حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 87

وثوب النصرة ، وثوب الرسالة والنبوة ... .
فمضى نوح عليه السلام يوم عاشوراء الى قومه وفي يده عصا بيضاء ، وكان قومه عند اصنامهم في يوم عيدهم ، فنادى : «لا اله الا الله ، ادم المصطفى ، وادريس الرفيع ، وابراهيم الخليل ، وموسى الكليم ، وعيسى المسيح خلق من روح القدس ، ومحمد المصطفى اخر الانبياء وهو شهيدي عليكم ، اني قد بلغت الرسالة ... الخ (1) .
ولادة نوح عليه السلام وبعثته :


قال الطبرسي رضي الله عنه : النبي نوح عليه السلام بن ملك او «لمك» ، بن متوشلخ ، بن اخنوخ وهو «ادريس عليه السلام» ، ونوح اول نبي بعد ادريس عليه السلام ، وقيل : كان نوح عليه السلام نجارا ، واخنوخ بن برد بن مهلائيل بن قينان بن انوش بن شيث بن ادم صلوات الله عليهم اجمعين .
ولد عليه السلام في العام الذي مات فيه ادم عليه السلام .
بعث للنبوة وهو ابن خمسين سنة ، ولبث في قومه الف سنة الا خمسين عاما ، وكان في تلك الالف ثلاثة قرون عايشهم وعمر فيهم ، وكان يدعوهم ليلا ونهارا فلا يزيدهم دعاؤه الا فرارا ، وكان يضربه قومه حتى يغشى عليه فاذا افاق قال : «اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون» .

عمره الشريف


اختلف الاقوال والروايات في مدة حياة نوح عليه السلام وكم سنة عاش قيل :
1ـ راجع زواج نوح : من نفس الكتاب .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 88

الف سنة ، لانه بعث وله من العمر خمسين سنة وعاش في قومه الف الا خمسين سنة ، وقيل اكثر من ذلك .
عن الصادق عليه السلام قال : عاش نوح الفي سنة وخمسمائة سنة ، منها ثمانمائة سنة وخمسون سنة قبل ان يبعث ، والف سنة الا خمسين عاما وهو في قومه يدعوهم ، ومائتا عام في عمل السفينة ، وخمسمائة عام بعدما نزل من السفينة ونضب الماء فمصر (1) الامصار وامكن ولده البلدان ، ثم ان ملك الموت جاءه وهو في الشمس فقال : السلام عليك ، فرد عليه نوح عليه السلام وقال له : ما حاجتك يا ملك الموت ؟ فقال : جئت لاقبض روحك ، فقال له : تدعني اتحول من الشمس الى الظل ؟ فقال له : نعم ، فتحول نوح عليه السلام ثم قال : يا ملك الموت فكان ما مر بي في الدنيا مثل تحولي من الشمس الى الظل ، فامض لما امرت به ، قال : فقبض روحه عليه السلام . (2)
وقيل كان عمره عليه السلام : الفا واربعمائة وخمسين سنة ، وقيل : كان الفا واربعمائة وسبعين سنة ، وقيل : الفا وثلاثمائة سنة ، واخبارنا المعتبرة تدل على انه عاش الفين وخمسمائة سنة .
وروي كان اسم نوح عليه السلام عبد الغفار ، وانما سمي نوح لانه كان ينوح على نفسه وقد روي ايضا انه بكى خمسمائة سنة ، ونحى نفسه عما كان فيه قومه من الضلالة . (3)
وقيل : كان الرجل منهم ياتي بابنه وهو صغير فيقفه على راس نوح عليه السلام
1ـ نضب الماء : غار في الارض ، مصر الامصار : جعله مصرا اي مدينة .
2ـ امالي الصدوق : ص 306 ، البحار : ج11 ص 285.
3ـ نفس المصدر .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 89

فيقول : يا بني ان بقيت بعدي فلا تطيعن هذا المجنون ، وكان يدعوهم الى الله تعالى فلا يزدادون الا طغيانا .

تبليغ الرسالة


قال تعالى : «لقد ارسلنا نوحا الى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره اني اخاف عليكم عذاب يوم عظيم * فكذبوه فانجيناه والذين معه في الفلك واغرقنا الذين كذبوا باياتنا انهم كانوا قوما عمين» (1) .
ان اول شيء ذكر به نوح عليه السلام قومه هو الفات نظرهم الى حقيقة التوحيد ، ونفي جميع انواع الوثنية ، وقال لهم : «يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره» .
ان شعار التوحيد ليس شعار نوح عليه السلام وحده ، بل هو اول شعار عند جميع الانبياء والمرسلين ، وان اول مايفتتح به اكثر الانبياء دعواتهم بهذا الشعار ، «يا قوم اعبدوا الله الواحد الاحد الفرد الصمد ...» .
نفهم من هذا ، ان الوثنية كانت اسوا مانع في طريق سعادة البشرية جمعاء ، واصعب مانع في طريق هداية البشر الى التوحيد ، وخاصة في زمن نوح عليه السلام كان الناس يعبدون الاصنام بكثرة ، وكانت لهم اصنام كبيرة ومهمة اسمها : «ود» و «سواع» و «يغوث» و «يعوق» و «نسر» وغير ذلك ...
وبعد ان بلغ فيهم رسالته ودعاهم الى توحيد الله ، وايقظ ضمائرهم وفطرتهم النائمة ، حذرهم من غضب الله وخوفهم من عذابه ، وقال لهم : اني اخاف عليكم عذاب يوم عظيم ، وهذا العذاب سوف يكون في الدنيا او في الاخرة ويوم القيامة .
1ـ الاعراف 59 و 64.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 90

ولكن بدل ان يسمعوا نصائحه ويتعضوا ويهتدوا الى طريق الحق ازدادوا عتوا وظلما ومحاربة وتكذيبا له ، وكان يقابلهم باللطف والمحبة والرحمة ، ويرغبهم لاستجابة دعوته ورسالته ، ويقول لهم ان الايمان بالله يبعث على غفران جميع الذنوب السابقة ، وذلك بقوله : «يغفر لكم من ذنوبكم» ، وذلك حسب القاعدة المعروفة «الاسلام يجب ما قبله» .
وكان نوح عليه السلام كلما يزداد تقربا لهم يزدادون بعدا عنه وكانوا احيانا يضعون اصابعهم في اذانهم كي لا يسمعوا صوت الحق ، ويلفون ثيابهم حول انفسهم او يضعونها على رؤوسهم لئلا تصل امواج الصوت الى عقولهم ، ولا تقع ابصارهم على وجه النبي نوح الملكموتي المنير ، وكانوا يصرون على ان تتوقف الاذان عن الاسماع والعيون عن النظر !!
وهذا في الواقع امر مدهش ان يصل الانسان الى هذه المرحلة من العداوة والابتعاد عن الحق الى حد لا يعطي لنفسه فرصة النظر او السماع والتفكر !!
هذا يدل على ان نوح عليه السلام كان مستمرا في دعوته الالهية طوال عمره الشريف ولعدة اجيال ، وكان لا يعرف التعب ابدا .
وقد قيل ان بعض الافراد المنحرفين كان يذهب بابنه الى نوح عليه السلام فيقول له : «احذر هذا لا يغوينك فان ابي قد ذهب اليه ، وانا مثلك صغير محذرني منه مثلما حذرتك» (1) .
علما ان احد الاسباب المهمة لتعاسة هؤلاء القوم وابتعادهم عن الحق هو الغرور ، والتكبر ، والعصبية .
كان صبره عليه السلام عجيبا ، والاعجب ما فيه رافته ، وهمته ، واستقامته ،
1ـ مجمع البيان : ج10 ص361.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 91

واخلاقه .
والاعجب من ذلك هو : مع طول عمره الشريف ومدة تبليغه بين قومه «950» عاما ، لم يؤمن طوال هذه المدة به الا ثمانون شخصا ، ولو قسمنا هذه المدة على عدد الانفار يتضح ان مدة هداية كل فرد دامت «اثنتي عشرة سنة» تقريبا !!
اعلم يا عزيزي : لو كان المبلغون والدعاة يتعاملون بمثل هذه الروحية والاستقامة والهمة ، لاصبح الاسلام عالميا ، ولعم الامان والسعادة كل البشرية .

كلمة الحق :


يتعجب الانسان احيانا ويتسائل ، هل يمكن ان يكون هناك اناس يعيشون تحت هذه السماء ليس لديهم الاستعداد لسماع كلمة الحق ، بل تفرون منها ؟
نعم يوجد .. حدثنا التاريخ عن كثير امثال هؤلاء ، ليس فقط قوم نوح هم الذين وضعوا اصابعهم في اذانهم ، واغمضوا عيونهم ، وغشوا رؤوسهم ووجوههم بثيابهم عندما دعاهم نبيهم نوح عليه السلام ، بل هناك فئة اخرى في عصر النبي صلى الله عليه واله وسلم ذكرهم القران ، كانوا يحدثون غوغاء بالصفير والتصفيق والصراخ العالي ليحولوا بين صوت النبي صلى الله عليه واله وسلم وهو يتلو القران :«وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القران والغوا فيه لعلكم تغلبون» (1) .
وكذلك جاء في تاريخ كربلاء عندما وقف سيد الشهداء الحسين عليه السلام يدعو الناس المنحرفين الذين خرجوا لقتاله ظلما وعدوانا ، يدعوهم الى الرشاد وينصحهم ويحذرهم غضب الله ، احدثوا صراخا عاليا حتى كاد يخفى صوته .
1ـ فصلت : 26.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 92

وهذه الاحداث مستمرة الى يومنا هذا ولكن باشكال وصور اخرى ، حيث نرى اصحاب الباطل وقادة الكفر والنفاق يهيئون اجواء متنوعة من المسليات غير الصالحة والمحرمة مثل الموسيقى الراقصة والغناء الفاحش والمخدرات والافلام الخلاعية وغير ذلك من وسائل اللهو والطرب ، يبغون بذلك الفصل بين الناس وبين سماع صوت الحق المنطلق من اهل الحق .

الترغيب والترهيب


يستمر نوح عليه السلام في تبليغه المؤثر لقومه المعاندين العصاة ويعتمد في هذه المرة على عوامل الترغيب والتشجيع ، ويوعدهم بانفتاح ابواب الرحمة الالهية من كل جهة فيما اذا تابوا من الشرك واصلحوا انفصهم وعبدوا الله ، وبالفعل دعى لهم نوح وطلب من الله ان ينزل عليهم الرحمة والرزق ويفيض عليهم الامطار المعنوية والمادية ، وبالفعل استجاب الله له وامطر عليهم من رحمته المعنوية والمادية وكثرة الاموال والاولاد والثروات الانسانية والحيوانية ...
ولكن عندما اصر قوم نوح على الكفر وامتنعوا من عبادة الله حل عليهم القحط وهلك الحرث والزرع والاولاد ، وتلفت الاموال واصاب نسائهم العقم ، وقل عندهم الانجاب .
فقال لهم نوح عليه السلام : ان تؤمنوا بالله فسيدفع عنكم كل هذه البلايا والمصائب وتعود عليكم النٍعَم ، ولكنهم ما اتعظوا بذلك وضلوا في طغيانهم يعمهون ، واستمروا في غيهم حتى حل عليهم العذاب النهائي .
وان سبب الحرمات والكوارث من زلازل وفيضانات وشحة الامطار في العالم سببه العقوبات على الذنوب التي يرتكبها الانسان ، وفي الوقت الذي يتوب
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 93

الانسان ولا يرتكب الذنوب ويتخذ طريق الحق والتقوى ، يصرف الله تعالى عنه هذه العقوبات ، وحتى لو تحدث الكوارث الطبيعية لا تؤثر فيه ولا تنشل الحركة .
واذا كنا نرى ان هناك مجتمعات يواجهون تقدما في الامور المادية والعلوم الاستراتيجية وذلك مع كفرهم وانعدام التقوى فيهم ، يجب ان نعرف ايضا ان ذلك لابد من ان يكون مرهونا بالمحافظة النسبية لبعض الاصول الاخلاقية ، مثل : الاخلاص في العمل ، وعدم الكذب ، وعدم السرقة والغش ، وغير ذلك فلمثل هذه الامور لها اثار وضعية مهمة جدا ، ولذلك نرى الله تعالى يرزق هؤلاء مقابل صدقهم وصفائهم .
علما ان الواقع هو قوله تعالى : «ولا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لانفسهم انما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين» (1) .

اصنام قوم نوح عليه السلام :


جاء في قوله تعالى :«وقالوا لا تذرن ءالهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا»(2) .
كان رؤساء قوم نوح عليه السلام يضعون الخطط الشيطانية الواسعة لتضليل الناس ورفضهم لدعوة نوح عليه السلام ، ومن اهم هذه الاساليب ترغيب الناس وتشويقهم على عبادة الاصنام ، وقد تم انتخاب خمسة من كبار الاصنام وجعلوا لهم اسماء مشخصة ، كما نسبوا لكل صنم من هذه الاصنام الخمسة عمل خاص به .
علما ، وكما تشير بعض الروايات الى عدم وجود عبادة الاصنام قبل عصر
1ـ ال عمران : 178.
2ـ نوح : 23.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 94

نوح عليه السلام وان قوم نوح هم الذين اوجدوها .
من هنا يتعين ان المدة بين زمن ادم ونوح عليه السلام كان اناس صالحون طيبون ، ولكن الشيطان اغواهم وعمد الى استغلالهم وترغيبهم على صنع تماثيل ، وبعض هذه التماثيل تمثل كبار اولئك الصالحين بحجة تقديسهم واجلالهم ، وبعد مرور الزمن نسبت الاجيال التي تلت هؤلاء ، وتصورت ان هذه التماثيل هي موجودات محترمة نافعة ويجب عبادتها ، كما وسوس لهم الشيطان ، اخذوا يعبدونها ويعتقدون بها واستولى عليهم الشيطان .
وقد لقبت هذه الاصنام الخمسة كما ذكرتهم الاية المباركة وهم : «ودا ، وسوعا ، ويغوث ، ويعوق ، ونسرا» ، ولذا كان رؤساؤهم المستغلون لهم يعتمدون على عبادتهم لها .
ضل قوم نوح معتكفين على عبادة هذه الاصنام الخمسة حتى انتقلت هذه الاصنام الى الجاهلية العربية ، وانتخبت كل قبيلة واحدة من هذه الاصنام لهما ، «او انتقلت اسمائها اليهم ثم صنعوا تماثيل وسموها باسمائهم» في المسالة اختلاف .
وقيل : ان قبيلة بني كلب في اراضي دومة الجندل ، انتخبت الصنم «ود» ، واتخذت قبيلة هديل «سواعا» ، واتخذت قبيلة بني قطيف او قبيلة بني مذحج «يغوث» واتخذت قبيلة همدان «يعوق» وقبيلة ذي الكلاع «نسرا» .
فان ثلاثة من الاصنام كانت في اليمن وهي «يغوث ، ويعوق ، ونسرا» ولكنها اندثرت عندما سيطر ذو نؤاس على اليمن ، واعتنق اهلها اليهودية (1) ويقول المؤرخ الشهير الواقدي : كان الصنم «ود» على صورة رجل ، و «سواع»
1ـ تفسير مجمع البيان ج10 ص364 والامثل : ج19 ص63.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 95

على صورة امراة ، و«يغوث» على صورة اسد ، و «يعوق» على صورة فرس ، و«نسر» على صورة نسر «الطائر المعروف» (1) .
وبالطبع ان هناك اصناما اخرى كانت لعرب الجاهلية ، منها «هبل» الذي كان اكبر اصنامها التي وضعوها داخل الكعبة والصنم «اساف» و «نائلة» و «اللات» و «العزى» وغير ذلك من الاصنام التي كانت داخل وخارج الكعبة المشرفة .
ضلت الاصنام معلقة داخل الكعبة وحواليها تعبد وتقدس الى ان ظهر الاسلام ، وبعث النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم ، وفتح مكة ، وحمل علي بن ابي طالب عليه السلام على كتفه ، وكسر اكبر اصنامها «هبل» وبه انتهت عبادة الاصنام وظهرت عبادة الله تعالى .
ولكن مع الاسف ظهر بدل عبادة الاصنام الحجرية عبادة اصنام بشرية ، وعبادة تقاليد وعادات غربية منحرفة وعبادة المادة ...

الطوفان وصنع السفينة


بعد ما يئس نوح عليه السلام من هداية قومه الى عبادة الله ، وبعد التبليغ الذي دام اكثر من تسعمائة وخمسين سنة ، وبعد ان تحمل انواع الالام والعذاب والاهانة والتهم وغير ذلك .
بعد هذا اقبل على الدعاء ، ورفع نوح عليه السلام يديه الى السماء وقال : «وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا ، انك ان تذرهم يضلوا عبادك
1ـ نفس المصدر .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 96

ولا يلدوا الا فاجرا كفارا» (1) .
بعد ذلك وقبل نزول الغضب والطوفان ، اعقم الله اصلاب الرجال وارحام النساء ، فلبثوا اربعين سنة لا يولد لهم ولد ، وقحطوا في تلك الاربعين سنة حتى هلكت اموالهم واصابهم الجهد والبلاء ، ثم قال لهم نوح : استغفروا ربكم انه كان غفارا ، فاعذر اليهم وانذر فلم يزدادوا الا كفرا .
عند ذلك امر الله عز وجل نوح عليه السلام ان يغرس النخل ، فاقبل بغرس النخل ، فكان قومه يمرون به فيسخرون منه ويستهزؤون به ويقولون : شيخ قد اتى له تسعمائة سنة يغرس النخل ، وكانوا يرمونه بالحجارة ، فلما كبر النخل واستحكم امر بقطعه ، فسخروا منه ايضا وقالوا : لما بلغ النخل مبلغه قطعه ، ان هذا الشيخ قد خرف وبلغ منه الكبر .
بعد ذلك امره الله ان ينحت السفينة وامر جبرئيل ان ينزل عليه ويعلمه كيف يتخذها ، فقدر طولها في الارض الفا ومائتي ذراع ، وعرضها ثمان مائة ذراع ، وطولها في السماء ثمانون ذراعا ، فقال : يارب من يعينني على اتخاذها ؟ فاوحى الله اليه : ناد في قومك ، فنادى نوح فيهم بذلك فاعانوه عليها ، وكان يمر به قومه ويسخرون منه ويقولون : يتخذ سفينة في البر .
وفي رواية اخرى عن ابي عبد الله الصادق عليه السلام قال : سال نوح عليه السلام ربه ان ينزل على قومه العذاب ، فاوحى الله اليه ان يغرس نواة من النخل فاذا بلغت فاثمرت واكل منها اهلك قومه وانزل عليهم العذاب .
فغرس نوح النواة واخبر اصحابه بذلك ، فلما بلغت النخلة واثمرت واجتنى الثمر نوح واكل واطعم اصحابه ، قالوا له : يا نبي الله الوعد الذي وعدتنا ،
1ـ نوح : 27 و 28.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 97

فدعا نوح ربه وساله الوعد الذي وعده ، فاوحى الله اليه ان يعيد الغرس ثانية ... ، فاخبر نوح اصحابه بذلك فصاروا ثلاث فرق ، فرقة ارتدت ، وفرقة نافقت ، وفرقة ثبتت مع نوح .
حتى فعل نوح ذلك عشر مرات ، وفعل الله ذلك باصحاب الذين يبقون معه فيفترقون كل فرقة ثلاث فرق على ذلك .
فلما كان في المرة العاشرة جاء اليه رجل من اصحابه الخلص والمؤمنون فقالوا له : يا نبي الله : فعلت بنا ما وعدت او لم تفعل فانت صادق نبي مرسل لا نشك فيك ولو فعلت ذلك بنا ، قال : فعند ذلك استجاب الله دعوة نوح واهلك قومه ، وادخل الخاص منهم معه السفينة ، فنجاهم الله تعالى ونجى نوحا معهم بعدما صفوا وذهب الكدر منهم .
فلما فرغ نوح عليه السلام من صنع السفينة امره الله ان ينادي بالسريانية ، لا يبقى بهيمة ولا حيوان الا حضر ، فادخل من كل جنس من اجناس الحيوان زوجين في السفينة ، وكان عدد الذين امنوا به من جميع الدنيا ثمانين رجلا ، فقال الله تعالى : «... فاذا جاء امرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين واهلك الا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا انهم مغرقون» (1) .
قيل كان صنع السفينة في مسجد الكوفة .
فلما كان في اليوم الذي اراد الله هلاكهم ، كانت امراة نوح تخبز في الموضع الذي يعرف «بغار التنور» (2) في مسجد الكوفة ، وقد كان نوح اتخذ لكل نوع من
1ـ المؤمنون : 27.
2ـ «او بنار التنور» قال البعض : كانت العلامة بين نوح وربه لحلول الطوفان ان يفور التنور ، قال اخرون : ان كلمة
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 98

اجناس الحيوان موضعا في السفينة ، وجمع لهم فيها ما يحتاجون اليه من الغذاء .
لما فار التنور صاحت امراة نوح ، فجاء نوح الى التنور ، فوضع عليها طينا وختمه حتى ادخل جميع الحيوانات السفينة ، ثم جاء الى التنور ففضى الخاتم ورفع الطين ، وانكشفت الشمس ، وجاء من السماء ماء منهمر صب بلا قطر ، وتفجرت الارض عيونا ، وهو قوله عز وجل : «ففتحنا ابواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على امر قد قدر ...» (1) .
وبعد ذلك امرهم الله تعالى وقال لهم : «اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها» (2) .
فدارت السفينة وضربتها الامواج حتى وصلت الى مكة ، وطافت بالبيت ، وكان قد غرق جميع ما في الدنيا الا موضع البيت ، وانما سمي البيت العتيق لانه اعتق من الغرق ، فبقي الماء ينصب من السماء اربعين صباحا ، ومن الارض حتى ارتفعت السفينة .
فلما غرق الجميع ونجى نوح واصحابه ، رفع يده الى السماء ثم قال : «يا رهمان اتقن» اي : يا رب احبس ، او احسن ، فامر الله الارض ان تبلع ماءها وللسماء ان تمسك المطر ، وقضي الامر واستوت على الجودي ، وهو جبل في الموصل .
وبعد ذلك امر الله تعالى نوحا ان يهبط من السفينة بسلام وبركات ، فنزل نوح عليه السلام بالموصل من السفينة مع الثمانين نفر من اصحابه واهله الذين كانوا معه في
«تنور» اسمعملت هنا مجازا عن غضب الله تعالى ، ولكن يبدو ان «التنور» بمعناه الحقيقي اقوى .
1ـ القمر : 11.
2ـ هود : 41.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 99

السفينة ، وبنوا لهم مدينة وسميت «مدينة الثمانين» .

زواج نوح عليه السلام :


كان للنبي نوح عليه السلام امراتان ، احداهما كافرة والاخرى مؤمنة .
كانت امراة نوح الكافرة تقول للناس : انه مجنون واذا امن به احد اخبرت الجبابرة من قوم نوح به ، وهذه مثل امراة لوط عيله السلام كما ذكرهما القران الكريم في قوله تعالى : «ضرب الله مثلا للذين كفروا امرات نوح وامرات لوط ... الخ»(1) .
حيث كانت امراة لوط عليه السلام تدل على اضيافه وكان ذلك خيانتهما لهما ، «وما بغت امراة نبي قط» ، وانما كانت خيانتهما في الدين ، وقال الضحاك : خيانتهما النميمة ، اذا اوحى الله اليهما افشتاه الى المشركين .
وقيل كان اسم امراة نوح هذه «واغلة» واسم امراة لوط «واهلة» ، وقال مقاتل : «والغة ووالهة» (2) .
واما امراته المؤمنة :
روي في كتاب القصص لمحمد بن جرير الطبري : ان الله تعالى اكرم نوحا بطاعته والعزلة لعبادته ، وكان يلبس الصوف ، ولباس ادريس كان من الشعر ، وكان يسكن الجبال وياكل من نبات الارض ، فجاءه جبرئيل عليه السلام بالرسالة ، وقد بلغ عمر نوح اربعمائة سنة وستين سنة ، فقال له : مابالك معتزلا ؟ قال : لان قومي لا يعرفون الله فاعتزلت عنهم .
1ـ التحريم : 10.
2ـ مجمع البيان : ج10 ص319 ص345.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 100

فقال له جبرئيل : فجاهدهم .
فقال نوح : لا طاقة لي بهم ، ولو عرفوني لقتلوني .
فقال له : فان اعطيت القوة كنت تجاهدهم ؟ ، قال : واشوقاه الى ذلك .
فقال له نوح : من انت ؟ قال : فصاح جبرئيل صيحة واحدة تداعت فاجابته الملائكة بالتلبية ورجت الارض وقالت لبيك لبيك يا رسول رب العالمين ، قال : فبقي نوح مرعوبا .
فقال له جبرئيل : انا صاحب ابويك ادم وادريس ، والرحمن يقرؤك السلام ، وقد اتيتك بالبشارة ، وهذا ثوب الصبر ، وثوب اليقين ، وثوب النصرة ، وثوب الرسالة والنبوة وامرك «ان تتزوج بعمورة بنت خمران بن اخنوخ» فانها اول من تؤمن بك .
فمضى نوح يوم عاشوراء الى قومه وفي يده عصا بيضاء وكانت العصا تخبره بما يكن به قومه ، وكان رؤساؤهم سبعين الف جبار عند اصنامهم في يوم عيدهم .
فنادى : لا اله الا الله ، ادم المصطفى ، وادريس الرفيع ، وابراهيم الخليل ، وموسى الكليم ، وعيسى المسيح خلق من روح القدس ، ومحمد المصطفى اخر الانبياء هو شهيدي عليكم ، اني قد بلغت الرسالة ، فارتجت الاصنام وخمدت النيران ، واخذهم الخوف ، وقال الجبارون : من هذا ؟
فقال نوح : انا عبد الله وابن عبده ، بعثني لكم رسولا ، ورفع صوته بالبكاء ، وقال : اني لكم نذير مبين .
قال : «وسمعت عمورة كلام نوح فامنت به فعاتبها ابوها وقال : ايؤثر فيك قول نوح في يوم واحد ؟ واخاف ان يعرف الملك بك فيقتلك» .
فقالت «عمورة» : يا ابت اين عقلك وفضلك وحلمك ؟ نوح رجل وحيد
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 101

وضعيف يصيح فيكم تلك الصيحة فيجري عليكم ما يجري ، فتوعدها ابوها فلم ينفع ، وحبسها في بيته ومنعها من الطعام ، وبقيت في الحبس سنة وهم يسمعون كلامها ، فاخرجوها بعد سنة وقد صار عليها نور عظيم وهي في احسن الحال ، فتعجبوا من حياتها بغير طعام فسالوها فقالت : انها استغاثت برب نوح عليه السلام وان نوحا عليه السلام كان يحضر عندها بما تحتاج اليه ، ثم ذكر تزويجه بها وانها ولدت له سام بن نوح (1) .
وقيل : كان ممن ادخل السفينة زوجته المؤمنة وبنوه الثلاثة ، سام ، وحام ، ويافث وزوجاتهم الثلاث .
فكان اولاد «سام» : العرب والروم وفارس واصناف العجم .
واولاد «حام» السودان من الحبش والزنج وغيرهم .
وولد «يافث» : الترك ، والصين ، والصقالبة ، وياجوج وماجوج .
واما امراته الخائنة قد هلكت في الطوفان كما هلك ابنه «كنعان» وقيل : كان اسمه «يام» وكان في معزل من ابيه ، فناداه ان يركب معه في السفينة فامتنع وقال ساوي الى جبل يعصمني من الماء ، فقال له نوح : لا عاصم اليوم من امر الله وعذابه الا من كان مؤمنا ، فلم يوافق وكان من المغرقين .
وروي الصدوق عن ابي الصلت الهروي قال : قلت للرضا عليه السلام : يابن رسول الله لاي علة اغرق الله تعالى الدنيا كلها في زمن نوح عليه السلام وفيهم الاطفال وفيهم من لا ذنب له ، فقال عليه السلام : ماكان فيهم الاطفال ، لان الله عز وجل اعقم اصلاب قوم نوح وارحام نسائهم اربعين عاما ، فانقطع نسلهم ، فعرقوا ولا طفل فيهم ، وما كان الله تعالى ليهلك بعذابه من لا ذنب له .
1ـ سعد السعود : ص40 عنه البحار : ج11 ص341.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 102

واما الباقي من قوم نوح فاغرقوا لتكذيبهم لنبي الله نوح عليه السلام ، وسائرهم اغرقوا برضاهم بتكذيب المكذبين ، ومن غاب عن امر فرضي به كان كمن شهده واتاه .(1)

خاتم نوح عليه السلام :


روي عن الامام الرضا عليه السلام قال : ان نوحا عليه السلام لما ركب السفينة اوحى الله عز وجل اليه : يا نوح ان خفت الغرق فهللني الفا ، ثم سلني النجاة انجك من الغرق ومن امن معك ، قال : فلما استوى نوح ومن معه في السفينة ورفع القلس(2) عصفت الريح عليهم فلم يامن نوح الغرق ، فاعجلته الريح فلم يدرك ان يهلل الف مرة ، فقال بالسريانية : «هلوليا الفا الفا يا مريا اتقن» قال : فاستوى القلس واستمرت السفينة .
فقال نوح عليه السلام : ان كلاما نجاني الله به من الغرق لحقيق ان لا يفارقني ، قال : فنقش في خاتم «لا اله الا الله الف مرة ـ يا رب اصلحني» (3) .

ابليس وصنع الخمر :


عن زرارة عن الصادق عليه السلام قال : لما هبط نوح عليه السلام من السفينة غرس غرسا فكان فيما غرس النخلة ، ثم رجع الى اهله فجاء ابليس لعنه الله فقلعها ، ثم ان نوحا عليه السلام عاد الى غرسه فوجده على حاله ووجد النخلة قد قلعت ووجد ابليس
1ـ دائرة المعارفة الشيعية : ج18 ص218.
2ـ القلس : حبل للسفينة ضخم .
3ـ العيون : ص217 ، امالي الصدوق : ص274 ، البحار : ج11 ص285.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 103

عندها ، فاتاه جبرئيل عليه السلام فاخبره ان ابليس لعنه الله قلعها ، فقال نوح عليه السلام لابليس لعنه الله : ما دعاك الى قلعها فوالله ما غرست غرسا احب الي منها ، ووالله لا ادعها حتى اغرسها ، وقال ابليس لعنه الله : وانا والله لا ادعها حتى اقلعها ، فقال له : اجعل لي منها نصيبا ، قال : فجعل له منها الثلث ، فابى ان يرضى فجعل له النصف فابى ان يرضى وابى نوح عليه السلام ان يزيده ، فقال جبرئيل عليه السلام لنوح يا رسول الله احسن فان منك الاحسان ، فعلم نوح انه قد جعل الله له عليها سلطانا ، فجعل نوح له الثلثين ، فقال ابو جعفر عليه السلام : فاذا اخذت عصيرا فاطبخه حتى يذهب الثلثان نصيب الشيطان ، فكل واشرب حينئذ . (1)
وقال الصادق عليه السلام ايضا : ان ابليس نازع نوحا في الكرم فاتاه جبرئيل عليه السلام فقال له : ان له حقا فاعطاه ، فاعطاه الثلث فلم يرض ابليس ، ثم اعطاه النصف فلم يرض ، فطرح جبرئيل نارا فاحرقت الثلثين وبقي الثلث ، فقال : ما احرقت النار فهو نصيبه ، وما بقي فهو لك يا نوح . (2)

هل كان كنعان بن نوح عليه السلام ؟ :


عن ابي بصير ، عن ابي عبد الله عليه السلام قال : لما اراد الله عز وجل هلاك قوم نوح عليه السلام ، عقم ارحام النساء اربعين سنة ، فلم يلد فيهم مولود .
فلما فرغ نوح عليه السلام من اتخاذ السفينة ، امره الله ان ينادي بالسريانية : لا يبقى بهيمة ولا حيوان الا حضر ، فادخل من كل جنس من اجناس الحيوان زوجين في السفينة ، وكان الذين امنوا به من جميع الدنيا ثمانين رجلا ، فقال الله
1ـ فروع الكافي ج2 ص189 ، البحار : ج11 ص293.
2ـ نفس المصدر .

السابق السابق الفهرس التالي التالي