|
فصل
إعلم ـ قد تقدم سابقا ـ بإن للانسان ـ إجمالا وبصورة كلية ـ نشآت ومقامات وعوالم ثلاث :
الأولى ـ نشأة الآخرة ، وعالم الغيب ، ومقام الروحانية والعقل .
الثانية ـ نشأة البرزخ وعالم متوسط بين العالمين ، ومقام الخيال .
الثالثة ـ نشأة الدنيا ومقام المُلك وعالم الشهادة .
ولكل منها كمال خاص وتربية خاصة وعمل يتناسب مع نشأته ومقامه ، وأن الأنبياء عليهم السلام يتولّون بيان تلك الأعمال .
فجميع العلوم النافعة تنقسم إلى هذه العلوم الثلاثة :
علم راجع الى الكمالات العقلية والوظائف الروحية . وعلم راجع إلى الأعمال القلبية ووظائفها . وعلم راجع إلى الأعمال القالبية الخارجية ، ووظائف النشأة الظاهرة للنفس .
أما العلوم التي تقوّي العالم الروحاني، والعقل المجرد وتربيهما فهي :العلم بالذات المقدس الحق جل وعلا ، ومعرفة أوصافه الجمالية والجلالية ، والعلم بالعوالم الغيبية المجردة مثل الملائكة وأصنافهم من أعلى مراتب الجبروت الأعلى والملكوت الأعلى إلى نهاية الملكوت السفلي والملائكة الأرضية وجنود الحق سبحانه . والعلم بالأنبياء والأولياء ومقاماتهم ومدارجهم ، والعلم بالكتب المنزّلة ، وكيفية نزول الوحي ، وتنزل الملائكة والروح . والعلم بنشأة الآخرة وكيفية عودة الموجودات إلى عالم الغيب ، وحقيقة عالم البرزخ والقيامة ، وتفاصيل ذلك .
وملخص الكلام أن العلم الذي يرتبط بالعالم الروحاني والعقل المجرد ، هو العلم بمبدأ الوجود وحقيقته ومراتبه وبسطه وقبضه وظهوره ورجوعه . ويتكفل بيان هذا العلم بعد الأنبياء والأولياء ، الفلاسفة والعظام من الحكماء وأصحاب المعرفة والعرفان .
أما العلوم التي ترتبط بتربية القلب وترويضه والأعمال القلبية فهي : العلم بالمُنجيات الخُلُقيّة والمهلكات الخُلقية ، أي العلم بمحاسن الأخلاق مثل الصبر ، والشكر ، والحياء والتواضع ، والرضا والشجاعة والسخاء والزهد والورع والتقوى وغير ذلك من محاسن الأخلاق ، والعلم بكيفية تحصيلها وأسباب حصولها ومبادئها وشرائطها . والعلم بقبائح الأخلاق مثل الحسد والكبر والرياء والحقد والغش وحب الرئاسة والجاه وحب الدنيا والنفس وغير ذلك ، والعلم بمبادئها التي تمنحها الوجود ، والعلم بكيفية التنزه عنها . والذي يتولّى بيان هذه الأمور
أيضا الأنبياء والأوصياء عليهم الصلاة والسلام ثم علماء الأخلاق وأصحاب الرياضة الروحية وذوي المعارف .
والعلوم التي تناط بها تربية الظاهر وترويضه ،علم الفقه ومبادئه ، وعلم آداب المعاشرة وتدبير المنزل ، وسياسة المُدُن ويتكفل بشرحها الأنبياء ثم الأولياء عليهم السلام ثم علماء الظاهر من الفقهاء والمحّثين . ولا بد من معرفة أن كل واحد من هذه المراتب الثلاث الإنسانية المذكورة مترابطة بدرجة ، تنعكس آثار كل مرتبة على المرتبة الأخرى من دون فرق في ذلك بين الأمور الكمالية ، أو الأمورالقبيحة المعيبة .
مثلا لو أن شخصا قام بالظائف العبودية والمناسك الظاهرية ـ حسب ما هو لازم ومطابق لتوجيهات الأنبياء ـ لانعكست من جرّاء أدائه لمسؤولياته العبودية آثار على قلبه وروحه ، حيث يحسن خلقه ، وتتكامل عقائده . وهكذا من يواظب على تهذيب خلقه وتحسين باطنه ، يترك آثارا على النشأتين الأخريتين البرزخ والقيامة . كما أن كمال الإيمان ومتانة العقائد يؤثران في النشأتين التاليتين . ويكون كل ذلك نتيجة شدة الارتباط بين المقامات الثلاثة ، بل التعبير بالارتباط بين العوالم الثلاثة من جهة ضيق الخناق لعدم وجود كلمة أخرى تعبّر عن مدى تداخل كل منها في الآخر . إذ لا بد وأن نقول إنها ـ العوالم الثلاثة ـ حقيقة واحدة ، ذات مظاهر ثلاثة . وهكذا كمالات المقامات الثلاثة مرتبطة بكمالات كل واحد منها . من دون أن يظن أحد أنه يستطيع أن يكون ذا إيمان كامل أو خلق مهذب من دون الأعمال الظاهرية ، والعبادات الصورية . أو يستطيع أن يجعل إيمانه كاملا وأعماله تامة ، رغم نقصان في خُلقه وعدم تهذيبه ، أو يمكن أن يتم أعماله الظاهرية ويكمّل محاسن أخلاقه من دون الإيمان القلبي . وهكذا عندما تكون الأعمال الصورية ـ الصلاة ، الصوم ، الحج و ... ـ ناقصة وغير واقعة على ضوء أوامر الأنبياء ، لحصل حجاب في القلب وكدرة في الروح ، وهما يمنعان من نور الإيمان واليقين . وأيضا إذا كان الخلق الذميم معشعشا في القلب ، لمنع من نفوذ الإيمان إليه .
فيلزم على طالب السفر إلى عالم الآخرة ، والسلوك على الصراط المستقيم للإنسانية أن يتمعن في كل واحد من المراتب الثلاث ، ويشدّد في المراقبة عليها ، ويصلحها ، ويروّضها ولا يلوي بوجهه عن كل واحد من الكمالات العلمية والعملية .
لا يحسب بأن تهذيب الخلق أو ترسيخ العقائد أو موافقة ظاهر الشريعة ، يكفيه ، كما اكتفى بعض أصحاب العلوم الثلاثة بكل واحد من الأمور الثلاثة . فمثلا يقوم شيخ الإشراق في أول كتابه (حكمة الإشراق) بتقسيمات ، تعود إلى : كامل في العلم والعمل ، وكامل في العمل وكامل في العلم ، ويستفاد من ذلك أن كلاّ من العلم الكامل مع النقصان في العمل ، أو العمل الكامل مع النقصان في العلم ، يمكن أن يتحقق ، واعتبر ذوي العلم الكامل ، من أهل
السعادة ، والمرتبطين بعالم الغيب والتجرد ، ورأى أن مآلهم الانخراط في سلك العلّيين والروحانيين .
ويرى بعض علماء الأخلاق ، وتهذيب الباطن ، أن منشأ جميع الكمالات ، تحسين الأخلاق وتهذيب القلب وأعماله ، ولا يرون دورا للحقائق العقلية والأحكام الظاهرية ، بل يعتبرونها معوّقات في سبيل السالكين .
ويزعم بعض علماء الظاهر ـ الفقهاء ـ ، أن العلوم العقلية والباطنية والمعارف الإلهية من الكفر والزندقة ، ويعاندون طلابها وعلمائها .
إن هؤلاء الطوائف الثلاث الذين يعتنقون هذه الآراء الثلاثة الباطلة ، لمحجوبون عن المقامات الروحانية والنشآت الإنسانية ، ولم يتدبروا بصورة صحيحة في علوم الأنبياء والأولياء ، ولهذا كان بينهم العداء سائدا دائما ، والافتراء متبادلا ، وكان أحدهم يرمي الآخر بالباطل ، مع أنهم جميعا على الباطل ولكنهم يختلفون في تحديد مراتب الباطل بمعنى أن أصحاب الطوائف الثلاث صادقون في تكذيب كل منه للآخر ، لا من جهة أن علمهم أو عملهم باطل بصورة مطلقة ، بل من جهة أن تحديدهم للمراتب الإنسانية بهذا المستوى ـ أن أصحاب الكمال العلمي هم العليون وأن أصحاب التهذيب للباطن هم ذوو الكمالات ، وأن أصحاب العلوم الظاهرية هم المقربون عند الله ـ وجعلهم العلوم والكمالات مقتصرة على المجال الذي يرتأونه ، يكون على خلاف الواقع .
إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قسّم في هذا الحديث الشريف العلوم إلى ثلاثة أقسام . ولا شك أن هذه العلوم الثلاثة ، مرتبطة بهذه المراتب الثلاث كما تشهد بذلك العلوم السائدة في الكتب الإلهية وسنن الأنبياء وأحاديث المعصومين عليهم الصلاة والسلام ، حيث تكون العلوم لديهم مقسّمة إلى هذه الأقسام الثلاثة :
أحدها : ـ العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله ويوم الآخر ، فإن الكتب السماوية وخاصة الكتاب الإلهي الجامع والقرآن الربوبي الكريم مشحونة ، من ذلك ، بل نستطيع أن نقول إن الشيء الوحيد الذي تصدّى كتاب الله لذكره أكثر من غيره ، هو هذا العلم ، مع الدعوة إلى المبدء والمعاد على أساس براهين صحيحة ووضوح كامل ذكرها المحققون .
وأما القسم الثاني والثالث فلا ذكر لهما بمقدار القسم الأول .
وإن أحاديث أئمة الهدى عليهم السلام في هذا المجال ـ القسم الأول من العلوم الثلاثة ـ تفوق حد الإحصاء . ويتضح ذلك عند مراجعتنا للكتب المعتبرة لدى جميع العلماء رضوان الله تعالى عليهم مثل كتاب (الكافي) الشريف و (توحيد الصدوق) وغيرها .
وهكذا وردت بالنسبة إلى تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق وتعديلها ، آيات في الكتاب الإلهي ، وأحاديث مأثورة عن أهل البيت عليهم السلام ، فوق المستوى المأمول ، ولكن تلك الآيات وهذه الروايات أصبحت لدينا نحن المساكين والمبتلين بالآمال والأماني ، مهجورة ، وغير معتبرة ولا نبالي بها . وسيأتي يوم يؤاخذنا الله سبحانه عليها ، ويحتج علينا ، ويتبرأ منا ـ نعوذ بالله ـ الأئمة الأطهار عليهم السلام ، لبراءتنا من أحاديثهم وعلومهم . نعوذ بالله من سوء العاقبة وشر الختام .
وإن الأحاديث العائدة إلى الفقه والمناسك الظاهرية ، مشحونة بها في كل كتبنا ولا نحتاج إلى عرضها وذكرها .
إذا إتضح أن علوم الشريعة منحصرة في هذه الأقسام الثلاثة ، حسب حاجات الإنسان ، والمقامات الإنسانية الثلاثة . ولا يحق لأحد من العلماء في هذه العلوم الثلاثة أن يطعن في الآخر ، ولا يجب على الإنسان إذا جهل علما أن يكذّبه ويتطاول على صاحبه . وكما أن العقل السليم يعتبر التصديق من دون تصور من الأغلاط والقبائح الأخلاقية ، فكذلك التكذيب لشيء من دون تصور بل حاله أسوء وقبحه أعظم . فإذا سألنا الله سبحانه يوم القيامة ، وقال مثلا أنتم لم تكونوا تعرفون معنى وحدة الوجود حسب مسلك الحكماء ، ولم تتعلموه من المتخصص في ذلك العلم وصاحب ذلك الفن ، ولم تحصلوا على علم الفلسفة ومقدماتها فلماذا أهنتم القائل بها وكفّرتموه من دون معرفة ؟
فماذا نملك من الجواب أمام ساحة قدسه حتى نجيب عليه ، عدا أن نطأطأ الرأس حياءا وخجلا ؟ ولا يقبل الاعتذار بأنني هكذا زعمت في نفسي . إن لكل علم مبادئ ومقدمات ولا يتيسر فهم ذلك العلم إلا بعد استيعاب تلك المقدمات ، وخاصة مثل هذه المسألة الدقيقة التي استنزفت جهود أجيال تلو أجيال ، ومع ذلك يصعب فهم أصل الحقيقة ومغزاها بصورة دقيقة .
إن الشيء الذي بحثه الحكماء والفلاسفة آلاف السنين ودقّقوا فيه ، هل تريد أن تدرك بعقلك الناقص ، الموضوع بواسطة دراسة كتاب واحد أو قصيدة واحدة من قصائد المثنوي ؟ وقطعا لا تستطيع أن تدرك شيئا من ذلك . «رحم الله امرءا عرف قدره ولم يتعد طَوره» (1) .
وهكذا إذا سأل الله سبحانه حكيما متفلسفا أو عارفا متصنّعا ، لماذا جعلت العالم الفقيه قشريا وظاهريا وطعنت فيه ؟ بل ما هو المبرر الشرعي في قدحك في سلسلة من العلوم الشرعية ، التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام من قبل رب الأرباب لتكميل النفوس البشرية وفي تكذيبك إياها وإهانتها ؟ وما هو المسوّغ الشرعي أو العقلي للتطاول على مجموعة من العلماء
|
(1) غرر الحكم ، باب الراء .
|
والفقهاء ؟ فما هو جوابه أمام الحق المتعالي ؟ إنه لا يملك جوابا إلا أن يطأطأ رأسه حياءا مُبديا الإنفعال . وعلى أي حال نترك هذه المرحلة التي تبعث على السأم والضجر .
فصل
بعد أن تبين أن العلوم الثلاثة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي هذه الفروع الثلاثة التي ذكرناها ، نقول على أي علم من العلوم الثلاثة تنطبق هذه العناوين الثلاثة ؟ وهذا الموضوع وإن لم يكن مهما ، فإن المهم هنا هو فهم تلك العلوم ثم السعي في سبيل طلبها وتحصيلها ، ولكن من أجل شرح الحديث الشريف ، نضطر إلى التلويح لذلك . فنقول :
إن أعاظم علمائنا رضوان الله تعالى عليهم الذين تصدّوا لشرح هذا الحديث الشريف ، قد اختلفوا فيما بينهم في شرحه ، ولكن ذكر تلك الأقوال والشروح يسبب إطالة الحديث . ونحن سنذكر ما يخطر ببالنا القاصر في هذا الموضوع مع ذكر شواهد لم تُبيّن بعد . ثم نأتي على ذكر نكتة مهمة قد بيّنها العارف الكامل الشاه آبادي ـ دام ظله ـ :
إعلم أن (الآية المحكمة) هي العلوم العقلية والعقائد الحقة والمعارف الإلهية . وإن (الفريضة العادلة) عبارة عن علم الأخلاق وتطهير القلوب . و (السنة القائمة) عبارة عن العلم الظاهر وعلوم الآداب القالبية ـ الصورية ـ . وذلك أن كلمة (آية) التي تكون بمعنى العلامة ، تتناسب مع العلوم العقلية الاعتقادية ، لأن هذه العلوم هي علامات الذات والأسماء والمعارف الأخرى . ولم نعهد من قبل ، أن استعملت الآية أو العلامة في علوم أخرى . فمثلا نجد في موارد كثيرة من الكتاب الإلهي ، بعد استعراض البرهان على وجود الصانع المقدس أو على الأسماء والصفات لذاته المقدس أو على وجود القيامة وكيفيتها وعالم الغيب والبرزخ قوله : «إن في ذلك لآية(1) أو لآيات لقوم يتفكرون (2) أو لقوم يعقلون (3)» وهذا تعبير شائع بالنسبة إلى هذه العلوم والمعارف . في حين أن كلمة (آية) لو ذكرت إثر مسألة فقهية شرعية أو أصل من الأصول الأخلاقية لكان مستهجنا . كما هو الظاهر . فعلم أن (الآية) والعلامة من مختصات ومما يتناسب مع علوم المعارف الإلهية . كما أن التوصيف بـ (الحكمة) مما ينسجم مع هذه العلوم ، لأن هذه العلوم تخضع للموازين العقلية والبراهين المحكمة . وأما بقية العلوم غالبا فلا يوجد لها دليل قاطع ومتين .
وأما الدليل على أن (الفريضة العادلة) تعود إلى علم الأخلاق هو وصف الفريضة
|
(1) سورة النحل ، آية : 11 .
(2) سورة يونس ، آية : 24 .
(3) سورة الرعد ، آية : 4 .
|
بالعادلة ، لأن الخلق الحسن كما تقرر في ذلك العلم ـ علم الأخلاق ـ هو الخروج عن حد الإفراط والتفريط فإن كلا منهما مذموم ومشين ، وأما العدالة التي هي الحد المتوسط والمعتدل بينهما فمستحسن . مثلا :
إن الشجاعة التي هي من أصول وأركان الخلق الحسن والملكة الفاضلة ، هي الحالة المتوسطة والمعتدلة بين الإفراط ، الذي يُعبّر عنه بالتهوّر (وهو عدم الخوف من مورد ينبغي الخوف فيه) والتفريط الذي يعبر عنه بالجبن (وهو عبارة عن الخوف في موارد لا ينبغي الخوف فيها) .
والحكمة التي تكون من الأركان أيضا تتوسط بين رذيلة (السفه) وهو استعمال الفكر في غير مورده أو في الموارد التي لا ينبغي استعماله فيها . وبين رذيلة (البُله) وهو عبارة عن تعطيل القوة الفكرية في الموارد التي ينبغي استعمالها فيها .
وهكذا العفة فإنها تتوسط بين رذيلة الشره والخمود . والسخاء يتوسط بين الإسراف والبخل .
فالفريضة العادلة تدل على انطباقها على علم الأخلاق . كما أن كلمة (الفريضة) أيضا تُشعر بذلك .لأن الفريضة المقابلة للسُنة الراجعة الى القسم الثالث ، يجد العقل إلى استيعابها سبيلا ، كما هو شأن علم الأخلاق ، على خلاف السُنة التي تكون تعبّدا صرفا ويكون العقل عاجزا عن إدراكه .
ولهذا نقول إن (السنة القائمة) تعود إلى العلوم التعبدية ، والآداب الشرعية التي يعبر عنها بالسنة ـ فعل المعصوم وقوله وتقريره ـ والتي تعجز العقول غالبا عن إدراكها . وينحصر طريق إثباتها وفهمها بالسنة . كما أن توصيف السنة بالقائمة يتناسب مع الواجبات الشرعية ، لأن إقامة الواجبات من الصلوات والزكوات وغيرهما من التعابير الشائعة الصحيحة . في حين أن هذه الكلمة لم تستعمل في العلمين الآخرين ولم يكن التعبير فيهما بالسنة صحيحا .
هذا منتهى ما يمكن تطبيقه في هذا الحديث الشريف حسب المناسبات القائمة بين كلماته . والعلم عند الله .
فصل
الآن نفسح المجال لذكر النكتة التي وعدناكم بذكرها ، وهي أن الحديث الشريف قد عبّر عن علم العقائد والمعارف بالآية وهي بمعنى العلامة ، والسر في التعبير هذا هو أن العلوم العقلية ، والحقائق الاعتقادية إذا تم تحصيلها لأجل نفس هذه العلوم والحقائق ولأجل تجميع المفاهيم والمصطلحات وزخرفة العبارات وتزيين تركيب الكلمات بعضها مع بعض ومن ثم
نقلها إلى العقول الضعيفة ، للحصول على المقامات الدنيوية ، لا تكون مثل هذه العلوم من الآيات المحكمة ، وإنما هي حجب غليظة وأوهام واهية ، لأن الإنسان إذا لم يبتغ من وراء طلب العلم ، الوصول إلى الحق ، والتحقق بأسماء الله وصفاته ، والتخلق بأخلاق الله ، سيتحول كل واحد من إدراكاته إلى دركات ، وحجب مظلمة ، تسوّد قلبه وتعمي بصيرته ، ويصبح من مصاديق الآية المباركة التي تقول :«ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لِم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى» (1) .
فإن المقياس في البصر في عالم الآخرة ، هو بصيرة القلب ، وأن الجسم والقوى يكونا ـ في الآخرة ـ تابعين للقلب واللُب ، وأن ظلّية ذلك العالم ، لهذا العالم تبدو وبنحو أتم ، وأن ظل الأعمى والأصم والأبكم تجاه آيات الله ، هو العمى والصمم والبكم في يوم القيامة .
لا يظن علماء المفاهيم والمصطلاحات والعبارات ، وحافظو الكتب في الصدور ، بأنهم من أهل العلم بالله والملائكة واليوم الآخر ، فلو كانت علومهم علامة وآيةـ على معرفة الله ـ فلماذا لم تتنوّر قلوبهم من الآثار النورانية ؟ نعم قد اُضيفت على ظلمات قلوبهم ومفاسد أخلاقهم وأعمالهم الظلمات والفساد . والقرآن الكريم قد ذكرالمقياس لمعرفة العلماء حيث يقول : «إنما يخشى الله من عباده العلماء» فمن لا يخشى ولا يخاف من الحق المتعالي فلا يعد من العلماء .
هل في قلوبنا شيء من آثار الخشية ؟ وإذا كانت فلماذا لم يبد أثر منها على ظاهرنا ؟ ففي الحديث الشريف عن الكافي بسنده إلى أبي بصير قال : «سمعت أبا عبد الله عليه السلام (أبا جعفر ـ خ ل) يقول كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول : يا طالب العلم إن للعلم فضائل كثيرة ، فرأسه التواضع ، وعينه البراءة من الحسد ، وأذنه الفهم، ولسانه الصدق ، وحفظه الفحص ، وقلبه حسن النية ، وعقله معرفة الأشياء والأمور ، ويده الرحمة ، ورِجله زيارة العلماء ، وهمّته السلامة ، وحكمته الورع ، ومستقره النجاة ، وقائده العافية ، ومركبه الوفاء ، وسلاحه لين الكلمة ،وسيفه الرضا ، وقوسه المداراة ، وجيشه محاورة العلماء ، وماله الأدب ، وذخيرته اجتناب الذنوب ، وزاده المعروف ، وماؤه الموادعة ، ودليله الهدى ، ورفيقه محبة الأخيار» (2) .
إن ما استعرضه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يكون من علامات العلماء ، وآثار العلوم ، فمن حصل على العلوم السائدة وكان خاليا من هذه الآيات ، فليعلم بأنه لاحظ له من
|
(1) سورة طه ، آية : 124 .
(2) أصول الكافي ، المجلد الأول ، كتاب فضل العلم ، باب النوادر ، ح 2 .
|
العلم ، بل هو من أصحاب الجهل والضلال ، وتوجب له في عالم الآخرة هذه المفاهيم والجهل المركب والكلمات المتبادلة بينه وبين العلماء الآخرين لدى التحقيق والبحث ، الحجب الظلمانية ، وتكون حسرته يوم القيامة أعظم الحسرات . فالمقياس في العلم أن يكون آية وعلامة ، ولا تكون له إنّية ولا أنانية ، بل تضمحل الإنّية ، وتتلاشى الأنانية لدى حصول العلم ، دون أن يغدو العلم باعثا على النخوة والأنانية والتظاهر والترفع .
ثم عبّر الإمام عليه السلام عن العلم بـ (المحكمة) لأجل أن العلم الصحيح لنورانيته وضيائه في القلب ، يوجب الاطمئنان ، ويدحض الريب والشك ، ومن الممكن أن الإنسان طيلة حياته يخوض في البراهين ومقدماتها ، ويستدل لكل واحد من المعارف الإلهية براهين عديدة وأدلة كثيرة ، ويتفوّق على أقرانه في مقام البحث والمنافسة ، ولكن تلك العلوم لم تؤثر في قلبه شيئا ، ولم تبعث لديه الاطمئنان ، بل تزيده شكا وتحيّرا والتباسا ، فجمع المفاهيم والإكثار من المصطلحات ، لا تجدي نفعا ، وإنما تُشغل القلب بغير الحق سبحانه ، وتثنيه عن الذات المقدس ، فيغفله .
أيها العزيز إن العلاج كل العلاج فيما إذا أراد الإنسان أن يكون علمه إلهيا فعليه عندما يدرس أي علم شاء ، أن يبادر إلى مجاهدة النفس ، ويسعى بواسطة الرياضة الروحانية ، في سبيل تخليص نيته . فإن المنقذ الأساسي ، ومصدر الفيض ، تخليص النية ، والنية الخالصة «مَن أخلص لله أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» فهذه فوائد وآثار الإخلاص في أربعين يوم . فأنت عندما بذلت الجهد أربعين عاما أو أكثر في سبيل تجميع المصطلحات والمفاهيم العلمية ، واعتبرت نفسك علاّمة ومن جنود الله ، ولكن لم تجد أثرا للحكمة في قلبك ، ولا طعما لها على لسانك فاعلم بأن دراستك وتعبك لم يقترنا بالإخلاص بل إنما اجتهدت للشيطان والرغبات النفسية . فعندما رأيت بأن هذه العلوم لم تثمر ولم تنجع فانصرف ولو لأجل الاختبار ، نحو إخلاص النية وتصفية القلب من الرذائل والكدر . فإذا لمست أثرا حاول أن تستمر في ذلك أكثر . وإن كانت التصفية لأجل الاختبار كانت هذه النية متنافية مع الإخلاص ، ولكن من المحتمل أن بصيصا من نورها يهديك .
وعلى أي حال أيها العزيز أنت محتاج في جميع العوالم : عالم البرزخ وعالم القبر وعالم القيامة ودرجاتها إلى المعارف الإلهية الحقة ، والعلوم الحقيقية والخلق الحسن والأعمال الصالحة . فاجتهد أينما كنت من هذه الدرجات والمراتب ، وأكثر من أخلاصك وأزل عن قلبك أوهام النفس ووساوس الشيطان حتى تظهر لك النتائج ، وتجد سبيلا إلى الحقيقة ، وينفتح لك طريق الهداية ، ويكون الله سبحانه في عونك .
يعلم الله سبحانه بأننا إذا انتقلنا مع هذه العلوم التافهة الباطلة وهذه الأوهام الفاسدة
والقلب الكدر والخلق الذميم إلى عالم الآخرة . كيف تكون مصائبنا ومحنتنا ، وكيف يكون مصيرنا ، وأن أي ظلم ووحشة وعذاب توفر لنا هذه العلوم وهذه الأخلاق ؟
فصل
نقل محقق الفلاسفة صدر الحكماء والمتألهين قدس الله سره وأجزل أجره في (شرح أصول الكافي) عن الشيخ الغزالي كلاما طويلاً خلاصته : أن العلوم تنقسم إلى علوم دنيوية وأخروية ، وجعل علم الفقه من العلوم الدنيوية . وقسّم العلوم الأخروية إلى علم المكاشفة والمعاملة واعتبر علم المعاملة ، هو العلم بأحوال القلوب ، وعلم المكاشفة نور يحصل في القلب بعد تطهيره من الصفات المذمومة ، وبه تنكشف الحقائق ، وتحصل المعرفة الحقيقية بالذات والأسماء والصفات والأفعال وأسرارها وكافة المعارف الإلهية (1) .
ولما كان هذا التقسيم مرضيا لدى المحقق المذكور قال في شرح هذا الحديث الذي نحن بصدد شرحه : (الظاهر أن هذا التقسيم الحاصر الذي بينّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود إلى علوم المعاملات ، لأن معظم الناس ينتفعون من هذه العلوم ، وأما علوم المكاشفة ، فتحصل لدى قليل من الناس وتكون أعز من الكبريت الأحمر ، كما تدل عليه أحاديث كتاب الإيمان والكفر التي سنذكرها) .
يقول الكاتب إن في كلام الشيخ الغزالي إشكال . وعلى فرض صحة كلامه وعدم توجه الاشكال عليه ، يرد اشكال آخرعلى ما ذكره صدر المتألهين رحمه الله تعالى . أما الاعتراض على كلام صدر المتألهين حسب فرض صحة كلام الغزالي ، فهو أن الغزالي اعتبر علم المعاملات الذي هو العلم بأحوال القلب من المنجيات حيناً مثل الصبر والشكر والخوف والرجاء وغير ذلك ، ومن المهلكات حيناً آخر مثل الحقد والحسد والغل والغش وغيرها ، وعليه لا تكون العلوم الثلاثة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من علوم المعاملة إلا قسم واحد منها وهو الفريضة العادلة ، وقد تقدم شرح ذلك . في حين أن صدر المتألهين جعل العلوم الثلاثة من علوم المعاملة .
وأما الملاحظة الواردة على كلام الشيخ الغزالي فتتجسد في أمرين :
أحدهما : إنه اعتبر علم الفقه من العلوم الدنيوية والفقهاء من علماء الدنيا ، مع أن هذا العلم من أعز علوم الآخرة . وهذا التوجه ، نشأ من الحب للنفس ، وحب ما يتصور أنه من أهله وهو علم الأخلاق بالمعنى المتعارف المتداول بين الناس ، ولهذا طعن في كل العلوم ، حتى العلوم العقلية .
|
(1) إحياء العلوم الغزالي ـ المجلد الأول ـ ص 19 طباعة دار المعرفة بيروت .
|
ثانيهما : أنه جعل المكاشفات جزءا من العلوم وأوردها في تقسيمات العلوم في حين أن الحق يستدعي أن نقول بأن العلم هو الذي يشتمل على التدبر والتمعن والبرهان والاستدلال ، بينما قد تكون المكاشفات والمشاهدات نتيجة العلوم الحقيقية ، وقد تكون من جراء الأعمال القلبية . وعلى أي حال إن المشاهدات والمكاشفات ، والتحقق بحقائق الأسماء والصفات ، يجب أن لا تندرج في تقسيمات العلوم ، لأن العلوم من واد والمكاشفات من واد آخر . والأمر سهل .
فصل
إعلم أن كثيرا من العلوم تندرج على تقدير في قسم من الأقسام الثلاثة التي ذكرها رسول الله ، وعلى تقدير آخر في قسم آخر . مثلا : إن علم الطب والتشريح والنجوم والأفلاك وما يضاهيها ، إذا جعلناها آية وعلامة ، وكذلك علم التاريخ وأمثاله ، إذا ألقينا عليه نظرة اعتبار واتّعاظ ، اندرج جميعها في (الآية المحكمة) ، لأنه يحصل بواسطتها العلم بالله أو بالمعاد ، أو يتأكد العلم بالله وبالمعاد وقد يندرج تحصيلها في (الفريضة العادلة) وقد يندرج تحت (السنة القائمة) .
وأما إذا كانت دراسة هذه العلوم ، لأجل ذاتها أو لأجل أهداف أخرى ، فلو شغلتنا عن علوم الآخرة ، لأصبحت مذمومة بالعرض ، لأنها صرفت الناس عن الآخرة ، وإن لم تشغلنا عن علوم الآخرة فليس فيها ضرر أو نفع ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فالعلوم بصورة كلية تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول ـ ما كان نافعا للإنسان حسب أحواله في النشآت الأخرى التي يعتبر الوصول إليها غاية التكوين والكائنات . وهذا القسم هو الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علما ، وقسّمه إلى الأقسام الثلاثة التي وردت في الحديث الشريف .
الثاني ـ ما يضر بالإنسان ويصرفه عن وظائفه اللازمة . ويكون هذا القسم من العلوم المذمومة التي يجب على الأنسان أن لا يقترب منها مثل علم السحر ، والشعوذة وأمثالهما ...
الثالث ـ ما لا يوجد فيها ضرر ولا نفع ، فيهدر الإنسان وقته عليها للتسلّي والتلهّي ، مثل علم الموسيقى وعلم الأنساب والحساب والهندسة والأفلاك وأمثال ذلك . ولو استطاع الإنسان أن يُدخل هذا النوع من العلم تحت واحد من العلوم الثلاثة لكان أفضل . وإن لم يتمكن من ذلك ، فعدم الاشتغال يكون حسنا . لأن الإنسان العاقل عندما عرف بأنه مع هذا العمر القصير ، والوقت القليل ، والحوادث الكثيرة ، لا يستطيع أن يكون جامعا لكل العلوم ، وحائزا على جميع الفضائل ، فلا بد له من التفكير والتأمل في العلوم ، واختيار ما يكون له أنفع ،
والإنصراف إليه ، وتكميله .
ومن المعلوم أن ما هو أنفع من كل العلوم وأهمها بالنسبة إلى حياته الأبدية الخالدة هو العلم الذي أمر به الأنبياء عليهم السلام والأولياء ، وحثّوا الناس على تعلمه ، وهو هذه العلوم الثلاثة التي ذكرناها . والحمد لله تعالى .
بسندي المتصل إلى شيخ المحدّثين وأفضلهم محمد بن يعقوب الكليني ـ رحمه الله تعالى ـ عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن عبد الله بن سنان قال : «ذكرت لأبي عبد الله عليه السلام رجلا مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت : هو رجل عاقل . فقال أبو عبد الله عليه السلام : وأي عقل له وهو يطيع الشيطان ؟ فقلت له : وكيف يطيع الشيطان ؟ فقال : سله هذا الذي يأتيه من أي شيء هو ؟ فإنه يقول لك : من عمل الشيطان» (1) .
|
(1) أصول الكافي ، المجلد الأول ، كتاب العقل والجهل ، ح 10 .
|
إعلم أن الوسوسة والشك والتزلزل والشرك وأشباهها من الخطرات الشيطانية والإلقاءات الإبليسية التي تُقذف في قلوب الناس . كما أن الطمأنينة واليقين والثبات والاخلاص وأمثالها من الإفاضات الرحمانية والإلقاءات الملكية . وتفصيل هذا الإجمال بصورة مختصرة هو : أن قلب الإنسان شيء لطيف متوسط بين نشأة المُلك ونشأة الملكوت ، بين عالم الدنيا وعالم الآخرة ، وجهة منه نحو عالم الدنيا والمُلك ، وبها يعمّر هذا العالم ، ووجهة أخرى منه نحو عالم الآخرة والملكوت والغيب ، وبها يعمّر عالم الآخرة والملكوت .
فالقلب بمثابة مرآة لها وجهان ، وجه منها نحو عالم الغيب ، وتنعكس فيه الصور الغيبية ، ووجه آخر نحو عالم الشهادة وتنعكس فيه الصور المُلكية الدنيوية . ويتم انعكاس الصور الدنيوية من خلال القوى الحسية الظاهرية وبعض القوى الباطنية مثل الخيال والوهم . وتنتقش الصور الأخروية فيها من باطن العقل وسر القلب . فإذا قويت الوجهة الدنيوية ، والتفتت كليا إلى تعمير الدنيا ، وانحصرت همته في هذا العالم واستغرق في ملاذ البطن والفرج ، وكافة المشتهيات والمتع الدنيوية ، انعطف باطن الخيال نحو الملكوت السفلي ، الذي يكون بمثابة الظل المظلم لعالم المُلك والطبيعة ، وعالم الجن والشياطين والنفوس الخبيثة ، وتكون الالقاءات شيطانية ، وباعثة على تخيلات باطلة وأوهام خبيثة . وحيث أن النفس تنتبه إلى الدنيا ، فتشتاق إلى تلك التخيلات الباطلة ، ويتبعها أيضا العزم والإرادة ، وتتحول كل الأعمال القلبية والقالبية إلى سنخ الأعمال الشيطانية من قبيل الوسوسة والشك والترديد والأوهام والخيالات الباطلة ، وتصبح الإرادة على ضوء ذلك في مُلك الجسم فعّالة ، وتتجسد الأعمال البدنية أيضا حسب الصور الباطنية للقلب ،لأن الأعمال صورة وتمثال للإدراكات ، التي هي صور ومثال للأوهام التي بدورها انعكاس لاتجاه القلب . وحيث أن وجهة القلب كانت نحو عالم الشيطان ، كانت الإلقاءات في القلب من سنخ الجهل المركب الشيطاني ، وفي النتيجة ،
تستشري من باطن الذات ، الوسوسة والشك والشرك والشبهات الباطلة ، وتسري في كل أنحاء الجسم .
وعلى هذا القياس المذكور ، إذا كانت وجهة القلب نحو تعمير الآخرة ، والمعارف الحقة ، وعالم الغيب ، لحصل له وئام مع الملكوت الأعلى ، الذي هو عالم الملائكة ، وعالم النفوس الطيبة السعيدة ، والذي يكون هذا العالم بمثابة الظل النوراني لعالم الطبيعة ، وتعتبر العلوم التي تفاض عليه ، من العلوم الرحمانية الملكية والعقائد الحقة ، وتصير الخواطر من الإلقاءات والخواطر الإلهية ، ويتطهر من الشك والشرك ويتنزه منهما ، وتحصل الاستقامة والطمأنينة في النفس ، وتصير أشواقها أيضا على ضوء تلك العلوم ، وإرادتها على ضوء تلك الأشواق . ومجمل الكلام أن الأعمال القلبية والقالبية والظاهرية والباطنية ، تتحقق على أساس العقل والحكمة .
ولهذه الإلقاءات الشيطانية والمَلكية والرحمانية مراتب ومقامات ، ولا تسمح هذه الصفحات فعلا ، في تفصيل ذلك .
وتدل على ذلك بعض الأخبار الشريفة ، مثل ما ورد في مجمع البيان عن العياشي :
روي العيّاشي بإسناده عن أبان بن تغلب ، عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «ما من مؤمن إلا ولقلبه في صدره اُذنان : اُذن ينفث فيها المَلك واُذن ينفُث فيها الوسواس الخنّاس ، يؤيّد الله المؤمن بالمَلك وهو قوله سبحانه : « وأيّدهم بروح منه» (1) .
وفي «مجمع البحرين» : في حديث آخر : «إنه قال : الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم ، له خرطوم مثل خرطوم الخنزير ، يوسوس لابن آدم أن أقبل على الدنيا وما لا يُحلّ الله ، فإذا ذكر الله خنس» (2) إلى غير ذلك من الروايات .
فصل
بعد أن علمنا عن طريق أهل المعرفة ، أن الوسوسة من الأعمال الشيطانية ، كما ورد في هذا الحديث الشريف الذي نحن بصدد شرحه ، والأحاديث الأخرى ، نضطر إلى بيان هذا الموضوع بطريق آخر يكون أقرب إلى أذهان العامة وأكثر ملائمة لها ، رغم أن البيان السابق عند أهله موافق للقواعد العقلية والضوابط البرهانية ومطابق لذوق أهل المعرفة ومشاهدات أصحاب القلوب ، ولكن حيث أنه يرتكز على قواعد وأسس خارجة عن مستوى هذا الكتاب ننصرف عن بيانه فنقول :
|
(1) مجمع البيان ، المجلد العاشر ، ص 571 .
(2) مجمع البحرين ، مادة خنس ، ص 305 .
|
| |