موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

قال: ملكت أمري. قال: ما فعلت زوجتي؟ قال: ماتت، قال: جدد فراشي، قال: ما فعلت أمي؟ قال: ماتت، قال: أسترحت من عقوقها، ما فعلت أختي؟ قال: ماتت؟ قال: سترت عورتي، ما فعل ولدي؟ قال: مات، قال: يجيء غيره، قال: ما فعل أخي؟ قال: مات، قال لقمان: الآن أنكسر ظهري، إنتهى، وقد قال هذه الكلمة بعينها سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين «عليه السلام» حين وقف على أخيه العباس «عليه السلام».

        في أسرار الشهادة(1): في حديث فأتاه الحسين كالصقر إذا أنحدر على فريسته ففرقهم يميناً وشمالاً بعد أن قتل من المعروفين سبعين رجلاً فجاء نحو العباس «عليه السلام» وهو ينادي: وا أخاه! وا عباساه! الآن أنكسر ظهري وقلت حيلتي، ثم أنحنى عليه ليحمله ففتح العباس «عليه السلام» عينيه فرأى أخاه الحسين «عليه السلام» يريد أن يحمله فقال له: إلى أين تريد يا أخي؟ فقال: إلى الخيمة، فقال: يا أخي! بحق جدك رسول الله (ص) عليك أن لا تحملني، دعني في مكاني هذا، فقال «عليه السلام» لماذا؟ قال: لأني مستح من ابنتك سكينة وقد وعدتها بالماء ولم آتها به، والثاني إني كبش كتيبتك ومجمع عددك فإذا رآني أصحابك وأنا مقتول فربما يقل عزمهم، فقال الحسين «عليه السلام»: جزيت عن أخيك خيراً حيث نصرته حياً وميتاً، قال: فوضعه على مكانه ورجع إلى الخيمة يكفكف دموعه بكمه، فلما رأوه مقبلاً أتت إليه أبنته سكينة ولزمت عنان جواده وقالت: يا أبتاه! هل لك علم بعمي العباس؟ أراه أبطأ وقد أوعدني بالماء وليس له عادة أن يخلف وعده، فهل شرب ماءاً وبل غليله ونسى ما ورائه؟ أم هو يجاهد الأعداء؟ فعندها بكى الحسين «عليه السلام» وقال يابنتاه! إن عمك العباس قد قتل وبلغت روحه الجنان، فلما سمعت زينب «عليها السلام» صرخت ونادت: وا أخاه! وا عباساه! وا قله ناصراه! وا ضيعتنا بعدك! فقال لها الحسين «عليه السلام»: إي والله وا ضيعتنا بعده! وا إنقطاع ظهراه! فجعلت النساء يبكين ويندبن عليه، وبكى الحسين «عليه السلام» معهن الخ.

       وفي مصائب المعصومين(2): فأنقلب عن فرسه وصاح إلى أخيه الحسين «عليه السلام»: أدركني، فقال الحسين «عليه السلام»: الآن أنكسر ظهري وقلت حيلتي، فلما أتاه رآه صريعاً على شاطئ الفرات، فبكى ومثله في مقتل العوالم(3).

__________

(1) أسرار الشهادة: ص321.                                   (2) مصائب المعصومين: ص360.

(3) عوالم العلوم: ص95.

(17)

 

وقد رثاه بذلك الشعراء حاكين مقالة الحسين، فمنها قول بعضهم:

فمشى إليه السبط ينعاه كسرت الآن       ظهري يا أخي ومعيني

والسيد جعفر الحلي قال:

ما خلت بعدك أن تشل سواعدي     وتكف باصرتي وظهري يقصم

     وحقيق أن يكون فقد الأخ الكريم من قواصم الظهر لأنه العضد والساعد والناصر والمساعد، والعدة للحرب، والسلاح للكفاح، لم يرض العربي الصميم بأن يعد الأخ عوناً فقط ولا مسعداً فحسب بل ترقى وعده مع ذلك عدة للنوائب وسلاحاً للخطوب، وإن الوحيد المنفرد من الإخوة كالأعزل الذي لا سلاح له وهو في خطة الحرب وحومة ميدان القتال، فقال:

أخاك أخاك إن من لا أخاً له      كساع إلى الهيجا بغير سلاح

        بيد أن مطمح الأنظار ومحط أفكار النبلاء من الإخوة من كان مستكملاً للصفات الجميلة ومستجمعاً للكمالات، ومن تتبع أحوال الرجال وسبر مزاياهم لم يجد نظيرا للعباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» فإن له أكمل منزلة ورقى بمزاياه الرتبة العليا ونال الدرجة السامية، وما سطر في الجزء السابق من محاسنه ليبرهن على أنه الأسمى في أندية الفخار رتبة، والأعلى في صف المقدمين مرتبة، وكرسيه الأول في قاعات المفاخر، وله الصدر في منتدى الفضائل، ولذلك أذرى عليه الحسين «عليه السلام» وهو الصبور عبرته ورقرق وهو المتجلد دمعته أمام أعين الشامتين وبمرأى من الكاشحين، ومن دونه رتبة قد قال:

وتجلدي للشامتين أريهموا       إني لريب الدهر لا أتضعضع

      فما أرخص الحسين «عليه السلام» عليه دمعته الغالية إلا لعظمته، ولا بذل عبرته النفيسة إلا وهو أنفس شيء يعده الإنسان المحترم، وقد كان «عليه السلام» أولى من الحمداني بقوله:

لقد كنت أولى منك بالدمع حسرة       ولكن دمعي في الحوادث غالي

    وصبر الحسين «عليه السلام» وتجلده في كل مأساة وفادحة ونكبة مؤلمة مما لا يصل إليه الواصل ولا تستطيع تلمسه يد المتناول، وقد قيل فيه:

لله درك يا صبور على الأذى     ولأنت أقدر قادر يتخلص

     لكن جلالة الفقيد وعظمة الراحل أجرت تلك العبرات العزيزة وأرسلت تلك الدمعة الغالية كما أجرت مدامع سيد الكائنات رسول الله (ص) أصبر الخلق على

(18)

المصائب وأجلدهم عند صدمات النوائب مصيبة عمه حمزة يوم أحد، ومصيبة أبن عمه جعفر يوم مؤتة؛ فمن بكاء رسول الله (ص) على عمه حمزة وابن عمه جعفر، وبكاء الحسين «عليه السلام» على أخيه العباس عرفنا أن لهؤلاء الشهداء الثلاثة رتبة عالية ومحل سامين وقد وقف رسول الله (ص) على عمه حمزة وابنه بكلمات لا ذعة وألفاظ موجعة تأخذ من القلب مأخذها وتجيء في التأبين إن شاء الله.

     والحسين «عليه السلام» أبن العباس «عليه السلام» بكلمات محزنة يحترق بلذعتها القلب وتجري بسماعها الدمعة الحارة، منها ما رواه في أسرار الشهادة(1) بقوله: وفي رواية أخرى: فضربه رجل منهم بعمود حديد ففلق هامته وأنصرع عفيراً على الأرض يخور بدمه وهو ينادي: يا أبا عبد الله! عليك مني السلام، فلما سمع الإمام قال: وا أخاه! واعباساه! وا مهجة قلباه! – إلى أن قال: - فبكى بكاءاً شديداً حتى بكى جميع من كان حاضراً، وقال «عليه السلام»: جزاك الله مع أخ خيراً لقد جاهدت في الله حق جهاده، وزاد الطريحي في المنتخب بعد هذه الألفاظ: يعز علي والله فراقك، وإنه أغمي عليه من شدة البكاء وقد عرفت أنه غير ملوم لأن المفقود عظيم.

         لا زالت قاعدة الفلاسفة وأشراف العرب إذا وقف الواقف منهم على جنازة رئيس أو مر على قبر زعيم القى كلمات التأبين التي تعلق بالخاطر وتؤثر بالقلب الرقيق أثراً وتأخذ من النفس مأخذها وهي وإن أختلفت أساليبها فالفلسفي يتحرى كلمات الوعظ، والعربي يختار ألفاظ التقريض لكنها بمجموعها تقال تنويهاً بذي الشأنية والسمو وتلقى أمام نعش أو ضريح نابغة مشهور كما في تأبين الفلاسفة للأسكندر(2).

تأبين النبي (ص) لعمه حمزة بن عبد المطلب:

     قال الحلبي الشافعي في سيرته(3) بعد ذكر شهادة حمزة «عليه السلام»: فجاء رسول الله (ص) نحو عمه حمزة فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه ومثل به فجدع أنفه وأذناه، فنظر رسول الله (ص) إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه وقال: لن أصاب بمثلك ما وقفت موقفا أغيظ لي من هذا، وقال (ص): رحمة الله عليك فإنك كنت ما علمتك فعولاً للخيرات، وصولاً للرحم، أما والله لأقتلن بسبعين من قريش.

(1) أسرار الشهادة: ص323.

(2) راجع مروج الذهب 1/180.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                            

(3) السيرة الحلبية 3/ 295.

(19)

     ثم ذكر(1) عن ابن مسعود «رضي الله عنه»: ما رأينا رسول الله (ص) باكياً أشد من بكاه على عمه حمزة «رضي الله عنه»  وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته وانتصب حتى نشق أي شهق حتى بلغ به الغشي يقول: يا عم رسول الله وأسد الله وأسد رسول الله! يا حمزة يا فاعل الخيرات! يا حمزة ياكاشف الكربات! يا حمزة يا ذاب يا مانع عن وجه رسول الله الخ. للمؤلف:

لئن بكى حمزة شجواً وأبنه                                  محمد يوم أحد ظاهر الكمد

وقال يا فاعل الخيرات أجمعها                           وكاشف الكرب عني كشف مجتهد

فذا أبو الفضل يوم الطف أبنه                            بحرقة سبط هادي الخلق للرشد

وحمزة الخير إن أذناه قد جدعت                                  وأنفه قطعت في كف ذي نكد

فذا أبو الفضل سهم الكفر قد نبتت                            بالعين منه وطارت منه كل يد

ومخ يافوخه قد سال مختلطاً                              مع النجيع لضرب الرأس بالعمد

فإن اصيب رسول الله في أحد                                   بعمه حمزة الهدار كالأسد

فسبطه فاقد بالطف خير أخ                                          وفلذة للحشا أسماه بالولد

وإخوة وبنين لا شبيه لهم                                 حتى الرضيع قضى في سهم ذي نكد

يوم الطفوف فلا تحكيه فاجعة                                  من الفواجع أو حلت على أحد

تأبين النبي (ص) لولده إبراهيم «عليه السلام»:

            يذكر الحلبي في سيرته(2) في حديث قال: لما أحتضر إبراهيم «عليه السلام» جاء (ص) فوجده في حجر أمه فأخذه وجعله في حجره وقال: يا إبراهيم! إنا لن نغني عنك من الله شيئا، ثم ذرفت عيناه وقال: إنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب، ولولا أنه وعد صادق وموعود جامع أن الآخر منا يتبع الأول وجدنا عليك يا إبراهيم شديداً ما وجده، ولولا أنه امر حق ووعد صدق وأنها سبيل مأتية لحزنا عليك حزناً شديداً.

   و(3) ذكر أنه لما مات كان (ص) مستقبلاً للجبل فقال: يا جبل! لو كان بك مثل ما بي لهدك ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون، إنتهى.

                                                                                                                                                                                         للمؤلف:

فإن كان ما بالمصطفى سيد الورى                     بصم الرواسي هدها وهي الشم

(1) السيرة الحلبية 3/ 260.

(2) السيرة الحلبية 3/ 347.

(3) نفسه 3/348.

(20)

على فقد إبراهيم فلذة قلبه                            وقد مات حتف الأنف ما مسه كلم

فما حال سبط المصطفى يوم كربلاء                      وكم قد هوى في الترب من آله نجم

وكل تسيل النفس منه على الضبا                           وما مرضته ظئرة لا ولا أم

فذا وزعته المشرفية في الوغى                        وذا شك منه النحر في حجره السهم

وكلتاهما يقضي ولم يسقي شربة                        من الماء حيث الماء تروى به البهم

تأبين الحسين لأخيه الحسن «عليهما السلام»:

       في تأريخ الحافظ ابن عساكر الشافعي(1): وقف الحسين «عليه السلام» على قبر أخيه لما مات فقال: رحمك الله أبا محمد أن كنت ناصراً للحق وتؤثر الله عند مداحض الباطل في مكان التقية بحسن الروية، وتستشف جليل معاظم الدينا بعين حاذرة، وتقبض عليها بيد طاهرة، وتردع ما يريده أعداؤك بأيسر المؤونة عليك، وأنت ابن سلالة النبوة ورضيع لسان الحكمة، فإلى روح وريحان وجنة نعيم، فأعظم الله لنا ولكم الأجر عليه ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأساة عليه الخ.

تأبين محمد بن الحنفية لأخيه الحسن «عليه السلام»

    فأبن عساكر يذكره عقيب كلام الحسين(2) وابن عبد ربه في العقد الفريد(3) ونصهما: وقف محمد بن الحنفية يؤبن الحسن الزكي «عليه السلام» فخنقته العبرة ثم نطق فقال: يرحمك الله أبا محمد فلئن عزت حياتك فقد هدت وفاتك، ولنعم الروح روح ضمه بدنك، ولنعم البدن بدن ضمه كفنك، وكيف لا تكون كذلك وأنت بقية ولد الأنبياء وسليل الهدى وخامس أهل الكسا، غذتك أكف الحق وربيت في حجر الإسلام، فطبت حياً وطبت ميتاً، وأن كانت أنفسنا غير طيبة بفراقك ولا شاكة في الخيار لك، إنتهى.

    وفي مفتاح الأفكار للشيخ أحمد مفتاح مدرس الإنشاء بقسم العلمين العربي بالمبتديان(4): رحمك الله يا ابا محمد فلئن عزت حياتك لقد هدت وفاتك ولنعم الروح روح تضمنه بدنك، ولنعم الجسد جسد تضمنه كفنك، ولنعم الكفن كفن تضمنه لحدك، وكيف لا تكون كذلك وأنت سليل الهدى وخامس أصحاب الكسا وخلف أهل التقى، جدك النبي المصطفى، وأبوك علي المرتضى، وأمك فاطمة الزهراء، وعمك جعفر الطيار في جنة المأوى، غذتك أكف الحق، وربيت في

__________

(1) تاريخ مدينة دمشق 4/ 337.

(2) نفسه 4/ 227.

(3) العقد الفريد 2/163.

(4) مفتاح الأفكار 1/ 148.

(21)

      حجر الإسلام، ورضعت ثدي الإيمان، فطبت حياً وطبت ميتاً، فلئن كانت الأنفس غير طيبة بفراقك أنها غير شاكة أن قد خير لك وأنت وأخاك لسيدا شباب أهل الجنة، فعليك يا أبا محمد منا السلام.

تأبين فاطمة الزهراء «عليها السلام» لابيها رسول الله (ص):

    عن أنس قال: لما فرغنا من دفن رسول الله (ص) أقبلت علي فاطمة «عليها السلام» فقالتك يا أنس! كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على وجه رسول الله (ص) التراب؟ ثم بكت ونادت: يا أبتاه! أجاب رباً دعاه، يا ابتاه! من ربه أدناه، يا أبتاه! إلى جبرائيل أنعاه، يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه، ثم سكتت فما زادت شيئاً.

تأبين أمير المؤمنين «عليه السلام» لخباب بن الأرت:

       وخباب بن الأرت من قدماء الصحابة أسلم بعد ستة نفر فهو سادس الإسلام لا كما يقال من أنه سعد بن أبي وقاص، وخباب ممن عذب في الله وشهد مع أمير المؤمنين «عليه السلام» وتوفي قبل رجوع أمير المؤمنين «عليه السلام» من صفين بثمانية أيام ودفن بظهر الكوفة (النجف) فوقف «عليه السلام» على قبره وقد دفن بالظهر فقال: رحم الله خباباً لقد أسلم راغباً وجاهد طائعاً وعاش مجاهداً وابتلي في جسمه أحوالاً ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً.

تأبين امير المؤمنين علي  «عليه السلام» لفاطمة الزهراء «عليها السلام»:

         لما فرغ من دفنها «عليها السلام» هاج به الحزن فالتفت إلى قبر رسول الله (ص) وقال: السلام عليك يارسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك، السريعة اللحاق بك، قل يا رسول الله عن صفيتك صبري ودق عنها تجلدي إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعز، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك وفاضت بين صدري ونحري نفسك فإنا لله وإنا إليه راجعون، قد أسترجعت الوديعة وأخذت الرهينة، فأما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم، وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها فأحفها السؤال واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد ولم يخلق منك الذكر والسلام عليكما سلام مودع لا قال ولا سئم، إن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين، إنتهى عن نهج البلاغة، وتروى بألفاظ هي أطول من هذا ونقلها تطويل.

(22)

تأبين الخضر لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»:

        رحمك الله يا أبا الحسن، الزيارة المعروفة في ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان فأطلبها من كتب الزيارات.

تأببين فرغانة للأحنف:

       هي فرغانة بنت أوس بن حجر شاعر بني تميم في الجاهلية والأحنف بن قيس التميمي أحد بني سعد الحليم المشهور ذكرها المبرد في الكامل والجاحظ في البيان والتبيين(1) ونصه: قامت فرغانة بنت أوس بن حجر على قبر الأحنف بن قيس وهي على راحلة فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمك أبا بحر من مجن في جنن، ومدرج في كفن، فو الذي ابتلانا بفقدك وبلغنا يوم موتك لقد عشت حميداً ومت فقيداً، ولقد كنت عظيم الحلم، فاضل السلم، رفيع العماد، واري الزناد، منيع الحريم، سليم الأديم، وإن كنت في المحافل لشريفاً، وعلى الأرامل لعطوفاً، ومن الناس لقريباً، وفيه لغريباً، وإن كنت لمسوداً، وإلى الخلفاء لموفداً، وإن كانوا لقومك مستمعين، ولرأيك لمتبعين، ثم انصرفت، إنتهى.

تأبين جبار بن سلمى نزال المضيق لأن عمه عامر بن الطفيل:

        قد ترجمنا لهؤلاء في الجزء الأول من هذا الكتاب وهذا التأبين ذكره المبرد في الكامل والميداني في مجمع الأمثال(2) ولفظه: مر جبار بن سلمى بن مالك بن جعفر بن كلاب بقبر عامر بن الطفيل وقد كان غاب عن موته فقال: ما هذه الأنصاب؟ فقالوا: نصبناها على قبر عامر بن الطفيل، فقال: ضيقتم على أبي علي وافضلتم منه فضلاً كبيراً، ثم وقف على قبره وقال: أنعم ظلاماً أبا علي لقد كنت تشن الغارة وتحمي الجارة، سريعاً إلى المولى بوعدك بطيئاً عنه بوعيدك، وكنت لا تضل حتى يضل النجم، ولا تهاب حتى يهاب السيل، ولا تعطش حتى يعطش البعير، وكنت والله خير ما كنت تكون حين لا تظن نفس بنفس خيراً، ثم ألتفت إليهم وقال: فهلا جعلتم قبر ابي علي ميلاً في ميل؟! إنتهى.

تابين النجاشي الحارثي:

       وهو شاعر أهل العراق في حرب صفين. قال المبرد في الكامل(3): رغبة الآمل وقف رجل على قبر النجاشي فترحم وقال: لولا أن القول لا يحيط بما فيك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البيان والتبيين 2/ 241.           (2) مجمع الأمثال 2/ 22.

(3) الكامل للمبرد 8/ 344.

(23)

والوصف يقصر دونك لأطنبت بل لأسهبت، ثم عقر ناقته على قبره وقال:

عقرت على قبر النجاشي ناقتي     بأبيض عضب أخلصته صياقله

على قبر من لو أنني مت قبله         لهانت عليه عند قبري رواحله

تأبين بني أميه لعبد الله الجواد بن جعفر الطيار:

         قال أبو الفرج في الأغاني(1): الأصمعي عن الجعفري قال: لما مات عبد الله بن جعفر شهده أهل المدينة كلهم وإنما كان عبد الله بن جعفر مأوى المساكين وملجأ الضعفاء فما تنظر إلى ذي حجى إلا رأيته مستعبراً قد أظهر الهلع والجزع، فلما فرغوا من دفنه قام عمرو بن عثمان يعني ابن عفان فوقف على شفير القبر فقال: رحمك الله يا ابن جعفر إن كنت لرحمك واصلاً، ولأهل الشر لمبغضاً، ولأهل الرياسة لقالياً، ولقد كنت فيما بيني وبينك كما قال الأعشى:

رعيت الذي قد كان بيني وبينكم      من الود حتى غيبتني المقابر

        فرحمك الله يوم ولدت ويوم كنت رجلاً ويوم مت ويوم تبعث حياً، والله لئن كانت هاشم أصيبت بك لقد عم قريشاً كلها هلك فما أظن أن يرى بعدك مثلك.

        فقام عمرو بن سعيد الأشدق فقال: لا إله إلا الله الذي برأ الأرض ومن عليها وإليه ترجعون، ما كان أحلى العيش بك يا بن جعفر وما أسمج ما أصبح بعدك لو كانت عيني دامعة على أحد لدمعت عليك، كان والله حديثك غير مشوب بكذب، وودك غير ممزوج بكدر.

       فوثب ابن المغيرة ابن نوفل ولم يثبت الأصمعي أسمه فقال: ياعمرو! بمن تعرض بمزج الود وشوب الحديث أفبابني فاطمة «عليها السلام» فهما والله خير منك ومنه؟! فقال: على رسلك يالكع أردت أن أدخلك معهم، هيهات لست هناك والله لو مت أنت ومات أبوك ما مدحت ولا ذممت فتكلم بما شئت فلم تجد لك مجيباً، فحجز بينهما وانصرفوا، إنتهى.

        لن يترك الأشدق جبار بني أميه عداوته للحسن والحسين «عليهما السلام» وهو القائل عند قتل الحسين «عليه السلام» شامتاً برسول الله (ص): يامحمد! يوم بيوم الحفض المجور، واعية كواعية عثمان وتمثل:

عجت نساء بني زياد عجة        كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

       أصيب أعرابية بأبنها وهي حاجة فلما دفنته قامت على قبره وقالت: والله يا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأغاني 11/ 66

(24)

         بني لقد غذوتك رضيعاً، وفقدتك سريعاً، وكأن لم يكن بين الحالين مدة ألتذ بعيشك فيها فأصبحت بعد النضارة والغضارة ورونق الحياة والتنسم في طيب روحها تحت أطباق الثرى جسداً ورفاتاً سحيقاً صعيداً جرزاً، بني! لقد سحبت الدينا عليك أذيال الفنا، واسكنتك دار البلا، ورمتني بعدك نكبة الردى، أي بني! لقد أسفر لي عن وجه الدينا صباح داج ظلامه.

        ثم قالت: أي رب منك العدل ومن خلقك الجور، وهبته لي قرة عيني تمتعني به كثيراً بل سلبتنيه وشيكاً ثم أمرتني بالصبر ووعدتني عليه الأجر فصدقت وعدك ورضيت قضائك فرحم الله من ترحم على من أستودعته الردم ووسدته الثرى، اللهم أرحم غربته وآنس وحشته وأستر عورته يوم تكشف الهنات والسوءات.

      فلما أرادت الرجوع إلى أهلها قالت: أي بني! إني قد تزودت لسفري فليت شعري ما زادك لبعد طريقك ويم معادك، اللهم إني أسألك له الرضا برضائي عنه، ثم قالت: أستودعك من أستودعنيك في أحشائي جنيناً وأثكل الوالدات ما أمض حرارة قلوبهن وأقلق مضاجعهن وأطول ليلهن وأقصر نهارهن وأقل أنسهن وأشد وحشتهن وأبعدهن من السرور وأقربهن من الأحزان، إنتهى.

تأبين أبي ذر الغفاري لولده ذر:

      روى الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره من قصة مطولة تشرح قصة طرد عثمان لأبي ذر من المدينة إلى الربذة قال: ومات ابنه ذر بها فوقف على قبره فقال: رحمك الله يا ذر لقد كنت حسن الخلق، باراً بالوالدين، وما علي في موتك من غضاضة، وما لي إلى غير الله من حاجة وقد شغلني الأهتمام لك عن الاهتمام بك، ولولا هول المطلع لأحببت أن أكون مكانك فليت شعري ما قالوا لك وما قلت لهم، ثم قال: اللهم إنك قد فرضت لك عليه حقاً وفضرت لي عليه حقاً فإني قد وهبت ما فرضت لي عليه من الحقوق فهب له ما فرضت له عليه من الحقوق فإنك أولى بالحق وأكرم مني الخ.

تأبين الحجاج الثقفي لأخيه محمد وابنه محمد وقد هلكا جميعاً في يوم واحد:

        ونذكر قصص هؤلاء لأن في الحديث (الحكمة ضالة المؤمن) عند الفاسق يأخذها حيث وجدت أو ما هذا معناه.

       في مفتاح الأفكار(1): وخطب الحجاج حين أصيب بولده وأخيه: أيها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مفتاح الأفكار 1/ 189.

(25)

 الناس! محمدان في يوم واحد، أما والله لقد كنت أحب أنهما معي في الدنيا مع ما أرجو لهما من ثواب الله في الآخرة، وايم الله ليوشكن الباقي منا ومنكم أن يفنى والجديد منا ومنكم أن يبلى، والحي منا ومنكم أن يموت، وإن تدال الأرض منا كما أدلنا منها فتأكل لحومنا وتشرب من دمائنا كما مشينا على ظهرها واكلنا من ثمارها وشربنا من مائها ثم يكون كما قال الله تعالى: (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث الى ربهم ينسلون)(1) ثم تمثل بهذين البيتين:

عزائي نبي الله عن كل ميت        وحسبي ثواب اله عن كل هالك

إذا ما لقيت الله عني راضياً           فإن سرور النفس فيما هنالك

         إنتهى، وبم عدو الله يلقى الله عنه راضياً؟ أبإحراق بيته الحرام وهدمه لحيطانه حين رماه بالمنجنيق؟ أم بقتله أولياء الله والفقهاء والزهاد؟ أم لحبسه النساء مع الجال وغير ذلك من الفضائع التي ارتكبها؟

تأبين عمر بن عبد العزيز المرواني لابنه عبد الملك:

      هلك ابنه عبد الملك وكان له خير عضد وكان عوناً له على رد مظالم بني أمية يشجعه على الإقدام في الإنصاف منهم.

      قال الجاحظ في البيان والتبيين(2): عن زياد بن حسان إنه شهد عمر بن عبد العزيز حين دفنه ابنه عبد الملك فلما سوى عليه قبره بالأرض وجعلوا على قبره خشبتين من زيتون أحدهما عند رأسه والأخرى عند رجليه ثم جعل قبره بينه وبين القبلة وأستوى قاعداً وأحاط به الناس قال: رحمك الله يا بني فقد كنت براً بأبيك وما زلت مذ وهبك الله لي بك مسروراً ولا والله ما كنت مسروراً بك ولا ارجى لحظي من الله فيك منذ وضعتك في الموضع الذي صيرك الله إليه فغفر الله لك ذنبك وجازاك بأحسن عملك وتجاوز عن سيئاتك ورحم الله كل شافع يشفع لك بخير من شاهد وغائب، رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره فالحمد لله رب العالمين، إنتهى.

تأبين الحوراء زينب بنت أمير المؤمنين لأخيها الحسين «عليهم السلام»:

وقد مروا بهن على جثث القتلى حيث جعلوا طريقهم على المعركة ليضاعفوا الأحزان على مخدرات الوحي والرسالة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يس: 51.         (2) البيان والتبيين 2/ 270.

(26)

        ذكر الدربندي في اسرار الشهادة(1)، والسيد ابن طاوس في الملهوف(2)، والطبري المؤرخ واختصرها، وهذا نص المختصر في تأريخه(3): عن قرة بن قيس الحنظلي قال: نظرت إلى تلك النسوة لما مررن بحسين وأهله وولده صحن ولطمن وجوههن، قال: فأعترضتهن على فرس فما رأيت منظراً من نسوة قط كان أحسن من منظر رأيته منهن ذلك والله لهن أحسن من مهى يبرين فما نسيت من الأشياء لا أنسى قول زينب ابنة فاطمة «عليها السلام» حين مرت بأخيها الحسين «عليه السلام» صريعاً وهي تقول: يامحمداه! يامحمداه! صلى عليك ملائكة السماء، هذا حسين بالعراء، مزمل بالدماء، مقطع الأعضاء، يامحمداه! وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا، قال: فأبكت والله كل عدو وصديق، إنتهى.

     أما الدربندي فلفظه في مرور الحرم على مصارع الشهداء من آل الرسول (ص): إعلم إن المستفاد من أخذ جامع الأخبار والروايات هو أن مرور النساء على مصارع الشهداء كان في اليوم الحادي عشر من المحرم بعد الزوال لأن ذلك الوقت كان وقت أرتحال عمر بن سعد «لعنه الله» مع عسكره من كربلاء إلى الكوفة ثم قد أختلفت أقوال أصحاب المقاتل في أن ذلك المرور هل كان بطلب من النساء والتماسهن ذلك أو كان ذلك عداوة وعناداً من ابن سعد؟ فأكثر أصحاب المقاتل قد صاروا إلى الأول والبعض منهم إلى الثاني.

      فقال السيد في الملهوف: ثم أخرجوا الحرم من الخيمة واشعلوا فيها النار فخرجن حواسر مسلبات حافيات باكيات يمشين سبايا في أسر الذلة، فقلن: بحق الله إلا ما مررتم بنا على مصرع الحسين «عليه السلام»، فلما نظر النسوة إلى القتلى صحن وضربن وجوههن، قال الراوي: فو الله لا أنسى زينب بنت علي «عليهما السلام» وهي تندب الحسين «عليه السلام» وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب: يامحمداه! صلى عليك مليك السماء هذا حسين مزمل بالدماء، مقطع العضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى وإلى محمد المصطفى وإلى علي المرتضى وإلى حمزة سيد الشهداء، يا محمداه! هذا حسين بالعراء تسفي عليه الصبا، قتيل أولاد البغايا، ياحزناه! يا كرباه! اليوم مات جدي محمد رسول الله، يا أصحاب محمد! هؤلاء ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أسرارا الشهادة: ص467.      (2) المهلوف: ص 262.

(3) تاريخ الطبري 6/ 262.

(27)

        وفي رواية: يامحمد! بناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفي عليها ريح الصبا، هذا حسين محزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والردا، بأبي من عسكره يوم الأثنين نهبا، بأبي من فسطاطه مقطع العرى، بأبي من لا غائب فيرجى ولا جريح فيداوى، بأبي من نفسي له الفدا، بابي المهموم حتى قضى، بأبي العطشان حتى مضى، بأبي من شيبته تقطر بالدما، بأبي من جده رسول الله إله السما، بأبي من هو سبط نبي الهدى، بأبي ابن محمد المصطفى، بأبي ابن خديجة الكبرى، بأبي ابن علي المرتضى، بأبي ابن فاطمة الزهراء سيد النساء، بأبي ابن من ردت له الشمس حتى صلى، قال الراوي: فأبكت كل عدو وصديق.

        ثم إن سكينة أعتنقت جسد ابيها فأجتمع إليها عدة من الأعراب حتى جروها عنه.

       هذا ما في الملهوف، واما ما في بعض الكتب المعتبرة فهو ما روي عن عبد الله ابن أويس عن ابيه أنهم جاؤوا بالنساء 4عناداً وعبروا بهن على مصارع القتلى من آل الرسول فلما رأت أم كلثوم أخاها الحسين «عليه السلام» تسفي عليه الرياح وهو مكبوب ومسلوب وقعت من أعلى البعير إلى الأرض واحتضنت أخاها وهي تقول ببكاء وعويل: يارسول الله! أنظر إلى جسد ولدك ملقى على الأرض بغير دفن، كفنه الرمل السافي عليه، وغسله الدم الجاري من وريديه، وهؤلاء أهل بيته يساقون أسارى في أسر الذل ليس لهم من يمانع عنهم، ورؤوس أولاده مع رأسه الشريف على الرماح كالأقمار، يا محمد المصطفى! هذه بناتك سبايا وذريتك مقتلة.

        فما زالت تقول هذا القول حتى أبكت كل صديق وعدو حتى رأينا دموع الخيل تتقاطر على حوافرها، وساروا بها وهي باكية حزينة لا ترقى لها دمعة ولا تبطل لها عبرة.

        ثم ذكر(1) ما لفظه: روى بعضهم أنه كان للحسين «عليه السلام» بنت صغيرة وكانت بين تلك السبايا جالسة حول أبيها قابضة على كتفه وكفه في حضنها فتارة تشم كتفه وتارة تضع أصابعه على فؤادها وتارة على عينها وتأخذ من دمه الشريف وتخضب شعرها ووجهها وهي تقول: وا أبتاه! قتلك أقر عيون الشامتين وسر المعاندين، يا أبا عبد الله! ألبستني بنو أمية ثوب اليتم على صغر سني، يا أبتاه! إذا أظلم الليل من يحمي حماي، يا أبتاه! أنظر إلى رؤوسنا المكشوفة وإلى أكبادنا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أسرار الشهادة: ص468.

(28)

الملهوفة وإلى عمتي المضروبة وإلى امي المسحوبة.

        قال: فذرفت عند ندبتها العيون، فأتاهم زجر اللعين وقال: إن الأمير نادى مناديه بالرحيل فهلموا وأركبوا، فأتت البنت إلى السائق اللعين فوقعت بين يديه وقالت: ياهذا! سألتك بالله وجدي رسول الله (ص) أنتم اليوم تقيمون أو ترحلون؟ قال: بل راحلون، قالت: ياهذا! إذا عزمتم على الرحيل سيروا بهذا النسوة واتركوني عند والدي فإني صغيرة السن ولا أستطيع الركوب فأتركوني عند والدي أبكي عليه فإذا مت عنده سقط عنكم ذمامي ودمي، فدفعها عنه وأبعدها منه، فلاذت بأبيها سيد الشهداء روحي له الفداء واستجارت به فأتى إليها وجذبها من عند أبهيا فقالت له: يا هذا! إن لي أخاً صغيراً فدعني أودعه، فأمهلها فتخطت خطوات قليلة لأنه كان قريبا من أبيه «عليه السلام» فلما وقعت عيناها عليه تحسرت ثم إنها لثمته لثمات متتابعات ثم أجلسته ووضعته في حضنها وجعلت فيها على نحره الشريف ونادت: ياأخي! لو خيروني بين المقام عندك أو الرحيل عنك لا خترت المقام ولو أن السباع تأكل لحمي فها أنا راحلة عنك غير جافية لك، وهذه نياق الرحيل تتجاذبنا على المسير قد أتونا بها مهزولة لا موطئة ولا مرحولة، وناقتي يا أخي مع هزلها صعبة الأنقياد فلا أدري أين يريد بنا أهل العناد فأقرأ جدي علي المرتضى وجدتي فاطمة الزهراء عني السلام وقل لهما: أختي شاكية إليكما حالها قد خرموا أذنيها وفصموا خلخالها، ثم إنها وضعت فمها على شفتيه وقبلت خديه فأتاها السائق اللعين فجذبها عنه وأركبها قهراً، فلما ركبت الناقة التفتت إلى أبيها وقالت: يا أبة! ودعتك الله السميع العليم واقرؤوك السلام ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنتهى.

                                                                                                                                                                                         للمؤلف:

إنما هذه اليتيمة أشجت     كل قلب بندبة وعويل

حين مروا بها بجسم أبيها   حوله خير فتية وكهول

أعولت عنده وقالت دعوني   عنده لا أحب عنه رحيلي

أتركوني أبكي أبي وشقيقي    نور عيني عسى ابل غليلي

ولو أن السباع تأكل من لحمي    لا أبالي في قرب خير سليل

أنهضوها عن جسم والدها الـ     ـبر بضرب السياط والتنكيل

ثم لاذت به وما رحموها        شر قوم وعصبة وقبيل

(29)

فأستغاثت بالسبط وهو صريع          بدموع دفاقة كسيول

أبتا ما ترى صنيع عداكم     سلبوني من بعد قرطي حجولي

        كلما مررت بهذه الحادثة يتفتت كبدي لوعة وينصدع قلبي حرقة، إنها ولا أغالي لو قلت من القصص المروعة والحكايات المحزنة التي تثير اللوعة وتبعث الشجا وتستدر الدمعة وتستدعي العبرة ولعل مستغرباً يستغرب مثل هذه القصة ويعدها من ضروب الأقاصيص، أما الشكاك والمنحرف فندعه وعقليته السخيفة التي قادته إلى التشكيك في مسلمات التأريخ وقطعياته، أما غير هذا المتعجرف وسوى هذا المتطرف إذ يرتاب فيها من ناحية صدور هذه البلاغة ووقوع هذه الإبانة العجيبة الأسلوب من طفلة صغيرة السن فلا ريب أن هذه المستريب جاهل بأهل البيت النبوي وما خصهم الله به من الذكاء الفطري وجبلهم عليه من الإفصاح.

        للمؤلف:

إن كانت الطفلة في سنها     صغيرة فالعقل منها كبير

لأنها تنمى إلى دوحة      فيحاء تزهو وسط روض نضير

فروعها خير شباب الورى     وحيدر الأصل وطاها البشير

أوراقها تزهو واغصانها       تسبق إذ تسقى بخير وخير

ينمو به الفرع ويزهو كما        تزهو النباتات بماء نمير

بيان هذي البنت إرث لها      من صاحب الإسرا أتى والغدير

من يستحق التأبين عند الناس:

          لا ريب أن التأبين وهو تعداد محاسن الميت كما عرفوه إنما يستحقه العظيم من الناس لشرفه وسؤدده ولأعماله الصالحة ولمآثره الجميلة أو لأن له منزلة عظيمة من المحبة في قلب المؤبن فعند ذلك يلقي كلمات التوجع ويفوه بألفاظ التأسف ويظهر التفجع له.

          ومن هنا تعرف إن للعباس «عليه السلام» عند أخيه الحسين «عليه السلام» أعظم المنازل وأسمى المراتب لمحبته إياه ولفرط إعجابه لا من حيث الأخوة وإن كانت بعض المقتضي للمحبة بل من حيث الأعمال الصالحة والمآثر الكريمة والطباع الفاضلة والسجايا المحمودة، وإنه أعظم من ضحى نفسه أمامه وفاداه، وإنه أشدهم همة في المحامات عنه وافضلهم شجاعة وأكثرهم براً وألفاظاً به، وأسرعهم قياماً بخدمته وأحسنهم إيثار له ومناصحة، فتلك الأسباب وغيرها أبنه

 

(30)

 

 

بما سمعت وإلا فقد تسمع كمية من استشهد مع الحسين «عليه السلام» من إخوته ولعل عددهم يزيد على خمسة عشر وكل واحد منهم كان حبيباً إليه فما سمعنا أنه بكى على واحد منهم أو قال عند قتله: الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوي على ماذكره السيد هبة الدين الشهرستاني في النهضة الحسينية(1).

والفقيد الذي يوجب افتقاده شماتة الأعداء وذهول الرئيس الحازم عن تدبير الحيلة في المصلحة الحربية المهمة في مقابلة العدو المتكالب لفقيد عظيم ومنزلته لا تقاس بها منزلة ورتبته لا ندانيها رتبة، وقد دل دلالة واضحة أن أثره في حياته كان كبيراً حتى يكون أهلاً لئن يوصف بهذه الأوصاف وإنما يشمت العدو بفقد من يعد فقده كسراً في عدوه ووهناً عظيماً في ناحية خصمه.

ولست أستريب أن هذه الكلمات الثلاثة من سيد الشهداء وردت لبيان فضيلة العباس «عليه السلام» وكشف حقيقته المخفية على الجاهلين بقدره، وإن له منزلة عظيمة بل هي أعظم منازل الشهداء معه وأرفعها وأعلاها وهو مع ذلك فقد كان باب الحسي كما كان أمير المؤمنين علي أبوه باب رسول الله (ص) ومنزلته منه تلك المنزلة، فقد كان رسول الله (ص) يعد علياً «عليه السلام» لكل عظيمة ويدعوه عند كل نازلة ويختصله ويحبوه ويكرمه، وكذلك كان أبو الفضل العباس «عليه السلام» عند الحسين «عليه السلام» يعده لكل عظيمة ويدعوه لك نازلة كما سمعت من حديث رد العسكر الزاحف إليه يوم التاسع وبعثه لجلب الماء من الفرات وانتدابه لا ستنقاذ أصحابه الذين اقتطعهم جيش عمر بن سعد.

قال هبة الدين الشهرتاني في نهضة الحسين «عليه السلام»(2): كان الحسين «عليه السلام» مستميتاً ومستميت كل من كان معه وكانت أنفسهم الشريفة متشربة من كأس التضحية وريانة من معين التفادي، وفي مقدمة هؤلاء أبو الفضل أكبر إخوة الحسين «عليه السلام» الممتاز في الكمال والجمال، وقمر بني هاشم، وحامل راية الحسين «عليه السلام»، وعقيد آماله في المحافظة على رحله وعياله لذلك شق على الحسين «عليه السلام» إن يأذن له بالبراز إلى الأعداء الخ.

                                                                                                                                                                                           للمؤلف

قل لأبي الفضل «عليه السلام»    شبل علي الطهر مولى الأنام

فدتك نفسي ونفيسي معاً       يا ابن إمام وأخاً للإمام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) النهضة الحسينية: ص106.       (2) نهضة الحسين: ص104.

(31)