موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

 

 

العيشة الدنية:

وإن الأولى بالطف من آل هاشم                       تأسوا فسنوا للكرام التأسيا

معنى الإباء لغة وعقلاً

معنى الإباء لغة:

                قال في القاموس: أبى الشيء يأباه إباءه وإباءة بكسرهما كرهه، والأبية التي تعاف والتي لا تريد عشاء، وأبيت الطعام كرهته، ورجل أبياً محركة  أمتنع فهو آب وآبي.

                وقال في المصباح: أبى الرجل يأبى إباء بالكسر والمد إباية أمتنع فهو آب وآبي.

                وقال في النهاية: الإباء أشد الامتناع.

معنى الإباء اعقلي:

                هو كالمعنى اللغوي وهو الامتناع من المذلة وهو كما علمت نتيجة الشجاعة.

                قال في سلوك المالك(1): الانفة وهي نبو النفس عن الأمور الدنية.

                وقال(2): وأن يحدث عن تركيب الشجاعة مع العفة الغيرة على الحرم وإنكار الفواحش.

                وقال ابن مسكويه في تهذيب الأخلاق(3): وأما الشجاعة فإن صاحبها يسمى آنفاً وغيوراً، الخ.

                وما ذكره هذا الفيلسوف متقبس من كلام العرب فإنهم يرون تضحية النفس في سبيل حفظ الشرف وعدم الأنقياد للسلطة الجائرة الجبارة متجاوزاً حد الشجاعة ويسمون الاتصاف بها إباء وأنفة وحمية فيقولون للمتصف بها: حمي الأنف وأبي الضيم، ويقولون: فلان غيرو فخور أنف، وفلان ذو أنفة كل هذه الألفاظ تطلق من مميزات بني هاشم وشعار الحماة من آل عبد المطلب لذلك يقول رااثي الحسين «عليه السلام»:

قل بقوم بهمو يحمي الطريد                واستقام الكون فيهم والوجود

(1) سلوك المالك في تدبير الممالك: ص26.

(2) نفسه: ص33.                                              (3) تهذيب الأخلاق: ص379.

(206)

أبرغم منكموا ساد يزيد                      يأباة الضيم ما هذا القعود

والموالي اليوم سادتها العبيد

                واختص بها الحسين بن علي «عليهم السلام» وأهل بيته دون سائر العرب، فإذا قيل ابي الضيم لا يتبادر منه إلا الحسين «عليه السلام» والتبادر علاة الحقيقة فإن موقف الحسين «عليه السلام» في كربلاء بإزاء تيار العدو المتلاطم وثباته في ذلك الموطن الحجر الذي تزل فيه أقدام الشجعان مما أدهش العقول وحير الافكار وأذهل الألباب حتى أصبح ذلك السيد العظيم نحيرة المجد والشرف وضحية الفخر ولاسؤدد، وما ضحى تلك النفس الكريمة التي لا ثمن لها في هذا العالم إلا في سبيل إحياء الدين وإشادة المجد ولذلك أصبح أسوة الأشراف وقدوة العظماء المتأثرين بعده كما تمثل بعضهم وقد ليم على الإقدام: وإن الأولى بالطف، البيت المتقدم.

                وقال المقتدر الخليفة العباسي لأمه حين صمم على لقاء مؤنس المظفر وقد لاحت أمارات الخذلان على جيشه: سلام عليك أنه يوم الحسين.

                وتمثل مروان بن محمد بن مروان المنبوز بالمحمار آخر ملوك بني أمية لما أستقتل بشعر سأتي ذكره.

أسباب الإباء وثمراته

                وهي كثيرة أهمها في النظر من حيث السببية هي عزة النفس فإن النفس متى كانت عزيزة أمتنعت عن كل وصمة تمس الشرف وعافت كل دني محتقر يدنس المجد والسؤدد وهان عليها الموت مع العز، وأهم الثمرات في الإباء هو التخلص مما يلحق المجد من عار الأبد وخزي الدهر فإن الراضخ لله وان المحتمل لأهتضام سيعيش قليلاً وينتل إلى الفناء ذميماً ممقوتاً مع تحمله عناء الذل الطويل والخزي الوبيل، والأبي يعيش قليلاً عزيزاً ويموت كريماً حميداً، ما ذكره حر إلا وأثنى عليه، ولا نعت عند شهم غلا قرظه وأطراه، ولا ثار ثائر في طلب مكرمة أو تفادياً من جور أو تخلصاً من ذل إلا هتف بأسمه ونوه فيه تنويه مخلص مقتدياً به أقتداء المأموم بإمامه العادل.

الإباء من خصاص العرب:

                أما كون الإباء من طباع العرب وشيم أرباب اللسان الفصيح خاصة دون سائر الأمم فهذا أثر ظاهر للعيان وقد اسفرت الصحف التاريخية والأسفار الأثرية الصحيحة عن ضبط وقائع العرب التي طحنت رحا حروبها بشراً كثيراً والتهمت

(207)

خلقاً عظيماً فدارت معاركها الشديدة على أقطاب الإباء زمناً طويلاً حيث كانت العربية حرة والعروبة محضة لم تختلط بلفيف روما ولا أخلاط فرنجة ولا أوزاع الكيانية فما حرب البسوس الطاحنة وحرب داحس والغبراء الماحقة إلا نزعة من نزعات الإباء ونفثة من نفثات الأنفة من تهور المتعاظمين كليب بن ربيعة وحذيفة ابن بدر.

                قال الخفاجي في سر الفصاحة(1): وأما الغيرة والأنفة والصبر والجلد فمعلوم منهم حتى نسبوا إلى الفظاظة وذكروا بالقساوة وعلل ذلك بإكثارهم أكل لحوم الإبل وإدمانهم التقوت بها وزعموا أن في طباعها قساوة القلوب(2) ومن عادتها غلظ الأكباد وهذا وهم متى هب في أحدهم نسيم الصبابة ودبت في مفاصلة نشوة الهوى لانت تلك المعاطف ورقت تلك الشمائل وعاد ذلك العز ذلاً وفرقاً وصارت تلك النخوة توسلاً وخضوعاً لكنه مع العفاف من الريب والبعد من التهم والمساوات بين الظاهر والباطن والاتفاق بين الغائب والبادي، إنتهى.

                وقال جميل مدور في حضارة الإسلام في دار السلام بعد أن وصف شقاوة أهالي مرسيليا من أروبا(3) قال: فأين هذا من حضارة العرب وصلاح أمرهم وأتساع المعائش بين أيديهم وأحتذائهم أشرف السنن العادلة فكأن الله تعالى قد أختص أمته من الفضل والنعمة ما حرم منه أمم الغرب فإنما العرب أحلى منهم وأحلم وأعلى وأعلم وأقوى وأقوم وأعطى وأعطف وأحصى وأحصف وأشرى للفخار وأشرف وأنفى للعارآنفى كفاهم من نعمة الله السابغة ما ركب في طباعهم من الانف والكبر النفس فأذكر أنك لو رأيتهم يتظلمون إلى الخلفاء من العمال الجائرين ويبذلون نفوسهم دون أحتمال الضيم ولو طرفة عين، الخ ما ذكر مما شاهده في الغربيين من السفور المنافي للغيرة وأصول الديانة.

أشعار العرب في الإباء

                أما حالة العرب في الإباء والأنفة فسنورد لك نبذة من أشعارهم يجعلها الآنفون أنموذجاً فعلياً وشذرة من أخبارهم يتخذها الأبيون دستوراً عملياً.

                أما الأشعار فكثيرة جداً منها قول خطيب الشعراء وحكيم الأدباء عبد العزيز

(1) سر الفصاحة: ص51.

(2) يدل عليه قول شاعرهم:

يبكي علينا ولا نبك على أحد                             لنحن أعظم أكباداً من الإبل

(3) حضارة الإسلام في دار اللإسلام: ص296.

(208)

بن نباتة السعدي في الحسين «عليه السلام»:

ولاحسين الذي رأى الموت في العـ                   ـز حياة والعيش في الذل قتلا

                وقال أبو الحسن التهامي:

من قاته نيل العلا بعلومه                                    وأقلامه فليبغها بحسامه

فموت الفتى في العز مثل حياته                         وعيشته في الذل مثل حمامه

                وقال عمر بن براقة الهمداني:

وكيف ينام الليل من جل ماله           حسام كلون الملح أبيض صارم

كذبتم وبيت الله لا تأخذونها               مراغمة ما دام للسيف قائم

ومن يطلب المال الممنع بالقنا             يعش ماجداً أو تخترمه المخارم

                وقال الحارث بن الأرقم:

وما ضاق صدري يا سليمى بشخصكم          لكنني في الحادثات صليب

تروك لدار الضيم والخسف منكر                    بصير بفعل المكرمات أريب

إذا سامني السلطان ذلاً أبيته                              ولم أعط خسفاً ما أقام عسيب

                وقال العباس بن مرداس السلمي:

يأبى فوارس لا يعرى صواهلها        أن يقبلوا الخسف من ملك وإن عظما

لا والسيوف بأيدينا مجردة                                   لا كان منا غداة الروع منهزما

                وقال المسيب بن علس الضبعي :

أبلغ ضبيعة أن البلاد                           فيها لذي قوة مغضب

وقد يقعد القوم في دارهم                   إذا لم يضاموا وإن أجدبوا

ويرتحل القوم عند الهوان                    عن دراهم بعد ما أخصبوا

وقد كان سامة في قومه                        له مطعم وله مشرب

فساموه خسفاً فلم يرضه                     وفي الأر عن ضيمهم مهرب

                وقال شاعر أسدي:

إني أمرئ من بني خزيمة لا                أطعم خسفا لناعب نعبا

لست بمعط ظلامة أبداً                      عجماً ولا أتقي بها عربا

                وقال يزيد بن مفرغ الحميري وتمثل بها الحسين بن علي «عليهما السلام»:

(209)

لا ذعرت السوام فلق الصبـ               ـح مغيراً ولا دعوت يزيدا

يوم أعطى من المخافة ضيماً                والمنايا يرصدنني أن أحيدا

                وقال آخر:

إني أنا المرء لا يغضي على ترة              ولا يقر على ضيم إذا غشما

ألقى المنية خوفاً أن يقال فتى              أمسى وقد ثبت الصفان منهزما

                وقال آخر:

كرهوا الموت فاستبيح حماهم             وأقاموا فعل اللئيم الذليل

إمن الموت تهربون فإن المو                 ت موت الذليل غير جميل

                وقال الحصين بن الحمام المري:

ولست بمبتاع الحياة بسبتة                 ولا مرتق بمن خشية الموت سلما

تأخرت أستبق الحياة فلم أجد                           لنفسي حياة مثل أن تتقدما

فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا                      ولكن على أقدامنا تقطر الدما

نفلق هاماً من رجال أعزة                                   علينا وهم كانوا أعق وأظلما

أبى لابن سلمى أنه غير خالد                            يلاقي المنايا أي ضرب تيمما

                وقال يحيى بن منصور الحنفي:

ولما نأت عنا العشيرة كلها                   أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر

فما أسلمتنا عند يوم كريهة                   فلا نحن أغضينا الجفون على وتر

                وقال الشريف الرضي أبو الحسين الموسوي:

سأمضي للتي لا عيب فيها وإن لم أستفد إلا عناءا

وأطلب غاية إن طوحت بي               أصابت بي الحمام أو العلاءا

فإني من أباة  الضيم آب                      أفاض علي تلك الكبرياءا

ومنا كل أغلب مستميت                    إذا أنت لدتته بالذل قاءا

إذا ما ضيم نمر صفحيته                    وقام على براثنه إباءا

                وقال الشداخ الكناني:

أبينا فلا نعطي مليكاً ظلامة                ولا سوقة إلا الوشيج المقوما

وإلا حساماً يبهر العين لمحه               كصاعقة في عارض قد تبسما

(210)

                قال الراغب الأصبهاني الشافعي في محاضرات الأدباء(1): لما وقعت الهزيمة على مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، أهاب الناس أن يرجعوا فلم يلووا فأنتضى سيفه وقاتل قتال مستقل فقيل له: لا تهلك نفسك ولك الأمان، فتمثل بأبيات قالها الحسين بن علي «عليهما السلام» يوم قتل وهي:

أذل الحياة وذل الممات         وكلا أراه طعاماً وبيلا

فإن كان لا بد إحداهما         فسيراً إلى الموت سيراً جميلا

                انتهى، فالحسين «عليه السلام» المثال الحقيقي للإباء، والمثال الأعلى لكل أحدوثة مجد يتحدث بها كريم نفس وحمي أنف، فقد أصبح بما سنه من الإباء وعزة النفس وامتناعها من الرضوخ للمذلة والهوان أسوة كل ذي نفس عربية شماء، وقدوة كل ذي همة قعساء لم يتأسى به مروان الحمار فقط بل قد سمعت ما قاله المقتدر العباسي ومصعب بن الزبير.

الأبون من العرب والآنفون من زعمائهم

                هم أقسام: قسم يأنف لاهتضام جار أو نزيل وفي طليعة هذا القسم جساس بن مرة الشيباني المعروف بحامي الذمار ومانع الجار ويلحق به آخرون سلكوا مسلكه.

                وقسم يأنف من هوان يمر به يسومه إياه ذور رفعة وأقتدار، ومن هذا القسم عمرو بن كلثوم التغلبي وقيس بن زهير العبسي.

                وقسم يأنف من هتك عرض وهذا كثير في العرب.

                وقسم وهو أشرف هذه الأقسام وأكرها وأفخرها وهو الذي يأنف من الرضوخ لإمرة جبار وضيع وسلطة أثيم معتدي يروم أستعباد الأحرار ويحاول السيطرة على الكبراء بسلطته الجبارة الجائرة ويجهد في إذلالهم بقوته القاهرة، وعند العرب شمم وشموخ وعزة نفس وكبرياء متمنعة بمجدها السامي وفخرها الشامخ والإباء الذي سن لقمع ولاة الجور وردع أئمة الفجور وحكام الجبروتية وهو الذي أسسه أبو الأئمة شهيد كربلاء سبط رسول الله (ص) أبو عبد الله الحسين بن علي «عليهما السلام» حين نهض تلك النهضة الكريمة وثار تلك الثورة المقدسة المقدرة المحترمة عند جميع الأحرار إلى يومنا هذا وهي التي يتمسك بها أرباب الغيرة والحمية على القوميات الحرة ونصراء العنصرية والمجد القومي كي يحرر

(1) محاضرات الأدباء 3/ 60.

(211)

شعبه وقومه من ذل الأستعمار كما حرر الحسين «عليه السلام» العروبة والإسلام من أستعباد الجلفية الأموية القاسية وطغام الأمة السفلة الأنذال.

القسم الأول: من أباة العرب وأحرارها:

                جساس بن مرة بن ذهل الشيباني حامي الذمار ومانع الجار من سادات بكر بن وائل من ربيعة قتل كليب بن ربيعة كليب وائل الذي يقال له أعز من كليب وحمى كليب وهو سيد ربيعة قتله جساس وهو صهره فظن العرب أنه قتله بناقة قيمتها مائة درهم وذلك أنها كسرت بيضاً في حماه وقيل بل رعت في حماه مختلطة بإبل جساس وأخطأوا إنما قتله لأنه قد ضامه وأهتضمه بأعتدائه على جاره ونحن نذكر من القصة المطولة ما هو السبب في قتل كليب يستفيد القارئ منه ويعرف الناس عزة العرب وطماحها الشرفي ونزقها المجدي.

                قال الجواليقي الجنبلي في شرح أدب الكاتب(1): كان سبب ذلك أن كليباً خرج يوماً يدور في حماه فإذا هو بحمرة على بيض لها فلما نظرت إليه صرصرت وخفقت بجناحها، فقال لها: أمن روعك أنت وبيضك في ذمتي، ثم دخلت ناقة البسوس الحمى فكسرت البيض فرماها كليب في ضرعها فأستغاثت البسوس بجارها جساس وكان كليب زوج أخت جساس فعدى عليه جساس ومعه عمرو ابن الحارث(2) ابن عمه فقتلاه فوقعت الحرب بين بكر وتغلب أربيعن سنة ولم تسكن الحرب حتى قتل جساس الخ.

                هذا ما ذكره الجواليقي والمشهور عند علماء السيرة أنها كانت تختلط بإبل جساس فترعى في جماه وإن اختلفوا بين من  يقول أن الناقة المعروفة بسراب هي للبسوس نفسها وبين من يقول أنها لرجل جرمي كان جار للبسوس خالة جساس.

                قال ابن عبد ربه المالكي في العقد الفريد(3) في كليب: أجتمعت عليه معد كلها وجعلوا له قسم الملك وتاجه ومحبة وطاعته فغبر بذلك حيناً من دهره ثم دخله زهو شديد وبغى على قومه لما هو فيه من عزة وأنقياد معد له حتى بلغ من بغيه إنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه ويجير على الدهر فلا تخفر ذمته ويقول وحش أرض كذا في جواري فلا يهاج ولا تورد إبل أحد مع إبله، ولا

(1) شرح أدب الكاتب: ص261.

(2) عمر بن الحارث يسمى المزدلف ويقال له ذو العمامة الفردة وهو شيباني وفيه قيل:

المستجير بعمرو عند كربته                  كالمستجير من الرمضا إلى النار

(3) العقد الفريد 3/ 335.

(212)

توقد نار مع ناره حتى قالت العرب: أعز من كليب وائل، وكانت بنو جشم وبنو شيبان في دار واحدة بتهامة وكان كليب قد تزوج جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان وأخوها جساس بن مرة وكانت مرة بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة نازلة في بني شيبان مجاورة لجساس وكان لها ناقة يقال لها سراب ولها تقول العرب «أشأم من سراب» و«أشأم من البسوس»فمرت إبل لكليب بناقة البسوس وهي معقولة بفناء بيتها جوار جساس بن مرة فلما رأت سراب الإبل نازعت عقالها حتى قطعته وتبعت الإبل فأختلطت بها حتى أنتهت إلى كليب وهو على الحوض معه قوسه وكنانته فلما رآها أنكرها فأشتد عليها بسهم فخرم ضرعها فنفرت الناقة وهي ترغوا فلما رأتها البسوس قلعت خمارها عن رأسها وصاحت: وا ذلاه! وا جاراه! وخرجت فأحمست جساساً الخ.

                هكذا قال ووافقه جماعة، وقال آخرون: الناقة لجار البسوس ومنهم الميداني الحنفي ونصه في مجمع الأمثال(1): هي بسوس بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان  قاتل كليب وكان من حديثه أنه كان لبسوس جار من جرم يقال له سعد بن شمر وكان له ناقة يقال لها سراب وكان كليب قد حمى أرضاً  من أرض العالية في أنف الربيع فلم يكن يرعاه أحد إلا إبل جساس لمصاهرة بينهما وذلك أن جليلة بنت مرة أخت جساس كانت تحت كليب فخرجت سراب ناقة الجرمي في إبل جساس ترعى في حمى كليب فنظر إليها كليب فأنكرها فرماها بسهم فشل ضرعها فولت ترغو حتى بركت بفناء صاحبها وضرعها يشخب دماً، فلما نظر إلها صرخ بالذل فخرجت جارته البسوس ونظرت إلى الناقة فلما رأت ما بها ضربت يدها على رأسها ونادت: واذلاه! ثم أنشأت تقول:

لعمرك لو أصبحت في دار منقذ                        لما ضيم سعد وهو جار لأبياتي

ولكنني أصبحت في دار غربة                            متى يعدو فيها الذئب يعدو على شاتي

فيا سعد لا تغرر بنفسك وأرتحل                       فإنك في قوم عن الجار أموات

ودونك أذوادي فإني عنهموا                            لراحلة لا يفقدوني بنياتي

                زاد في سيرة بني شيبان في هذه الأبيات:

فسر نحو جرم إن جرماً أعزة                             ولا تك فيهم لاهياً بين نبواتي

إذا لم يقوموا لي بثاري ويصدقوا                        طعانهموا والضرب في كل غارات

(1) مجمع الأمثال 1/ 254.

(213)

فلا آب ساعيهم ولا سد ثغرهم                        ولا زال في الدنيا لهم شر نكبات

                قال الميداني: فلما سمع جساس قولها سكنها وقال لها: أيتها المرأة ليقتلن غداً جمل هو أعظم عقراً من ناقة جارك، ولم يزل جساس يتوقع غرة كليب حتى خرج كليب لا يخاف شيئاً وكان إذا خرج تباعد عن الحي الخ.

                وقال ياقوت الحموي الخارجي في معجم البلدان(1): إن كليباً قال يوماً لأمرأته وهي جليلة بنت مرة أخت جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان وأم جساس هبلة بنت منقذ بن سلمان بن كعب بن عمرو بن سعد بن زيد مناة بن تميم وكانت أختها البسوس نازلة على أبن أختها جساس، قال لها: أتعرفين في العرب من هو أعز مني؟ قالت: أخواي جساس وهمام، وقيل: قالت: نعم أخي جساس وندمانه عمرو المزدلف بن ربيعة بن الحارث بن ذهب بن شيبان، فأخذ قوسه فخرج فمر بفصيل لناقة البسوس فعقره وضرب ضرع ناقتها حتى أختلط لبنها ودمها وكانا قد قاربا حماه فأغمضوا له على ذلك فأستغاثت البسوس ونادت بويلها، فقال جساس: كفي فسأعقر غداً جملاً هو أعظم من عقر ناقة، فبلغ ذلك كليباً فقال: دون عليان خرط القتاد فذهبت مثلاً، وعليان فحل إبل كليب ثم أصابتهم سماء فمرا بنهر يقال له شيبث فأراد جساس نزوله فأمتنع كليب قصداً للمخالفة، ثم مروا بالأحص فأراد جساس نزوله فخالفه كليب، ثم مروا ببطن الجريب فجرى أمره على ذلك حتى نزلوا الذنائب وقد كلوا وأعيوا وعطشوا فإغضب ذلك جساساً فجاء وعمرو والمزدلف معه وقال: يا وائل! – هو اسم كليب – طردت أهلنا من المياه حتى كدت تقتلهم، فقال كليب: ما منعناهم من ماء إلا ونحن له شاغلون، فقال له: هذا كفعلك بناقة خالتي، قال: أو ذكرتها؟ أما إني لو وجدتها في غير إبل مرة – يعني أبا جساس – لا ستحللت تلك الإبل، فعطف عليه جساس فرسه وطعنه بالرمح فأنفذه فيه، فلما أحس بالموت قال: يا عمرو! اسقني ماء، يقول ذلك لعمرو المزدلف، فقال له: تجاوزت الأحص وشيبث، ثم كانت حرب بني وائل وهي حرب البسوس أربعين سنة وهي حروب يضب بها المثل، الخ.

                أما الميداني بعد قوله: إذا خرج تباعد عن الحي فبلغ جساساً خروجه فخرج على فرسه وأخذ رمحه وأتبعه عمرو بن الحارث فلم يدركه حتى طعن كليباً فقال: يا جساس! أغثني بشربة ماء، فقال جساس: تركت الماء وراءك وأنصرف عنه ولحقه عمرو فقال: ياعمرو أغثني بشربة ماء، فنزل إليه وأجهز عليه فضرب به

(1) معجم البلدان 1/ 128.

(214)

المثل، فقيل:

المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار

                إلى هنا، وتشبه هذه القساوة البدوية قساوة اللعين شمر بن ذي الجوشن الضبابي سمع الحسين «عليه السلام» يستغيث بشربة ماء فإغاثه بالذبح عاجلاً وفرق بين القصتين أن كليباً كان طاغوتاً متجبراً كثير العنت والإذلال على قومه يتحرى إذلالهم بكل ما وجد إليه سبيلا، والحسين «عليه السلام» كان رؤوفاً رحيماً باراً مشفقاً عظيم الإحسان، وصولاً للأمة، منعماً على الرعية، وجميع أياديه على العرب بيضاء ولكن الشمر ونظراؤه أجلاف جفاة أراذل سفلة.

                قال الميداني: وأقبل جساس يركض وركبته بادية، فقال أبوه لمن حوله: قد أتاكم جساس بداهية، قالوا ومن أين تعرف ذلك؟ فقال: لظهور ركبتيه فإني لا إعلم أنها بدت قبل يومها، ثم قال: ما ورائك ياجساس؟ فقال: والله لقد طعنت طعنة لتجمعن منها عجائز وائل رفضاً، فقال: وما هي ثكلتك أمك؟ قال قتلت كليباً،  فقال أبوه: بئس لعمر الله ما جنيت على قومك، فقال جساس:

تأهب عنك أهبة ذي امتناع                فإن الأمر جل عن التلاحي

فإني قد جنيت عليك حزناً تغص الشيخ بالماء القراح

                فأجابه أبوه:

فإن تلك قد جنيت علي حرباً             فلا وإن ولا رث السلاح

سألبس ثوبها وأذب عني                    بها يوم المذلة والفضاح

                قال: ثم قوضوا الأبنية وجمعوا النعم والخيول وأزمعوا الرحيل، وكان همام بن مرة أخو جساس نديماً لمهلهل بن ربيعة أخي كليب فبعثوا جاريتهم إلى همام لتعلمه الخبر وآمروها أن تسره من مهله فأتتهما الجارية وهما على شرابهما فسارت هماماً بالذي كان من الأمر، فلما رأى ذلك مهلهل سأل هماما عما قالت الجارية وكان بينهما عهد أن لا يكتم أحدهما صاحبه شيئاً، فقال: أخبرتني أن أخي قتل أخاك، قال مهلهل: أخوك أضيق أستاً من ذلك، وسكت همام وأقبلا على شرابهما، فجعل مهلهله يشرب شر الآمن وهمام يشرب شرب الخائف، فلم تلبث الخمر مهلهلاً حتى صرعته فأنسل همام فرأى قومه قد تحملوا فتحمل معهم وظهر أمر كليب ونشب الشر بين بكر وتغلب أربعين سنة الخ.

                فهذه الأنفة كان سببها أهتضام الجار والنزيل والعرب تأنف وتحمي في

(215)

الجوار لما دون الناقة فإن بعضهم أنف أن يصاد الجراد في جواره، وبعضهم حمى الحيوانات المفترسة لأنها دخلت في جواره.

                قال الميداني الحنفي في مجمع الأمثال(1): ذكر ابن الأعرابي عن ابن الكلبي أن مدلج بن سويد الطائي خلي ذات يوم في خيمته فإذا هو بقوم من طي معهم أوعيتهم، فقال: ما خطبكم؟ فقالوا: جراد وقع بفناءك فجئنا لنأخذه، فركب فرسه وأخذ رمحه وقال: لا والله لا يعرضن له أحد منكم إلا قتلته، إنكم رأيتموه في جواري ثم تريدون أخذه، فلم يزل يحرسه حتى حميت الشمس وطار فقال: شأنكم الآن فقد تحول عن جواري، ويقال إن المجير للجراد كان حارثه بن مر أبو حنبل.

                وذكر البيهقي الشافعي في المحاسن والمساوي(2) أن جماعة من الأعراب أثاروا ضبعاً فدخلت خباء شيخ منهم فقالوا: أخرجها، فقال: ما كنت لأفعل قد أستجارت بي، فانصرفوا وكانت هزيلاً فأحضر لها لقاحاً فجعل يسقيها حتى عاشت فقام الشيخ ذات يوم فوثبت عليه فقتلته، فقال شاعرهم في ذلك:

ومن يصنع المعروف في غير أهله      يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر

أعد لها لما استجارت بقربه                  غذاء من ألبان اللقاح الغزائر

وأسمنها حتى إذا ما تملأت                فرته بأنياب لها وأظافر

فقل لذوي المعروف هذا جزاء من   يجود بمعروف على غير شاكر

                إنتهى، فقد بلغ من تهالك العرب على إكرام الجار الغاية التي لا يوصل إليها، فقد كان عدي بن حاتم الطائي يفت الخبز للنمل ويقول: إنهن جارات، وقصة الحولاء شبيهة البسوس في بني سعد بن تميم أطلبها من مجمع الأمثال(3).

القسم الثاني: الآنفين من الهوان:

                للضيم والمذلة لاهتضام أنفسهم عند شموخ ذي سلطة عليم وتطاوله بعظمة الملك وكبرياء الزعامة مع كونهم أشراف قبائلهم وسادات قومهم وهم عند أنفسهم من أعز العرب وأمنعها وأدفعها للضيم وهؤلاء منهم قيس بن زهير العبسي فإنه أعتدى عليه حذيفة بن بدر الفزاري في الرهان الواقع بينهما وكان حذيفة سيد غطفان عموماً وزادت رياسته على كل رياسة انتشاراً وشهرة ولضخامة رياسته

(1) مجمع الأمثال 1/ 149.                            (2) المحاسن والمساوي 2/ 95.

(3) مجمع الأمثال 1/ 258.

(216)

 وعظمتها لقبته العرب رب غطفان وكان فيه جبروتية وطغيان، وفيه زهو وخيلاء، نحى منحى كليب ونهج منهجه في ظلم العشيرة وإذلال سراتها وساماها الخسف، وبلغ من تجبره وعتوه إنه أراد أن يبني في بلاد غطفان بيتاً يضاهي به الكعبة المشرفة ويصرف إليه حاج العرب فأبت العرب عليه ذلك وحاربته ومنعته من مقصوده وكان زهير بن جناب الكلبي أحد الواثبين عليه في ذلك هدموا البيت الذي بناه وقيل منعوه عن بناءه.

                فلما وجب الرهان بين قيس وحذيفة تمرد تمرد من لا يرى له نظيراً وعتى عتو من لا يحسب أن له كفؤاً، فكان أحد من قتله بغية وصرعه وظلمة وأودى به تجبره وهذه الحرب المعروفة بحرب داحس والغبراء دامت أيضاً أربعين سنة وهي كحرب البسوس مطولة نذكر منها السبب الذي أثارها واهاجها بين أبني غطفان عبس وذبيان.

                قال الميداني الحنفي في مجمع الأمثال(1): حرب داحس والغبراء، قال المفضل: داحس فرس قيس بن زهير بن ذيمة العبسي والغبراء(2) فرس حذيفة ابن بدر الفزاري وكان يقال لحذيفة رب معد في الجاهلية وكان من حديثهما أن رجلاً من بني عبس يقال له قرواش بن هني كان يماري حمل بن بدر أخا حذيفة في داحس والغبراء، فقال حمل: الغبراء أجود، وقال قرواش: داحس أجود فتراهنا عليهما عشراً في عشر فأبى قواش قيس بن زهير فأخبره فقال قيس: راهن من أحببت وجنبني بني بدر فإنهم قوم يظلمون لقدرتهم على الناس في أنفسهم وأنا نكد إباء، فقال قرواش: فإني قد أوجبت الرهان، فقال قيس: ويلك ما أردت إلا أشأم أهل بيت والله لتشعلن علينا شراً.

                ثم إن قيساً أتى حمل بن بدر فقال: أتيتك لأواضعك الرهان عن صاحبي، فقال لا أواضعك أو تجيء بالعشر فإن أخذتها أخذت سبقي وإن تركتها رددت حقاً قد عرفته لي العرب وعرفته لنفسي فأحفظ قيساً، فقال: هي عشرون فقال حمل: هي ثلاثون، فتلاحيا وتزايدا حتى بلغ قيس به مائة ووضع السبق على يد علاق أو ابن علاق أحد بني ثعلبة بن سعد.

                ثم قال قيس: وأخيرك بين ثلاث فإن بدأت واخترت فلي خصلتان، قال

(1) مجمع الأمثال 1/ 38.

(2) داحس والغبراء كلاهما لقيس بن زهير وقد وهم المفضل ولحذيفة الحنفاء والخطار وعلى هذه الأربعة كان الرهان.

(217)

حمل: فابدأ، قال قيس: فإن الغاية مائة غلوة وإليك المضمار والميطان أي حيث يوطن الخيل للسبق، قال حرز لهم رجل من محارب فقال: وقع البأس بين أبني بغيض فضمروهما أربعين ليلة ثم أستقبل الذي ذرع لهم الغاية من ذات الآصاد وهي ردهة وسط هضب القليب فانتهى الذرع إلى مكان ليس له إسم(1) فقادوا الفرسين إلى الغاية وقد عطشوهما وجعلوا السابق الذي يرد ذات الآصاد وهي مليء من الماء ولم يلائم قصة ولا غيرها ووضع حمل حيساً في دلاء وجعله في شعب من شعاب هضب القليب على طريق الفرسين فسمي شعب الحيس لهذا وكمن معه فتياناً فيهم رجل قال له زهير بن عبد عمرو وآمرهم إن جاء داحس سابقاً أن يردوا وجهه عن الغاية وارسلوهما من منتهى الذرع فلما طلعا قال حمل: سبقت ياقيس، فقال: رويداً يعدون الجدد أي يتعدينه إلى الوعث والخباز فذهبت مثلاً، فلما دنوا وقد برز داحس فقال قيس: المذكيات غلاب – في رواية – غلاء – فذهبت مثلاً، فلما دنوا من الفتية وثب زهير فلطم وجه داحس فرده عن الغاية ففي ذلك يقول قيس بن زهير:

كما لاقيت من حمل بن بدر                  وإخوته على ذات الأصاد

فهم فخروا علي بغير فخر                   وردوا دون غايته جوادي

                فقال قيس: يا حذيفة! أعطوني سبقي، قال حذيفة: خدعتك، فقال قيس: ترك الخداع من أجرى من مائة، فذهبت مثلاً، وقال الذي وضع الرهن على يده أن قيساً قد سبق وإنما أردت أن يقال سبق حذيفة وقد قيل فأدع إليه سبقه، قال: نعم فدفع إليه الثعلبي السبق.

                ثم إن غري بن عميرة وابن عم له من بني فزارة ندما حذيفة وقالا له: قد رأى الناس سبق جوادك وليس كل الناس رأى أن جوادهم لطم فدفعك السبق تحقيق لدعواهم فأصابهم السبق فإنه أقصر باعاً وكل أحد لن يردك، قال لهما: ويحكما أراجع فيها متندماً على ما فرط عجز والله، فما زالا به حتى ندم فنهى حميصة بن عمروحذيفة وقال: إن قيساً لم يسبقك إلى مكرمة لنفسه وإنما سبقت دابة دابة فما في هذا حتى تدعى في العرب ظلوماً، فقال: أما إذا تكلمت فلا بد من أخذها، ثم بعث حذيفة ابنه أبا قرفة إلى قيس يطلب السبق فلم يصادفه فقالت

(1) المشهور ان الغاية كانت من واردات إلى ذات الآصاد.

(218)

له أمرأته هر بنت كعب: ما أحب أن صادفت قيساً فرجع أبو قرفة إلى أبيه فأخبره بما قالت، فقال: والله لتعودن إليه ورجع قيس فأخبرته أمرأته الخبر فأخذت قيساً زفرات فأقبل متقلبا فليم ينشب أبو قرفة أن رجع إلى قيس فقال له: يقول أبي: أعطني سبقي فتناول قيس الرمح فطعنه فدق صلبه ورجعت فرسه غائرة فأجتمع الناس فأحتملوا دية أبي قرفة مائة عشراء فقبضها حذيفة وسكن الناس فأنزلها على النقرة حتى أنتجها ما في بطونها.

                ثم إن مالك بن زهير نزل اللقاطة وهي قريب من الحاجر وكان نكح من فزارة أمرأة فأتاها فبنى بها وأخبر حذيفة بمكانه فعدى عليه فقتله، ففي ذلك يقول عنترة:

فـلله عيناً من رأى مثل مالك             عقيرة قوم إن جرى فرسان

فليتهما لم يجريا نصف غلوة                  وليتهما لم يرسلا لرهان

                فأتت بنو جذيمة حذيفة فقالت: مالك بن زهير بمالك بن حذيفة ردوا علينا مالنا، فأشار سنان بن أبي حارثة المري على حذيفة أن لا يرد أولادها معها وأن يرد المائة بأعيانها، فقال حذيفة: نرد الإبل بأعيانها ولا نرد النسل، فأبوا أن يقبلوا ذلك، فقال قيس بن زهير:

يود سنان أن نحارب قومنا وفي الحرب تفريق الجماعة والأزل

يدب ولا يخفي ليفسد بيننا دبيباً كما دبت إلى جحرها النمل

فيا بني بغيض راجعا السلم تسلما      ولا تشمتا الأعداء ويفترق الشمل

وإن سبيل الحرب وعر مضلة            وإن سبيل السلم آمنة سهل

                ثم ساق القصة في نشوب الحرب الطاحنة بين عبس وذبيان والمعلوم أن الخطار كان على الحنفاء(1) والخطار وهما لآل بدر، وداحس والغبراء وهما لآل جذيمة والرهان وقع على هذه الأربعة.

                ومن الأنفة وقع الصلح بينهما كما وقعت الحرب بينهما.

                قال الميداني: فلم تزل عبيس مع بني عامر حتى غزى غزي من بني عامر يوم شواحط بني ذبيان فأسر منهم أناس أحدهم أخو حنبص الضبابي أسره رجل من بني ذبيان فلما أنقضت أيام عكاظ أستودعه يهودياً خماراً من أهل تيماء فوجده

(1) الحنفاء هي التي عناها أبو فراس الحمداني بقوله:

كما جرت الحنفاء حتف حذيفة          وكان يراها عدة للشدائد

(219)

اليهودي يخلفه في أهله فأجب مذاكيره فمات فوثب حنبص على بني عبس فقال: إن غطفان قتلت أخي فدوة، فقال: قيس إن يدي مع أيديكم على غطفان ومع هذا فإنما وجده اليهودي على أمرأته فقال حنبص: والله لوقتلته الريح لوديتموه، فقال قيس لقومه: دوه والحقوا بقومكم فإن الموت في غطفان خير من الحياة مع بني عامر، وقال:

لحى الله قوماً أرشوا الحرب بيننا       سقونا بها مراً من الماء آجنا

وكايد ذا الخصيين إن كان ظالماً          وإن كان مظلوماً وإن كان شاطنا

فهلا بني ذبيان أمك هابل                  رهنت بفيف الريح إن كنت راهنا

                الخ، وليس للهوان حد في نفوس أهل الجاهلية ولا للأنفة منتهى فقد يأنف من كلمة كما يأنف من ظلامة إذا ظن أن فيها إسقاط شرفه وإن كانت في شيء تافه لا تقدير له عند العقلاء وعرب الجاهلية تعده عاراً وتراه سبة ومخزاة فلا تجد إلى الإغضاء عليه سبيلاً وهنا قصص ذكرناها أولاً وحذفناها أخيراً للاختصار كقصة ضمضم اليربوعي وابنه غر بن ثعلبة وقتله إياه، وكقصة معاذ بن صرم الخزاعي وجحيش بن سودة، وقصة الجحاف السلمي وأنفته من كلمة الأخطل وحديث وقعة بنات قين بين فزارة وكلب، ووقعة طخفة بين بني يربوع والنعمان بن المنذر، ووقعة ذي قار بين بني شيباني وكسرى.

القسم الثالث: الآنفون لاهتضام الحرم:

                ومن هؤلاء عمرو بن كلثوم التغلبي فارس ربيعة شاعرها وزعيم تغلب بن وائل وهو أحد أصحاب القصائد السبعة المعروفة بالمعلقات ومطلع معلقاته:

إلا هبي بصحنك فأصبحينا              ولا تبق خمور الأندرينا

                ذكر فيها مآثر قومه، قال ابن قتيبة في الشعر والشعراء(1): عمرو بن كلثوم جاهلي قديم وهو قاتل عمرو بن هند(2) قال ذات يوم: هل تعلمون أحداً من العرب تأنف أمه من خدمة أمي؟ قالوا: لا نعلمها إلا ليلى أم عمرو بن كلثوم، قال: ولم ذاك؟ قالوا: لأن أباها مهلهل بن ربيعة وعمها كليب وائل أعز العرب وبعلها كلثوم بن عتاب فارس العرب وابنها عمرو بن كلثوم سيد من هو منه، فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستنريره ويسأله أن يزير أمه أمه فأقبل عمرو بن كلثوم من الجزيرة في جماعة من بني تغلب وأقبلت ليلى في ظعن من بني

(1) الشعر والشعراء: ص66.

(2) يسمى محرقاً، ويعرف بمضرط الحجارة.

(220)