موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

 

 

وأما الجفاء فكما يفعل بعض الخلفاء التاركين الفرائض المهملين الآداب فيما بينهم وبين الله وفيما بينهم وبين عباد الله من الجرأة على الله في أحكامه وترك حقوق الناس وتضييعها وهتك حرماتهم وأعراضهم كالتنابز بالألقاب وارتكاب الفسوق والعصيان والمزاح المنهي عنه شرعاً الخ.

              وهذا الشارع لما كان شيعياً سلك مسلك أهل الحقيقة وترك مسلك أهل الطريقة والمبتدعين من الصوفية حسبما أشرنا إليه فيما مضى من أختراعهم طريقة الحادية حلو ليلة وزندقة مشبعة بالتناسخ توجب إبطال الشرائع الإلهية مما فرضوا على المريد من تكاليف شاقة وأباحوا له محرمات صرح الشرع بحرمتها كالغناء والرقص ومقارفة الكبائر من الفواحش ليتوب ويشتد وجده عند ذكرها، ويذهب به التواجد إلى الإغراق وأمثال هذه العقائد الماحقة للشرع المقدس وسموها آداباً، ولكن مسلك أهل الحقيقة وهم الزهاد الورعون هو هذا الذي ذكره الكاشاني.

              فحقيقة الأدب العرفاني والروحاني حقيقة واحدة وهي حمل النفس على فعل المشروعات الدينية والتخلق بالأخلاق الشرعية ورفض ما ورد الزجر عنه في شريعة سيد الأنبياء محمد (ص) وقد عرفت أن العوام تعرف معنى الأدب وهو لزوم السمت الحسن والطريقة المرضية من الهدوء والسكينة والتخلق بالأخلاق الحميدة ولذلك يقولون في أمثالهم بلغتهم الدارجة «ياغريب كون أديب» وذلك لأن الغربة نقص وذل والتخلق بمكارم الأخلاق يجبر ذلك النقص ويسد ذلك الخلل وكذلك يقولون في التخاطب بينهم إذا رأوا طفلاً بذيئاً جريئاً: يافلان يدب أبنك يعني أدبه والزمه الآداب بأحترام الكبار وذوي الأقدار ولعلهم سمعوا الحديث المشهور في تربية الصغار «أدب ولدك صغيراً ينفعك كبيراً» فإن هذا الأدب يكسر سورة حدته ويكبح جماح طيشه ولهذا لا يرى الفقهاء بضرب التأديب بأساً.

              أما المتمدنون من أهل عصرنا فقد خصوا الأدب بالشعر ونعتوا الشاعر الأديب وهذا كما عرفت أصطلاح حادث وليس بقديم، قال الشاعر:

ولي أدب يطير إلى الثريا     وحظ واقع بثرى الحضيض

              وقال آخر:

صبغ الله أوجه البيض والصفـ         ر بحظ الذي يكون أديباً

درجات الأدب ومراتبه

              للأدب درجات ومراتب كغيره من الأخلاق المكتسبة وإنها تكون بالإضافة

(348)

إلى ما حصله الشخص من الآداب الروحانية الدينية على حسب قوة الأستعداد للقبول وقوة الملكة الحاصلة من الممارسة وهي كثيرة بالنسبة إلى القوة والضعف كمراقي السلم، وأقتصر الخواجه عبد الله الأنصاري على ثلاثة فقال في منازل السائرين(1): وهو على ثلاثة درجات:

              الدرجة الأولى: منع الخوف أن يتعدى إلى اليأس، وحبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن، وضربط السرور أن يضاهي الجرأة.

              قال الكاشاني في الشرح: الرجاء والخوف متقابلان فيجب أن يكون فيهما كما جاء في الحديث: لو وزن خوف المؤمن ورجائه لأعتدلا، فإن رجح الخوف تعدى إلى اليأس من رحمة الله نعوذ بالله فلذلك يجب منع الخوف الذي يؤدي إلى اليأس، فإن إلياس من رحمة الله سوء أدب مع الحق، قال الله تعالى: ( ورحمى وسعت كل شيء)(2)، وقال: ( لا تقنطوا من رحممة الله)(3) وقال: «سبقت رحمتي غضبي»، فصاحب اليأس قد تعدى حدود الله فقد ظلم نفسه وإن رجح الرجاء أدى إلى الأمن قبل الوقت وهو الأمن من مكر الله، قال الله تعالى: (أفامنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخسرون)(4) وهو في حال السلوك والبداية، وأما في حال الولاية والنهاية: (أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)(5) فلذلك يجب حبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن فإنه أيضاً سوء أدب وتعدي الحدود لكن لا كاليأس فإنه قال: «أنا عند ظن عبدي المؤمن» الخ.

              قال الأنصاري: الدرجة الثانية: الخروج من الخوف إلى ميدان القبض والصعود من الرجاء إلى ميدان البسط والترقي من السرور إلى ميدان المشاهدة.

              قال الكاشاني في الشرح: الخوف والرجاء كلاهما من صفات النفس والقبض والبسط من صفات القلب فهما أصلاهما، والخوف والرجاء فرعاهما ولذا قيل: القلب في مقام الخوف والرجاء بين لمتي الملك والشيطان وفي القبض والبسط بين إصبعين من أصابع الرحمن فالسالك إذا أرتقى إلى مقام القلب خرج عن ضيق الخوف إلى فضاء القبض وصعد من هوة الرجاء إلى ربوة البسط وترقي عن السرور بالكشف إلى سعة المشاهدة ومن نور التجلي إلى ضياء العيان.

(1) منازل السائرين: ص120.                     (2) الأعراف: 156.

(3) الزمر: 53.                                                 (4) الأعراف: 99.

(5) الأنعام: 82.

(349)

              قال الأنصاري: الدرجة الثالثة: معرفة الأدب ثم الغنى من التأديب بتأديب الحق ثم الخلاص من شهوة أعباء الأدب.

              قال الكاشاني في الشرح: معرفة الأدب في كل واحد من درجاته الثلاثة بحصوله في الدرجة الثالثة ووقوفه بالتعريف الإلهي على حقيقة الأدب في كل مقام من المقامات ثم الغنى عن الأدب نفسه بشهود(1) المؤدب الحقيقي الذي هو الحق فيغيب عن نفسه وأدبه فلا ينسب الأدب إلا إلى الذي أقامه في مقام الأدب وتخلص عن علمه الأدب بفناء أدبه في أدب الحق ثم الخلاص عن شهود أعباء الأدب أي انتقاله لفنائه عن رسمه في شهود الحقيقة وأستغراقه في حضرة التجمع الذي غيبه عن الأدب عين الأدب فمضى عن شهود الأدب أصلاً ورأساً فضلاً عن شهود الأدب وتكاليفه فإنها تترتب على وجوده الذي تلاشى فلم يبقى منه عين ولا أثر، إنتهى.

              هذه الدرجات مستخرجة على ذوق أهل العرفان ولا مصداق لها في الحقيقة إلا الأنبياء والأوصياء والأئمة من آل محمد (ص) وزعم أرباب السلوك أنهم من أهل هذه الدرجات تخرص محض وتشهي صرف، ما كل مدعي الفناء قد وصل، ولا كل من أدعى أنه قد خلع الصور لحق، ولندع هذه المسالك الوعرة والطرق الضيقة ولنسلك مع من يريد التأدب بالأدب الديني من حيث يعرف وحيث يقتدر وأما الشهيق والنهيق الصوفي والتواجد والاستغراق العرفاني المتخيل فذاك للمتصنعين الذين تمرنوا عليه كما يتمرن الشاطر على العاب السيمياء ونقول: درجات الأدب الديني ثلاثة:

              الدرجة الأولى: فعل الواجب وترك المحرم خاصة.

              الدرجة الثانية: فعل المستحب وترك المكروه مع ما تقدم وهذه أرقى من الأولى.

              الدرجة الثالثة: وهي أرفع الدرجات رفض المباحات منع ذلك وهي عين التخلي لأن الدنيا وما فيها والأنقطاع إلى خدمة رب العباد وتكون هذه الدرجة أول درجات الفناء في الله لأنه إذا تجاوزها أستغرق ورأى أن لا شيء سواه فإذا تجاوزها خرج إلى الغيبة عن رسم الحس وحصلت له درجة الكشف والشهود.

(1) هذا على مسلك الصوفية المجسمة وعبد الله الأنصاري من الكرامية المجسمة كما ذكرناه في كتابنا كشف المستور عن مخازي الجمهور – مخطوط-..

(350)

ما قيل في الأدب

              والكلام في الأدب مطول ويتنوع أنواعاً شتى وله فنون عديدة نتحرى منها الأقرب فالأيسر لينتفع به من أراد تهذيب نفسه ليصل إلى فضيلة الأدب حتى يتم لها الكمال الروحي، أما رسول الله (ص) وأمير المؤمنين والأئمة في أولاده «عليهم سلام الله جميعاً» فهم الذين علموا الناس الأداب.

              ومن آداب رسول الله (ص) وصيته التي أوصى بها أبا ذر ذكرناها في ترجمته من كتابنا «الميزان الراجح» ووصيته التي أوصى بها وصيه أمير المؤمنين «عليه السلام»وكلتاهما في نهاية العظمة حافلتان بالآداب، وقد روى ذلك الشيخ الطوسي في الأمالي والصدوق في الفقيه والطبرسي في مكارم الأخلاق وغيرهم وكل واحدة من الوصيتين مشتملة على أكثر الأحكام الشرعية أفعالاً وتروكاً ومنعنا من إيرادهما طولهما، وكلمات رسول الله (ص) القصار الحكمية المسمات بجوامع الحكم مشهورة، فأما أمير المؤمنين «عليه السلام» فأكثر خطبه في الوعظ وهي في آداب الشرع وله وصيتان لابنه محمد بن الحنفية ذكر فيهما أكثر الأدب رواهما الصدوق في الفقيه ووصية لولده الحسن «عليه السلام» رواها الشريف الرضي في نهج البلاغة، وأما كلماته القصار والمسمات بجوامع العلم وغرر الحمم فأورد الشريف الرضي كثيراً منها في نهج البلاغة وجمع منها ابن أبي الحديد ألف كلمة نافعة وألف الآمدي منها كتاباً سماه غرر الحكم وأختار منها الجاحظ مائة كلمة إعجاباً بها ذكرها في مفتاح الأفكار، وكذلك سائر الأئمة روى لهم الكليني والصدوق كثيراً وجمع في تحف العقول من كلامهم المطول وكلماتهم القصار كتاباً سمي بهذا الاسم وأصل الكل كتاب الله الذي فيه تبيان كل شيء.

              نحو قوله تعالى: (لكيلا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما ءاتكم)(1) هذه الآية عظيمة في التسلية وكسر نخوة التفاخر.

              وقوله تعالى: (وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا)(2) وأثرها عظيم في الطب وفيها من التنزيه عن المطامع الزائدة على أصل القوت الذي يجر إلى الوقوع في الشبهات والمحرمات فإن المقتصد في المطعم يكفيه ما يقيم صلبه ويكسر سورة الجوع، والإسراف إنما هو لطلب الزائد على قدر الحاجة.

(1) الحديد: 23.                              (2) الأعراف: 31.

(351)

              وقوله تعالى: (ولا تمش في الأرض مرحاً)(1)، (ولا تصعر خدك للناس)(2)، (واقصد في مشيك واغضض من صوتك)(3)، (حتى تستأنسوا وتسلموا)(4)، (ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا)(5)، (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء)(6)، (ولا تنابزوا بالألقب)(7)، (فقولا له قولا لينا)(8)، (وجدلهم بالتى هي أحسن)(9)، (وليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت ءابائكم)(10)، الآيات وهي كثيرة يجدها القارئ في الكتاب المجيد.

              قال ابن عبد ربه في العقد الفريد(11): أول ما نبدأ به أدب النبي (ص) ثم أدبه لأمته ثم الحكماء والعلماء، وقد أدب الله تعالى نبيه (ص) بأحسن الآداب كلها فقال: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا نبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)(12) فنهاه عن التقتير كما نهاه عن التبذير، وأمره بتوسط الحالين كما قال تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يفتروا وكان بين ذلك قواما)،(13) وقد جمع الله لنبيه (ص) جوامع الكلم ونظم له مكارم الأخلاق كلها في ثلاث كلمات فقال: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجهلين)(14) ففي أخذه العفو صلة من قطعه والصفح عمن ظلمه، وفي الأمر بالمعروف تقوى الله وغض الطرف عن المحارم وصون اللسان عن الكذب، وفي الإعراض عن الجاهلين تنزه النفس عن ممارسات السفيه ومنازعة اللجوج.

              ثم أمره تعالى فيما أدبه من اللين في عريكته والرفق بأمته فقال: (واخفض جناحك لمن أتبعك من المؤمنين)(15)، وقال: (ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك)(16)، وقال تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عدوة كانه ولى حميم)(17)، ثم قال: قال النبي (ص) فيما أدب به أمته وحض عليه من مكارم الأخلاق وجميل المعاشرة وإصلاح ذات البين وصلة

(1) الإسراء: 37.                            (2) لقمان: 18.                    (3) لقمان: 19.                                    (4) النور: 27.

(5) الحجرات: 12.                        (6) الحجرات: 11.           (7) الحجرات: 11.                           (8) طه: 44.

(9) النحل: 125.                           (10) النور: 61.                (11) العقد الفريدة 1/ 360.       (12) الإسراء 29.

(13) الفرقان: 67.                          (14) الأعراف: 199.      (15) الشعراء: 215.                        (16) آل عمران: 159.

(17) فصلت: 34.

(352)

الأرحام فقال (ص): أوصاني ربي بتسع أوصيكم بما أوصاني: بالإخلاص في السر والعلانية: والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وأن أعفوا عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون صمتي فكراً ونطقي ذكراً.

              ثم قال (ص): أنهاكم عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال.

              وقال (ص): لا تقعدوا على ظهر الطريق فإن أنتم أبيتم فغضوا الأبصار، وأفشوا السلام، وأهدوا الضلال، وأعينوا الضعيف.

              وقال (ص): أوكئوا السقاء وأكفؤوا الإناء وأغلقوا الأبواب وأطفئوا المصباح فإن الشيطان لا يفتح مغلقاً ولا كفيئاً ولا يكشف إناء.

              وقال (ص): ألا أنبئكم بشر الناس؟ قالوا: بلى يارسول الله، قال: من أكل وحده ومنع رفده وجلد عبده، ثم قال (ص): ألا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى يارسول الله، قال: من يبغض الناس ويبغضونه.

              وقال (ص): حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وأستقبلوا البلاء بالدعاء.

              وقال (ص): ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.

              وذكر كثيراً ولأجل التيمن ذكرنا هذا، أما كلام أمير المؤمنين «عليه السلام» فمن المائة التي انتخبها الجاحظ واختارها:

              لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً.

              الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.

              الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم.

              ما هلك امرؤ عرف قدره.

              المرء مخبوء تحت لسانه.

              من عذب لسانه كثر إخوانه.

              بالبر يستعبد الحر.

              بشر مال البخيل بحادث أو وارث.

              لا تنظر إلى من قال.

              لا ظفر مع البغي.

              الجزع عند البلاء تمام المحنة.

(353)

              لا ثناء مع كبر، ولا بر مع شح، لا صحة مع نهم، لا شرف مع سوء أدب، لا اجتناب لمحرم مع حرص، لا محبة مع مراء، لا سؤدد مع انتقام، لا راحة لحسود، لا زيارة مع دعارة، لا صواب مع ترك المشورة، لا مروة لكذوب، لا وفاء لملول، لا عز أعز من التقى، لا شرف أعلى من الاسلام، لا معقل أحرز من الورع، لا شفيع أنجح من التوبة، لا داء أعيى من الجهل، لا مرض أضنى من قلة العقل.

              لسانك يقتضيك ما عودته.

              المرء عدو ما جهل.

              لا ظهير كالمشاورة الخ.

              وإن أردتها بتمامها فأطلبها من مفتاح الأفكار لأحمد مفتاح(1).

بعض كلمات الحكماء في الأدب:

              عن العقد(2): أوصى بعض الحكماء بنيه فقال: الأدب أكرم الجواهر طبيعة، وأنفسها قيمة، يرفع الأحساب الوضعية، وبعز بلا عشيرة، ويكثر الأنصار بلا رزية فألبسوه حلة وتزينهو خلة، يؤنسكم في الوحشة، ويجمع لكم القلوب المختلفة.

              وقال شبيب بن شبة: أطلبوا الأدب فإنه مادة العقل ودليل على المروة وصاحب في الغربة ومؤنس في الوحشة وصلة في المجلس.

              قال بعض الحكماء: إعلم إن جاهاً بالمال إنما يصحبك ما صحبك المال، وجاهاً بالأدب غير زائل عنك.

              وقال ابن المقفع: إذا أكرمك الناس لمال أو لسلطان فلا يعبك ذلك فإن الكرامة تزول بزوالهما، وليعجبك إذا أكرموك لدين أو أدب.

              وقال الأحنف بن قيس: رأس الأدب المنطق، ولا خير في قول إلا بفعل، ولا في مال إلا بجودة، ولا في صدق إلا بنية، ولا في صديق إلا بوفاء، ولا في فقه إلا بورع.

              وقال النضلة الزبيدي: لا يستغني الأديب عن ثلاث وأثنين: أما الثلاث بالبلاغة والفصاحة وحسن العبارة، وأما الإثنان فالعلم وبالأثر والحفظ للخبر.

              وقالوا: الحسب يحتاج إلى الأدب، والمعرفة محتاجة إلى التجربة، وهذا كثير، أما الشعر فمنه قول بعضهم:

(1) مفتاح الأفكار: أحمد مفتاح.                    (2) العقد الفريد: ص115.

(354)

وما السيف إلا زهرة لو تركته                          على الحلقة الأولى لما كان يقطع

              وقال آخر:

وما وهب الله لا مرئ هبة                أفضل من عقله ومن أدبه

هما حياة الفتى فإن فقدا                     فإن فقد الحياة أجمل به

              وقال آخر:

رأيت صلاح المرء يصلح أهله        ويفسدهم رب الفساد إذا فسد

يعظم في الدنيا لفضل صلاحه         ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد

              وقال ابن صرمة:

أوصيكم بالله أول وهلة                    وأحسابكم والبر بالله أول

وإن قومكم سادوا فلا تحسدوهموا                 وإن كنتموا أهل السيادة فأعدلوا

وإن أنتموا أعوزتموا فتعففوا            وإن كان فضل المال فيكم فأفضلوا

وإن طلبوا عرفاً فلا تحرموهموا        وما حملوكم في الملمات فأحملوا

آداب أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام»

              قد جمع «عليه السلام» هذه الأنواع من الأدب التي أشرنا إليهما جميعاً وهي الأدب العلمي الذي هو فن المنظوم والمنثور من الكلام العربي، والأدب الشرعي الذي هو عبارة عن المحافظة على ما ورد في الشرع، والأدب الروحاني العرفاني وهو عبارة عن تهذيب النفس عن ذميم الأخلاق، والأدب العقلي الذي هو عبارة عن مراعاة حقوق الأحترام لأهل الرفعة والمنصب السامي وقد استبان مما سبق تفوقه في الأدب العلمي والشرعي والعرفاني فيما ذكرناه في علومه وعبادته.

              واما أدبه العقلي وهو السلوكي ففي سلوكه الأدبي الذي ظهر في صحبته لأخيه الإمام الحسين «عليه السلام» فسلوك الأبرار وطريقته طريفة الصلحاء الأخيار، قد قضى حياته معه لا يرد عليه قولاً ولا يعارضه في فعل، وإذا أمره مضى لأمره، وإذا وجهه في مهم لا يبرم أمراً ولا ينقصه حتى يطالع رأيه ويحيل ذلك إلى فكره قبولاً ورداً.

              ولم يخاطبه مدة حياته إلا بقوله: سيدي أو يا  ابن رسول الله، وما جرى مجراهما من المخاطبات الدالة على الأحترام، ويعرض كثيراً عن الخطاب بالإخوة وإن نطق بها أحياناً لعلمه أنها تشعر بالكفاءة، وإنها مما يخاطب بها الأكفاء

(355)

الأكفاء فيصلح مثل ذلك للحسين «عليه السلام» في خطاب الحسن «عليه السلام»، أما من عداهما من ولد علي «عليه السلام» فلا يخاطبهما بمثل هذا الخطاب المشعر بالمكافأة والمساوات وإنما يصلح لهم من باب الأدب أن يخاطبوهما بخطاب العبد للمولى والمسود للسيد، ولا كفوء للحسين «عليه السلام» في نظر العباس «عليه السلام» وإن كان هو أخوه النسبي وابن أبيه لكنه كان يجله ويحترمه ويرى أنه سيده وإمامه وابن رسول الله (ص) فيرى أن هذا هو الأصوب والأوفق لذلك كان لا يخاطبه إلا بسيدي يا ابن رسول الله، أو يكنيه بابي عبد الله أو ما شابه ذلك إلا في موارد الحنان والإشفاق كما قال محمد بن الحنفية في عزم الحسين «عليه السلام» على الخروج قال له: يا أخي! أنت أحب الناس إلي وأعزهم علي، القصة المشهورة، فهذا خطاب حنان وعطف أدى مثله العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» عند آخر نقطة من حياته وقرب الوقت الذي لفظ فيه نفسه الزكية وذلك عند سقوطه على شاطئ العلقمي مقطوع اليدين مفضوخ إلهامة ومخ راسه يسيل على وجهه والسهم قد شك عينه، فنادى: السلام عليك يا أبا عبد الله أدركني أي أخي، هذه كلمة الحنان اللاذعة والتي كان الحسين «عليه السلام» يشتهي أن يسمعها من أخيه أبي الفضل ويا للأسف أنها قارنت الأحزان الموجعة لقلب الحسين «عليه السلام» وقد كان يود سماعها مقترنة بالمسرة والأبتهاج لأن مثل هذا الأخ المصافي والشقيق المهذب إذا خاطب الأخ العظيم المحترم في بعض الآناة بلفظ الأخوة فإنه يلتذ ويشتاق لسماعها ففاه أبو الفضل بهذه الكلمة عندما أزف على فراقه وإن خلى بعض المقاتل عن ذكرها لكن المعروف أنه قال: أدركني يا اخي، مع قوله: يا ابا عبد الله ويابن رسول الله، فروى كل ما وصل إليه.

              ويدل على أدب العباس «عليه السلام» القصة التاريخية المشهورة وقد رواها جماعة منهم الشيخ المفيد والطبري في التاريخ وهي قصة زحف عسكر ابن سعد على الحسين «عليه السلام» عصر الخميس نهار التاسع من المحرم وإن الحسين «عليه السلام» أرسل العباس بن علي «عليهما السلام» إليهم ليعرف أمرهم وإنهم أخبروه أنهم يريدون نزول الحسين «عليه السلام» على حكم إبن زياد أو قتله، والعباس يعلم أن الحسين «عليه السلام» لا ينزل على حكم الدعي لكنه سلك طريق الأدب مع أخيه الحسين «عليه السلام» فلم يقل إنه لا ينزل على حكم ابن زياد بل قال لهم: لا تعجلوا حتى أرجع إليه وأخبره بما ذكرتم، هذا ما رواه المفيد

(356)

والطبري، وما رواه غيرهما من أهل المقاتل إنه قال: لسنا ندري الآن ما رأيه، وعلى كل القولين فقد سلك طريق الأدب بأنه لم يجب علي حسب علمه حتى رجع إلى أخيه الحسين «عليه السلام»وأخبره، وخذ القصة بتفصيلها من التاريخ وهذه مرتبة عظيمة من مراتب الأدب السلوكي تدل على معرفة محكمة بحق الإمام.

              ويقول صاحب معالي السبطين(1) إنه ما كان يجلس بين يدي الحسين «عليه السلام» إلا بإذنه، يهأيهأانبمنتلمشتأنكان له كالعبد الذليل بين يدي المولى الجليل ممتثلاً لأوامره ونواهيه، مطيعاً له، وكان له كما كان أبوه لرسول الله (ص)، ومن تأدبه لم يكن يخاطب الحسين «عليه السلام» إلا ويقول له: يا سيدي، يا أبا عبد الله، يا ابن رسول الله، ما كان يخاطبه بالأخوة قيل مدة عمره إلا مرة واحدة خاطب الحسين «عليه السلام» بالأخوة وهي الساعة التي ضربوه بالعمود الخ.

              وليس الأمر كما ذكر بل خاطبه قبلها بأخي كما في القصة التي أشرنا إليها من حديث زحف القوم وإنه قال: يا أخي! أتاك القوم حسبما رواه المفيد والطبري وغيرهما لكنه قليل بالنسبة إلى سائر المقامات فإن سلوكه بها بخطاب التعظيم له.

              للمؤلف:

آداب شبل علي أفضل الأدب         في الدين موروثة عن سادة العرب

عن الوصي علي وهو والده               وسيد الرسل طه خير منتجب

وإنما أفضل الآداب ما أخذت        تعلماً عن وصي صادق ونبي

ماقال للسبط إلا سيدي أبداً             ولم يقل يا أخي يوماً ويا ابن أبي

إلا قليلاً ومنها عند مصرعه              نادى أخي ونداه واضح السبب

أراد يوفيه حقاً للأخوة لم                   يفصح به قبل ذا في سالف الحقب

 فظنها حسرة تبقى بمهجته               وماله بسواها قط من إرب

ورام تجديد عهد بالحسين وقد          حم الفراق وجد الموت في الطلب

فجائه السبط بادي الحزن مكتئباً      يكفكف الدمع بالكمين ذا كرب

ألفاه مثل هلال خر من أفق              تذري الرياح عليه سافي الترب

أهوى عليه ودمع العين منحدر       مثل الجمان على خدين كالذهب

نادى أبا الفضل من يحمي حماك ومن             يحمل لواك فقم يافارس العرب

(1) معالي السبطين 1/ 271.

(357)

ولم يزل عنده حتى قضى فمضى        نحو المخيم بادي الحزن والنصب

فاستقبلته بنات الوحي صارخة       هاذي تقول أخي قل لي وتلك أبي

أين الذي كان يحمينا وحرسنا           من الأعادي بحد المرهف القشب

أين الذي كان مأوانا ومؤلنا             ومن يجود لنا بالبارد العذب

فأستعبر السبط حزناً حين قال قضى               يا زينب البطل المغوار فأحتسبي

فحسبي الله قالت والدموع جرت                  مثل السحاب بهطال ومنسكب

لكن سكينة قالت من تلهفها                             خذني إليه ليسقين من العذب

صبراً سكينة فأمر الله ليس له           من دافع إنه قد خط في الكتب

وإنني لاحق فيه ومرتحل                  إلى الجناب لجدي المصطفى وأبي

ألا استعدي لذل الأسر واعتمدي                  على السباء وهتك الستر والسلب

              تم الجزء الثاني من كتاب بطل العلقمي حياة العباس الأكبر ابن أمير المؤمنين «عليهما السلام»، والحمد لله أولاً وأخيراً، ويليه الجزء الثالث.

              أرخ عام طبع الكتاب «الجزء الثاني» الأستاذ خطيب الشعراء وشاعر الخطباء الشيخ علي البازي بقوله:

خير سفر به أتانا المظفر      فيه فضل العباس للناس ينشر

جامع ناشر لما قام فيه         بطل الطف حين ضحى وكبر

موقف خالد كخلد علاه                   ابد الدهر قط لم يتغير

إيه ساق العطاشى فزت بما لم           يحظى يه سواك والفضل يشكر

كالمواسات للحسين بيوم                 عز فيه النصير عن شبل حيدر

لم ترعك الخطوب مهما أدلهمت       إذ لها قد خلقت من عالم الذر

كلما يذكر الحسين فأرخ                     «بطل العلقمي اسمك يذكر»

                                                                                              1373هـ

(358)