبه بالفارسية هكذا: «تفصيل مؤلفات أين أقل أذل محمد باقر بن محمدأكمل عفي عنهما بمحمد وآله . . . » ، ثم شرع في تعدادها حتى انهاها إلى أربعة واربعين كتابا ورسالة ، مع تعيين مواضيعها وفهرس فصول بعضها. . . الخ.

وبخصوص مدرسة ألآغا باقر الوحيد البهبهاني ومباحثاتها مع مدرسة ألإخباريين، فقد ذكر رجل الدين المسيحي ألأب «أنستاس ماري كرملي» ما معناه: لقد كانت في القرن الثاني عشر لهجرة نبي ألإسلام محمد العربي ، مدرستان فكريتان للشيعة في كربلاء تتنافسان ، وهما : مدرسة ألإخبارية ومدرسة ألأصولية ، حتى ظهر ذلك العالم الكبير والمصلح العظيم ، العلامة المعروف بألآغا باقر البهبهاني ، نشأ وتألق ذلك العالم العبقري في بهبهان إحدى مدن الخليج الفارسي ، ثم هاجر إلى كربلاء بالعراق، فنفخ في روحه في مدرسة ألأصولية وعلى يد ذلك العلامة الشهير تأسست المدرسة ألأصولية الكبرى أو «دار المعلمين في النجف» ، وصارت هذه المدينة مدرسة عالية ، فالنجف اليوم هي مدرسة ألآغا باقر البهبهاني ، وكل من نبغ فيها أو ينبغ من العلماء ، فهم تلامذة ألآغا البهبهاني.

وعلى كل حال ، فإنه بخلو الساحة العلمية في كربلاء من دعاة ومبلغي الخلافات الحادة ،عاد ألإتجاه ألإجتهادي ألأصولي ليملأها من جديد ، ولكن بمرتكزات علمية ومعطيات دراسية متجددة ، وذلك بفضل التراث الكبير الذي خلفه الوحيد البهبهاني.

ومن مدرسته ألأصولية العقلية التي ترسخت جذورها وتدعمت أسسها في حوزة كربلاء أولا وفي حوزة النجف ثانيا، تخرج فيما بعد رعيل من فطاحل العلماء ألأصوليين ، الذين برزوا وتفوقوا على أسلافهم بدرجات عالية مثل : العلامة الكبير المولى محمد كاظم الخراساني صاحب كتاب «الكفاية» ، الذي بات منذ عهده وحتى اليوم أهم كتاب أصولي متعمق يدرسه ويتفقه فيه العلماء وطلاب العلوم الدينية على حد سواء ، ومثل تلميذ هذا ألأخير ، وهو العلامة الميرزا محمد حسين النائيني ، الذي سعى بدوره إلى تربية جيل من العلماء الأصوليين ، الذين لا يزال عدد كبير منهم ومن تلامذتهم أيضا ، يتولى مقاليد حركة الدرس والبحث في الحوزات العلمية القائمة في وقتنا الحاضر، وكذا تلميذ الخراساني ألآخر ، وأعني به العالم ألأصولي الكبير الشيخ ضياء الدين العراقي المتوفى سنة 1361 هـ ، والذي كان بحق عالما أصوليا مبرزا وفحلا أسهم بدور فاعل في تربية جيل من العلماء ألأصوليين ، الذين لا يزال البعض منهم على قيد الحياة ويقوم بدور فاعل في دفع مسيرة العلم والتدريس قدما إلى ألأمام ، وفي حق هذا ألأخير ـ الشيخ ضياء الدين العراقي ـ ذكر صاحب «أعيان الشيعة »بما يلي : كان يعتبر المعلم ألأول بحق للعلوم الدينية ولاسيما ألأصول ، فقد رقي منبر التريس مدة خمسين سنة متواصلة . . . الخ.