موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

على دويبة ضعيفة متقلدة سيفة فحين رأيته أستربت منه وأنكرته ورأيت الشر في عينيه، فقلت: ما تصنع هاهنا؟ فقال: قضيت حوائجي وأريد الرجوع وصحبتك آثر عندي من صحبة غيرك ، فقلت : علي إسم الله ، وما زلت متحذرأ منه وهو مجتهد أن أدنو منه فلا أفعل، فكلما دنا مني بعدت عنه إلى أن سرنا شيئا يسيرا وليس معنا ثالث فقصر عني وأحتثت الحمار لأفوته فما حسيت إلا بركضه، فالتفت فإذا هو قد جرد سيفه وقصدني، فرميت بنفسي عن الحمار وعدوت، فلما خاف أن أفوته صاح : يا أبا القاسم إنما مزحت معك، فلم ألتفت إليه فقرع دابته وزاد في التحريك وبان لي ناووس فطلبته وكاد الأعرابي أن يلحق بي فدخلت الناووس وراء بابه .

قال : ومن صفات تلك النواويس أنها مبنية بالحجارة وباب كل ناووس حجر واحد عظيم قد نقر وجفف وملس فلا تستمكن اليد منه وله في وجهه حلقة وليس من داخله شيء تتعلق اليد به وإنما يدفع من خارج فينفتح فيدخل إليه وإذا خرج منه وجذبت الحلقة أنغلق الباب وتمكن إردامه من ورائه فلم يمكن فتحه من داخل.

قال : فحين دخلت الناووس وقفت خلف بابه وجاء الأعرابي فشد دابته في حلقة ودخل يريدني مخترطا سيفه والناووس مظلم فلم يرني ومشي إلى صدر الناووس فخرجت أنا من خلف الباب وجذبته معي حتى صار الباب مردودا وحصلت الحلقة في رده هناك وحللت الدابة وركبتها، فجاء الأعرابي إلى باب الناووس فرأى الموت عيانة فقال : يا أبا القاسم! أتق الله في أمري فإنني أتلف.

   قلت له : تتلف أنت أهون من أتلف أنا، قال: فأخرجني وأعطيك أمانة وأستوثق مني بالأيمان أني لا أتعرض لك بسوء أبدا، وذكر الحرمة التي بيننا، قلت : لم ترعها أنت وأيمانك فاجرة لا أثق بها في تلف نفسي، فأخذ يكرر الكلام، فقلت له : لا تهذي هو ذا أركب دابتك وأجنب حماري والوعد بيننا بعد أيام هاهنا فلا تبرح حتى أجيء، وإن احتجت إلى طعام فعليك بجيف العوج فنعم الطعام لك، وأخذت ألهو به وركبت دابته وجنبت دابتي ووجدت على دابته خرجا فيه ثياب يسيرة.

فجئت إلى نصيبين فبعث الثياب وكانت دابته شهباء فصيرتها دهماء وبعتها لئلا يعرف صاحبها فأطلب بالرجل وأتفق أنه أشتراه رجل من المحتاجين وكفیت أمره وأنكتمت القصة.

فلما كان أكثر من سنة عرض لي الخروج إلى رأس العين فخرجت في ذلك

 

(309)

الطريق فلما لاح لي الناووس تذكرت فقلت: أعدل إلى الناووس وأنظر إلى ما صار إليه أمره، فجئت إلى بابه فإذا بابه كما تركته ففتحته ودخلت فإذا أنا بالأعرابي وقد صار رمة، فلا زلت أحمد الله وأشكره عز وجل على السلامة ثم حرکته برجلي وقلت على سبيل العبث: ما خبرك يا فلان؟ فإذا صوت شيء يتخشخش ففتشته فإذا هميان فأخذته وأخذت سيفه وخرجت ففتحت الهيمان فإذا فيه خمسمائة درهم، وبعث السيف بعد ذلك بجملة دراهم، إنتهی .

ولهذه الحكاية أخوات لا يحتملها الكتاب وهي تصف لنا الناووس وأنه من مقابر الكفار الذين يعبر عنهم العرب المسلمون بالعلوج لأن العلج عندهم الكافر الأعجمي من أي لسان كان.

وإذا عرفت هذا فأعرف كلام الحسين «عليه السلام» في خطبته المشهورة التي خطبها بمكة حين عز على المسير إلى العراق «كأني بأوصالي تتناهبها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء» ولم أجد أحدا من الشعراء من ذكر النواويس ولكن ذكرتها أنا بقولي:

فـــــســـار عن البيت الحرام فديته                يــــؤم بــــلاد الغدر بالأهل والثقل

تــــحـــــف بــــه من خبرة الله فتية              مساعير حرب من شباب ومن كهل

أبـــــــوهـــــم علي ليث كل كريهة             وكــــل مـزايا الليث تودع في الشبل

إلى أن أناخت في النواويس عيسهم            أتــــتـــهم جـــــيوش من أمية كالنمل

    وهي قصيدة في مرثية الحسين «عليه السلام» وقلت أيضا:

عند النواويس أجساد موزعــــة               من آل ياسين في صال من البـيد

فيــــهم عزیز رسول الله منجدل               على الصعيد ثلاثة غير ملحـــود

ورأسه وهو رأس الفخر مرتفع                يتلو من الكهف آيات على المـيد

وكـــــــــل رأس تلاه من أحبته                كأنه فرقد في رأس أمــــلـــــود

عقر کربلاء وعقر بابل

هنا قريتان : عقر کربلاء، وعقر بابل، أو عقر الملك كما سماها الطبري، وأختلط على ياقوت الحموي ومقلديه فخلطوا بين العقرين وأنا أقوم إن شاء الله بإيضاح هذا الغلط بعد إيراد كلام من صدر منه وأقيم الأدلة على كشفه وبيانه بما تتجلى به الحقيقة ويذهب الشك إذا كان البحث لا يلزمنا بأتباع الشخصية ولا

 

(310)

يرضى لنا أن نقول قال فلان، ولا يجوز لنا تقليد المخطئ أيا كان إنما يلزمنا بأتباع الصواب وتقليد الحقيقة الواضحة خصوصا في بلادنا فأنا أعرف بها من غيرنا .

أول من خلط في ذلك الحموي في معجم البلدان فظن أن عقر بابل هي بعينها عقر نينوى نظرا للمروي في مقتل الحسين «عليه السلام» وأنه قال : ما إسم هذه القرية؟ قالوا: العقر، فقال : نعوذ بالله من العقر، وقد كان الحموي يسمع أن في بابل عقرة فظنه هذا، فقال : وبه قتل یزید بن المهلب، وتبعه على هذا الوهم جماعة من المؤرخين مثل القاضي ابن خلكان في وفيات الأعيان في ترجمة يزيد بن المهلب وغيره ممن قارب عصرنا ومن يعد نفسه متبحرة متبعة لمن سبقه ولا عذر للعراقي أن يجهل بلاده ما يجهل الرومي والتركي، وكنت كثيرة أتعجب له يقلد في التعريف ببلاده وهو يستطيع العلم أختبارة لا تقليداً.

والتحقيق أن بالعراق عقرین : عقر کربلاء وعقر بابل، وتسمى أيضا عقر الملك، والدليل أن عقر بابل غیر عقر کربلاء أن البابلية محاطة بأنهار ومياه، والكربلائية محاطة بمفازة وبيداء سوی نهر يمر بها يسقي بساتينها ونحرر للتفرقة بينهما أُمور:

أحدها: كثرة المياه في الموضع الذي قتل فيه ابن المهلب لما ذكر في مقتله من كثرة الجسور. ولو كان في البقعة التي أستشهد عندها الحسين «عليه السلام» جسور على أنهار لما عطش الحسين «عليه السلام» وإنما عطش لأن في كربلاء نهر واحد صغير نزل على ضفته الأعداء وأوثقوا الأستحكام على شرائعه وذلك النهر لا يكون أكبر من نهر الحسينية بكثير ولو أحرق جسره أو قطع لا يعوق المنهزم الإمكان خوضه وسعة البادية في جانبيه بخلاف العقر الذي تحيط به أنهار كثيرة بحيث تمنع المنهزم بغزارة مائها وكثرتها، أما جدول العلقمي وفروعه الصغيرة لا تصد منهزمة ولا تحول بينه وبين الفرار لسهولة خوضه واقتراب ضفتيه بعضهما من بعض .

ثانيهما: إن مسير ابن المهلب كان من واسط أو قضاء الحي الحالي إلى العقر على الطريق الذي يوصل إلى الحلة من طريق عفك والدغارة فالديوانية فأراضي الشافعية فعقر بابل.

ثالثها: الحرس الذي أقامه بنو أمية في النخيلة (جسر العباسيات) يمنع أهل الكوفة من نجدة أبن المهلب يعين أن مقتله في عقر الشامية لأن طريق من أنجده

 

(311)

من أهل الكوفة النخيلة ولو كانت عقر کربلاء لتركوا طريق النخيلة وتسربوا إلى نجدته من الظهر ظهر الكوفة النجف الأشرف على موضع خان الحماد أو خان جضعان فذاك مسلك فسيح وطریق واسع لا تتسلط عليه قوة الحرس الذي بالنخيلة .

رابعها: إن العباس أبن الوليد أحد قواد جيش بني أمية نزل بسورا وسورا هي الهاشمية أو الجربوعية الحالية وفراتها يسمى لذلك نهر سورا وتطلق سورا على كافة أراضي العذار فإذا كان جيش بن أمية في الهاشمية فأبن المهلب في عقر الشامية وما أبعد ما بين الجربوعية وكربلاء في جیشین ملتحمين في الحرب.

خامسها: إن قائد القوات الأموية الأول مسلمة بن عبد الملك المرواني بعد ظفره بابن المهلب عاد فنزل الحيرة الطريق من الشامية إلى الحيرة (أو الجعارة) على أبي صخير معروف ولو كان من كربلاء لما تجاوز الكوفة .

سادسها: إن قواد بني أمية لما أقبلوا لحرب أبن المهلب أقبلوا على خط الفرات من هيت وعانة فالرمادي إلى الأنبار فعقدوا الجسر وعبروا منه إلى الجزيرة ولو كان مركز ابن المهلب في كربلاء ما أحتاجوا إلى عقد جسر ولساروا على ضفاف الفرات الغربي حتى يصلوا على كربلاء فأي فائدة من هذا العناء بعقد جسر العبروا منه ثم يعقدوا مرة أخرى جسرة يعبروا به إلى ملاقات عدوهم؟!

كل هذه المرجحات يستبين منها جليا أن عقر التي قتل عندها أبن المهلب هي عقر المهناوية لا عقر الطفوف وهذا إسمها إلى اليوم عقر (عكر) وهي مشهورة بغزارة المياه وجودة الأرز وكثرة الصيد من أسماك وطيور وهي تابعة لقضاء الشامية لواء الديوانية وهي كثيرة المياه صالحة لأن تعقد عليها جسور كثيرة للعبور عليها لكثرة أنهارها وأتساع فوهاتها وغزارة مياهها.

فإذا عرفت هذا عرفت خطأ الحموي وابن خلكان ومن أتبعهما أتباع الأعمى القائده إذ ربما تردي في هوة فسقطاً جميعاً.

وهناك إشارة من الإمام الحسين «عليه السلام» إليها بقوله «ما تسمى هذه» هي قرية قريبة من منزله قرب الغاضرية ونينوى واقعة على ضفاف جدول العلقمي ولا تليق لعقد الجسور عليها و«ذا» و«ذه» يشار بهما إلى الحاضر القريب وتزاد فيهما الهاء فيقال : هذا وهذه كما صرح به بدر الدين في شرح الألفية.

على أن أكثر المقاتل لم تذكر العقر والتحقيق كما ذكرنا أن في العراق عقرین : عقر في بادية كربلاء على ضفاف العلقمي، وعقر في المستنقع الطامي بين

 

(312)

أراضي الشامية والحلة وهو من أراضي الشامية والطريق إليها غير الطريق الذي بصفه المسعودي وهو كما ذكره لي بعض الخبراء بتلك الأرض وهذا لفظه العامي السائر إليها من الكوفة يتجه جنوبا شرقيا فأول مرحلة يمر بها قرية أبو شورة وهي ناحية تابعة لقضاء الشامية فإذا أجتازها مر بقرية الصليحية وهي ناحية أيضا وعشائرها هم بنو حسن، وإذا أجتازها مر بقرية المهناوية وعشائرها آل فتلة، ثم قرية (عكر) العقر وعشائرها يقال لهم الكرد، ثم بلدة الشامية المعروفة أولا بالحميدية قريبة من أم البعرور المضمحلة، و(عكر) العقر نهر أو شط كما يقال اليوم عظيم صدره من الفرات المسمى أبو أجفوف و (بزايزه) يريد مصب مياهه أو (مبزله) في المستنقع العظیم (البرقة) المسمات بالسلهوة بين قضاء الشامية ولواء الديوانية والحلة ، إنتهى كلام هذا .

ويصفه لي خبير من خطباء المنبر الحسيني وكان يتردد إلى تلك الأراضي وخاصة قرية ساقان (ساكان القريبة من (عكر) العقر يقول (تل عكر) مشرف يسمى عند العوام (أيشان) عكر والسائر إليه من الكوفة يعبر جسر الكوفة الحالي ثم يتجه مشرقة إلى قرية أبو شورة وهي الآن ناحية تابعة لقضاء أبو صخير(1) ثم يركب في أحد السفن الراسية على ضفاف نهر القرية ثم يمضي في الشط الكبير وهو أبو اچفوف حتى ينتهي إلى نهر (أبو سمچ) وهو فرع من شط أبو اچفوف فيمضي في ذلك النهر مقدار نصف ساعة فيصل إلى (أيشان عكر) وهو محاط بالنخل وفيه قرية أبنيتها من القصيب وجريد النخل (صرايف) يسكنها كثير من أهل النجف والكوفة وغيرهم من العشائر وهو يأتي من قرب ناحية الصليحية التابعة لقضاء الشامية وعند وصوله نهر (أبو سمج) إلى (أيشان عكر) ينفصل فرع منه يقال له نهر أغضيب على جهة اليمين ينحدر على بعض أراضي الكرد والسادة آل أبو جميع وهم بالقرب من (أيشان عكر) مقابلون له، والفرع الثاني على جهة اليسار ينحدر أيضا على أراضي الكرد عليه عامة عشائر الكرد، إنتهی .

أما الكاتب المعاصر الأستاذ محمد علي جعفر التميمي فنصه في كتاب قلب الفرات الأوسط(2) في قبيلة الكرد بذكر تنقلهم في المواطن يقول : ثم أنتقلوا إلى (عكر) الواقعة في ناحية الصلاحية كما هي منازلهم اليوم وهم أحلاف آل فتله .

أما المعاصر الآخر عبد الجبار فارس في كتابه عامان في الفرات الأوسط فيقول: الشطر الأيسر من شط الهندية يسمى شط الشامية يذهب إلى العباسيات

_________________

(1) الصحيح تابعة لقضاء الشامية.                            (۲) قلب الفرات الأوسط ۱/ ۱۹۲.

 

(313)

فالشامية وبطريقه يسقي هور الدخن والصليحية بواسطة أنهر تنشعب منه أكبرها نهر آل شمخي - نهر الچبچان - المهناوية - وعكر وتصب هذه الأنهر جميعا في هور ابن نجم، الخ.

والمعاصر الثالث السيد عبد الرزاق الحسني في موجز تاريخ البلدان العراقية ونص ما قاله في تقسيم مياه لواء الديوانية(1): إن نهر (عكر) هذا كان قديمة أصلحته الحكومة بعد خرابه ، قال : يدخل شط أبو أچفوف أراضي قضاء الشامية تتفرع من ضفتيه عدة شعب أهمها نهر الأعمى الذي يسقي أراضي الصليحية ويذهب إلى هور آبن نجم فتسقي مياهه مقاطعة أبو تين ويصب أخيرة في (النكارة) النقارة، وشط الأعمى هذا نهر قديم أندرس بزوال الأهتمام بالزراعة وقد أعادت الحكومة فتحه عام ۱۹۲۷، ومنها نهر آل شمخي وچبچان والمهناوية وعكر كلها تصب في هور آبن نجم الذي ينتهي في النكارة الخ.

فهذا نهر عكر سمي كذلك لمروره بتل عقر (أيشان عكر) بلغة العوام وهذا التل يترجم عمران القرية القديم ويعرب بإنقاضه المتكدسة بالأتربة عن عمارة قديمة تسمى بعقر بابل مرة وعقر الملك أخرى، وهذه المياه هي تلك المياه وإن تغيرت بعض مجاريها واختلف توجيه فيضانها إلى ما تقتضيه المصلحة الوقتية من انحراف، وليست هذه الأوصاف التي سمعتها بملائمة لحصاة كربلاء

والآن نورد نصوص القدماء :

قال الفيروزآبادي في القاموس : العقر قرب الكوفة وموضع بدجيل وأخرى من ناحية الدستور منه أبو الدر لؤلؤ بن أبي الكرد بن لؤلؤ وبلدة بلحف جبل حمرين وأرض ببلاد قيس وموضع ببلاد بجيلة وقلعة بالموصل، إنتهی .

أما الحموي فيقول في معجم البلدان(۲): العقر - بفتح أوله وسكون ثانیه - قال الخليل : سمعت أعرابية من أهل الصمان يقول: كل فرجة بين جبلين فهي عقر(3).

قال الحموي : إن ذكر عدة مواضع تسمي القعر منها عقر بابل قریب کربلاء من الكوفة وقد روي أن الحسين لما إنتهى إلى كربلاء واحاطت به خیل عبيد الله

____________________________

(1) موجز تاريخ البلدان العراقية : ص ۸5.

 (۲) معجم البلدان 6/ ۱۹4.

(3) كذلك تقول معدان لواء البصرة والعمارة للفرج بين الأهوار عكر، وللفرجة بين هورین عكرة .

 

(314)

بن زیاد قال : ما إسم تلك القرية وأشار إلى العقر؟ فقال : إسمها العقر، قال : نعوذ بالله من العقر، فما إسم هذه القرية التي نحن فيها؟ قالوا: كربلاء، قال : أرض کرب وبلاء، وأراد الخروج منها فمنع حتى كان من أمره ما كان، وقتل عندها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة سنة  103هـ وكان قد خلع طاعة بني أمية ودعا إلى نفسه وأطاعه أهل البصرة وأهل الأهوار وفارس وواسط وخرج في مائة وعشرين ألف فندب له یزید بن عبد الملك أخاه مسلمة فواقعه بالعقر من أرض بابل فأنجلت الحرب عن قتل يزيد بن المهلب، الخ.

وتبعه على هذا الغلط القاضي شمس الدین ابن خلكان في وفيات الأعيان في ترجمة يزيد بن المهلب(1) قال: فسار حتى نزل العقر، قلت : هي عقر بابل وهي قرب الكوفة بالقرب من كربلاء الموضع الذي قتل فيه الحسين «عليه السلام» الخ.

وأقتفى أثرهما صاحب تاريخ الكوفة لأنه أقتصر على عبارة الحموي في تاریخه(2) ولم يتحقق ما ينبغي لمثله التثبت فيه، ولا لوم على الحموي لأنه رجل رومي غريب عن العراق لم تكن له خبرة المتوطن ولا علم الساكن، والبعيد النائي يعول على السماع ويكتفي بالنقل، ورأى في مسير الحسين «عليه السلام» ما ذكره آنفا ولم يعرف غيره والتاريخ يخبره بقتل ابن المهلب بالعقر التي هي واحدة في ظنه ولم يفصل له خبير من العراق أن هناك عقرین: أحدهما في شمال الكوفة ومن قرى كربلاء، وأخرى في جنوب الكوفة هكذا:

واسط              عقر بابل            عقر كربلاء

__________                    _____________

                                               كوفة                                      كربلاء

وقد أستدرك العلماء على الحموي كثيرة وقد عرفت أن أكثر المقاتل لم تذكر عقر کربلاء في مسير الحسين «عليه السلام» والذي يوضح ما ندعيه من نصوص العلماء وكلمات المؤرخين ومنها التفرقة بين قتل الحسين «عليه السلام» بالطفوف وقتل ابن المهلب بالعقر.

قال السيوطي في تاريخ الخلفاء وابن خلكان في وفيات الأعيان وأبو الفرج

___________________________________________

(1) وفيات الأعيان ۲/ 426.

(۲) تاريخ الكوفة : ص ۱5۳ طبع النجف .

 

(315)

في الأغاني ولفظه(۱): عن حفص الأموي قال: كنت أختلف كثير - يعني الشاعر ۔ أروي شعره، قال : فوالله إني لعنده يوما إذ وقف عليه واقف فقال : قتل آل المهلب بالعقر، فقال: ما أجل الخطب! ضحى آل أبي سفيان بالدين يوم الطف وضحى بنو مروان بالكرم يوم العقر ثم أنتضحت عيناه باكية، فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك فدعا به فلما دخل عليه قال: عليك لعنة الله ! أترابية وعصبية وجعل يضحك منه، إنتهی.

وهذا نص في أن العقر التي قتل عندها آل المهلب غیر عقر الطفوف، وسنأتي على بقية النصوص التي تعين لك أنها غير عقر کربلاء.

واتفق المؤرخون أن أحد المعسكرین كان على سورا وسورا نهر الجربوعية .

قال المسعودي في التنبيه والإشراف(2) يصف الفرات: ثم ينقسم الفرات إلى جهتين: قسم منها يتوجه مسيرا إلى المغرب يسمى العلقمي يمر بالكوفة وغيرها، والقسم الآخر يسمى سورا يمر بمدينة سورا إلى النيل والطفوف، الخ.

لا يعني طفوف کربلاء فقد كان ذلك يمر به العلقمي وإنما عنى به نيل الحلة نهر المحاويل الحالي والطفوف طفوف الحلة.

والذي يعول عليه في معرفة البقاع تماماً هو الطبري المؤرخ فإنه يضع الأشياء مواضعها وما ذكر موضعة في العراق في تاريخه إلا وعرفت أين هو، وهذه ألفاظه في حادثة آل المهلب من تاريخه(۳): إن يزيد بن المهلب أستخلف على واسط حين أراد الشخوص عنها للقاء مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد ابنه معاوية وجعل عنده بیت المال والخزائن والأسراء فقدم بين يديه أخاه عبد الملك ثم سار حتى مر بفم النيل ثم سار حتى نزل العقر وأقبل مسلمة يسير على شاطئ الفرات حتى نزل الأنبار ثم عقد عليها الجسر فعبر من قبل قرية يقال لها فارط ثم أقبل حتى نزل على يزيد بن المهلب وقدم يزيد أخاه نحو الكوفة فأستقبله العباس بن الوليد بسورا فأصطفوا فأقتتل القوم فشد عليهم أهل البصرة شدة كشفوهم فيها وقد كان معهم ناس من بني تميم وقيس ممن أنهزم من يزيد من البصرة فكانت لهم جماعة حسنة مع العباس فيهم هریم بن أبي طحمة المجاشعي فلما أنكشف أهل الشام تلك الانكشافة ناداهم هریم بن أبي طحمة : يا أهل الشام! الله الله أن تسلمونا وقد أضطرهم أصحاب عبد الملك إلى نهر فأخذوا ينادونه: لا بأس عليك

_________________

(1) الأغاني ۸/ ۳4.                     (۲) التنبيه والإشراف: ص4۷.

(3) تاريخ الطبري ۸/ ۱5۱.

 

(316)

إن لأهل الشام جولة في أول القتال أتاك الغوث، ثم إن أهل الشام کروا عليهم فكشف أصحاب عبد الملك وقتل المنتوف من بكر بن وائل مولى لهم الخ، وفيما ذكر الطبري هنا ثلاث دلائل تؤيد ما نقول:

قوله: «قدم أخاه عبد الملك إلى الكوفة» ولو كانت عقر کربلاء لقال آخره في الكوفة أورده إلى الكوفة وهذا بين أنه نزل العقر التي هي في الشامية فيتقدم أخاه إلى الكوفة ليتحملها قبل أن يتحملها جيش الامويين .

وقوله: «استقبله العباس بين الوليد في سورا» وهو نهر الحلة والجربوعية حتى عند الحموي.

الثالث: قوله «اضطروهم إلى نهر» ولو كان في كربلاء لقال إلى نهر العلقمي إذ ليس غيره فيها .

ودلالة رابعة: عبور الجيش الشامي من الأنبار والقاصد إلى كربلاء غنى عن العبور وعقد الجسور.

ثم قال الطبري(1): وجاء عبد الملك ابن المهلب حتى إنتهى إلى أخيه العقر وأمر عبد الله بن حيان العبدي فعبر إلى جانب الصراة الأقصى وكان الجسر بينه وبينه ونزل هو وعسكره وجمع من جموع یزید و خندق عليه وقطع مسلمة إليهم الماء وسعيد بن عمرو الحرشي ويقال عبر إليهم الوضاح فكانوا بإزائهم الخ.

وهذه الأمكنة وهي النيل في القضية الأولى وسورا والصراة في الثانية لا يختلف یاقوت عن غيره في أنها كلها من نواحي الحلة .

أما النيل فمعروف إلى اليوم بهذا الاسم شمالي الحلة عند خان المحاويل.

وأما الصراة فهذا لفظ الياقوت في المعجم(۳): صراة جاماسب تستمد من الفرات بني يوسف مدينة النيل.

وقال(3): النيل بكسر أوله بلفظ النيل الذي يصبغ به الثياب في مواضع أحدها بليدة في سواد الكوفة قريبة من حلة بني مزبد يخترقها خليج كبير يختلج من الفرات الكبير حفره الحجاج بن يوسف وسماه بنیل مصر، وقيل : إن النيل هذا يستمد من صرة جاماسب، إنتهی .

قال الطبري(4): كان عبد الحميد ابن عبد الرحمن قد عسكر بالنخيلة وبعث

____________________________________________

(1) تاريخ الطبري ۸/ ۱5۲.                        (۲) معجم البلدان 6/ ۳5۹.    

(3) معجم البلدان 8/360.                           (4) تاريخ الطبري ۸/ ۱5۳.

 

(317)

إلى المياه فبثقها فيما بين الكوفة وبين يزيد بن المهلب لئلا يصل إلى الكوفة ، ووضع على الكوفة مناظر وأرصاداً للتجسس لأهل الكوفة عن الخروج إلى يزيد.

وهذه كلها تعين أن العقر ما ذكرنا لا عقر الغاضرية وإلا فأي فائدة في بثق الأنهار وطريق النجف بادية جافة لا تعلو سطحها الأنهار والمياه، ثم كيف يدع ابن المهلب الكوفة خلف ظهره وهي مصر العراق وعاصمته الأولى ولم يقوها بجيش وهو محتاج إلى إمدادها إياه؟ ثم كيف لا يستقبل الجيش في نواحي الأنبار ليصده عن مقصده وهو بكربلاء؟ وكيف لا يستدبره وقد تقدم إلى تلك الأراضي وتوغل فيها؟ كل هذا لم يكن وما وصل ابن المهلب إلى كربلاء ومن ادعاه فهو جاهل كائنا من كان.

قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: فسار یزید بن المهلب من البصرة وقدم واسطة وأقام بها أياما ثم سار عنها فنزل العقر واشتملت جريدة عسكره على مائة وعشرين ألف وقدم مسلمة بجيوش أهل الشام فلما ترائی العسکران وشبث الحرب أمر مسلمة قائدة من قواده فأحرق الجسور التي كان عقدها يزيد بن المهلب، فلما رأى أهل العراق الدخان قد علا انهزموا، الخ.

وكل هذه القرائن تعين أن قتل ابن المهلب في أراضي الشامية ولم يصل إلى الكوفة ولم يراها، وأراد أحتلالها بأخيه عبد الملك قصدته قوة أهل الشام واحتلها الجيش الشامي ووضعوا عليها الإرصاد، ولو ملكها أبن المهلب لحصنها وخلف عليها عاملا قويا و قائدا شجاعا كما فعل بواسط وكانت له أقوى عدة يمد برجالها جيشه وبالحبوب وحيوانات النقل جنوده ثم هي له معقل إن انسحب إليها تحصن بها لأن الكوفة في ذلك العصر عين مدن العراق والباقية تبع لها وهي أغنى مدينة بخيراتها وكثرة مرافقها وقوة الجيش بها وهي المركز الحربي الإسلامي في تلك الأزمنة منها توزع الجيوش الغازية على الثغور وليس من الحيطة الحربية أن يتركها ويذهب إلى كربلاء ويدعها مكشوفة لغزو أعدائه من الأمويين وفيها عمالهم يجبون الخراج ويجندون الرجال ويمدون جيوش أهل الشام بالعدة الكافية من المراكب والأسلحة والمؤن وهو من مشاهير القواد أهل الخبرة والتجربة وقد شب وشاب في الحروب، وأوقی شواهدنا على مدعانا سورا والصراة الذين التقى عندهما الجيشان وهما من نواحي الجربوعية.

واتصال ماء سورا بماء العقر (عكر) لا ريب فيه في ذلك الوقت وهذا ما حققه ابن واضح اليعقوبي في كتاب البلدان في ذكر قصر ابن هبيرة بقوله: وعلى

 

(318)

مقربة منه بلدة الهاشمية التي هي الجربوعية الحالية إنما تحول إسمها لكثرة الجرابيع فيها، وهذا لفظه(۱): وهي نهر يأخذ من الفرات يقال له الصراة، وبين قصر آبن هبيرة ومعظم الفرات مقدار میلين إلى جسر على معظم الفرات يقال له جسر سورا، ومن قصر آبن هبيرة إلى موضع يقال له سوق أسد غربي الفرات في الطسوج الذي يقال له الفلوجة، ومن سوق أسد إلى الكوفة، الخ.

وأصرح وأوضح قول الطبري في تاريخه في أخبار شبيب الخارجي الشيباني رأس الصفرية وهذا نصه(2): ثم أخذ بهم - يعني شبيباً - نحو الكوفة فسار في أول الليل حتى نزل عقر الملك الذي يلي قصر آبن هبيرة، الخ.

ومثله أو قريبا منه ما حكاه البكري في معجم ما أستعجم عن الخليل بن أحمد وهذا نصه(3): والعقر أيضا عقر بابل، قال الخليل: هو بين واسط وبغداد وفيه قتل یزید بن المهلب الخارج على يزيد بن عاتكة، قال جرير فيهم:

تهوي لدى العقر أقحافة جماجمها                        كأنها الحنظل الخطبان ينقف

وكانوا يقولون ضحی بنو حرب بالدين يوم كربلاء وضحی بنو مروان بالمروة يوم العقر يعنون قتل الحسين «عليه السلام» بكربلاء وقتل يزيد بن المهلب بالعقر، الخ.

ثم إنه صلب بجسر بابل ولو قتل بعقر لما كان للرجوع إلى الحلة معنى حتى يصلب، وهذا ما قاله محمد بن حبيب النسابة البصري في كتاب المحبر(4): وصلب مسلمة بن عبد الملك في خلافة يزيد بن عبد الملك يزيد بن المهلب بن أبي صفرة بجسر بابل وعلق معه خنزيرة وسمكة وزق خمر، إنتهی .

وكل من وقف على ما ذكرناه من الدلائل لا يشك في غلط الحموي وأتباعه، ويستوضح جليا أن عقر کربلاء غير عقر بابل.

ولم أجد من ذكر عقر کربلاء في شعره ولا في مراثي الحسين «عليه السلام»، فالمؤلف يذكرها بقوله:

فسل عقر الطفوف تجد لديه                  تفاصية لفاجعة الــــــطفوف

غــــــداة أبن النبي أناخ فيه                  بثقل الوحي والنسل الشـريف

ولم تـــصــدقه کوفان بوعد                 وفي الأمثال كوفي ليس يوفي

_______________________

(1) كتاب البلدان: ص۷3.                        (۲) تاريخ الطبري ۷/ ۲۳۰.

(3) معجم ما استعجم ۳/ ۹5۰.                                   (4) المحبر: ص4۸۳.

 

(319)

لقد غروا أبن فاطم حين قالوا           له أقدم فــــجـــندك بالألوف

وأصبح ذلك الجند المـــــعبى          عليه لا له عند الــــمـــخوف

وجـــــاء يقوده عمر بن سعد          عدیم الدين ذو العقل السخيف

أبيات لبعض العرب يرثي بها قوماً منهم شطرها المؤلف وزاد فيها وجعلها في شهید کربلاء الحسين ريحانة رسول الله (ص) وعلى كل شطر من شعر ذاك العربي خط يعرف به(1):

ألا في ســــبـــــيـــل الله ماذا تضمنت                         ربي نينوى أو ما حوى الطف والعــقــر

بهاليل من بيت الـــــنــــــبوة أودعــوا                          بــــطـــون الــثرى واستودع البلد القفـــر

بدور إذا الدنيا دجت أشـــــــرقت بهم                           وهــــم نور هذا الكون لا الشمس والبـدر

وهـــــــم زينة الدينا وهم غوث أهلها                  وإن أجــدبـــت يــوما فـــتأيديهموا قطــــر

فـــيــا شـــامتة بالموت لا تشمتن بهم                 ففي مثل محيي المـــــجد لا يشمت الحــر

تـــلـــفي دروس الــــمجد عنهم فإنـما                 حــيــاتــهــمـوا فــخــر ومــوتــهم ذکــــــر

حـــيــاتــهموا كــانت لأعدائهم عمــى                 فـــظــلــت أمــي الــرشـد إذ قادها الكفــر

حياة بني الهادي لذي الدين عــصـمة                 ومــوتــهــمــوا لـلـفـاخـریـن بــهــم فـخـــر

أقاموا بظهر الأرض فاخضر عودها                         وزانـــــت بـهـم أمـصـارهــا وزهــا الـبــر

ومن سكنوا في كربلاء جدث الــثرى                 وصاروا ببطن الأرض فأستوحش الظهر

فـــــيـــا أيــها الأحرار نوحوا بلوعـة                 عـــلـــى مـثـل مـن ســن الإبـا یعول الـحر

فـــإن الـــحـسـين السبط أبقى بکربلا                 تـــعـــالــيــم للأحـــرار خـــلــدهــا الدهــر

بــــجـــامـــعــــة الآباد تتلی دروسـها                 لـــيـــقـــرأها الــحــر الــذي عضه القســر

صـــحــائفها بـيـض الصفاح ولم تكن                         قــــراطـيـس يــمـحــــي من كتابتها ســطر

لـــــقــد تــرجـمـوها لـلأبـيين نهضـة                 لـــهـــا قــلــم مــاضـي الشبا والدما حبــــر

الـــكــلــيــة الأجـيـال فـيـهـا دراســة                وقــــد حـــررت مــنــهـاجها اللدن السمـــر

إذا طـــالبـتـنـي الـنفس بالصبر سلوة                أقــــول لـهـا مــیــعــاد ســلــوتك الـحــــشر

___________________________

(1) هذا كلام المؤلف الشيخ المظفر «قدس سره» في الطبعة الأولى، ونحن غيرنا حروف الأشطر التي وضع عليها المؤلف الخطوط حتى نميزها عن التشطير علما أن الشطر الأول هو من شعر ذاك العربي – الناشر-.

 (320)

 

أبعد ابن بنت المصطفى أترك البكا                  وفي القلب وقد لا يبوخ له جمر

سأذرف من عيني الدما ساعة البكا            إذا خانها من دمعها المالح المر

إذا كنت في عشر المحرم نادبـــــاً                    ألا كل أيامي لحزني لهم عـشر

 من قرى كربلاء عند نزول الحسين «عليه السلام» بها «شفية»:

ولم يضبط لفظها ضبطة دقيقة فإنها وردت في حديث نزول الحسين «عليه السلام» بكربلاء وسماها بعضهم «السقبة» بالسين المهملة والقاف المنقطة بنقطتين ثم الباء المنقطة بواحدة من تحت، ومن هؤلاء الدينوري .

ومنهم من سماها «الشفية» بالشين المعجمة المنطة بثلاث ثم فاء منقطة بواحدة ثم ياء منقطة بأثنين، ومن هؤلاء الطبري المؤرخ، وهذا لفظه(1): وأخذ الحر بن یزید القوم بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا قرية ، فقالوا: دعنا ننزل في هذه القرية يعنون نينوى، أو هذه القرية يعنون الغاضرية أو هذه الأخرى يعنون شفية، فقال: لا والله لا أستطيع ذلك، هذا رجل قد بعث عيناً علي، الخ، وهو بعينه لفظ الشيخ المفيد في الإرشاد، وتبعه الملا عبد الله في مقتل العوالم، والفاضل المجلسي في البحار، وعبد الرحيم اليزدي في مصائب المعصومين(۲) وجميع هؤلاء يصرح أن الحسين «عليه السلام» كان يمتنع على الحر مرة ويسايره أخرى حتى إنتهى إلى نينوى المكان الذي نزل به الحسين «عليه السلام»، وهذا هو القول الصحيح.

وقيل : شفيته بالشين المعجمة والفاء ثم التاء ثم الياء، وهذا لفظ أورده صاحب النهضة وأحسبه قد تصحف عليه فأنظر كلامه(3)، والدليل أنها مصحفة إهماله في بقاع كربلاء التي تكلم عنها .

أما أبو حنيفة الدينوري فنصه في الأخبار الطوال بعد أن ذكر أن الحسین «عليه السلام» والحر انتهيا في مسايرتهما إلى نينوى وجاء الراكب إلى الحر بكتاب ابن زیاد قال : فقرأ الحر الكتاب وناوله الحسين «عليه السلام» وقال : لا بد من إنفاذ أمر الأمير عبيد الله ابن زیاد فأنزل بهذا المكان ولا تجعل للأمير علي علة ، فقال الحسين «عليه السلام»: تقدم بنا قليلا إلى هذه القرية التي هي منا على غلوة

___________________

(1) تاريخ الطبري 6/ ۲۳۳.

(۲) الإرشاد: ص۲۳۸؛ مقتل العوالم: ص 74؛ بحار الأنوار ۱۰/ ۱۹۸؛ مصائب المعصومین : ص۲۳۱.

(3) نهضة الحسين عليه السلام: ص 65.                   (4) الأخبار الطوال: ص۲5۰.

(321)

 

وهي الغاضرية أو هذه الأخرى التي تسمى السقبة فنزل في إحداهما،  فقال الحر: إن الامير كتب إلي أن أحلك على غير ماء ولا بد من الانتهاء إلى أمره، الخ.

وغير هؤلاء من أهل المقاتل لم يذكر شفية ولا العقر، فمن هؤلاء فخر الدين الطريحي (رحمه الله) في المنتخب ولفظه(1): فساروا جميعا حتى انتهوا إلى کربلاء إذ وقف جواد الحسين «عليه السلام» الذي تحته فلم ينبعث من تحته وكلما حثه على المسير لم ينبعث خطوة واحدة فنزل عنه وركب غيره فلم ينبعث خطوة ، فقال الإمام «عليه السلام» : یا قوم! ما يقال لهذه الأرض؟ فقالوا: نينوى، فقال : هل لها إسم غير هذا؟ قالوا: نعم شاطئ الفرات، فقال : هل لها إسم غير هذا؟ قالوا: نعم تسمی کربلاء، فعند ذلك تنفس الصعداء فقال : هذه أرض کرب وبلاء، الخ .

ومثله في المقتل الصغير المنسوب لأبي مخنف لم يذكر شفية وإن ذكر العقر.

وعلى كل فشفية من قرى کربلاء وإن أهملها أكثر أهل المقاتل وأهملها الحموي ولكن أثبتها من ذكرنا من أعيان العلماء وذكرها أيضا ابن الأثير في تاريخه(۲).

وحيث أن المؤلف ما وجد شعر حسينية يذكر شفية فذكرها بقوله :

سائل شفية من مناخ أبن الــنـبي              في أرضها الجرداء يفديه أبـي

هل حليته عن الورود بنوا الخنا               فـــبــــقي ثلاثا ظامنا لم يشـرب

جاء الحديث فصح أن رضيـعه               شفتاه قد ذبلت فما ذنب الصــبي

قالوا فقد جفت ثــداه بدرهــــــا                لهفي عليه فأصبحت لم تشـخـب

قالوا أبوه أتى العدى مسـتسقـياً                للطفل وهو الماجد الشهم الأبي

لم يسعفوه بشربة من مائــــهـم                أعلاج كوفان لــئــام الــمـنصب

إن القساوة والفظاظة لازمــت                لــؤم الطبائع أو فساد المذهــــب

لو كان فيهم مسـلم أو ماجــــد                 من نسل عدنان وأسرة يعــــرب

السقوا رضـيع أبن النبي فإنـه                 لم يجن ما زعموه في شأن الأب

إن أبن سـعد وهو قائد جيشهم                 عن آل وقاص بعيد أجــــنـــبـي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) منتخب الطريحي ۲/ ۹۳ طبع الحجر.

(۲) الكامل في التاريخ 4/ ۲6 الطبعة الأولى .

 

(322)

سعد بريء من دعي ملصق وإلــيــه طــول حــيــاته لم ينســب

نادی بحرملة الشقي مبـادراً           أجب الحسين برمــي سهم صيــب

فرمی الصبي بنبلة مسمومة           ذبحته في حجر الأبـــي بن الأبــي

ثم أنثنى نحو الخيام بحرقــة   بذري الدموع كــلـــؤلؤ لم يثقـــب

نادی بلوعة واجدیا زینـــب           یــــــــــا لهف نفسي للعقيلة زينب

لما رأته مخضبة بـــدمــائه            نادت أخي قل لي فما ذنب الصبي

 أقساس مالك:

جائت هذه اللفظة في نزول الحسين «عليه السلام» بكربلاء في مقاتل أبي الفرج الأصبهاني وهذا لفظه(1) : وأقبل«عليه السلام» يسير والحر يسايره ويمنعه من الرجوع من حيث جاء ويمتنع الحسين «عليه السلام» من دخول الكوفة حتى نزل بأقساس مالك، وكتب الحر إلى عبيد الله يعلمه ذلك، الخ.

وقد تفرد أبو الفرج بهذا ومن المستبعد أن تكون من قرى کربلاء وإن جهلنا موضعها تحقيقا لكنا لا نجهل أنها من المراحل التي بين الكوفة وكربلاء ليست من الكوفة وليست من کربلاء فهي مرحلة في الطريق تنزلها الجيوش السائرة إلى الشام.

قال البلاذري في فتوح البلدان(۲): وأقساس مالك نسبت إلى مالك بن قیس بن عبد نهم بن نجم أحد بني حذافة بن أزهر بن أياد بن نزار، الخ، ذكر هذا في ضواحي الكوفة .

وقال الحموي في معجم البلدان(۳): أقساس قرية بالكوفة أو كورة يقال لها أقساس مالك منسوبة إلى مالك بن عبد نهم بن نجم - بالجيم بوزن زفر - بن منعة ابن برجان بن الدوس بن الديل أبن أمية بن حذافة بن زهير بن أياد بن نزار، والقسي في اللغة تتبع الشيء وطلبه وجمعه أقساس وينسب إلى هذا الموضع أبو محمد بحیی بن محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن الحسین بن علي بن أبي طالب الأقساسي، توفي بالكوفة سنة 4۷۲ وجماعة من العلويين ينسبون كذلك، إنتهی.

وذكرها الداودي في عمدة الطالب ولم يعين موضعها لكنه قال : قرية من قرى الكوفة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مقاتل الطالبيين : ص44.                      (۲) فتوح البلدان : ص ۲۸۱.

(3) معجم البلدان: ۱/ ۳۱۲.

 

(323)

-

وعلى كل حال فهي إن لم تكن إلى الكوفة أقرب فليست من قرى کربلاء يقينا، والمؤلف حيث لم يجدها منظومة في المرائي الحسينية نظمها تمشيا مع رواية الأصفهاني بقوله:

من اجتاز آبي الضـيــم اقساس مــالك         إلى كربلاء ضاقت رحاب المسالك

عــــلـــيــه فــألقي ثقله عند نــيــــنوى         عــلــى خــطــر مــستهدف للمهالـك

وأقــبــل جيش للـــــــهدى غـير تابـع          كــمــا أنــه لــلــكــفــر لـيس بتارك

وقد قـاد ذاك الجــيش للــطف ملصق          دعــي وإن يـــنــمـى لسعد بن مالك

ولم يتــرك المشـــؤوم لله حرمـــــــة           بــهـــتـك بنات الوحي فخر العواتك

ولم يشفه قــتل الحــــسين وصحـــبه         عــطـاشى وهم أهل التقى والنسائك

ولم يقتنع حتى دعا الرجس خيلــــــه         وقــال أطــحــني جــثـمانه بالسنابك

وقــال لــجــنــد الــمــارقـين تناهبــي         رحــال حــسیــن وافعلي ما بدا لـك

سيجزي عدو الله شــرا بما جنــــــى          ويـــصــلى لــظی نـزاعة للــشوائك

وقد جاء في التابوت في النار تسـعة         من الناس هم منها بضيق المـسالك

فمنهم يــزيد وابن سعـــد قــریــنــــه         ومــنــهــم عــبــيـد الله أتعس هاـلك

 ماء کربلاء القديمة أو نهر العلقمية:

هذا نهر قدیم لا يدري من حفره وأجراه ولعله كان أسبق من عصور الأكاسرة وصدره من فوق سدة الهندية قريبة من بلدة المسيب على محاذاة نهر الحسينية الحالي يمر بكربلاء حيث مرقد سيدنا العباس الأكبر بن أمير المؤمنین «عليهما السلام» فإذا أجتازه إلى قرية نينوى أنعطف متجهة إلى الجنوب الشرقي إلى قرية برس (أو البرس) وله مخاضه أو معبر بالقرب من ناحية ذي الكفل (الجفل) تعرف بقرية شاهي تحاذي الخان المعروف اليوم بخان الحماد (أو خان النصف) بین النجف وكربلاء ثم يمر بأتجاهه مشرقة حتى يصل بلدة الكوفة على مسامتة شطها الحديث المسمى بالهندية وهذا النهر هو أحد أنهار الكوفة وأشهرها وعليه تعتمد في شربها وسقي بساتينها ولها أنهار غیره تأتي من الجنوب الشرقي والتي تعرف اليوم بأراضي الشامية وعقر بابل التي عرفتها .

وآثار العلقمي باقية إلى اليوم في جنوب شرقي كربلاء بين الخانين : خان النخيلة وخان الحماد واسمه كذلك عند العامة (العلقمي) مفخمة قافه فهو الآن بين

 

(324)

شط الهندية وشواطئ البادية وقد دمره الوزير مؤيد الدين بن العلقمي، وآل العلقمي أصلهم من أهل هذا النهر سکنوا النيل من الحلة وكان مؤید الدين وزير الخليفة المستعصم آخر خلفاء بني العباس .

وروي أن الإمام زین العابدین «علیه السلام» دعا عليه فغاض ماؤه وسنذكر ذلك.

أما سبب تسميته بالعلقمي فلم أجد من تعرض لها وإن ذكر بعضهم أنه سمي بذلك بتخريب ابن العلقمي إياه وهذا باطل فإن إسـم العلقمي أسبق من ذلك بكثير فقد كان يسمى العلقمي قبل أن يقتل الحسين «عليه السلام» وقد جاء في حديث مقتل الحسين «عليه السلام» في حديث الفلاح الأسدي الذي أشرنا إليه وسنذكره هنا، إنه قال: کنت زارعة على نهر العلقمي ولما كان هذا النهر شديد الحلاوة وصفوه بالعلقم المر مبالغة كما يقول قائلهم : أكلت التمر حتى صار مراً في فمي، فالتمر لا يكون مراً أبداً، وقد سموا النيل الأزرق لشدة صفائه ومبالغة في بياضه وصفوه بالزرقة.

وكما قالوا لكثير الشحم من الغنم يبرك في سواد وينام في سواد، ووصفوا الغراب بالأعور لحدة بصره.

قال في الشرح الجلي(1): فائدة أخرى : قد تسمي العرب الشيء بأسم ضد السبب وهو أنهم إما أن يلاحظوا بذلك ويقصدوا به إنه جاوز حده والشيء إذا جاوز حده أنعکس ضده وذلك كتسميتهم الجارية المليحة قبيحة(2) يشيرون أنها قد جاوزت حد الملاحة فيكون ذلك في الباطن من باب المديح وإن كان ظاهره من القبيح، وكتسميتهم النسيم عليلا إشارة إلى أنه جاوز في الصحة حده .

وکتسميتهم الغراب أعور وذلك لأنه جاوز حد الأبصار حتى قيل إنه يری الماء تحت الأرض لكن دون رؤية الهدهد، قال الشاعر:

وقد ظلموه حين سموه سيداً           ما ظلم الناس الغراب باعورا

وإما أن يقصدوا بتسميته التفاؤل له بالخير وذلك كقولهم لمن لدغته الحية سليم مع أنه هالك وكقولهم للبرية والبيداء التي يطول فيها المسير ويعدهم فيها الماء أو يقل مفازة مع أنها مهلكة والمفازة من الفوز وهو النجاة، وكتسميتهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) شرح الجلي: ص ۱۲ طبع بیروت .

(۲) من آثر جواري المتوكل العباسي وأحضامن عنده قبيحة وهي أم ولد له .

 

(325)