موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

وهي طويلة أطلبها من اليتيمة، وذكر(1) أنه كتب إلى العلوي :

يامـــــــــــن تخلـــــــى وولي  وصــــــد عــــــنـــــي ومـــــلا

وأوسع الــــــعــــــهد نكــــــثاً  وأتـــبـــع العقد حـــــــــــــــــلا

ماکـــــــــــان عهــــــــدك إلا  عهد الشــبــــــــــــيـبــة وبــدلا

أو طائــــــــــــفة من خيــــال  ألـــــــــــــم ثــــم تـــــتــــــولى

أو عارضـــــــــــا لاح حتى           إذا دنـــــــی فــــتـدلـــــــــــــی

ألــــــــــوت بـه نسمـــــــات   مــــــن الصـتتبا فـــــتــــتـجلی

أهلا بمـــــــــــاتر تضيـــــه            في كل حــال وســــــهــــــــلا

البجزينـــــــــــــــــــك ودي            بمثل فعــــــــــــلك فعــــــــــلا

إن شئت هجــــــــراً فهجرة            أو شئت وصلا فوصـــــــــــلا

صبرت عـــــــــــــني فأنظر  ظفرت بـالصـــــــــــــبر أم لا

إني إذا الــــــــــــخل ولـــي            وليتـــــه ماتـــــــــــــــولــــــی

ثم قال: وسئل بعض حاضري مجلسه عن قصة له فقال: ولم يقصد وزنا :

أي جهة لقيته          وشقاء شقبته

فقال الأستاذ : قولوا على هذا الوزن شعرة، وفي المجلس أبو الحسن العباسي وابن خلاد القاضي . فقال أبو الحسن:

بي غزال مقرطـــق           شفني إذا ماهوینه

أحرز السحر طرفه            وحوى الغنج ليته

زاد في الكبر عامداً            إذ رآني ولـــــينه

حسبي الله والـــــــر            ئبس قد دهبنــــه

وقال ابن خلاد:

ياخليلي ساعـــــدا              ني على مادهيته

أنظرا أي مـــعدل              بقضاء أتـــــــيته

سامني السيد الــر              ئيس محالا شنيه

ظل مستعديا على              رشاقـــــد هويته

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (۱) نفسه : ص۱55.

(۲) يتيمة الدهر: ص۱5۸.

 

(405)

عجبا أن يكون لـــــــي         والياً مــــن ولينه

ما خشيت الحروب فيـ ـه ولكن خــشيته

فاز روحي لو أنـــــني في منامي أرينه

وقال الأستاذ:

أي جهد لقيـــــــــــته           وشقاء شقيتــــــــه

من نصبح أود مــــن          نصحه لي سكوتـه

قال صبرة وما درى          إن صبري رزیـته

قلت عنك الملام مــا           باختياري هـــويته

لم أكن أجشم الــبلاء           لو أنـــــــــي كفيته

رب ثوب مــــن الـ            مـــــذلة في كسبته

في أبيات له آخر تركتها.

 أما الحسن بن العباس الشهيد:

فلا نعرف له عقبة وإن نص عليه ابن قتيبة وحكاه البراقي عن حدائق الألباب، وعلينا بيان ما يوهم أن له عقبة، تحدر عن هذا الأصل إلى القرن الخامس الهجري وتوطن سمرقند فإن كثيرة من القراء ليطالع الفوائد البهية في تراجم الحنفية فيتوهم صحة ذلك ونحن أخرنا تراجم هؤلاء السادة العلماء مع علمنا أنهم من أعقاب عبید الله الأمير قاضي الحرمين لأجل التنبيه على غلط الفوائد حتى لا يحتج محتج بما يجده فيها، وهذا هو النص الموهم:

قال محمد بن عبد الحي اللكنوي الهندي في الفوائد البهية في تراجم الحنفية(1): محمد بن أحمد بن حمزة بن الحسين بن علي بن عبد الله بن الحسن ابن علي بن عبد الله بن الحسن بن العباس بن علي بن أبي طالب المشتهر بالسيد أبي الشجاع كان في عصر ركن الإسلام علي بن الحسين السغدي بسمرقند وكان الإمام أبو الحسن الماتريدي معاصراً لهما وكان المعتبر في زمانهم في الفتاوي أن يجتمع خطهم عليه، إنتهی.

ومن المحتمل بل المتيقن سقوط عبيد الله بن الحسن والعباس (عليه السلام) وأن الأصل ابن الحسن بن عبيد الله بن العباس وقد ذكره على الصواب محمد بن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الفوائد البهية في تراجم الحنفية: ص155.

 

(406)

محمد المعروف بابن أبي الوفاء القرشي في الجواهر المضية طبقات الحنفية(1) ولفظه: محمد بن أحمد بن حمزة بن الحسين بن القاسم بن حمزة بن الحسن بن علي بن عبيد الله بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب العلوي أبو شجاع، تفقه عليه ولده محمد بن محمد بن أحمد، وسيأتي.

ثم قال في ابنه(2): محمد بن محمد بن أحمد بن حمزة - وذكر النسب المتقدم بألفاظه وقال- العلوي أبو الوضاح وهو والد الإمام الأشرف من أهل سمرقند، تفقه على والده وبرع في الفقه وروى عنه، وقال السمعاني: روى لنا عنه القاضي محمد بن عتبة الصايفي قاضي مرو وذكره في الذيل وقال: درس بمدرسة قثم بن العباسي بسمرقند وكان قد خرج إلى الحجاز وورد بغداد حاجة وأنصرف إلى بلده وأقام على التدريس ونشر العلم إلى أن مات سنة 491 وهو أبن 54 سنة ودفن بمقبرة جاکردیز «رحمه الله»، إنتهی.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجواهر المضية في طبقات الحنفية ۲/ ۱۰ طبع حیدرآباد.

 (۲) نفسه ۲/ 114.

 

(407)

خاتمة

في تأبين أبي الفضل العباس «عليه السلام»، ومراثيه

 كثر تأبين العباس الأكبر ورثاه عامة الشعراء في سائر العصور بمختلف الألسنة ومتنوع اللهجات من الفارسية والهندية والتركية والعربية بنوعيها القريض والحسچة وهي اللغة الدارجة العامية وبلغت في إثارة الحماس وتهييج الحزن فوق ما بلغته اللغة الفصيحة ولو جمعت تلك المراثي لبلغت عدة مجلدات ضخمة الحجم.

وقد فرق علماء الأدب بين التأبين والمراثي وقد نوعت العرب الرثاء أنواعة قسمت كل نوع بأسم خاص فإن كان مشتملا على تعداد محاسن المراثي والثناء عليه بمحاسن الأفعال ومكارم الأخلاق وواصفة لشرفه وسؤدده وما قام به من الأعمال الجليلة فهو التأبين، ولا يفرقون في ذلك بين النثر والنظم، ومر في الفصول السابقة كثير من هذا النوع، ومنه قول الشاعر:

يطيب تراب الأرض إن نزلوا بها            وأحسن منه في الممات قبورها

وقول السيد القزويني في رثاء شهداء کربلاء:

إذا نازلوا أحمر القنا من نزالهم               وإن نزلوا أخضر الثرى بالمكارم

أشداءکم حلوا معاقد شدة بـشدة                المواضــــــــــــــي قبل شد التمائم

وقول السيد الحلي فيهم:

أبا حسن يهنيك ما أصبحوا به        وإن كان للقتلى تقام المــــآتم

الأورثتهم مجداً وما كان حبوة        ولكن نصفا في بنيك المكارم

وقول علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في رثائهم:

إن الكرام بني النبي محمد             خير البرية رائح أو غـــــادي

قوم هدى الله العباد بجدهم             والمؤثرون الضيف بــالأزواد

كانوا إذا نهل القنا بأكفـهم             سكبوا السيوف أعالي الأغماد

 

(408)

ولهم بجنب الطف أكرم موقف                صبروا على الريب الفظيع العادي

حول الحسین مصرعين كأنما                 كانت مناياهم على ميــــــــــــــعاد

وهو كثير في تأبين الحسين «عليه السلام» والشهداء معه وخاصة في شعراء العصر المتأخر كقول السيد الحلي:

سمة العبيد من الخشوع عليهموا              الله إن ضمنهم الاســــــحار

فإذا ترجلت الضحى شهدت لهم               بيض الصوارم أنهم أحرار

إن كان مشتملاً على ما يثير العواطف ويجرح الضمير بالمهيجات المحزنة والمرققات المشجية سموه بكاءاً وقد تقدمت شواهد هذا في منزلة العباس عليه السلام عند الحسين «عليه السلام» کرثاء مالك بن حري ومالك بن نويرة وأبي المغوار، ومنه قول عبد الرحمن بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب يرثي زید بن علي بن الحسين بن علي «عليه السلام»:

ألا ياعــــين لا ترقي وجودي بدمعك ليس ذا وقت الجمود

غــــــداة أبن النبي أبو حسين  صليــب بالكناسة فوق عود

يظل على عمودهموا ويمسي  بنفـــسي أعظم فوق العمود

تعدى الكافــــــــر الجبار فيه          فأخرجـــه مـن القبر اللحيد

فظلوا ينبشون أبـــــا حسين            خضیبا مــــنهموا بدم جميد

ومنه قول داود السلمي يرثي شهداء فخ من العلويين:

يا عين إبكي بدمع منك مــــــنهـــتــن         فقد رأيت الـــــــذي لاقــی بنو حسن

صرعی بفخ وتجري الريح فـوقهمـوا         أذيالها وغـــوادي دلــــح الــــمـــزن

حتی عفت أعظم لو كان شـــاهـــدها          محمد ذب عنهاثم لـــــــــــم تـــهـــن

ماذا يقولون والماضون قبلهــــــــــــم         على العداة وأهــــــل البغض والإحن

لا الناس من مضر حاموا ولاغضبوا                 ولا ربـــــــــــــيعة والأحياء من يمن

ماذا تقولون إن قال النبـــــــــــي لكم          مـــــــاذا صنعتم بنا في سالف الزمن

يا ويحهم كيف لم يرعوا لهم حــرماً          وقد رعى الفيل حق البيت ذي الركن

ومنه قول عقبة بن عمرو السهمي سهم عوذ بن غالب وهو أول شعر رثي به الحسين الشهيد «عليه السلام»:

إذا العین قرت في الحياة وأنتموا                      تخافون في الدنيا فأظلم نورها

 

(409)

 

مررت على قبر الحسين بكربـلاء      ففاض عليه من دموعي غزيرها

فما زلت أرثيه وابكي لشــــــجـوه      ويسعد عيني دمعها وزفيرهــــــا

وبكيت من بعد الحسين عصـائـباً      أطاف به من جانبيه قبورهــــــــا

سلام على أهل القبور بکربـــــلا      وقل لها منا سلام بزورهـــــــــــا

سلام بأوصال العشى وبالضحى       تؤديه نكباء الرياح ومورهــــــــا

ولا برح الوفاد زوار قــــــــبره       يفوح عليهم مسكها وعبيرهـــــــا

وأكثر مراثي القدماء من هذا النمط مثل مراثي الكميت و دعبل وجعفر بن عفان وغيرهم وهكذا يقول دعبل :

هلا بكيت على الحسين وأهله هلا بكيت لمن بکاه محمد

فلقد بكته في السماء ملائك            زهر کرام راكعون وسجد

لم يحفظوا حق النبي محمد            إذ جرعوه حرارة لا تبرد

فإذا تضمن صرخة وعولة وأرتفاع أصوات سموه نوحاً وندباً أو نياحة وندبة وهذا شيء مشهور تعرفه العرب، قال بعضهم يخاطب بثينة بعد موت جميل العندي:

قومي بثينة فاندبي بعويل              وأبكي خليلك دون كل خليل

الكثير منه في أشعارهم وكذلك في مرائي الحسين «عليه السلام»، فقال بعضهم يذكر فاجعته:

ندبت لها الرسل الكرام وندبها         عن ذي المعارج فيهموا مسنون

وأكثر ما يصفون بالندب والنياح النساء ويسمون مأتم العزاء النسائي المناحة.

وإذا اشتمل الرثاء على الإعلان بموت المرثي سموه نعية وأطلقوا على ذلك المخبر إسم الناعي وهو كثير في شعر العرب ومنه قول محمد بن علي بن حمزة في الحسن بن علي «عليهما السلام».

یا كذب الله من ينعي حسـناً           ليس لتكذيب نعیه ثمـــــــــن

كنت خليلي وكنت خالصتي            لكل حي من أهله مسکــــــن

أجول في الـــدار لا أراك و           في الدار أناس جوارهم غبن

وفي مراثي الحسين بن علي «عليهما السلام»، الكثير منه، وقد قال الإمام زين

 

(410)

العابدین علیه السلام» لما رجع من الشام بعياله الأسرى إلى المدينة لحذلم بن بشير الأسدي: ثم وانع أبا عبد الله «عليه السلام» ببيتين من الشعر فإن أباك شاعراً، فقام ودخل المدينة ونادى بأعلى صوته:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها قتل الحسين فأدمعي مــدرار

الجسم منه بكربلاء مضرج           والرأس منه على القناة يدار

فأطلقوا على كل مخبر بسوء إسم الناعي توسعاً فقالوا: الغراب ناعي الفراق، وفلان ناعي الخير، قال بعضهم:

ياناعي الإسلام قم فانعه               قد مات عرف وبدا نکر

وخص العوام النعي بنوع من مراثیهم العامية (الحسچة) وهو المتجانس القوافي في جميع اشطره کالرجز العربي على روي واحد وقافية واحدة، وهناك نوع خامس تسميه العرب بالتعزية والتسلية وهو إذا كانت المرئية متضمنة لألفاظ السلوة والتعزية كقول الخنساء في أخيها الصخر:

يذكرني طلوع الشمس صخراً         وأذكره كل غروب شمـس

ولولا كثرة الباكين حــــــولي          على إخوانهم لقتلت نفسـي

فما يبكون مثل أخي ولكـــــن         أعزي النفس عنه بالتأسي

وقالت أخرى وقد قتل أخوها ولدها:

أو قل للنفس تسلاء وتعزيـــة                 إحدى يدي أصابتني ولم تـــرد

كلاهما خلف من فقد صاحبه                 هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي

وهم يتفنون في هذا النوع فنوناً كثيرة لا يتسع الكتاب لها وهو الذي يستعمله شعراء هذه العصور في تأبين الكبار إذا فقدوا وخلفوا من له الكفاءة للقيام بمهمات الرياسة من دون فرق بين العلماء والأمراء ويجعلون وجود الخلف الكافي تسلية وتعزية عن السلف الماضي غير أنه لا يكون ذلك في مراثي الحسين «عليه السلام» العظم المصاب وشدة صدمة المصيبة والخلف الباقي وهو الإمام زین العابدین «عليه السلام» أغلق باب التسلية عنه في وجوه الراثين له وأوصده أمام المؤبنين فلا سلوة ولا عزاء إلا بالانتقام من قاتليه على يد الثائر من ولده الحجة المنتظر صاحب الزمان «عجل الله فرجه»، ولهذا كثر في مراثي الحسين «عليه السلام» انتداب الإمام المهدي المنتظر في تعجيل الظهور لأجل الانتقام من قتلة جده وهذه الأنواع الخمسة قد يسميها العرب القدماء جميعا بالمراثي كما يسميها المعاصرون

 

(411)

من الشعراء بالتأبين، والحق ما ذكرنا وإن التأبين أعم من النثر والنظم ويختص من الشعر بما أشتمل على تعداد محاسن الفقيد كما قدمنا عن المرزباني إنه قال: إن التأبين ما كان في تعداد محاسن الميت.

 وقال الفيروزآبادي في القاموس: التأبين الثناء على الشخص بعد موته، وقال في مادة رثاء رثيت الميت رثاء ورثاية بكسرهما أو مرثاة أو مرثية مخففة ورثوته وعددت محاسنه کرثيته وترثیته نظمت فيه شعرأ، إنتهی.

وقد أخطأ الفيروزآبادي في هذا التعريف إنما التأبين تعداد المحاسن كما قال أولا والرثاء مشتق من الرقة من باب رثى إذا رق له ولان له قلبه فإن العرب تقول : فلان يرثي له وأصبح بحالة يرثى له ومعناه أنه قد صار في حال ينصدع لها القلب ويرق.

قال الفيومي في المصباح المنير: رثيت الميت أرثيه ورثبت له ترحمت ورققت له.

تأبين الشعراء ورثائهم للعباس الأكبر بن أمير المؤمنين «عليهما و السلام»

قد عرفت أنها كثيرة واكثرها مطبوع في كتب المقاتل والتراجم ومستقلا وأنا مورد بعض ما يعجبني وإن تكرر طبعه وما أستلذه منه وإن حفظه أكثر الخطباء.

فمنه قول الحاج محمد رضا الأزري البغدادي في تأبين أبي الفضل العباس من قصيدته التي بارى فيها معلقة لبيد وأنا أشرح بعض معانيها مختصرة. قال «رحمه الله»:

أوما أتاك حديث وقعة كربـــــلاء             أني وقد بلغ السماء قتامهــــــــــا

يوم أبو الفضل أستجار به الهدى              والشمس من كدر العجاج لثامها

كأن هذا الأديب يشير بقوله أستجار به الهدى إلى أن أبا الفضل جدير أن يلقب بمجير الهدي كما لقب ربيعة بن مكدم بمجير الظعن، وأبو حنبل بن مز بمجير الجراد، وأشتقاق اللقب كما عرفته سابقا كثيراً ما يكون مشتقاً من صفات الملقب به أو من فعل صادر من أفعاله فكان الكناني مجيراً للظعن والطائي مجيراً للجراد الواقع بجواره والبطل العلوي مجيراً للهدى لأنه حامی عنه بسيفه وسنانه وبذل نفسه ونفيسه دونه وما أنيل لقب مجير الهدى ولشرفه وما أحقر مجيراً الظعن ومجير الجراد أمام عظمته .

 

(412)

والبيض فوق تحسب وقعــها          زجل الرعود إذا أكفهر غمامــــها

فحمي عرينته ودمدم دونهــا          ويذب من دون الشرى ضرغامها

من باسل يلقى الأسنة باسماً                  والشرس يرشح بالمنية هامهــــــا

هذه غاية البطولة ونهاية الفروسية أن يخوض التي تزداد فيها وجوه الأبطال کلوحا وعبوسة، وترشح هامها دماً باسماً مبتهجاً يحسب رشحات نعامات الأبطال رشحات وجنات الخدود الموردة.

وأشم لا يحتل دار هضيمة            أو يستقل على النجوم رغامها

فكما أنه من المستحيل أستعلاء الرغام الذي هو التراب على أنجم السماء المرتفعة عنه ارتفاعاً لا يحد بالضبط والدقة كان من المستحيل أن يحتل العباس الأبي النفس الحمى الأنف دار مذلة وهوان وهي أبعد من متناول شممه من الرغام من نجوم السماء.

أو لم تكن تدري قريش أنه            طلاع کل ثنية مقدامها

ليست قريش وحدها تدري أنه طلاع الثنايا المخوفة والنجود المرعبة بل العرب قاطبة تعلم أنه الطلاع للثنايا المخوفة والمقدام في الأهوال ساعة الزحف والسابق إلى خوض تيار الأخطار فهو مقدام العرب لا قریش خاصة وأبوه والمرتضی مقدام الأمم لا العرب فقط.

بطل أطل على العراق مجلياً          فاعصوصبت فرقاً تمور شئامها

لا شك أن الألوية والنواحي المرتبطة بعاصمة من العواصم إذا عصفت إحدى الزوابع فزعزعت ذلك القطر أو أنفجرت بعض البراكين فنسفت ذلك الاقليم أرتجت العاصمة وشملها الرعب وإن بعدت خوفاً أن تهب من ضواحيها تلك الزوبعة الهائلة أو يفجر في نواحيها ذلك البركان الشديد فتندك معاقلها وتنهار حصونها وتنسف أبراجها وتزعزع شوامخ رواسيها فبركان الشجاعة العباسية المنفجر في الجيش الأموي الكوفي زوبعة البطولة العلوية التي هبت بمعسكر جند آل حرب مارت لنبيئة الشام فرقة من صدمته وخوفا من هوله.

وشا الكرام فلا ترى من أمة                  للفخر إلا أبن الوصي إمامها

هو ذاك موئل رأيها وزعيمها                  لوجل حادثها ولد خصامــــها

واشدها باسا وأرجحها حجی          لوناص موکبها وزاغ أقدامهـا

تضرب العرب مثل المبالغة في نعت الجيوش العظيمة ذات الثبات في

 

(413)

الزحف والمقاومة عند الضرب والصبر في الجلاد اعتمادا على قوتها من حيث الكثرة والاستعداد والصبر فيقولون: كتائب كالجبال أو هي جبال من حديد، أو جبال لا تزول من مقرها إلا أن تضرب بجبال مثلها، هكذا يقولون وبهذا ينطقون وقد قال معاوية يوم صفين في ربيعة العراق وكانوا في مسيرة أمير المؤمنین علی بن أبي طالب «عليه السلام» وقائدهم عبد الله بن العباس:

إذا قلت قد ولت ربيعة أقبلت                  كتائب منهم كالجبال تجالد

وقولهم جبال من حديد نظرة لما عليهم من الأدراع والمغافر الحديدية وقد قال بعض قواد صفين ولقيت جبال الحديد يدك بعضها بعضا وجبال الحديد هذه يوم الطف قد لاقاها أبو الفضل العباس بجبال أعظم منها دكها بها وهي عزمه وثباته ونجدته وبأسه وحفاظه وبصيرته ويقينه فهو فرد من شخصه جموع في صفاته.

ولكم له من غضبة مضرية           قد كاد يلحق بالسحاب ضرامها

يشير بهذا البيت إلى قول شاعر مضر وفارسها في عصر الجاهلية :

إذا ما غضبنا غضبة مضرية                 هتکنا حجاب الشمس أو قطرت دما

وأستعار المعنى الأديب الأزري لأن أبا الفضل العباس أحق به وأولى لأنه صدق قوله بفعله وقد قال القحطاني: نحن حي فعال لا حي مقال لكن أبو الفضل من حي فعال ومقال، وغضبة أبي الفضل كما يتحدث بعض الخطباء تركت الخيل يسحق بعضها بعضا.

أغرى به عصب أبن هند فانثنت              كلح الجباه مطاشة أحلامـها

ثم أنثني نحو الفرات ودونــــــــه              حلبات عادية يصل لجامـها

فكأنه صقر بأعلى جوهــــــــــــا              جلى فحلق ما هناك حمامها

أو ضیغم شئن البراثن ملبــــــــد               قد شد فأنتثرت ثباً أنعامها

لولا أن سنة العرب الجارية عند شعرائهم وسيرة أدبائهم المتبعة منذ أول العصور العربية إلى اليوم من تشبيه البطل المرهوب بسباع الطيور الخاطفة كالصقور الكاسرة وضواري الوحوش الهائجة كالضواري المفترسة وذلك إذا راموا المبالغة في الشجاعة والإقدام لأنكرنا على هذا الشاعر البليغ تشبيه العباس «عليه السلام» بالصقر والضيغم لكن قد أوضح العذر له أبو تمام الطائي وقد مدح أحد عظماء آل خاقان بقوله:

 

(414)

إقدام عمرو في سماحة حاتم          في حلم أحنف في ذكاء أياس

فقال بعض من يعاديه : الأمير أجل من جميع من شبهته فيه، فقال مجيباً على الفور:

لا تنكروا ضربي له من دونه         مثلا شرودة في الندى والبأس

فالله قد ضرب الأقل لــــنوره                  مثـــــلا من المشكاة والنبراس

وهذا العذر يكفي الأزري وإلا فما قيمة الصقر والأسد في جنب شجاعة العباس «عليه السلام».

فأبت نقيبته الزكية ربهـــــــــا         وحشا أبن فاطمة بشب ضرامها

وكذلكم ملأ المزاد وعبهـــــــا         وأنصاع يرفل بالحديد همامهـــا

حتى إذا دانا المخیم جلجلـــت         سوداء قد ملأ الفضا أرزامهـــــا

فجلا تلاتلها بجاش رابـــــــط         فتقاعست منكوسة أعلامهــــــــا

ومذ استطار إليهموا متطلعـــاً         كالأيم يلهب بالشواظ سمامهــــا

حسمت بدیه بد القضاء بمبرم         ويد القضا لم ينتقض إبرامهــــا

وإنما أحال هذا الأديب قطع ید العباس «عليه السلام» على مبرم القضاء ومحتوم الأقدار لأن الدنو منه ليس في مقدور الأبطال والأقتراب إليه لم يكن في وسع الشجعان لصولته المرهوبة وسطوته المخشية فإن الأسد إذا صال أرعب، والفيل إذا هاج حطم، والصقر إذا أنقض خطف، والقنيص لا يفلت من خالب البازي، والفريسة لا تخلص من أنياب الضاري، فكل بطل في حربه محايد، وكل کمي جريء عن لقائه متباعد فهم في تأخر وتقهقر وفرار وإدبار يمطرون عليه من بعد شآبيب السهام، ويشرعون أجمات الرماح وهم على الأدبار مقعون وعلى الأعقاب ناكصون حتى مكنهم القضاء المبرم من الاختفاء خلف النخيلات الجاثمة على ضفاف المسناة وهذه أخت السدة التي مكنت الخوارج من أبيه فارس الإسلام وبطل العرب فالقدر أتاح لهذين الصنفين الشريرين مكامن من نخلات وسقوف الاغتيال الليثين والتمكين من الأسدين.

وإعتاقه شرك الردي دون الشرى             أن المنايا لا تطيش سهامهــــا

الله أكبر أي بدر خـــــــــــــــرمن              أفق الهداية فاستشاط ظلامــتها

فمن المعزي السبط سبــــط محمد             بفنى له الإشراف طاطا هامها

 

(415)

وأخ کریم لم يخنه بمشهد      حيث السراة كبا بها إقدامها

أيها الأديب من بقي مع السبط فيعزیه بهذا الأخ الكريم وقد قتل جميع الأحبة لعلك تستنهض النسوة المذاعير إلى تعزیته وتستصرخ العقائل الثكلى في الإسراع إلى تسليته؟ نعم قمن بذلك المهم عند عودته من مصرعه هذه تقول أين أخي؟ وهذه أين عمي؟ وهذه أين حماي وحارسي؟ وهذه أين كفيلي في مسيري؟ وهذه أين مروي لهفة ظمأي؟

تالله لا أنسى ابن فاطم إذ جـــلا                       عند العجاج يكفهر قتامهــــــــــا

من بعد أن خطم الوشيح وثلمت                       بيض الصفاح ونكست أعلامها

وافی به نحو المخيم حامـــــــلاً                       من شاهقي علياء عز مرامــها

وهوي عليه ما هنالك قائــــــلا                        اليوم بان عن اليمين حسامــها

اليوم سار عن الكتائب کبشـها                 اليوم بان عن الصلاة إمامهـــا

اليوم آل إلى التفرق جمعـــــنا                 اليوم حل عن البنود نظامهــــا

اليوم خر عن الهداية بدرهـــا                 اليوم غب عن البلاد غمامـهــا

اليوم نامت أعين بك لم تـــنـم                 وتسهدت أخرى فعز منامـــــها

تأبين العباس «عليه السلام» وشرح المؤلف لبعض الأشعار

 

نحن لا نتفق مع هذا الأديب في رأيه أن الحسين حمل العباس «عليه السلام» إلى المخيم وقد سبق ذلك، ولا في رأيه أن الحسين «ليه السلام» قال: آل إلى التفرق جمعنا، ولا جمع لديه نسوة وأطفال ومريض عليل وبعض الأعبد الأرقاء.

لكنا نتفق معه على رأيه الأخير اليوم نامت أعين، والصواب داعي الوفاق حيث أن أهل الكوفة مع كثرتهم وكثافة جيشهم كانوا لا ينامون الليل في حياة العباس «عليه السلام» فهم يتحارسون خوفا منه أن يهجم عليهم أو يبيتهم كما هجم عليهم في ورد الشريعة ليلة العاشر قهراً بحد السيف وأستولى عليها بالغلبة وأنشمرت تلك الألوف أنشمار الريشة في الهواء العاصف فملأ الأسقية والقرب وأوصلها إلى مخيم الحسين «عليه السلام» وجيش الأعداء راغم فلبقاء أثر تلك الرهبة في صدورهم فهم لا ينامون ويتحسسون أنبائه كما ينحسس القطا شخص الصائد.

 

(416)

ومن في مخيم الحسين «عليه السلام» کانوا واثقين بحراسته لهم والليث في باب العرينة يزأر من يقتحم فكل من في الخيم من رجال ونساء مطمئن بحياطة لهم منه في حمى منيع الجانب وحصن راسخ الأركان وثیق الرتاج فهدئوا وأطمئنوا فناموا وعند فقده تبدلت الأحوال وأنعكس الوضع؛ فأمن الخائف فنام، وأنزعج الآمن فساهر وما غفت له عين واكتحل بغمض مقلة.

أشفيق روحي هل تراك علمـــت إذ           غودرت وأنشالت عليك لئامها

إن خلت أطبقت السماء على الثرى           أو دكدكت فوق الربی أعلامها

لكن أهان الخطب عندي أنـــــــني             بك لاحق أمرا قضی علامــها

ولهذه القصيدة بقية تركتها، وقال آخر في رثاء العباس الأكبر «عليه السلام»:

أني ويوم الطف أضرم في الحشا             جذوات وجد من لظى سجين

يوم أبو الفضل أستفرت بأســـــه              فتيات أحمـــــد أو بنو ياسين

في خبر أنصار براهم ربهــــــم               للدين أول عــــــــالم التكوين

نعم، هم خير أنصار بأعتبار أجتماع صفات الفضل ومزايا الحمد فيهم بحيث لم يفقدوا خصلة واحدة من خصال المجد والفخر، ولا فضيلة من فضائل الإنسانية فقد تكاملت لهم صفات المفاخر وأجتمعت فيهم متفرقاتها، وبالإضافة إلى ما تحملوا من عظيم البلاد وقد صح الحديث المروي من الطريقين ومعناه أن الأجر يتضاعف بتضاعف البلاء ولهذا كان البدريون أفضل الصحابة وكلما كانت المشقة أشد والابتلاء أعظم كان الجزاء أوفر والأجر أكبر والحباء أكثر لأن الأجر على قدر المشقة وأفضل الأمور أحمزها.

ولا نعرف في كل الأنصار من يمكن أن يقاس في أنصار الحسين «عليه السلام» وربما يشتبه على البسطاء والسذج جهة المفاضلة بينهم وبين أنصار النبي (ص) في بدر وأحد ونحن إذا قایسنا بين شهداء كربلاء وشهداء بدر وجدنا لأصحاب الحسين «عليه السلام» أعمالا توجب لهم التفضيل والتقدم على من استشهد مع النبي (ص) و في يوم بدر، لا من حيث فضيلة النبي (ص) و فإن ذلك مفروغ منه من أنه سيد ولد آدم وبه فضل الحسين «عليه السلام» بل من حيث فضيلة الشهيد معه في نفسه وفي حد ذاته وحقيقة شهادته التي هي سبب مفاضلة الشهداء وامتیاز بعضهم على بعض إذ لا شك أن حمزة وجعفر أفضل الشهداء مع النبي (ص) ولا يقاس بهما شهید معه وكذلك مراتب من عداهما تختلف ولا ريب في فضل

 

(417)

عبيدة بن الحارث بن المطلب على عمير بن الحمام الأنصاري وسعد بن الربيع على أصيرم عبد الأشهل وكلاهما من شهداء أحد مع النبي (ص) فأختلاف الدرجات وتباين المنازل مع اتحاد الجهة لا يكون إلا لتمايزهم بالفضيلة والأهلية مع وحدة الصحية والشهادة معه فإذا صرحت الحقيقة بأن التفاضل مکتسب بالأعمال والتمايز إنما يكون بالصفات فقد تصحر الحقيقة لطالبها ويسفر الواقع لرامقه بأن شهداء الطف أفضل الشهداء من الوجهتين النفسية والعملية معاً.

أما من حيث الصفات النفسية فنحن إذا قایسنا بين عمیر بن الحمام الأنصاري «رضوان الله علیه» وسواد بن غزية الأنصاري الشهيدين ببدر مع النبي  (ص) وبين حبیب بن مظاهر الأسدي وبرير بن حضير الهمداني «رضوان الله عليهما» وجدنا الفرق بين شهيدي بدر وشهيدي كربلاء كالفرق بين الفرقدين والبدرين بكل صفة من الصفات المقدرة المحترمة نحو العلم والزهد والشجاعة والصلاح وغير ذلك مما عرفا به فإن عميرة وسوادة وإن كانا من سابقي الأنصار إلى الإسلام وقديمي الصحبة للنبي (ص) ولكنهما من بعض الأنصار وليسا من الزعماء ولا العلماء ولا الزهاد المعروفين بالزهد أمثال عمار بن یاسر وأبي ذر ومصعب بن عمير، ولم تذكر لهما سوابق في شجاعة أو کرم كما ذكر لحبيب وبرير وأضرابهما من أنصار الحسين «عليه السلام» الذين شهدت لهم الفتوحات والمغازي أيام الخلافة الإسلامية.

      أما ناحية العلم والزهد فحبيب من الرواة للحديث والفقهاء المشهورين وحملة علوم المغيبات عن سيده وسيدنا أمير المؤمنين «عليه السلام»، وبریر سید القراء بالعراق وأستاذهم ومعلمهم بجامع الكوفة، والقارئ عندهم من يجمع العلوم الدينية كلها من الفقه والتفسير والحديث وعلوم العربية والزهد والعبادة.

ومن ناحية المجد والسؤدد کلاهما كان من سادات قومه وأشراف أهل الكوفة ووجوه العرب ممن يأخذ شرف العطاء.

ومن ناحية الإخلاص والتفادي فقد علم كل أحد الفارقة بين الطفيين والبدريين فقد بات شهداء الطف ولهم دوی کدوي النحل بالعبادة وتلاوة القرآن والذكر حتى الصباح قد أحيوا الليل تهجدة وأزدحموا على فسطاط الحسين «عليه السلام» ليطلوا ويغتسلوا يفاضل غسالته بضاحك بعضهم بعضا ويداعب بعضهم بعضا وقد أحاط بهم جيش لو قسم على أفرادهم لكانت حصة الواحد منهم أكثر من مائة، وبات البدريون أمام قريش ولو وزع جيشهم على أفرادهم لكانت حصة

 

(418)

الواحد منهم ثلاثة رجال وفيهم سيف الله الغالب علي بن أبي طالب وأسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب مرعبون وجلون من قريش حتى يبست حناجرهم ولصقت ألسنتهم حتى كانوا يعالجون تحريكها بصعوبة وشدة لمكان الخوف، ولولا أن من الله فألقى عليهم النعاس فناموا لوقع ما لا تحمد عاقبته ولكنه ستر بمنه وهم مع وعد الله إياهم بإمدادهم بألوف من الملائكة وأمدهم بها فعلا لم تطمئن أنفسهم تمام الاطمئنان ویرومون التفلت من هذا الموقف الرهيب وودوا لو أن النبي (ص) و أطاعهم في الانسحاب عن هذا الميدان ليقفوا أثر القافلة وكلما أستشارهم النبي (ص) أشاروا عليه بذلك وهو يريد أن يشيروا عليه بالإقحام على قريش فيشيرون بالتقهقر إلى القافلة ليشاع بين العرب أن محمدا فر من بين يدي خصومه ورضا أن يكون قاطع طريق فهذا رأيهم وسره الخوف من قريش فإن المنايا منتصبة أمامهم بخيالهم، والسلامة والنجاة من القتل بترك الخطة ومغادرة الميدان إلى السير وراء القافلة التي قد أفلتت أسلم، وفي جميع هذه قد ذمهم القرآن المجيد، فاتلوا الأنفال تجد ما ذكرنا وإلا فالتاريخ أمامك.

وأما شهداء الطف فقد أعطوا الرخصة في الأنصراف فأبوها وتلك التي يتمناها البدريون فقد أعلن الحسين «عليه السلام» وصارحهم بقوله: قد أذنت لكم في التفرق عني والأنصراف إلى سوادكم وعشائركم فأتخذوا الليل الذي غشیکم جملا وأمضوا فأنتم في حل من بيعتي لا حرج عليكم ولا ذمام، فيتفق جوابهم جميعا في المعنى وإن اختلف اللفظ وهو التفاني دونه وافتدائه بأنفسهم ولا يقنع الواحد منهم دون أن يتمنى أن يحرق دونه یوذری مرارا عديدة يبلغ بها السبعين مرة وإنه لم يفارقه ويود الآخر أن يقتل وينشر مراراً ينتهي بها إلى الألف ثم صدقوا القول بالفعل فجعلوا يتلقون السيوف بنحورهم والرماح بصدورهم حتى وقف بعضهم أمامه مستهدفة للسلاح بجسمه ويرمي آخر درعه ومغفره ويلقاهم حاسراً.

این مقام هؤلاء من مقام أناس تغيرت ألوانهم رعبا وذبلت شفاههم خوفا والرسول يخبر بالظفر بان الله وعده إحدى الطائفتين بعكس أصحاب الحسين «عليه السلام» الذين أخبرهم بالقتل فطمئنهم الله نزولا عند رغبتهم ليطمئن العرب الضارب ويسكن النبض المتحرك بسرعة من الخوف بقوله لرسوله (ص) : (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)(1) وهو العلم أن قريشاً لا تجنح للسلم حين قادها البذخ والخيلاء لكن أراد تسكين قلوب أصحاب النبي (ص) وقد أعلمنا أن قائدهم

___________

 (1) الأنفال: 6۱.

 

(419)

رسول الله (ص) الذي كان يقول فيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»: كنا إذا حمي الوطيس لذنا برسول الله (ص)، وفيهم سيف الله الغالب علي بن أبي طالب، وفيهم أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب وجبرئیل وميكائيل وإسرافيل كل واحد من ألف مالك ومع ذلك تصفر الألوان وتلكح الوجوه وتذبل الشفاه وتيبس الألسن والحناجر من دون عطش، إنما هو الرعب، فجعلوا يلوكون ألسنتهم وباتوا بليلة هي أطول ليلة مرت على أحدهم لولا أن رماهم الله بالنعاس فناموا قهرا فقال: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ)(1) ثم استيقظوا كما ناموا مرعوبين فطمئنهم بالإمداد الروحانية فقال: (أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ)(2) فما أطمئنوا كمال الاطمئنان وكأنهم استقلوا العدد فأنزل الله تبييتاً لهم: (بَلَىٰۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ)((3.

ولم يتجاسروا على الأستقاء من الماء لقربه من جيش قريش وهم أكثر من ثلاثمائة رجل ولم تحرس قريش الماء بالأسنة والسيوف كما حرس أهل الكوفة مشارع الماء وحمته على الحسين «عليه السلام» وأصحابه ورسول الله هو المتسلط على الماء وقد أخذ عبید قريش الذين يستقون لهم ومع ذلك فقد هابت الصحابة الدنو من الماء لقربه من عدوهم فأستقي لهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» ثم يجزع بعضهم من الوقوف في صف أصحابه فيلوذ في العريش متدرعة برسول الله (ص) إذ قام على رأسه الحرس برئاسة سعد بن معاذ الأشهلي سيد الأوس أفيقاس هذا بالحنفي الذي قام هدفا للسلاح أمام الحسين يتلقى بصدره ونحره كلما يقصد به الحسين «عليه السلام» من سلاح حتى سقط ميتا؟ لا قياس إن حكم الإنسان وجدانه وأطاعه ضميره السليم بنبذ العصبية والهوی.

ثبت الله البدريين بأمور منها إرسال النوم عليهم وتقليل الأعداء في أعينهم وأمره النبي (ص) بقبول الصلح من قريش ووعده بالمدد الروحاني وهو صادق في جميع ما وعد به لا يخلف وعده، ووعده لهم بالظفر بإحدى الطائفتين وحيث فاتت القافلة فالظفر بالنفير محقق و مدد الملائكة حصل فعلا وكل هذه الأمور لم تكن لأصحاب الحسين «عليه السلام» فأحيوا الليل بالعبادة والقراءة فما غمضت لواحد منهم عين، وشهادة الحسين «عليه السلام» يقينية فأنتفت نصرة الملائكة ولا وعد

___________

(1) الأنفال:۱۱.                          (۲) آل عمران:۱۲4.

(3) آل عمران:۱۲5.

 

(420)

 

لهم بالظفر والغلبة بل الوعد بالعكس وعلى النقيض وهو القتل لا غير، ولم يمل الحسين «عليه السلام» لصلح وقد أخبرهم أنه لا يصالح بني أمية ولا يسالمهم وقد قال: إن يومنا من هؤلاء عصيب، وقال لهم : إنكم تقتلون جميعاً ولا ينجو منكم غير ولدي زين العابدين فقد رحبوا بتلك البشائر وفرحوا بتلك النعم.

الشهادة مع الحسين «عليه السلام» سعادة ما مثلها سعادة، وشرف لا يدانيه شرف.

وقد كان عددهم أقل من عدد البدريين بمقدار النصف على أكثر ما قيل، وعلى العشر على المشهور، وجيش العدو يربي على أعدادهم بالمئات، وأهل بدر بالآحاد وطريق الإمداد عليهم مقطوع، ومقطوع عليهم خط الرجعة ومطوقون بجیش العدو، وكل هذه الأمور منتفية عن البدريين على أن للبدريين عاصمة يرجع إليها فلهم فيعتصم بها ويستمدونها فتمدهم وإن طلبوا النجدة جائتهم بدون عائق في أسرع وقت وليس ذلك لأصحاب الحسين «عليه السلام» ومع هذا كله إنه لما أشتد الأمر بأصحاب الحسين «عليه السلام» وصرحت الحقيقة أنه الموت الكريه المر الطعم أزدادت نفوسهم أنشراحاً وبصائرهم يقينا وألوانهم إشراقاً وثغورهم ابتساماً وغررهم تلألئاً ولمعاناً، وجباههم إضاءة واستنارة، وتسابقوا إلى المنية تسابق الهيم إلى الورد فكان الواحد منهم يتلقى الأسنة والحداد بصدره ونحره ولبة قلبه شوقاً لمعانقة الحور العين، وقد قال برير لعبد الرحمن: ما بيننا وبين أن نعانق الحور العين إلا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم.

وضجتهم بالدعاء والاستغفار المطمئن الهادء البال المستقر، لهم دوي کدوي النحل بين راكع وساجد ومبتهل ومتضرع إلى الله حتى أضاء الفجر ولاح نور الصباح وخيل الأعداء تجول حول مخيمهم بقيادة عزرة بن قيس، وفي الخيل شر خلق الله وأخبثه وأفتکه وأجرأه على الدم الحرام أمثال أبي حرب السبعي وكثير ابن عبد الله الشعبي وأضرابهما من الفجرة الغدرة وقد هاجموهم قبل أن يتضح النهار فثاروا لمناياهم ثورة الإبل المعطشة لورد الماء، ووردوا حياض المنون ورود الهيم.

والابتلاء الذي أحاط بهم قد تبين مما ذكرنا من أنقطاع الإمداد عنهم وقطع خط الرجعة عنهم، وتطويق العدو إياهم والحصار الذي فرضته القيادة الكوفية

 

(421)

 

عليهم بمنع وصول الأرزاق إليهم وصدهم عن ورد الشرائع فلا طعام ولا ماء وهم في ذلك ينقصون مع قلة عددهم بالقتل وجیش العدو يزداد بالإمداد إلى غير ذلك مما ليس هذا موضع ذكره، وقد يئسوا من السلامة التي يرجوها البدريون لمن نهضوا بالدفاع عنه وهو سيد الشهداء الحسين «عليه السلام» والبدريون يثقون بسلامة الرسول بسبب مواعيد الله تعالی له بذلك فهم يثقون بسلامة النبي (ص) ويرجون السلامة لأنفسهم، والطفيون يقطعون بقتل الحسين «عليه السلام» ولا يرجون لأنفهسم النجاة من القتل ودلائل ذلك قد بانت لهم من وجوه شتی، وأقواها إخبارات الحسين «عليه السلام» لهم بذلك وإصرار الأعداء على قتلهم وأستعمالهم معه وسائل الإرهاب ورده النصر الإلهي الذي جائه من الله وبه نجی البدريون، فقد أمد الله الحسين «عليه السلام» برعيل من الملائكة وفريق من الجن المسلمين فرد الزمرتين اختيارة للشهادة وهذا ما يقوله الشيخ كاظم الأزري البغدادي «رحمه الله» في رثائه:

فأصدر النصر لم يعبأ بمورده              فعاد حيران بين الورد والصدر

وأي أمل لإنسان طوقه جیش العدو وقطع أنفاسه وأخذ عليه بالمخنق وحال بينه وبين من يحمل إليه الأخبار فضلاً عن حمل المؤون والإسعافات بتثبيت مراکز حربية على طول الخط من عين التمر (شفاثة) إلى العذيب والبصرة فمن أين تصل إليهم المواد الغذائية، ففقدوا المؤنة من سائر المغذيات والإسعافات من الأدوية وسائر ما يصلح للجرحى والقتلى ولا مدد ولا سلاح إضافي ولا رواحل إن عطبت رواحلهم، ومن كان في الكوفة وبلدان العراق من أنصارهم بين من عرف فسجن أو جعلت عليه الإرصاد، وبين من لم يعرف وعاقته الجيوش الكثيرة عن الاتصال بهم، فمن خرج من الكوفة أرغم على الرجوع إليها، ومن أخد في الطريق زج في أعماق السجون ولهذا توصل بعضهم بالجيش المحارب حتى وصل إليهم لأنه خرج بصفته محارباً لهم حتى إذا قابل جيش الحسين «عليه السلام» مال إليه وصار معه.

كما حدثنا التاريخ عن أبي الشعثاء الكندي وثلاثين رجلا، وأما أهل الأمصار فلا يلج أحد منهم ولا يخرج لتنظيم المخافر على طول الخط من حدود الشام إلى البصرة وبهذا أخذت رسل الحسين «عليه السلام»ودعاته فقتلوا كعبد الله ابن يقطر الحميري وقيس بن مسهر الصيداوي .

فهذا من الابتلاء الذي يوهن العزائم ويضعف الهمم ولم يؤثر في أصحاب

 

(422)