موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

 

 

 

يحمل في الحشر إلى الجحيم                يسقى من الصديد والحميم

ومن يجود اليوم في نعيم                      يسقى من الرحيم والتسنيم

                فقالت فاطمة «عليها السلام»:

إني لأعطيه ولا أبالي                             وأؤثر الله على عيالي

أمسوا جياعاً وهموا أشبالي

                فرفعوا الطعام وناولوه إياه ثم أصبحوا في الثالث كذلك، فلما كان اليوم الثالث طحنت فاطمة «عليها السلام» باقي الشعير وصنعته وجاء علي «عليه السلام» بعد المغرب فجاء أسير فوقف على الباب وقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد أسير محتاج تأسرونا ولا تطعمونا، أطمعونا من فضل ما رزقكم الله، فسمعه علي «عليه السلام» فقال:

فاطم يا بنت النبي أحمد                       بنت نبي سيد مسود

مني على أسيرنا المقيد              من يطعم اليوم يجده في غد

عند العلي الماجد الممجد     من يزرع الخير فسوف يحصد

                فقالت فاطمة «عليها السلام»:

لم يبق عندي اليوم غير صاع               قد مجلت كفي مع الذراع

وإبناي والله من الجياع                        أبوهما للخير ذو أصطناع

                ثم رفعوا الطعام فأعطوه الأسير فلما كان اليوم الرابع دخل علي «عليه السلام» على النبي (ص) يحمل أبنيه كالفرخين فلما رآهما رسول الله (ص) قال: واين أبنتي قال: في محرابها، فقام رسول الله (ص)  فدخل عليها فرآها قد لصق بطنها بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع، فقال النبي (ص): واغوثاه! يالله آل محمد يموتون جوعاً، فهبط الأمين جبرئيل وهو يقول: (يوفون بالنذر)(1) الآية.

                فإن قيل: قد أخرج جدك هذا الحديث في المضوعات ثم ذكر إسناده عند جده وقال: قال جدك قد نزه الله ذينك الفصيحين عن هذا الشعر الركيك فهذا على عادة العرب في الرجز والخبب كقول القائل:

والله ولولا الله ما اهتدينا

                ونحو ذلك، وقد تمثل به النبي (ص)، وأما قوله عن الأصبغ بن نباتة فنحن ما رويناه عن الأصبغ ولا له ذكر في إسناد حديثنا وإنما أخذوا على الأصبغ زيادة

(1) الإنسان: 7.

(282)

زادها والعجب من جدي وإنكاره وقد قال في كتاب المنتخب: يا علماء الشرع! أعلمتم لما أرادا ترك الطفلين عليهما أثر الجوع أتراهما خفي عنهما سراً بدأ بمن تعول؟ ما ذاك إلا لأنهما علما قوة صبر الصبيين وإنهما غصنان من شجرة الظل عند ربي وبعض من جملة فاطمة بضعة مني وفرخ البط سائح، إنتهى.

                وذكر ابن عبد ربه المالكي في العقد الفريد احتجاج المأمون على إسحاق تقدم بعض الحكاية ونصها هنا(1) قال: يا إسحاق! أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: أتقرأ (هل أتى على الإنسن حين من الدهر)(2)؟ فقرأت منها حتى بلغت إلى قوله: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا)(3) قال: على رسلك، فيمن أنزلت هذه الآيات؟ قلت: في علي «عليه السلام»، قال: فهل بلغك أن علياً حين أطعم المسكين واليتيم والأسير قال: إنما نطعمكم لوجه الله؟ وهل سمعت الله وصف في كتابه أحداً بمثل ما وصف به علياً؟ قلت: لا، قال: صدقت لأن الله عرف سريرته، إنتهى.

                ورواها أيضاً من علماء أهل السنة الزمخشري الحنفي المعتزلي في الكشاف وأعترف الفخر الرازي الشافعي الأشعري في تفسيره أن الزمخشري من المعتزلة رواها ورواها آخرون من أصحابه الأشاعرة الواحدي الشافعي في تفسيره الوسيط ورواها آخرون من أهل السنة وعليها إجماع الشيعة وإجماعهم حجة، والأصبغ ثقة وقدح أعدائه فيه غير ضائر وتداولها أعيان الشعراء كالناشي والحميري وابن رزيك وابن عباد في نظرائهم ولطيف قول بعضهم:

وسائل هل أتى نص بحق علي          أجبته هل أتى نص بحق علي

                وأحسن الصاحب بن عباد بقوله:

إذا قرأنا هل أتى                   قرئت وجوهمم عبس

                وساهم المؤلف في نظم هذه الحادثة الخطيرة التي تبيض لذكرها وجوه الأولياء وتسود وجوه الأعداء فقال:

تمسك في محبة آل طاها         ولا ترتاب إن جحد الخصوم

سماء الحق صاحية أضاءت                بها شمس الهداية والنجوم

فإن الشمس أحمد ليس يخفى              وبدر التم حيدرة العظيم

(1) العقد الفريدة 3/ 288.

(2) الإنسان: 1.                                  (3) الإنسان: 8.

(283)

وفاطمة الثريا فرقداها                         هم السبطان والتسع النجوم

ويكفي هل أتى في الذكر مدحاً         لأهل البيت إن لج الخصوم

وخير المدح ما في ذاك شك               مديح الله لا الشعر النظيم

أجل الخلق مرتبة أناس                       ينوه فيهم الذكر الحكيم

وفوا في نذرهم فأتى فقير                    ومأسور ومبتئس يتيم

فقال لهم علي آثروهم                           بزادكم المهيأ ثم صوموا

فأعطوهم وقد صاموا ثلاثاً                بلا زاد وذا أمر عظيم

وليس يضيع الرحمن فعلاً                   يكون لوجهه وهو الكريم

إيثار أبي ذر الغفاري

                ومن نوادر الإيثار الإسلامي حادثة أبي ذر الغفاري الصحابي «رضوان الله عليه»: روى الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي «رحمه الله» في تفسيره لسورة التوبة في واقعة تبوك قال: كان أبو ذر تخلف عن رسول الله (ص) ثلاثة أيام وذلك أن جملة أعجف فلحق بعد ثلاثة أيام ووقف عليه جمله في الطريق فتركه وحمل ثيابه على ظهره فلما أرتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل، فقال رسول الله (ص): أدركوه بالماء ووافى أبو ذر رسول الله (ص) ومعه أدوات فيها ماء، فقال رسول الله (ص): يا أباذر! معك الماء وعطشت؟ فقال: نعم يارسول الله بأبي أنت وأمي أنتهيت إلى صخرة فيها ماء فذقته فإذا هو عذب بارد فقلت: لا أشربه حتى يشربه حبيبي رسول الله (ص). فقال رسول الله (ص): رحمك الله يا أباذر! تعيش وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك وتدخل الجنة وحدك الخ، تركنا قصصاً كثيرة حذر التطويل.

إيثار العباس الأكبر ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليهما السلام»

                إيثار العباس للحسين «عليهما السلام» بالنوعين معاً فإنه آثره بنفسه وعلى نفسه:

                أما إيثاره بنفسه فمستبين من تضحية نفسه أمامه وقد صرحت بهذا أشعاره التي منها:

نفسي لنفس الطاهر الطهر وقا

(284)

                وأما إيثاره للحسين «عليه السلام» على نفسه فذاك حين رمى الماء من يده وقال: لا ذقت الماء وابن رسول الله عطشان مع كونه قد أشرف على التلف من الظمأ وقد نطقت بذلك أشعاره كقوله:

يا نفس من بعد الحسين هوني            وبعده لا كنت أن تكوني

هذا حسين شارب المنون                    وتشربين بارد المعين

                قد صرح «عليه السلام» في هذا الشعر أنه آثر أخاه الحسين «عليه السلام» ليس على سبيل الأرتكاز الجبلي لا بداعي الطبع الفطري ولا طاوع فيه الخلق الغريزي وإنما كان ذلك عن فقه في الدين وعلم بما للمؤثر على نفسه من عظيم الأجر وبالأخص إذا كان الإيثار للإمام المفترض الطاعة وذلك حيث يقول فيه:

وليس هذا من شعار ديني                  ولا فعال صادق اليقين

                لأن شعائر هذا الدين المواسات والإيثار  حسبما سمعت من مدح القرآن للمؤثرين وما ورد من إيثار رسول الله (ص)  وأهل بيته وفضلاء الصحابة والصادق اليقين في أن الله يجزي بالعمل الصالح ويثيب على الإحسان فأنه يحصل له القطع بأن من آثر الحسين «عليه السلام» بنفسه أو على بنفسه كان كمن آثر رسول الله (ص) وقد قال في الحديث المتفق عليه: حسين مني وأنا من حسين.

                فالموالي له ينال اعظم درجة الأجر عند الله فإذا حاد عن سنن الإيثار له وأنحرف عن جادة الموسات فلا يشبه فعله فعل الصادق اليقين بأن إيثار العترة الطاهره ومواسات السلالة المطهرة من أفضل الطاعات وأجل المقربات عند الله بل هي مما أفترض الله تعالى على الأمة القيام بها بقوله تعالى: (قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)(1) وقوله (ص) في حديث الثقلين: أحفظوني في أهل بيتي؛ فأبو الفضل أدى هذه الفريضة كما قد أدى سائر الفرائض.

                قال فخر الدين الطريحي (رحمه الله) في المنتخب(2): لما أشتد العطش بالحسين «عليه السلام» وأصحابه دعى بأخيه العباس وقال له: أجمع أهل بيتك وأحفروا بئر، ففعلوا ذلك فطموها ثم حفروا أخرى فطموها فتزايد العطش عليهم، فقال العباس لأخيه الحسين «عليهما السلام»: يا أخي!  أماترى ما حل بنا من العطش واشد الأشياء علينا عطش الأطفال والحرم، فقال الإمام «عليه السلام»: أمض إلى الفرات وأتنا بشيء من الماء، فقال: سمعاًَ وطاعة، فضم إليه رجالاً وسار حتى أشرفوا على الشريعة فتواثب عليهم الرجال وقالوا: ممن القوم؟ فقالوا:

(1) الشورى: 23.                             (2) المنتخب 2/ 94.

(285)

نحن من أصحاب الحسين «عليه السلام»، فقالوا: ما تصنون؟ قالوا: قد كضنا العطش وأشد من ذلك علينا عطش الحرم والأطفال، فلما سمعوا ذلك منهم هجموا عليهم ومنعوهم، فحمل عليهم العباس «عليه السلام» فقتل منهم رجالاً وجدل أبطالاً حتى كشفهم عن المشرعة ونزل فملأ قربته ومد يده ليشرب فذكر عطش الحسين «عليه السلام» فنفض يده وقال: والله لا ذقت الماء وسيدي الحسين «عليه السلام» عطشان ثم صعد المشرعة فأخذه النبل من كل مكان حتى صار جلده كالقنفذ من كثرته فحمل عليه رجل من القوم فضربه ضربة قطع بها يمينه فأخذ السيف بشماله فحمل عليه آخر فقطعها فأنكب وأخذ السيف بفمه فحمل عليه رجل فضربه بعمود من حديد على أم رأسه ففلق هامته ووقع على الأرض وهو ينادي: يا أبا عبد الله! عليك مني السلام، فلما رأى الحسين «عليه السلام» أخاه قد صرع نادى: وا أخاه! وا عباساه! وا مهجة قلباه! عز علي والله فراقك، ثم حمل على القوم وكشفهم عنه ثم نزل إليه وهو يبكي حتى أغمى عليه، الخ.

                وذكره في مقتل العوالم(1) وفي مصائب المعصومين(2) وفي أسرار الشهادة(3) وفي البحار(4)، وقد ذكر مدحه بهذا الإيثار فقال الحاج محمد رضا الأزري البغدادي من قصيدة تأتي في مراثيه:

وأبت نقيبته الزكية ريها                        وحشا ابن فاطمة يشب ضرامها

                وقال الحاج هاشم الكعبي من قصيدة:

حتى حوى بحرها الطامي فراتهموا                 الجاري ببحر من الهندي ملتطم

فكف كفاً من الورد المباح وفي                           أحشائه ضرم ناهيك من ضرم

وهل ترى صادقاً دعوى إخوته                         روى حشاً وأخوه في الهجير ظمي

حتى ملا مطمئن الجاش قربته                           ثم أنثنى مستهلاً قاصد الحرم

                وللمؤلف:

يا ابن الوصي جزاك الله صالحة                         ياطيب النفس والأعراق والشيم

آثرت سبط رسول الله محتسباً                             بذاك ترجو رضا الرحمن ذي الكرم

فعن يقين بلا شك يخالطه                                   بأن إيثاره من أفضل النعم

والعقل والشرع في الإيثار متفق                        في أن رتبته العليا من الكرم

(1) عوالم العلوم: ص92.                                                (2) مصائب المعصومين: ص259.

(3) أسرار الشهادة: ص321.                         (4) بحار الأنوار 10/ 621.

(286)

لما ملكت الفرات العذب رمت بأن                 تطفي أوار فؤاد صار ذا ضرم

فلم تذق قطرة من ماءه أبداً                 والسبط ظام مع الأطفال في الخيم

هذي المواسات والإيثار يشكره                        رب البرية والأحرار في الأمم

لقد مضيت حميداً نلت مرتبة                              في حملك العلم بل في حملك العلم

يكفيكم مدح رب العالمين لكم                          عن مدحة الناس في بسط من الكلم

                كتبت في هذه العصور وريقات شحنت بالواهيات وملئت بالتجاسر العظيم على أكابر أهل البيت دعيت بأسم التنزيه وكتبنا رداً عليها في رسالة مفردة(1) تركنا النقل عنها ومن مواضيعها الممجوجة قوله في هذه المسألة أن نفض العباس من يده الماء فهو حرام ولا حجة فيه لعدم العصمة وفي الحقيقة إن كل من جهل شيئاً فإنه الصواب فيه ولا شك أن الفقيه لا يسمى فقيهاً حتى يدرس الحقائق درساً متقناً والوقوف على التاريخ وأخبار الناس لا قيمة له عند التحقيق فيجب على المؤلف عند الخوض في الأحكام وتحري الإفتاء أن يعرف قواعد الإفتاء إشتهاداً لا تقليداً وقد فات مؤلف التنزيه أدلة الحكم في الإيثار:

                أولا: الأدلة السمعية الواردة في رجحانه كما ذكرنا ذلك من الآيات والروايات الواردة عن أهل الشرع ومؤسسيه محمد المصطفى وأهل بيته «عليهم السلام» فإن الإيثار يكون بها راجحاً بل من المستحبات المؤكدة وفعل المعصوم وتقريره كقوله حجة.

                ثانياً: ذهاب المشهور من الفقهاء إلى إن المسنون يثبت بالضعيف والمرسل للتسامح في أدلة السنن وهذه المسألة عليها أعتماد صاحب التنزيه فإلغاء الأحاديث الصحيحة بل المتفق عليها عند الشيعة المتضمنة لفعل المعصوم وتقريره تجاسر ورفع اليد عن ظواهر الآيات الصريحة غباوة.

                نعم، إن جمود الطبع ويبوسة الدماغ حكمت في نفسه اعتقاد أن كل عمل ضاهى أعمال عرب الجاهلية فهو مما يجب أن تمحقه شريعة الإسلام وتمحو رسومه ومعالمه وهذا هو الظن الخاطئ والأجتهاد مقابل النص فإن الدور الجاهلي له أعمال تنقسم بمجموعها إلى قسمين: قسم مخل عند العقل وماس بكرامة الإنسانية ومخالف للنواميس الإلهية وقوانين النظام الرباني الذي هو أساس الحرية

(1) وهي ردع الناكب عن فضيلة المواكب أو التنبيه على خطأ رسالة التنزيه (مخطوطة) كما عرفت سابقاً- الناشر-.

(287)

ومبدأ المدنية فمن ذلك الظلم والكفر وإستباحة الفروج والأموال وأستعباد الأحرار وأمثال ذلك فهذا الذي قاومته الشريعة الإسلامية ومحت معامله ورسومه.

                وقسم كان على جانب عظيم من مراعاة الحقوق الأنسانية وتقرير الحالة الاجتماعية في أحترام الحرم والأشهر الحرم ومقاومة الأستعباد الجبروتي والتسلط الجبار والمحامات عن الشرف وبذل الأموال للوفد والأضياف وهذا ما يسمى سخاء وشجاعة فذاك وشبهه من الأمور التي أكدتها الشريعة الإسلامية وقررت العمل به ودعت إليه وحثت عليه لما فيه من المصالح الكبرى للإنسان إما من حيث الشجاعة فإن بها تحفظ الأوطان والأموال وتمنع الأعراض، وبها يقاوم الأستعباد الصارم والأستعمار الجائر وينتشر العدل في البسيطة وتحقن الدماء وقد قال تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صومع وبيع وصلوت ومسجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)(1).

                وأما من حيث السخاء فأمر لا يحوجنا إلى بيان ولأنه من أوكد الأسباب الاجتماعية وأعلا السخاء درجة هو الإيثار كما عرفته وقد كان رسول الله (ص) عظيم الإيثار فقد كان يؤثر بقوته على نفسه ويطوي ويربط حجر المجاعة على بطنه الشريفة وإن أنكره صاحب التنزيه.

                وليست حكمة ربط حجر المجاعة وفلسفتها تحمل مشقة الجوع بل الحكمة الواقعية والفلسفة الحقيقية لربط حجر المجاعة ستتجلى لك وترسم على صحيفة خاطرك حتى تعلم علماً يقيناً أن المقاصد العلية في الفلسفة الدينية لا تنالها سفاسف الآراء الواهية ولا خواسئ الأفكار الداحضة في أستنباطاتها الواهية، بل إن الرسول المقدس شرعا وسنة بعث مصلحاً للعوالم الحائدة عن سلوك مناهج الصفات المحمودة متقهقرة في حضيض رذائلها الأخلاقية الخسيسة ولما كان هو المصلح الأكبر للأمم المبعوث إليها بالإصلاح الديني وكان هو الطبيب الأعظم الخبير الماهر والحاذق العارف بعلاجات النفوس السقيمة بالأخلاق الذميمة من الأستيثار بما حصل في أيديهم مستبدين بمصالحهم الذاتية وأغراضهم الشخصية حائدين عن طريق المواسات والإيثار المحمودين، متهافتين على التأنق في المطعم والمشرب والملبس وأمثال ذلك مما جبلت عليه النفوس البشرية من حب الإثرة ونفرة الطباع الإنسانية عن اكتساب حميد الإيثار وكان دأب الأغنياء الجمع لا التفريق وحوله فقراء وضعفاء قد أنقطعوا للعبادة وجعلوا نفوسهم وقفاً على الطاعة.

(1) الحج 40.

(288)

                وإن أفعاله (ص) كأقواله متينة على الحكمة والموعظة الحسنة، شد حجر المجاعة على بطنه ليقتيدي به القراء في الصبر على ألم الجوع ومضض الطوى فإنهم متى رأوا رسول الله (ص) يتكبد هذه المصاعب يجرون على منهاجه فيصبرون على ما أصابهم في جنب الله رغبة في الثواب وطمعاً بمزيد الأجر فيشتغلون بالطاعة بدل أن يتشاغلوا بطلب الدنيا ولا يلههم عن العبادة الكد والكدح في تحصيل المعاش.

                والأغنياء إذا رأوا ربطه لحجر المجاعة مع قدرته على الشبع يرغبون في الآخرة وتهون عليهم الدننا تأسياً برسول الله (ص) وأقتفاء له فيؤثرون الفقراء ويواسونهم ويعطون الفضل من أموالهم برغبة منهم وميل قلب لا بضغط وغلظة وزجر وعنف بل ببشر ورضا وطيبة نفس فينتظم بذلك أمر المعاد والمعاش ويكون توجه الخلق جميعاً إلى رب الأرباب ويقصدون غاية واحدة هي القيامة وتكون الأمة نفساً واحدة وإن تعددت الأجسام، هو الذي جمعكم على الهدى وأيدكم بنصره.

                هذا ما ظهر لي وقد مدح العباس «عليه السلام» مدحهه الائمة «عليهم السلام» بالإيثار كما في حديث الإمام زين العابدين «عليه السلام» لما نظر إلى عبيد الله بن العباس وقال في جملة ما قال: إنه آثر وأبلى وفدى أخاه الحسين «عليه السلام»، كما سيجيء إن شاء الله.

ومن صفات العباس «عليه السلام» الزهد والنسك

كلمة المؤلف في الزهد:

                وليس الزهد في الدنيا والرغبة عن نعيم الفاني من الغرائز الجبلية ولا من الطبائع النفسية وإنما هو من الملكات المكتسبة بالمواظبة على أعمال البر وأفعال الخير والتعرف بأن هذا النعيم زائل وهذه اللذة فانية وأن عند الله نعيماً باقيا ولذة دائمية لا تبيد ولا تفنى.

                والزهد حقيقة هي الإعراض عن الدنيا وزينتها وإطراح الملاذ الشهوانية التي يستطيبها سائر الناس والرضا بما قسم الله من الرزق، وأن ينزل نفسه في هذه الدار منزلة المرتحل سريعأً إلى مقصده والقاصد حثيثاً إلى غايته فإنه إذا نزل منزل في أثناء سفره بقصد الراحة فإنه لا يهتم فيه بأكثر من أنه يقيم قليلاً ليريح بدنه وراحلته ويأخذ ما يقوي نفسه من الطعام الميسور ثم يرتحل عنه إلى غيره ومن علم أن مكثه

(289)

في هذا المنزل يسيراً لا وجه لإكثاره من زخرفته وتنميقه فإنه ليس بمنزل قرار وتنقيح موطن النزول المؤقت بما يوجب كلفة وعناء ويستتبع مشقة وعنتاً جهل محض وغرور صرف، فالدنيا عند الصلحاء وأهل الدين بمنزلة المحل الذي ينزله المسافر ريثما يستريح فيه ثم ينتقل عنه فهم لذلك ينزلون أنفسهم منزلة السفار وعباري السبيل ولهذا ما شيدوا البنيان ولا زخرفوا الجدران ولا نمقوا الغرف ولا نظفوا القاعات المجلسية ونصبوا فيها الكراسي والقنفات، ولا مهدوا صالونات المنام بمخاد والأرائك المخملة، ولا تأنقوا بنقوش غرفة الأستراحة ولا غرسوا الحدائق الغناء حول المسكان والقصور بل كانت نفوسهم منصرفة عن نعومتها ونعيمها بل طلقها العظماء من أهل البيت «عليهم السلام».

                فقد قال مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» للدنيا وقد تمثلت له بصورة أمرأة جميلة: أبي تعرضت أم إلي تشوقت؟ غري غيري قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، الخ.

                وقال سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين بن علي «عليه السلام» وقد تمثلت له يوم الطف بصورة أمرأة جميلة وقالت: تزوجني أرد عنك هذا الجمع: إعزبي ويحك أما علمت أن مطلقات الآباء لا تحل للأبناء.

                وفي الشعر المروي عن زين العابدين «عليهما السلام» كما في كشكول الشيخ البهائي:

عتبت على الدنيا فقلت إلى متى          أكابد بؤساً همه ليس ينجلي

أكل كريم من علي نجاره                    يروح عليه الماء غير محلل

فقالت نعم يا بن الحسين رميتكم       بسهمي عناداً منذ طلقني علي

معنى الزهد لغة:

                قال في المصباح المنير: زهد في الشيء وزهد عنه أيضاً زهداً وزهادة بمعنى تركه وأعرض عنه فهو زاهد والجمع زهاد.

                وقال ابن الأثير في النهاية: قال الزهري وقد سئل عن الزهد في الدنيا: هو أن لا يغلب الحلال فكره ولا الحرام صبره أراد أن لا يعجز ويقصر شكره على ما رزقه الله من الحلال ولا صبره عن ترك الحرام، إنتهى، وذكره الجاحظ في البيان والتبيين.

(290)

معنى الزهد العرفاني:

                قال الشريف الجرجاني في التعريفات(1): الزهد في اللغة ترك الميل إلى الشيء وفي الأصطلاح عند أهل الحقيقة هو بغض الدنيا والإعراض عنها، وقيل: ترك راحة الدنيا طلباً لراحة الآخرة، وقيل: هو أن يخلو قلبك مما خلت منه يدك، إنتهى.

                والوجه الأخير باطل لأن الذي لم يجد الشيء ليس بزاهد فيه وإنما هو متزهد ولا يسمى زاهد في شيء لم يكن تحت قدرته فهو كالثعلب الذي يقول العنقود حامض لأنه لا يناله؛ فالزهد رغبة عن الشيء الحاصل له لا رغبة عما لم يحصل.

                وألفت نظر المطالع لهذا الكتاب ليتفطن أن معنى الزهد الأصطلاحي أخص من معناه اللغوي لأن مخصوص بالرغبة عن كل محقر في نظر الشرع المقدس أو تركه أولى، واللغوي هو الرغبة في ترك كل شيء في ترك الواجبات فيسمى في عرف أهل اللغة زاهداً فيه فيقال: زهد في الصلاة أي رغب عنها ومثل هذا لا يسمى زهداً في الشرع بل فسقاً.

الزهد في الأحاديث:

                جاء تفسير الزهد في أحاديث أهل البيت «عليهم السلام» وفسره كثير من الزهاد كل بحسب مدركه التصوري ومقوله الفكري إذ ليست له حقيقة مضبوطة ولأنه من المؤسسات الإسلامية التي هي مدار الأنصراف عن التهالك في الأمور العاجلة والإقبال على الأمور الباقية في دار الآخرة.

                فمن الأحاديث عن سيد الزهاد بعد رسول الله (ص) وعنه اخذ الزهاد والنساك الطريقة في الزهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» رواه الصدوق القمي (رحمه الله) في معاني الأخبار(2) عن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: قيل لأمير المؤمنين «عليه السلام»: ما الزهد في الدنيا؟ قال: تنكب حرامها.

                وعن أبي الطفيل («رضي الله عنه») قال: سمعت أمير المؤمنين «عليه السلام» يقول: الزهد في الدنيا قصر الأمل وشكر كل نعمة والورع عما حرم الله عليك.

                وعن إسماعيل بن مسلم قال: قال أبو عبد الله – يعني الإمام الصادق «عليه السلام»-: ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال ولا بتحريم الحلال بل الزهد في

(1) التعريفات: ص78.                                   (2) معاني الأخبار: ص74 ب 94.

(291)

الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله تعالى.

                وعن علي بن هاشم البريدي عن أبيه عن أبي جعفر – يعني الإمام الباقر «عليه السلام»-: إن رجلاً سأله عن الزهد فقال: الزهد عشرة أشياء فأعلى درجات الزهد ادنى درجات الورع، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا، ألا إن الزهد في آية من كتاب الله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما ءأتكم)(1)، إنتهى.

                والأحاديث كثيرة وكلمات الزهاد كذلك، جمع الجاحظ في البيان والتبيين منها فصلاً راجعه(2) فيه قول بعض النساك: دياركم إمامكم، وحياتكم بعد موتكم الخ، ولا نطيل بالإكثار من النقل.

مدح الزهد ورجحانه

                كلما دل على مذمة الدنيا والأنخداع بظلها الزائل ولاركون إلى نعيمها الفاني المضمحل من الآيات والروايات فهو مدح للزهد كقوله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) الآية، وكقوله: ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزوجا منهم زهرة الحيوة الدنيا)(3) إلى غيرهما من آيات القرآن الكريمة، وأما الأحاديث فلا تحصى كثرة.

حقيقة الزهد وأسبابه

                هو التنزه عن نعومة العيش الدنيوي والتأنق في المطاعم الشهية والمشارب اللذيذة والملابس اللطيفة والفرش الفاخرة ثم الرضا بما يسد الفورة ويستر العورة والاقتصار من أقتناء المؤثثات على ما به الكفاية مما لا بد منه من الحاجات الضرورية وأن يروض نفسه على القناعة باليسير المحقر، وأن لا تقهرها الشهوات ولا تقتادها المطامع الخلابة.

                وأدعى الغزالي الصوفي الشافعي في الإحياء أن حقيقة الزهد مركبة من أمور ثلاثة: علم وحال وعمل لقول السلف أن أبواب الإيمان كلها ترجع إلى عقد وقول وعمل، ثم قال(4): أما الحال فنعني به ما يسمى زهداً وهو عبارة عن أنصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، وذكر قبل هذا أن العلم هو السبب في الحال ويجري مجرى المثمر، والعمل يجري من الحال مجرى الثمرة وأطال في

(1) الحديد: 23.                                (2) البيان والتبيين 3/ 86.

(3) طه: 131.                                  (4) إحياء العلوم 3/ 187.

(292)

ذلك وهذا لبابه ومحضه وقد يتخيل المتخيل أن هذا حقيقة الزهد الأصلية وليس كذلك بل هذه مراتب طولية مرتبة في سلسلة الطول يترتب بعضها على بعض.

                وأما حقيقة الزهد بما هي في نفس الأمر والواقع فذاك أمر بسيط كسائر المفاهيم البسيطة ولم يتعرض له الغزالي هنا ثم إنه في مرتبة الصدق الخارجي على مصاديقه الحسية وترتب الأثر عليه حتى يصح أن نسميه زهداً والمتصف به زاهداً لا بد فيه من هذه الأمور الثلاثة نظير العبادة التي هي حقيقة الإخلاص والإطاعة وكونها عبادة خارجية وفاعلها متعبد حساً تحتاج إلى أمور زائدة على تلك الحقيقة كالعلم بالكيفية والكمية وغيرهما هو معروف في بابه عند الفقهاء في الكتب الفقهية.

أسباب الزهد والبواعث عليه:

                له أسباب كثيرة أظهرها وأقواها القناعة باليسير والرضا بالقوت فيما يسد الفورة ويمسك الرمق ومن الملبس بما يستر العورة والعفة عن الأبتذال في جمع الحطام وصيانه النفس وتنزيهها عن الشره والحرص الذميمين؛ فمن كانت نفسه راضية بيسير العيش قانعة بما قسم الله له من الرزق زهد في كل شيء وعاش عيشة طيبة لا تبعة معها ولا إثم ولا مذلة في اكتساب ولا هوان في طلب.

ثمرات الزهد وفوائده

ثمراته كثيرة وفوائده جمة ومنافعه شتى دنيوية وأخروية:

                فالدنيوية أظهرها وأعظمها الراحة ولهذه الراحة منافع عديدة تعود على البدن بمصالح عظيمة فإن النفس إذا لم تسلط عليها الهموم ولا الكدح في كسب المعيشة وطلب الزائد على القوت أكسبها ذلك راحة كبرى فسلمت من الهموم المؤدية إلى أنحلال البنية وإضعاف القوى بالأتعاب الشاقة وتكاملت لها المحافظة على صحتها ولم تحتاج في حفظ صحتها إلى ما يحتاجه المهتمون الكادحون في الكد شديداً الذين تعتريهم الأمراض الناشئة من الهم المفرط وشدة الكدح في سبيل تحصيل الفضول من المال الزائد على قدر القوت الضروري فأحتاج إلى العلاج الطبي، والزاهد مستغن  بصحته التي حفظها له عدم الأهتمام عن الإسعافات الطبية.

                ومن فوائد الزهد الدنيوي وثمراته العاجلة حياته الشريفة عن ذل الأبتذال في الكسب والخضوع لمن في يديه المال ويظن أن لديه أسباب التعيش كأرباب الولايات وأهل الصنائع والحرف فإن المجد منهم في طلب الزائد على سد الخلة

(293)

والمجتهد في اكتساب  الفضول ربما حصل على مهنة ساقطة أو وظيفة محقرة مع الخضوع لمن بيده ذلك والزاهد بعيد عن هذه الوصمة التي تلحق الشرف وتشوه سمعة الكريم وهي نذالة في إنحطاط المرتبة وذل الخضوع في الخطة بسبب التدخل مع أرباب الثروة فإن ذلك موجب للهوان لأن المثري متكبر والآمر جبار لا يرى واحد منهما لأحد أحتاج إليه قدراً وأحتراماً.

                ومن فوائد الزهر وثمراته الدنيوية الأستغناء عما في أيدي الناس ولو على سبيل القرض والأستدانة فإن ذلك أستكانة لأن المقرض يرى له الفضل على المقترض والدائن يجد له المنة على المستدين وربما فاجئه عسر أو ألحت به ضرورة وعاقته أزمة شديدة عن الوفاء أو أخر القسط المنجم عليه عن قوته فهناك يلاقي ما يلاقي من المذلة والهوان بسوئ الأقتضاء وقبح المطالبة وربما يكون الموت معه خير للحر من الحياة، والزاهد مستريح من هذا العنت والعناء لأنه متجمل في الطلب يكتفي بأقل شيء يكون به سد الخلة ويكفي للحاجة الضرورية فهو مستغن عن الأستدانة والأقتراض لقناعته وصبره وإنما يقع في مذلتها ويقارف هوانها من أراد الزائد وطمع في الفضول لا من راض نفسه على الصبر وكبح جماحها بالقناعة.

                مر أحد الزهاد بقصاب فدعاه إلى شراء لحم، فقال الزاهد: ليس معي ثمن، فقال القصاب: أصبر عليك بالثمن، فقال الزاهد: أنا على نفسي أصبر، وقد رويت هذه القصة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام».

أما ثمرات الزهد:

                وفوائده الأخروية فكثيرة أيضاً أهمها الأستراحة من هول الحساب والمقابلة بالعقاب أو العتاب يوم الحشر الأكبر لما ورد في الحديث عن مولانا أمير المؤمنين وابنه الحسن «عليهما السلام» في التحذير من الدنيا أن في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب، فأي ثمرة أعظم وفائدة أجل من النجاة من العقوبة والخلاص من المحاسبة والمعاتبة.

                ومن فوائده العظيمة أن لصاحبه الكرامة والمنزلة عند الله لأمور إن فعلها أستحق بها الأجر المضاعف والجزاء العظيم من حيث الصبر على الضراء والعنت الذي كابده في فطام النفس عن شهواتها وقد قيل:

وإن فطام النفس أثقل محملاً              من الصخرة الصماء حين ترومها

                والشكر على نعم الله المتجددة عليه من سلامة الدين والعافية من البلاء

(294)

والفتن والقناعة بما قدر له من رزقه فالزهاد يتصفون بصفات كلها توجب القرب من الله منها الصبر والشكر والرضا والتوكل وغير ذلك مما هو مذكور في صفات الزاهدين.

أقسام الزهد وأنواعه

                قد عرفت أن الزهد من المفاهيم البسيطة والمعاني المفردة التي لا تقبل القسمة لذاتها وإنما تنقسم بأعتبار ما تضاف إليه وهو المزهود فيه ونحن نلخص في هذا كلام الغزالي الشافعي في الإحياء فإنه مطول، قال: إعلم ان الزهد في نفسه يتفاوت بحسب تفاوت قوته على درجات ثلاثة:

                الدرجة الأولى: وهي السفلى منها أن يزهد في الدنيا وهو لها مشتهي وقلبه إليها مائل ونفسه إليها متلفتة ولكنه يجاهدها فهذا يسمى المتزهد.

                ثم قال: الدرجة الثانية: الذي يترك الدنيا طوعاً لاحتقاره لها بالإضافة إلى ما طمع فيه.

                الدرجة الثالثة: هي العليا أن يزهد طوعاً ويزهد في زهده إذ لا يرى أنه ترك شيئاً إذا عرف أن الدنيا لا شيء فيكون ولكن ترك خزفة أخذ جوهرة.

                ثم قال: وأما انقسام الزهد بالإضافة إلى المرغوب عنه فهو أيضاً على ثلاث درجات:

                الدرجة الأولى: أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار وسائر الآلام كعذاب القبر ومناقشة الحساب وخطر الصراط ومابين يدي العبد من الأهوال.

                الدرجة الثانية: إن يزهد رغبة في ثواب الله ونعيمه واللذات الموعود بها في جنته من الحور والقصور وغيرها وهذا زهد الراجين فإن هؤلاء ما تركوا الدنيا قناعة بالعدم بل طعموا في وجود دائم ونعيم سرمد لا آخر له.

                الدرجة الثالثة: وهي العليا أن لا يكون له إلا في الله وفي لقائه فلا يلتفت قلبه إلى الآلام ليقصد الخلاص منها ولا إلى اللذات ليقصد نيتها والظفر بها.

                وأما انقسامه بالنسبة إلى المرغوب عنه فقد كثرت فيه الأقاويل ولعل المذكور فيه يزيد على مائة قول فلا نشتغل بنقلها ونشير إلى كلام محيط بالتفاصيل فنقول: إن المرغوب فيه إما إجمالاً أو تفصيلاً ولتفصيله مراتب بعضها أشرح للآخاد وبعضها اجمل للجمل، أما الإجمال:

                في الدرجة الأولى: فهو كل ما سوى الله ينبغي أن يزهد فيه حتى يزهد في

(295)

نفسه أيضاً.

                والإجمال في الدرجة الثانية: أن يزهد في كل صفة للنفس فيه منقصة وهذا يتناول جميع مقتضيات الطبع من الشهوة والغضب والكبر والرياسة والمال والجاه وغيرها.

                وفي الدرجة الثالثة: أن يزهد في المال والجاه وأسبابها إذ إليهما ترجع جميع حظوظ النفس.

                وفي الدرجة الرابعة: أن يزهد في العلم والقدرة والدينار والدرهم، إلى آخر كلامه.

                وفيه خلط ظاهر وخبط متضح وحيث كنا نريد أن نتنكب مسالك الصوفية فلا نزيد على ما حررناه لأن التصوف مسلك وعر وطريق صعب وهو وإن كان بصفة الزهد لكنه ماحق للزهد لأن الطريقة التي أبتكروها بأفكارهم وسموها طريقة وحقيقة لا تناسب مسلك الملة السمحاء السهلة وبالأخص إنهم جعلوها فناً من الفنون دونوه كما تدون سائر العلوم أدخلوا فيه من الحلول والإلحاد ما شوه سمعة هذا المسلك الجليل الذي هو مسلك الأنبياء والأوصياء وعباد الله الصالحين فأضافوا إليه من البدع والمقالات الشطحية ذات الأضاليل والكفر الصريح مما نزه الله عنه أوليائه المتقين وعباده الصالحين وقد كتبنا في المسودة عن زهد عيسى ويحيى ونبينا محمد (ص) وزهد أهل بيته فصلاً نافعاً حذفناه اختصاراً.

زهد العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام»

                إن العباس بن أمير المؤمنين قد شب ونشأ في صحبة أزهد الخلق أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأخويه الحسن والحسين «عليهم السلام» فأكتسب فضيلة الزهد ببركة صحبتهم فإن الطباع تتأثر بالمصاحبة وقيل: المرء يأخذ من دين صديقه وقد قيل: ولد الفقيه نصف فقيه، وفي الحديث ما معناه، إذا خفي عليك مال فأنظر فيما ينفق، وإذا خفي عليك حال شخص فأنظر من يصحب، قال الشاعر:

صاحب أخا ثقة تحضى بصحبته        فالطبع مكتسب من كل مصحوب

                وقال أعشى بني عوف:

فأعتبر الأرض بأسمائها                      واعتبر الصاحب بالصاحب

                وقال الآخر:

إن القرين إلى المقارن ينسب

(296)

                وقال آخر في المجاورة:

من جاور المسك لم يكتسب                منه سوى الرائحة الطيبه

                وقال آخر في الفروسية:

وعلمنا الضرب آباؤنا          وسوف نعلمه أيضاً بنينا

                وقيل للأحنف: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم في قصة أوردناها في كتابنا (الميزان الراجح) والعقل يشهد بصحة هذا ويحكم به جزماً ودلت عليه التجارب وقضى الوجدان بتغير الطبائع عن مجراها الطبيعي وتكتسب خلقاً آخر يقهر ذلك الخلق الغريزي كما أكتسب الحديد الذي من طبعه الرسوب في الماء أن يطفوا على وجه الماء، وكالماء الذي من طبعه البرودة يكتسب الإسخان بالمجاورة ويصل في الهجير الشديد الحرارة بمجاورة الثلج الصناعي إلى درجة البرودة الشتوية ويزيد عليها وتأثير الثقافة حتى في السباع والطيور أمر مفروغ منه.

                فأبو الفضل العباس «عليه السلام» أولاً: كان من بيت خلقهم الله للآخرة لا للدنيا فهو بطبعه وجبلته يطلب ما خلق له وبجانب ما لم يخلق له فلا يجد لنعيم الدنيا لذلة ولا لزخرفها فائدة.

                ثانياً: إنه تربية أهل الزهد وتهذيب أهل النسك ومربيه ومهذبه من طلق الدنيا طلاقا لا رجعة فيه ومع ذلك يدل على زهده أمور:

                ومنها ما سيجيء في عبادته من بيان أثر السجود بين عينيه.

                ومنها ما سيجيء في بصيرته في دينه وفي فصل إيمانه ويقينه.

                ومنها ما ورد في زيارته عن الإمام جعفر الصادق «عليه السلام» حيث يقول: «فنعم الصابر المجاهد المحامي الناصر والأخ الدافع عن أخيه، المجيب إلى طاعة ربه، الراغب فيما زهد فيه غيره من الثواب الجزيل والثناء الجميل» الخ، وليست هذه الرغبة في الثواب المضاعف والثناء الدائم إلا الزهد في الدنيا الفانية والإعراض عن زهرتها وزهوتها اللذين شغلا طلاب الدنيا وعشاق الشهوات عن اختيار الأعمال الصالحة المنوط بها الثواب والكرامة.

                ومنها إعراض عن زهرة دنياه وهو في ريعان الشباب وغضارة الصبا العمر مقتبل والعيش غض وأغصان الشبيبة يانعم لم يبلغ حد الأكتهال ولا درجة الأكتمال التي تشرف به على نقيصة العرم الطبيعي وهي الأربعون فأعرض عن ذلك

(297)