في ظلال الصيحيفة السجادية 191

الدعاء الرابع عشر

دعاؤه في الظلامات

يا من لا يخفى عليه أنباء المتظلمين ويا من لا يحتاج في قصصهم إلى شهادات الشاهدين ، ويا من قربت نصرته من المظلومين ، ويا من بعد عونه عن الظالمين ، قد علمت يا إلهي ما نالني من ( فلان بن فلان ) مما حظرت ، وانتكه مني مما حجزت عليه بطراً في نعمتك عنده ، واغتراراً بنكيرك عليه ، فصل اللهم على محمد وآله ، وخذ ظالمي ، وعدوي عن ظلمي بقوتك ، وافلل حده عني بقدرتك ، واجعل له شغلاً فيما يليه ، وعجزاً عما يناويه .
أللهم وصل على محمد وآله ، ولا تسوغ له ظلمي ، وأحسن عليه عوني ، واعصمني من مثل أفعاله ، ولا تجعلني في مثل حاله .


الظالم كافر

( يا من لا يخفى عليه أنباء المتظلمين ) أي أخبار الذين يعانون الظلم ،

في ظلال الصيحيفة السجادية 192

ويشتكون منه ، ( ويا من لا يحتاج في قصصهم إلى شهادات الشاهدين ) لأنه بكل شيء عليم ، بل في العديد من الآيات « والله عليم بالظالمين » (1) . . . « ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون » (2) . وفي اصول الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام : « اوحى الله إلى نبي من أنبيائه في مملكة جبار من الجبارين أن أنت هذا الجبار فقل له : إنني لم استعملك على سفك الدماء ، واتحاذ الأموال ، وإنما استعملتك لتكف عني أصوات المظلومين فإني لم أدع ظلامتهم ، وإن كانوا كفاراً » (3) ، لأن الظلم قبيح بالذات تماماً كنتانة الجيفة ، وقذارتها . وفي حديث آخر : « من أذنب غير معتد على الناس كان للعفو أهلاً » (4) ؛ لأنه أساء إلى نفسه دون سواها . وفي حديث ثالث عن النبي صلى الله عليه وآله : « والله لا يؤمنون ، والله لا يؤمنون ، والله لا يؤمنون . فقيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : من لا يأمن جاره بوائقه » (5) أي يبيح لنفسه الإساءة إلى جاره ، ولا يبيح لجاره أن يسيء إليه . وفي رابع : « من أعان ظالماً على ظلمه ، وهو يعلم أنه ظالم ، فقد برئ من الإسلام » (6) ، حيث شاركه في الظلم ، والعدوان ، وفي الآية : « والكافرون هم الظالمون » (7) ولنا أن نقول ـ استناداً إلى هذه الأدلة وغيرها ـ أن
(1) البقرة : 95 .
(2) إبراهيم : 42 .
(3) انظر ، الكافي : 2 / 333 ح 14 .
(4) انظر ، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر للحلواني : 107 ح 8 ، أعلام الدين : 189 ، بحار الأنوار : 78 / 277 ح 113 .
(5) انظر ، كتاب الزهد لحسين بن سعيد الكوفي : 42 ، الكافي : 1 / 6 ، شرح اصول الكافي : 11 / 149 .
(6)انظر ، نوادر الراوندي : 128 ، كنز العمال : 16 / 92 ح 43945 ، بحار الأنوار : 75 / 379 ح 41 .
(7) البقرة : 254 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 193

من يتعمد الظلم يعامل معاملة الكافر في الآخرة ، ومعاملة المسلم في الدنيا إن نطق بالشهادتين .
وقال عالم متمكن في تفسير قوله تعالى : « وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار » (1) ، قال هذا العالم : المراد بـ « الذين يموتون وهم كفار » الظلمة من المسلين ؛ لأن الكلام في التوبة ، والذين يموت على الكفر لم يتب كما هو الفرض . وعليه يكون معنى الآية أن الله لا يقبل التوبة ممن حضره الموت ، ولا من الذين ينطقون بالشهادتين وهم يظلمون عباد الله ، وعياله ، بل هؤلاء يموتون على الكفر أللهم إلا أن يؤدوا إلى المظلومين حقوقهم بالكامل .
( ويا من قربت نصرته من المظلومين ) في الأمثال : ظلم المرء يوبقه ويصرعه (2) ، ويا ظالم لك يوم . وفي نهج البلاغة : « يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم » (3) . ويوم العدل آت لا محالة عاجلاً ، أو آجلاً ( ويا من بعد عونه عن الظالمين ) في الآية « لنهلكن الظالمين » (4) و الآية « ألا لعنة الله على الظالمين » (5) ، وهل من شيء أكثر خزياً ، وخذلاناً من عذابه تعالى ، ولعنته ؟ .


الإسلام دين الجهاد

( قد علمت يا إلهي ما نالني من فلان بن فلان . . . ) لا يريد الإمام عليه السلام بدعائه هذا
(1) النساء : 18 .
(2) انظر ، عيون الحكم والمواعظ : 323 .
(3) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 80 ، الحكمة ( 341 ) ، شرح نهج البلاغة للمعتزلي : 19 / 256 .
(4) إبراهيم : 13 .
(5) هود : 18 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 194

أن يلجأ المظلوم تواً إلى الله دون أن يبذل أي جهد في مقاومة الظالم ، والدفاع عن نفسه ، كيف ؟ وقد خاض النبي صلى الله عليه وآله ، والمسلمون في عهده ، ومن بعده أقسى الحروب ، وأشد المعارك ، وهل من بلد تحرر من الرق ، والاستغلال إلا بالجهاد ، والنضال ؟ والآيات القرآنية ، والروايات النبوية تنص بكل وضوح على أن الإسلام هو دين الكفاح ، والجهاد ، والتضحية بالنفس ، والنفيس ضد الظلم ، والشر ، والفساد في الأرض ، وقلنا فيما سبق : من نام على الظلم بلا عذر مشروع فقد ظلم نفسه ، وإن الظالم لو علم روح الإستماتة من المظلوم دفاعاً عن كرامته لتحاماه .
وإذن : فمراد الإمام من هذا الدعاء أن على المظلوم أولاً ، وقبل كل شيء أن يغضب لحقه ، ويذود عنه بكل ما يملك من جهد ، وقوة ، وحكمة ، وخبرة مستمداً من الله العون ، والتوفيق ، فأن عجز أي كان دفاعه هلاكاً ، وانتحاراً بلا جدوى ، بل قوة للباغين ، وإغراءً له في العتو ، والتمادي ـ رفع شكواه إلى القوة العليا ، وتربص حتى يأتي أمر الله .
( وخذ ظالمي ، وعدوي عن ظلمي بقوتك ) إكفني شره ، ورد عني كيده ، إنك على كل شيء قدير ( وافلل ) إكسر ، وحد السيف : مقطعه ، والمعنى جرده من كل سلاح يشهره على عبادك ، وعيالك ( واجعل له شغلاً فيما يليه ) أي هي له عملاً يتولاه ، ويقوم به ، ويشغله عن أذى الناس ، والإساءة إليهم ( وعجزاً عما يناويه ) من المناواة بمعنى المعاداة ، والمشاغبات ( ولا تسوغ ) لا تسهل ( وأحسن عليه عوني ) أعني عليه بفضلك ، وإحسانك ( واعصمني من مثل أفعاله ) أعوذ بك أن أسي إلى أحد من خلقك كما يفعل السفهاء ، والأشقياء .
أللهم صل على محمد وآله ، وأعدني عليه عدوى حاضرة تكون من غيظي به شفاءً ، ومن حنقي عليه وفاءً . أللهم صل على محمد

في ظلال الصيحيفة السجادية 195

وآله ، وعوضني من ظلمه لي عفوك ، وأبدلني بسوء صنيعه بي رحمتك ، فكل مكروه جلل دون سخطك ، وكل مرزئة سواء . . . مع موجدتك .
أللهم فكما كرهت إلى أن أظلم فقني من أن أظلم . أللهم لا أشكو إلى أحد سواك ، ولا أستعين بحاكم غيرك حاشاك فصل على محمد وآله ، وصل دعائي بالإجابة ، وأقرن شكايتي بالتغيير .
أللهم لا تفتني بالقنوط من إنصافك ، ولا تفتنه بالأمن من إنكارك ، فيصر على ظلمي ، ويحاضرني بحقي وعرفه عما قليل ما اوعدت الظالمين ، وعرفني ما وعدت من إجابة المضطرين .


لا حقد عند العترة الطاهرة

( وأعدني عليه عدوى حاضرة تكون من غيظي به شفاءً ، ومن حنقي عليه وفاءً ) أعدني : انصرني تقول : استعديت فلاناً على خصمي فأعداني أي طلبت منه النصر فنصرني ، والعدوى : النصرة ، وحاضرة : عاجلة ، والغيظ : أشد الغضب ، والحنق : أشد الغيظ . . . وحاشا العترة الطاهرة الزاكية من الحقد ، والتشفي . . . إنهم الكاظمون ، العافون ، المحسنون . قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لولده الإمام الحسن عليه السلام : « تجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ، ولا ألذ مغبة » (1) ، وقال : متى أشفى غيظي إذا غضبت ؟ أحين أعجز من الإنتقام ؟ فيقال لي لو صبرت . أم حين أقدر عليه ؟ فيقال لي لو عفوت » (2) . وسيرة العترة أقوى حجة ، وأصدق
(1) انظر ، نهج البلاغة : 3 / 54 ، خطبة ( 31 ) ، شرح النهج للمعتزلي : 16 / 108 ، تحف العقول : 82 .
(2) انظر ، نهج البلاغة : 2 / 188 ، الحكمة ( 194 ) ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي : =
في ظلال الصيحيفة السجادية 196

دليل على أنهم امتداد لجدهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله الذي بعث ليتم مكارم الأخلاق ، ومن أجل هذا تدين الملايين بإمامتهم ، وعصمتهم ، وقال الإمام السجاد عليه السلام صاحب هذا الدعاء فيما يأتي : ( أللهم وأيما عبد نال مني ما حضرت عليه ، وانتهك مني ما حجرت عليه ، فمضى بظلامتي ميتاً ، أو حصلت لي قبله حياً ، فاغفر له ما ألم به مني ) (1) .
وغير بعيد أن يكون المقصود بهذا الدعاء قتلة الإمام الحسين عليه السلام ، وغيره من الذرية ، والقربى المحمدية الذين أمر الله بمودتهم في الآية من الشورى (2) ، وقال سبحانه : « من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً » (3) ، وفي الحديث الشريف : « لو أن أهل السموات السبع ، وأهل الأرضين السبع اشتركوا في دم مؤمن ـ بغير نفس ، أو فساد في الأرض ـ لأكبهم الله جميعاً في النار » (4) ، بل أن رسول الله صلى الله عليه وآله قتل أسيرين من أسرى بدر لقسوتهما في إذائه ، وإذاء الصحابة ، ولم يقبل الفدية منهما كما فعل مع سائر الأسرى (5) .
= 19 / 12 ، شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني : 5 / 344 ، عيون الحكم والمواعظ : 489 .
(1) سيأتي في الدعاء التاسع والثلاثين .
(2) يقصد بها الآية 23 من سورة الشورى : « قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور » .
(3) المائدة : 32 .
(4) انظر ، كنز العمال : 15 / 21 ح 39893 ، تفسير القرطبي : 2 / 215 ، سنن الترمذي : 2 / 427 ، الجامع الصغير : 2 / 426 ح 7407 ، شرح الأزهار : 4 / 385 ، المجموع : 18 / 346 ، نصب الراية : 6 / 317 ، فقه السنة : 2 / 509 .
(5) انظر ، الروض الأنف : 3 / 65 ، السيرة الحلبية : 2 / 178 ، المصنف لعبد الرزاق : 5 / 205 ، =
في ظلال الصيحيفة السجادية 197


( وعوضني من ظلمه لي عفوك ) اجعل عفوك عني عوضاً عما لاقيت ، وعانيت من ظلم من أعتدى علي ( وأبدلني بسوء صنيعه بي رحمتك ) عطف تكرار ( فكل مكروه جلل دون سخطك ) تطلق كلمة جلل على الخطير ، واليسير ، والمراد هنا المعنى الثاني ، وغضب الله سبحانه : ناره ، وعقابه ، ورضاه : جنته ، وثوابه . « وكل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية » (1) . كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام . وفي الأشعار « والجرح يسكنه الذي آلم » ( وكل مرزئة سواء . . . مع موجدتك ) المرزئة بكسر الواء : المصيبة ، والموجدة : الغضب ، والمعنى لا أبالي ضاقت الدنيا علي ، أو اتسعت ، إن سلمت من غضب الله ، وعذابه ، ومثله قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله : « ان لم يكن بك غضب علي فلا أبالي » (2) .
( أللهم فكما كرهت إلي أن أظلم فقني من أن أظلم ) الظلم ظلمات ، وأشد المحرمات في حكم الله ، وشريعته ، بل والعرف ، والعقل ، وبديهته سواء أكان المظلوم نبياً ، أم شقياً ، ولكن بعض الناس يحرم الظلم إن كان على نفسه ، ويستبيحه إن كان منها ، ولها ، والإمام عليه السلام يسأل الله سبحانه أن لا يجعله من الذين يعظون ، ولا يتعظون ، وينهون ، ولا ينتهون ( أللهم لا أشكو إلى أحد سواك . . . ) بل أنت موضع شكواي ، وبك وحدك ، أستعين على ما عجزت عنه ، وفي نهج البلاغة : « من شكا الحاجة إلى مؤمن فكأنه شكا إلى الله ، ومن شكاها إلى كافر فكأنما شكا الله » (3) .
= السيرة لابن هشام : 2 / 298 ، عن الزهري ، الأغاني : 1 / 10 ، مطبعة ساسي ، العلل ومعرفة الحديث : 1 / 3 .
(1) انظر ، نهج البلاغة : الحكمة ( 387 ) ، شرح اصول الكافي : 11 / 267 ، فيض القدير شرح الجامع الصغير : 5 / 46 ، جامع الأخبار : 135 ، من لا يحضره الفقيه : 4 / 392 .
(2) انظر ، كنز العمال : 2 / 175 ح 3613 ، البداية والنهاية : 3 / 166 ، تفسير القرطبي : 16 / 211 .
(3) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 100 ، الحكمة ( 427 ) ، شرح النهج للمعتزلي : 20 / 72 ، الكافي : 2 / 359 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 198

( حاشاك ) كلمة تنزيه تتضمن هنا معنى التعجب ممن يستعين بغير الله ، ويرفع شكواه إلى سواه .
( وصل دعائي بالإجابة ) أرحم من دعاك ، ولا تقطع رجاء من رجاك ( وأقرن شكايتي بالتغيير ) أكشف كربتي ، وأزل ما أشكو منه ( أللهم لا تفتني بالقنوط من إنصافك ) الفتنة : الإبتلاء ، والقنوط : اليأس ، والمعنى أخشى على نفسي أن تبتلي باليأس من عدلك إن سلم المعتدي من عقابك . وهذه صورة من حياة العديد من الناس إذا اشتدت عليهم الأزمات ، وضاقت الحلقات ، واستغاثوا بلا مغيث حيث يغلبهم اليأس فيتفوهون بكلمة الكفر لا جاحدين ، بل بدافع الضغوط القاسية ، والانهيار العصبي ( ولا تفتنه بالأمن من إنكارك ) أي من غضبك ، وعذابك ، والمعنى لا تمد الباغي فيزداد بغياً ، ويصر ( على ظلمي ) ويحاضرني أي يغالبني وينازعني حقي ( وعرفه ) أذقه عقوبة الظالمين ( وعرفني ) أذقني حلاوة الخلاص من الكرب ، والهم .
أللهم صل على محمد وآله ، ووفقني لقبول ما قضيت لي وعلي ، ورضني بما أخذت لي ، ومني ، واهدني للتي هي أقوم ، واستعملني بما هو أسلم .
أللهم وإن كانت الخيرة لي عندك في تاخير الأخذ لي ، وترك الانتقام ممن ظلمني إلى يوم الفصل ، ومجمع الخصم ، فصل على محمد وآله ، وأيدني منك بنية صادقة ، وصبر دائم ، وأعذني من سوء الرغبة ، وهلع أهل الحرص ، وصور في قلبي مثال ما ادخرت لي من ثوابك ، واعددت لخصمي من جزائك ، وعقابك ، واجعل ذلك سبباً لقناعتي بما قضيت ، وثقي بما تخيرت .
آمين رب العالمين ، إنك ذو الفضل العظيم ، وأنت على كل شيء

في ظلال الصيحيفة السجادية 199

قدير .


بين قدر الله ، وقضائه

( ووفقني لقبول ما قضيت لي ، وعلي ) الفرق بين القضاء ، والقدر أن القدر تصميم ، وتخطيط يتضمن الأسس التي ينبغي مراعاتها عند العمل ، والتنفيذ تماماً كهندسة البناء والقضاء إنتقال من المشروع ، والتخطيط إلى التجهيز ، والتنفيذ الذي لا معقب له ، ولا مرد « إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون » (1) ، وقد يقضي سبحانه لعبده بما يجب ، فيرزقه ـ مثلاً ـ امرأة صالحة ، وولداً باراً ، أو يقضي له بما يكره ، فيبتليه بمرأة سوء ، وولد عاق ، والقضاء الأول للعبد ، والثاني عليه ، فإن كان ولا بد مما ليس منه بد فليرض المبتلي بقضاء الله ، ويصبر على بلائه . ولا أعرف حكمة أصدق ، وأبلغ من قول الإمام علي عليه السلام : « من عظم صغار المصائب إبتلاه الله بكبارها » (2) . وقد شاهدت ذلك بالحس ، والعيان مرات .


في الحياة خير ، وشر

( واستعملني بما هو أسلم ) لي دنيا ، وآخرة ، وفي الدعاء « واستفرغ أيامي فيما خلقتني له (3)» . وما من شك أن الله سبحانه خلق الإنسان للعلم ، والعمل لحياة أفضل ، وزوده بكل ما يحقق ، ويؤمن له هذه الغاية من عقل ، وغرائز ، وحواس ،
(1) آل عمران : 47 .
(2) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 104 ، الحكمة ( 448 ) ، عيون الحكم والمواعظ : 437 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 20 / 98 ، الدعوات للراوندي : 169 ، ينابيع المودة : 2 / 252 ، بحار الأنوار : 62 / 68 ح 19 .
(3) سيأتي ( الدعاء العشرون ) .
في ظلال الصيحيفة السجادية 200

وأعضاء ، والإمام عليه السلام يدعو الله سبحانه أن يوفقه للعمل في هذه السبيل .
وتسأل : لقد اكتشف الإنسان ، واخترع ، وفعل الكثير . . . سخر السماء ، وأجواءها ، وسبر البحار ، وأعماقها ، واستغل الأرض ، وخيراتها ، ولكن كيف استغلت هذه الخيرات ، والمخترعات ؟ وإلى أي شيء تحولت ؟ إلى الشرور ، والآثام ، والحروب ، وأدواتها الجهنمية ! وهذا هو تأريخ الإنسان من لدن قابيل ، وهابيل حتى الآن ، كله دماء ، وجرائم ، وإرهاب ، ومظالم ، وعليه فإن أراد الإمام عليه السلام بدعائه هذا نفسه بالخصوص فلا كلام ، وإن أراد كل النفوس ـ كما هو شأنه ـ فقد رغب في غير مطمع .
الجواب : ما من شيء ـ ما عدا خالق الأشياء ، ومالكها ـ إلا وفيه جانبان : سلب ، وإيجاب ، ومن يركز على جانب السلب فقط ، أو جانب الشر فقط إنحاز إلى جانب ، وتجاهل الآخر ، ومعنى هذا أن الحياة فيها خير ، وشر ، وأنهما في صراع دائم ، فتارةً تكون لأنصار الشر ، وحيناً لا غالب ، ولا مغلوب . وهكذا دواليك ، وليس لأحدهما غلبة دائمة وإلا كانت الحياة لذة بغير ألم ، أو ألماً بغير لذة . والإمام عليه السلام يسأل الله سبحانه أن يجعله ، وكل الناس من أعوان الخير ، وأنصاره .
( أللهم وإن كانت الخيرة لي عندك في تأخير الأخذ . . . ) جواب « إن » محذوف ، والمعنى الذي يريده الإمام عليه السلام أنه بعد أن رفع شكواه إلى الله تعالى من ظالمه راغباً إليه في عقابه على ظلمه ـ قال له : « إن كان لي أن أختار تأخير عقابه إلى يوم تجمع فيه الخصوم للحساب ، والجزاء ، فذاك ما أبغي ، على أن تمدني بنية خالصة لوجهك الكريم ، وصبر على طاعتك ( وأعذني من سوء الرغبة ) احفظني واصرفني عن كل هوى ، وميل لا يرضيك عني ( وهلع أهل الحرص ) الهلع : الجزع ، وأهل الحرص هم

في ظلال الصيحيفة السجادية 201

أبناء الدنيا الذين يجزعون ، ويأسفون على ما فاتهم من حطامها ، وطعامها ، والإمام عليه السلام يستجير بالله أن يكون من هذه الزمرة .
( وصور في قلبي . . . ) أنت يا إلهي تثيب غداً المظلوم ، وتنتقم من الظالم ، فهل تلهمني الآن ما أعددت لي من الثواب ، ولظالمي من العقاب ، وترسم ذلك في عقلي حتى كأني أراه بالحس ، والعيان ؟ والإمام عليه السلام يؤمن بالله ، وأنه منجز وعده ، ولكن ليطمئن قلبه كما قال خليل الرحمن عليه السلام ، وإلى هذا أشار الإمام بقوله بلا فاصل : ( واجعل ذلك سبباَ لقناعتي . . . ) مهد لي الأسباب الموجبة للرضا بما حكمت ، وأعطيت ( آمين ) اسم فعل بمعنى استجب .

في ظلال الصيحيفة السجادية 202



في ظلال الصيحيفة السجادية 203

الدعاء الخامس عشر

دعاؤه عند المرض

أللهم لك الحمد على ما لم أزل أتصرف فيه من سلامة بدني ، ولك الحمد على ما أحدثت بي من علة في جسدي ، فما أدري ياإلهي ، أي الحالين أحق بالشكر لك ، وأي الوقتين أولى بالحمد لك ؟
. . . أوقت الصحة التي هنأتني فيها طيبات رزقك ، ونشطتني بها لابتغاء مرضاتك ، وفضلك ، وقويتني معها على ما وفقتني له من طاعتك ؟أم وقت العلة التي محصتني بها ، والنعم التي أتحفتني بها تخفيفاً لما ثقل به على ظهري من الخطيئات ، وتطهيراً لما انغمست فيه من السيئات ، وتنبيهاً لتناول التوبة ، وتذكيراً لمحو الحوبة ، بقديم النعمة ، وفي خلال ذلك ما كتب لي الكاتبان من زكي الأعمال ، ما لا قلب فكر فيه ، ولا لسان نطق به ، ولا جارحة تكلفته بل إفضالاً منك علي ، وإحساناً من صنيعك إلي .

في ظلال الصيحيفة السجادية 204



الشدائد

( أللهم لك الحمد على ما لم أزل أتصرف فيه من سلامة . . . ) في الحديث الشريف : « المؤمن القوي خير ، واحب إلى الله من المؤمن الضعيف » (1) والقوة لا تنحصر بالمال ، وكذلك الضعف لا ينحصر بالفقر ، فمن يواجه الشدائد بالصبر ، وضبط النفس ، وبالبحث عن الأسباب الموجبة لها ، وعلاجها بالحكمة ـ فهو قوي وإن كان فقيراً ، ومن يتهدم ، وتنهار أعصابه ، ويفقد القدرة على الصبر ، والتفكير ، والتدبير ، فهو ضعيف وإن كان غنياً . والإمام عليه السلام ينظر إلى الشدائد على أنها ربح ، ومكسب كسائر النعم ؛ لأن فيها أكثر من جهة إيجابية ، ويقول : ( فما أدري يا إلهي ، أي الحالين أحق بالشكر ؟ ) أحال الصحة ، والهناء التي أنشط بها ، وأقوى على عمل الخير ، وطاعة الله ؟ أم حال المرض ، ونار الشدة التي توقظني من السبات ، والغفلة ، وتدفع بي إلى التوبة ، والرجوع إلى الله ، وتلقي علي درساً في الصبر على الكفاح ،والجهاد للتخلص من الآفات ، والحذر من المخبآت ؟ ! .
( تخفيفاً لما ثقل به على ظهري من الخطيئات ) : في الحديث الشريف : « ما من مؤمن يصيبه مرض فما سواه إلا حط الله به خطاياه ، كما تحط الشجرة ورقها » (2) ولكن بشرطين :
(1) انظر ، شرح صحيح مسلم : 6 / 22 ، فتح الباري : 13 / 193 ، مسند الحميدي : 2 / 474 ، السنن الكبرى : 6 / 159 ح 80457 و 80459 ، مسند أبي يعلى : 11 / 124 ، صحيح ابن حبان : 13 / 29 ، فيض القدير شرح الجامع الصغير : 1 / 110 ، سبل السلام من أدلة الأحكام لابن حجر العسقلاني : 4 / 207 .
(2) انظر ، مسند أحمد : 1 / 455 ، السنن الكبرى : 3 / 372 ، مجمع الزوائد : 10 / 90 ، سنن الدارمي : 2 / 316 ، صحيح البخاري : 7 / 9 ، صحيح مسلم : 8 / 14 ، سنن بن ماجه : 2 / 1253 ، مسند أبي يعلى : 9 / 99 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 205


الأول : أن يسلم المريض أمره لله ظاهراً ، وواقعاً ، ولا يطلب تعليلاً ، ومبرراً لما فعل الله به .
الثاني : أن يكون الذنب حقاً لله لا للناس ؛ لأن حقوق الآخرين لا تسقط إلا بالوفاء ، أو الصفح من أهلها عن نفس راضية تمام الرضا ( وتطهيراً لما انغمست فيه من السيئات ) عطف تكرار ( وتذكيراً لمحو الحوبة بقديم النعمة ) الحوبة : الخطيئة ، والمراد بالنعمة هنا الصحة ، والعافية السابقة على المرض ، والمعنى أن مرارة المرض تذكر المريض بحلاوة العافية ؛ وأنها كانت من النعم الكبرى عليه ، ولكنه كان ذاهلاً عنها ، وغافلاُ حين وجودها ، وما عرف قدرها إلا بعد فقدها ، وما من شك أن الذهول عن فضل الله ـ وأنعمه ذنب ، وخطيئة ، ولكن إذا تذكرها العبد فيما بعد وشكرها ولو حال المرض ، فإن الله سبحانه يغفر له هذه الخطيئة ، ويمحوها من الأساس .
( وفي خلال ذلك ما كتب لي الكاتبان من زكي الأعمال . . . ) يشير الإمام عليه السلام بقوله هذا إلى فضيلة يخص بها سبحانه الذين يعملون الخير لوجه الله ، والخير ، وخلاصتها أن أي إنسان إذا كان من دأبة ، وعادته أن يفعل الخير لله ، وهو سليم معافى ، ثم تركه لمرض طارئ ـ فان الله يكتبه له تماماً كما لو فعله بالكامل تفضلاً منه ، وكرماً علماً بأنه لم يخطر على قلبه ، ولم يذكره بلسانه أثناء المرض فضلاً عن فعله ، وأدائه . وفي الحديث : « يقول الله للملك الموكل بالمؤمن : إذ مرض هذا : اكتب له ما كنت له تكتبه في صحته ، فأنا الذي صيرته في حبالي » (1) أي حبسته عن العمل بسبب المرض .
(1) انظر ، الكافي : 3 / 113 ، الوسائل : 2 / 398، الجواهر السنية للحر العاملي : 129 ، تفسير الميزان : 19 / 52 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 206


أللهم فصل على محمد وآله ، وحببت إلي ما رضيت لي ، ويسر لي ما أحللت بي ، وطهرني من دنس ما أسلفت ، وامح عني شر ما قدمت ، وأوجدني حلاوة العافية ، وأذقني برد ألسلامة ، واجعل مخرجي عن علتي إلى عفوك ، ومتحولي عن صرعتي إلى تجاوزك ، وخلاصي من كربي إلى روحك ، وسلامتي من هذه الشدة إلى فرجك ، إنك المتفضل بالإحسان ، المتطول بالامتنان ، الوهاب الكريم ، ذو الجلال والإكرام .
( وحبب إلي ما رضيت لي ) قد يأتمر المؤمن بأمر الله تعالى ، ويتنهي بنهيه ، ولكنه يفعل ذلك لمجرد التحرر من التبعة ، والمسؤولية أمام الله . . . وهذا المؤمن يخرج عن عهدة التكليف ، ما في ذلك ريب ، ولكنه ليس عند الله بالمكان المكين . والإمام عليه السلام يدعو الله سبحانه أن تكون طاعته له عن إرادة خالصة ، ونفس راضية في كل ما يرد عليها من الله سبحانه حتى ولو كان تضحية بالنفس ، والنفيس ، لينال بذلك أفضل الدرجات ، وأعلاها عند الله .
(ويسر لي ما أحللت بي ) خفف عني وطأة المصائب ، وأعني عليها إن ابتليتني بها ( وطهرني من دنس ما أسلفت ) من الذنوب ، والخطايا ؛ لأن طاقتي لا تنهض بعدلك ( وامح عني شر ما قدمت ) عطف تكرار ( وأوجدني حلاوة العافية ) هب لي من لدنك عافية أتذوق حلاوتها ( وأذقني برد السلامة ) من داء ، وشدة ( واجعل مخرجي عن علتي إلى عفوك ) المراد بالعلة هنا المرض ، والإمام عليه السلام يطلب من الله الخروج من المرض إلى العفو ، والعافية ، عافية الدنيا ، والآخرة ، إلى الصحة ، والأمان من نار الله وغضبه ؛ لأن المرض بلا نار الآخرة عافية ، والصحة معها بلاء ، وشقاء .

في ظلال الصيحيفة السجادية 207


( ومتحولي عن صرعتي إلى تجاوزك ) المراد بالصرعة هنا علة المرض التي تطرحه على الفراش ، والتجاوز : العفو عن الذنب ، وعليه يكون العطف للتكرار ( وخلاصي من كربي ) من مرضي ( إلى روحك ) بفتح الراء بمعنى الراحة ، والفرج : الكشف ، والخروج من الشدة ، أيضاً عطف تكرار ( إنك المتفضل . . . ) المتفضل ، والمتطول : المبتدئ بالفضل ، والإحسان ، وذوالجلال : العظيم في ذاته ، والإكرام : الكريم على خلقه فلا يبالي كم أعطى ؟ ولمن أعطى ؟ .