موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

 

 

 

فقال «عليه السلام»: أطفئ السراج فإن الصبح قد طلع.

                ثم قال (رحمه الله) في تفسيرها: لا يمكن الجواب في كشف الحقيقة إلا من آثارها على طريق الرمز والإشارة كما قال «عليه السلام» «الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة»وذلك لأن الله تعالى محجوب بصفاته، وصفاته الجلالية تتعلق بذاته، وصفاته الجمالية تتعلق بأفعاله؛ فالسالك الطالب للحق إذا سلك المفاوز الجسمانية وعبر من الروحانية وصل إلى صفات الجمال ثم إلى صفات الجلال فإذا تجاوزهما تجلى له الحقيقة.

                وقوله: «من غير إشارة» إشارة إلى أن الله تعالى منزه عن أن يكون مشاراً إليه أو يكون له حد أو نهاية لأن هذه الصفات من صفات المحدثات.

                إلى أن قال كميل: «زدني» وهو في عين السلوك يريد الوصول الذي هو نهاية مراتب السالكين، فأجاب «عليه السلام» بما أجاب وهو إشارة إلى مرتبة اليقين المجرد ولم يقنع كميل بذلك والتمس مرتبة علم اليقين فأجاب عنه ثانياً بقوله «محو الموهوم مع صحو المعلوم» لأن الحقيقة إذا كشفت من صفات الجلال التي يتعلق بالذات وأدرك أثره السالك أنمحى وهمه وزال عنه شكه وظنه وشاهد آثار الحقيقة بنور علم اليقين.

                ولم يقنع كميل بعلم اليقين والتمس منه مرتبة عين اليقين فأجاب بأنها «هتك الستر عند غلبة السر» وذلك لأن الإنسان إذا محى مظنونات وهمه عند أنكشاف سبحات الجلال عن الحقيقة فيصبحوا المعلوم ويعلم بعد علم اليقين علامات الحقيقة ويسكر السالك من شراب الوجد.

                إلى أن قال: ثم لم يقنع كميل بمرتبة عين اليقين والتمس مرتبة حق اليقين فأجاب «عليه السلام» «جذب الأحدية بصفة التوحيد» معناه أن من هتك ستره من غلبة السرور وسكر من شراب الوجد الحقيقي ثم نفس من سكره ويجلس على سرير الصحو ويعلم أن ليس في الوجود إلا الله وينفي الاثنينية بالكلية تمكن من التوحيد الحقيقي وهو أن لا يرى في الوجود إلا الله الواحد الحق مع وجود كثرة المكونات ويعلم أن الآثار مظاهر أفعاله، والأفعال مظاهر صفاته، وصفاته ثابتات لذاته، وهذه مرتبة علية في علم التوحيد.

                ثم لم يقنع كميل بمرتبة حق اليقين والتمس حقيقة حق اليقين فأجاب «بنور يشرق من صبح الأزل» يعني من ينفي الاثنينية ويتمكن من التوحيد الحقيقي ولم ير في الوجود سوى الله المعبود تجلى الحق عليه بصفاته الذاتية فعند ذلك يصير عبداً

(157)

ربانياً وهو وإن كان بين الخلق يكون مع الحق والحق معه فالبحق يسمع وبه يبصر وبه ينطق وبه يبطش كما ورد في الحديث الرباني «لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوفل حتى أحببته فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يمشي».

                وقوله «عليه السلام» «نور يشرب من صبح الأزل فتلوح على هياكل التوحيد آثاره» عن السلاك الواصلين إلى الحق المشرفين بتجلي الصفات الذاتية ولفظ آثاره إشارة أن لا يكون تجلى بالحقيقة على الدوام بل تكون آثاره متجلية.

                ثم جاوز كميل هذه المعرفة وكاد يشرع في مقام لو ثار إليه طائر لأحترق جناحه ولما سأل الزيادة عن هذه المرتبة التي هي مرتبة الوصول أجاب عنه «عليه السلام» «اطف السراج فإن الصبح قد طلع» ومنع عن هذا وأعلمه أن هذه المرتبة آخر مراتب الكمال وليس وراء عبادان قرية وهي مرتبة الوصول ولهذه المرتبة بداية ووسط ونهية؛ فالنهاية لمحمد (ص) والوسط لعلي «عليه السلام» والبداية لمريديه ومتبعي آثاره على وجه الشريعة والطريقة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة نيابة، فالمريد يأخذ المعارف والحقائق عن الولي والولي يأخذ من النبي (ص) ولذا كانوا خير الأمم وتمنى جميع الأنبياء أن يكونوا منهم لأنهم عاينوا بنور النبوة أنه يكون لأمة محمد (ص) هذه المرتبة وقال (ص) علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل وهم العاملون بأحكام الشريعة ودقائقها، إنتهى ملخصاً.

                وجعل عبد الله الأنصاري الصوفي الحنبلي في منازل السائرين درجات اليقين ثلاثة:

                (1) علم اليقين.

                (2) عين اليقين.

                (3) حق اليقين، راجعه مع شرحه(1)، واهمل اليقين الذي هو أول الدرجات لأنه أكتفى بتقسيمه إلى ثلاث والخارج عنها هو اليقين المجرد ولم يذكر الدرجة الخامسة التي هي الوصول لأنه بصدد بيان صفات السائرين والسالكين وهذا أقصى ما يصلون إليه؛ فالوصول إلى الدرجة الخامسة يختص بالأنبياء والأوصياء فوافق تقسيم العلامة.

                وقد أستبان أن أبا الفضل العباس «عليه السلام» في أرقى درجة اليقين

(1) منازل السائرين: ص 122.

(158)

العرفاني التي لا يمكن أن يتجاوزها إلا من كان معصوماً بالعصمة الإلهية التي هي حقيقة النبوة والإمامة فيصدق قوله «عليه السلام»:

فليس هذا من فعال ديني    ولا فعال صادق اليقين

                بالإقبال بكليته على مواجهة رب الأرباب والمجاورة له في دار البقاء والتخلي عن هذه الدار الفانية ذات الأكدار والشواغل الكثيرة الموجبة لحجب المريد عن مواصلة المراد والحائل بينه وبين التجليات الحقيقية، فإذا قطع هذه العلائق الدنيوية فهو صادق اليقين في الشوق المستغرق به من عشق الذات التي جلت عن مثل هذه الإطلاقات ودنى منها بإخلاص التوحيد دنو الواجد المتفاني في محبة مراده الأعظم وليست علوم أهل البيت «عليهم السلام» بمكتسبة ومحصلة بدراسة المصنفات وقراءة المؤلفات وإنما هي منح ربانية وإضافات إلهية يفيضها عليهم واهب العقول وصاحب المواهب العالية منذ عهد الطفولية.

                ومن تبحر في معاني تلك الأذواق العجيبة تحير وأذهله الأمر عن التفكير، فهذا أبو الفضل العباس «عليه السلام» يحدثنا عنه أخطب خوارزم الحنفي في مقتله بما لفظه: قيل: كان العباس «عليه السلام»  الذي يسمى السقاء يوم كربلاء وزينب ولدا علي «عليهما السلام» صغيرين وكانا عند أبيهما العباس «عليه السلام» عن يمينه وزينب عن شماله، فألتفت إلى العباس «عليه السلام» وقال: قل واحد، فقالها، فقال: قل أثنين، فقال: إني أستحي أن أقول أثنين باللسان الذي قلت به واحد، فقبل بين عينيه وألتفت إلى زينب فقالت له زينب: ياأبتاه! أتحبنا؟ قال: نعم أولادنا أكبادنا، فقالت: يا أبتاه حبان لا يجتمعان في قلب مؤمن حب الله وحب الأولاد فإن كان لا بد فالشفقة لنا والحب لله خالصاً، فأزداد لهما حباً وقيل: بلا القائل الحسين «عليه السلام» الخ.

                وتعجب كيف أدرك وهو طفل أن الواحد لا يثنى لأن التثنية شرك والوحدانية إخلاص وهذه مسألة غامضة عويصة زل فيها الكبار من العقلاء المفكرين وأبو الفضل في سن الطفولية يدرك بفطنته أن الواحد قائم بذاته لا يثنى وإذا كانت هذه مقدرته الحكمية وهو طفل فطيم فكيف لا يدرك بفطنته وهو في سن الرشد والأكتمال درجة صدق اليقين العرفانية التي أعيت معرفتها على جماعة من علماء الناس.

                للمؤلف:

الله قد منح العباس مقدرة                  وفطنة زل عنها فكر سقراط

(159)

أصاب وهو صبي في تفكره               وكم حكيم كبير فكره خاطي

فصاحة العباس الأكبر «عليه السلام»

                لا خفاء أن قريش أفصح العرب وبلغتهم نزل القرآن، وأفصح قريش هم بني هاشم، وأفصح من بني هاشم رسول الله (ص) وبعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» وسيدة النساء فاطمة الزهراء والحسن والحسين «عليهم السلام» ولا ريب أن من الفصحاء الخطباء محمد بن الحنفية وعبد لله بن العباس وابن الطيار ومن نسائهم زينب الحوراء وأم كلثوم بنتا أمير المؤمنين «عليه السلام» وفاطمة وسكينة بنتا الحسين «عليه السلام» وتعداد الفصحاء من هذه القبيلة تطويل وشهرتها تغني عن إيراد الحجج.

                والعباس الأكبر فرع من تلك الشجرة اليانعة المثمرة، وغصن من تلك الدوحة الباسقة التي تفيأت بظلها طوائف الإسلام.

                أما فصاحة قريش مضافاً إلى شهادة القرآن بفصاحتهم من حيث نزوله بلغتهم ولسانهم وقد شهدت لهم العرب بالفصاحة وأقرت لهم بالبلاغة.

                قال الجاحظ في البيان والتبيين(1): قال معاوية يوماً: من أفصح الناس؟ فقال قائل: قوم أرتفعوا عن لخلخانية الفرات وتيامنوا عن كشكشة تميم، وتياسروا عن كسكسة بكر، ليست لهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير، قال: ومن هم؟ قال: قريش، قال: وممن أنت؟ قال: من جرهم، إنتهى.

                وللحافظ جلال السيوطي من المزهر في فصاحة النبي (ص) وقريش فصلاً فراجعه(2).

                إذ ليس قصدنا استيفاء القصص التي تبرهن على فصاحة القرشيين فقد جعلهم العرب حكماء، ومن شهد له قريش من الشعراء تقدم وما سميت المعلقات إلا لتعليقها على كعبتهم.

                وأما رسول الله (ص) فقد صح قوله: أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش وأسترضعت في بني سعد، وقد عرفت أن قريشاً أفصح العرب ويتلوهم في الفصاحة هوازن، وأفصح هوازن سعد بن بكر بن هوازان.

                وأما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» وليس الغرض أن نعرفه

(1) البيان والتبيين 2/ 137.                           (2) المزهر 1/ 130.

(160)

للناس بالفصاحة فإنه هو الذي عرف الناس نفسه وشهد له الأعداء والخصماء الألداء، فهذا معاوية بن أبي سفيان وهو الذي يجهد على إسقاطه بكل ما وجد إليه سبيلاً حتى فرض لعنه على المنابر ما أستطاع إنكار فصاحته وجوده وشجاعته.

                روى ابن قتيبة أحد أئمة الحديث من أهل السنة في تاريخه المعروف بالإمامة والسياسة(1) قال: ذكروا أن عبد الله بن أبي محجن الثقفي قدم على معاوية وقال له: يا أمير المؤمنين! جئتك من عند العيي الجبان البخيل ابن أبي طالب.

                فقال معاوية: لله أنت! أتدري ما قلت؟ أما قولك العيي فوالله لو أن ألسن الناس جعلت لساناً واحداً لكفاها لسان علي، واما قولك إنه جبان فثكلتك أمك هل رأيت أحداً قط بارزه إلا قتله، وأما قولك بخيل فلو كان له بيتان أحدهما من تبر والآخر من تبن لأنفذ تبره قبل تبنه إلخ.

                وإيراد الحجج لهذا الغرض تطويل كنا نقول: هل سمعت برجل قبله أو بعده أن حفظ كلامه يجعل من حفظه في الدرجة العليا من الفصاحة ولو كان أعجمي اللسان لم نعرف ذلك لغيره فإن كلامه حفظه رجلان أعجميان فأصبحا من أشهر كتاب الدنيا يضرب ببلاغتهما الأمثال لحد اليوم وهما عبد الحميد الكاتب – كاتب مروان الحمار – آخر ملوك بني أمية في المشرق، وابن المقفع صاحب رسائل البلاغة كاتب آل سليمان بن علي من بني العباس وهو صديق عبد الحميد الكاتب.

                أما عبد الحميد فذكر الجهشياري في كتاب الوزراء(2) ما لفظه: قيل لعبد الحميد ابن يحيى: ما الذي مكنك من البلاغة وخرجك فيها؟ قال: حفظ كلام الأصلع – يعني علي بن أبي طالب «عليه السلام» -، إنتهى، وذكره غيره.

                وأما ابن المقفع فقال السندوبي في تعليقه البيان والتبيين(3): والظاهر أنه تخرج في البلاغة على خطب الإمام علي «عليه السلام» ولذا كان يقول: شربت من الخطب رياً ولم أضبط لها روياً ففاضت ثم فاضت فلا هي نظاماً ولا غيرها كلاماً، إلخ.

                وقد أعترف معاوية بن أبي سفيان للحسن بن علي «عليهما السلام» بالفصاحة وقد طلب منه أن يخطب أهل الشام بمشورة ابن العاص وقصد إسقاطه ولما نزل قال معاوية لعمرو: والله ما قصدت إلا هتكي، ما كان أهل الشام يرون أن أحداً

(1) الأمامة والسياسة 1/ 97.                        (2) كتاب الوزراء: ص 54.

(3) تعلية البيان والتبيين 1/ 109.

(161)

مثلي حتى سمعوا من الحسن ما سمعوا.

                أما الحسين بن علي «عليه السلام» فقد تقدم في الجزء الأول فصاحته فراجعه.

                وعلى كل حال ففصاحة بني هاشم لا يستريب بها كل ذي معرفة بأساليب الكلام وفنونه ولا يشك فيها أرباب التمييز للكلام الفصيح.

                أما أبو الفضل العباس «عليه السلام» فمعروف بفصاحة اللسان، قال الفاضل الدربندي في الأسرار(1): قد ذكر أن بعض الأبطال تهدده وكان جريئاً ذا سطوة موهوبة، وإن العباس «عليه السلام» لم يكترث بموقفه فأجابه قائلاً له بثبات ورباطة جأش: إني أرى كلامك كالسراب الذي يلوح فإذا يلوح فإذا قصد صار أرضاً بواراً والذي أملته أن أستسلم لك فذاك بعيد الحصول صعب الوصول، وإني يا عدو الله ورسوله معود للقاء الأبطال والصبر على النزال ومكافحة الفرسان وبالله المستعان، ومن كملت هذه الصفات فيه فليس يخاف من برز إليه، ويلك أليس لي أتصال برسول الله (ص)؟! أنا غصن متصل لشجرته، وزهرة من نور ثمرته، ومن كان من هذه الشجرة فلا يدخل تحت الذمام، ولا يخاف ضرب الحسام، وأنا بن علي لا أعجز عن مبارزة الأقران، وما أشركت لمحة بصر، ولا خالفت رسول الله (ص) فيما أمر، وأنا منه الورقة من الشجرة وعلى الأصول تنبت الفروع فأصرف عنا ما أملت فما أنا ممن يأسى على الحياة أو يجزع من الوفاة فخذ في الجد أصرف عنك الهزل، وأنشأ يقول:

صبراً على جور الزمان القاطع           ومنية ما إن لها من دافع

لا تجزعن فكل شيء هالك                 حاشى لمثلي أن يكون بجازع

فلئن رمانا الدهر منه بأسهم               وتفرق من بعد شمل جامع

فلكم لنا من وقعة شابت لها                قمم الأصاغر من ضراب قاطع

                ومن شعر العباس «عليه السلام» وذكره(2):

لله عين رأت ما قد أحاط بنا               من اللئام وأولاد الدعيات

يا حبذا عصبة جادت بأنفسها            حتى تحل بأرض الغاضريات

الموت تحت ذباب السيف مكرمة      إذ كان من بعده سكنى لجنات

ويأتي بعض أشعاره في باب شهادته في الجزء الثالث، أما خطبته المشهورة

(1) أسرار الشهادة: ص320.                          (2) اسرار الشهادة: ص319.

(162)

على ألسنة خطباء المنابر الحسينية والتي يقول فيها هذه ثيابنا قد لبسناها أكفاناً لنا فمعروفة عندهم أما أنا فلم أقف لها على مصدر أعتمد النقل عنه.

                للمؤلف فيه «عليه السلام»:

ورث الفصاحة من أبيه وإنه              لخطيب أندية الفخار الأبين

من عصبة فاقوا الأنام فصاحة           أن يخطبوا فوق المنابر أحسنوا

سيان ألسنهم وحد سيوفهم               لا بل أمض من السيوف الألسن

ما فيهموا إلا خطيب مصقع              عند الخطابة أو أديب محسن

قس ابن ساعدة إذا قايسته                  فيهم بعدل فهو أبكم ألكن

شجاعة العباس الأكبر «عليه السلام»

                من صفات العباس بن أمير المؤمنين «عليه السلام» الشجاعة.

بيان ما هي الشجاعة وحقيقتها:

                فإن هذا من لوازم هذا الفصل ولأن أظهر صفات أبي الفضل العباس الأكبر هي الشجاعة وإن كانت بقية صفاته ظاهرة ونحن قد كتبنا في كتابنا «السياسة العلوية» شرح عهد أمير المؤمنين «عليه السلام» للأشتر فصلاً مطولاً في الشجاعة نلخصه هنا ونورده إتماماً للفائدة.

الشجاعة عرض أم غريزة:

                لا شك أن الشجاعة من الغرائز النفسية والطبائع المرتكزة في القوى الذاتية لكنها تقوى وتضعف بحسب الممارسة فأشبهت الهيئات والملكات وأستحق المتصف بها المدح والإطراء.

معنى الشجاعة لغة:

                العرب تسمي الحية الذكر وهو العربد «العربيد» بلسان العوام الشجاع فأطلقته على الرجل الجريء المقدام خواض الأهوال والغمرات وذلك لأن العربد «العربيد» في لعابه السم المتلف وكذلك الرجل الشجاع في سيفه التلف وفي ملاقاة كليهما المخاطرة ومظنة الهلاك والعطب.

                قال ابن الأثير في النهاية: الشجاع- بالضم والكسر – الحية الذكر، وقيل: الحية مطلقاً.

                وقال الفيومي في المصباح المنبر: شجع – بالضم – شجاعة قوي قلبه

(163)

وأستهان بالحروب جرأة وإقداماً فهو شجيع وشجاع، وبنو عقيل تفتح الشين حملاً له على نقيضه وهو جبان وبعضهم يكسر للتخفيف.

                وقال الدميري في حياة الحيوان: الشجاع – بالضم والكسر – الحية العظيمة التي تثب على الفارس والراجل وتقوم على ذنبها وربما بلغت رأس الفارس وتكون في الصحاري.

                وذكر مثل هذا الطريحي في مجمع البحرين وقال: الشجاع الأقرع حية قد تمعط فروة رأسها لكثرة سمها، والشجاعة شدة القلب عند البأس، وقد شجع الرجل شجاعة قوة قلبه وأستهان بالخطوب جرأة وإقداماً.

                وقد تبع صاحب القاموس في قوله الشجاع الشديد القلب عند البأس ويشهد لهذا التفسير ما حملته الانباء التاريخية التي يعول عليها من آثار بعض الشجعان الذين قد شق عن قلوبهم فوجد في غاية الصلابة، فقد حمل إلينا الأثر الصحيح قصة حمزة بن عبد المطلب «سلام الله عليه» فإنه لما أستشهد في أحد وتشاغل عنه المسلمون لما دهمهم من الأمر المزعج بالهزيمة، عمدت هند بنت عتبة أم معاوية ابن أبي سفيان إلى بطنه فشقتها وأستخرجت قلبه وأرادت أكلها فلما لأكتها وجدتها مثل الصخرة الصماء فلفظتها من فمها فلما وصلت إلى الأرض نزت ووثبت إلى فوق، ومن هنا قيل لهند آكلة الأكباد وسمي ابنها معاوية ابن آكلة الأكباد تعييراً له بذلك وذماً.

                وهكذا نقل المؤرخون في أخبار شبيب بن يزيد الشيباني رأس الخوارج الصفرية وهو الخارج على الحجاج الثقفي وصاحب الحروب المشهورة فإنه لما غرق في دجيل الأهواز شق عن بطنه وأستخرج قلبه فكان إذا ضرب به الأرض نزا إلى فوق وثبت قدر قامة.

                وعلى تفسير الدميري فهو غير العربيد بل أعظم منه وخاص بالفلوات لا يكون في غيرها.

معنى الشجاعة وحقيقتها عقلاً:

                قال الشريف الجرجاني في التعريفات(1): الشجاعة هيئة حاملة للقوة الغضبية بين التهور والجبن بها يقدم على أمور ينبغي أن يقدم عليها كالقتال مع الكفار مالم يزيدوا على ضعف المسلمين.

(1) التعريفات: ص 85.

(164)

                وقال أحمد بن أبي الربيع في سلوك المالك(1): الشجاعة وهي على الإقدام وأن لا ينهزم عند الشدائد والمخاوف وقوامها في القوة الغضبية.

                وقال(2): القوة الغضبية وهي الحيوانية السبعية ومسكنها القلب ويشارك الإنسان بها الحيوان وأحد قواها حب الغلبة والرياسة وبها يدفع ما لا يوافق بدنه ونفسه فإن أعتدلت فصاحبها يوصف بالشجاعة والفروسية وقوة القلب وإن خرجت عنه، فإما إلى الزيادة فإنه يوصف بالتهور وكثرة الغضب أو النقصان فإنه يوصف بالجبن وضعف القلب.

                وقال ابن مسكوية الخازن في تهذيب الأخلاق بعد كلام: ثم إن صاحب الجود والشجاعة إذا عم غيره بفضله وتعدياه رجي بأحدهما وأحتشم، وهيب بالأخرى وذلك في الدنيا فقط لأنهما فضيلتان حيوانيتان، ثم قال: أما الشجاعة فهي فضيلة النفس الغضبية وتظهر في الإنسان بحسب أنقيادها للنفس الناطقة المميزة وأستعمال ما يوجبه الرأي في الأمور الهائلة أعني أن لا يخاف من الأمور المفزعة إذا كان فعلها جميلاً والصبر عليها محمود إلخ.

                أما العرب فلا تستطيع أن تعرف الشجاعة بأكثر من أنها غريزة من غرائز النفس وطبيعة من طبائعها، أخبر المؤرخون في غزوة الخندق ويوم الأحزاب أن عمرو ابن ود العامري قائد جيش الأحزاب لما أقتحم الخندق على أصحاب رسول الله (ص) وطلب المبارزة منهم وجبنوا عن لقائه قال يسمعهم:

ولقد بححت من النداء                      بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن الشجاع                    مواقف القرن المناجز

إن الشجاعة في الفتى                           والجود من خير الغرائز

                فأجابه أمير المؤمنين مبارزة وإنشاداً:

لا تعجلن فقد أتاك                              مجيب صوتك غير عاجز

ذو نية وبصيرة                      والصدق منجي كل فائز

إني كذلك لم أزل                   متسرعاً نحو الهزاهز

الصفات المندرجة تحت الشجاعة:

                حيث أن حقيقة الشجاعة صبر وثبات وحمل النفس على مكروه وممقوت

(1) سلوك المالك في تدبير الممالك: ص18.

(2) نفس المصدر: ص20.

(165)

لأنها بالطبع تحب البقاء وتكره الفناء ومن لوازمها الجبلية الفطرية التعاظم والبذخ لأن من خاض الأهوال ولم يبالي بالمعاطب يستشعر في نفسه عظمة ويعتريه تباذخ وشموخ وحيث أن للنفس الإنسانية حاكمية على الشجاعة فوجب أن تقهر تلك النخوة الغضبية وتكسر تلك السورة الشيطانية وقمعها وكسرها بما يسمى عند العقلاء حلماً وعند المتشرعين عفواً فاندرجت تحت الشجاعة أمور هي كما نص عليها ابن مسكوية في تهذيب الأخلاق(1) ولفظه: الفضائل التي تحت الشجاعة: كبر النفس، النجدة، عظم الهمة، الثبات، الصبر، الحلم، عدم الطيش، الشهامة، أحتمال الكدة، والفرق بين هذا الصبر والصبر الذي في العفة أن هذا يكون في الأمور الهائلة وذلك يكون في الشهوات الهائجة.

                أما كبر النفس فهو الاستهانة باليسير والأقتدار على حمل الكرامة فصاحبه أبداً يؤهل نفسه للأمور العظائم مع أستخافه لها.

                وأما النجدة فهي ثقة النفس عند المخاوف حتى لا يخامرها جزع.

                وأما عظم الهمة فهي فضيلة للنفس تحتمل بها سعادة الجد وضدها من الشدائد التي تكون عند الموت.

                وأما الثبات فهو فضيلة للنفس تقوى بها على أحتمال الآلام ومقاومة الأهوال خاصة.

                وأما الحلم فهو فضيلة للنفس تكبر بها الطمأنينية فلا تكون شغبة ولا يحركها الغضب بسهولة وسرعة.

                وأما السكون الذي نعني به عدم الطيش فهو إما عند الخصومات وإما في الحروب التي يذب بها عن الحريم أو عن الشريعة وهي قوة للنفس تقسر حركتها في هذه الأحوال لشدتها.

                وأما الشهامة فهي الحرص على الأعمال العظام توفقاً للأحدوثة الجميلة.

                وأما أحتمال الكدة فهو قوة للنفس تستعمل آلات البدن في الأمور إلخ.

الشجاعة بالتمرين والممارسة:

                لم نجد في سير الشجعان منذ القديم إلى اليوم من حاز صفات الكمال في الشجاعة وأنتفت عنه رذائلها أجمع إلا نبينا محمد (ص) وأهل بيته الكرام حسب المعروف من سيرهم في حروبهم الدينية وهو مشروح على تفاصيل تاريخية مذكورة

(1) تهذيب الأخلاق بهامش المبدأ والمعاد: ص381.

(166)

في محلها وقد أخبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» في خطبته عن أن الشجاعة بالممارسة والتمرين في بعض خطبه وكان يصحب أولاده معه يشهدهم الحرب وكل ذلك مشهور.

الشجاعة بين نقيضين ذميمين:

                قد حررنا في العدالة في كتابنا «السياسة العلوية» أنها معتبرة في جميع الأشياء عند عامة العقلاء من الفلاسفة وغيرهم فإن تجاوز الحد في الإفراط والتفريط مذموم ولذا قالت العرب في أمثالها: كل شيء تجاوز حده أنعكس إلى ضده، وقال شاعرهم:

كلا طرفي قصد الأمور ذميم

                فالإفراط في التأخر مذموم لأنه جبن، والإفراط في 4التقدم أيضاً مذموم لأنه تهور يجر إلى العطب؛ فالتهور والجبن مذمومان لأنهما خارجان عن حد الاعتدال وقد سمعت كلام أحمد بن أبي الربيع ومثله كلام ابن مسكوية في تهذيب الأخلاق(1).

التفرقة بين التشجيع والشجاعة

                هذه التفرقة غامضة جداً نظراً إلى المظاهر الحربية والمخاطرات بالنفوس لأجل الغايات المتشبعة والمقاصد المتنوعة على الأخص إذا قلنا أن الشجاعة من الملكات المكتسبة بالممارسة والتمرين وإنها كسائر الهيئات النفسية فيشتبه علينا معرفة الشجاع من المتشجع حقيقة ولعل التفرقة ستظهر متجلية إذا خلي المقام عن الأغراض وبعدت الغايات بحيث لا تنال تبين الشجاع من المتشجع على حد ما قيل:

إذا اشتبكت دموع في خدود             تبين من بكى ممن تباكى

                فالشجاع يقدم بطبعه وجبلته التي فطر عليها من الإقدام أنفة من التأخر والإحجام وإن لم تكن هناك غاية مقصودة، فقد ذكر المؤرخون أن عمير بن الحباب السلمي فارس مضر بل فارس العرب في عصره، كان في جيش عبيد الله ابن زياد لما ألتقى مع إبراهيم بن الأشتر، وكان عمير يبغض آل مروان بسبب واقعة مرج راهط وأنه يتذكر مصارع قومه فيها وكان بينه وبين ابن الأشتر مودة فأنسل إليه في الليل وأوعده أن ينهزم أول الناس ليكسر جيش ابن زياد، فلما نشبت الحرب

(1) تهذيب الأخلاق: ص384.

(167)

أنف من الفرار وثبت في مركزه فلم يتزحزح حتى جعل الله النصر لابن  الأشتر وقتل ابن زياد وتحطم جيشه وفض الله ذلك الجمع بأسره هذه شيمة الشجاع.

                أما المتشجع فأنه يجبن عند فقد الأغراض والغايات فأنه أقدم حيث أقدم مكرهاً لنفسه حاملاً لها على ضد إرادتها واختيارها نظراً منه لمقصوده وطمعاً بنيل غرضه وطلباً لما يظنه متوقفاً على الإقدام، وتظهر التفرقة أيضاً في محل آخر وهو إذا تتابعت الأخطار واتصلت الأهوال فأن المشتجع لا يقوى على إكراه نفسه كل وقت ولا يستطيع إيقافها كل حين فيفتضح، وأوردنا في كتابنا «السياسة العلوية» في فصل الجبن ما يناسب هذا المقام.

                والشجاع كلما تتابعت عليه الأخطار والشدائد وأشتدت الأهوال والغمرات أطاعته نفسه في الثبات والصبر وقد قال شاعر الأنصار عمرو بن الأطنابة في الجاهلية:

وقولي كلما جشأت وجاشت             مكانك تحمدي أو تستريحي

                وقال رأس الأزارقة من الخوارج قطري بن الفجأة المازني:

أقول ها وقد طارت شعاعاً                من الأهوال ويحك لا تراعي

فإنك لو سألت بقاء يوم     على الأجل الذي لك لن تطاعي

                وقد أبدع هذا المارق في تسلية نفسه على الحياة وتأنيبها في إرادة الفرار بالأجل الطبيعي حيث أن قصدها هو البقاء الذي لا يحصل لها وليس لها زيادة يوم واحد على أجلها المقدر لها فضلاً عن بقاءها الأبدي، وفي الشعر المنسوب لأمير المؤمنين علي «عليه السلام»:

أي يوميك من الموت تفر   يوم لا يقدر أم يوم قدر

يوم لا يقدر لا تحذره            ومن المقدور لا ينجو الحذر

                وقد قال شاعر الصحابة ثالث أمراء النبي (ص) يوم مؤتة عبد الله بن رواحة الأنصاري يوبخ نفسه وقد تريثت عن الإقدام وقد قتل صاحباه جعفر الطيار وزيد بن حارثة:

يا نفس إن لم تقتلي تموتي

                ثم تقدم فقاتل حتى قتل، وما قاله صحيح فإن الذي لا يقتل حميداً سيموت ذميماً، واختيار القتل عن العظماء وأهل الأقدار العظيمة والأخطار من الكبراء أحسن وأجمل من الموت على الفراش، وقد قال مولانا أمير المؤمنين علي «عليه

(168)

السلام» - وهو سيد الشجعان وأمير الفرسان -: لألف ضربة بالسيف في سبيل الله أهون علي من موتة على فراش، وقال شاعر العرب الطرماح بن حكيم الطائي:

أعوذ بربي أن تكون منيتي                   على شرجع يعلى بخضر المطارف

                وقال آخر من شعراء العراق يذكر موت أربد الفزاري الذي رد على أمير المؤمنين «عليه السلام» كلامه فقال الأشتر: من لهذا أيها الناس؟ ففر أربد وتبعته همدان وغيرها فقتلوه ضرباً بنعالهم في سوق البراذين:

أعوذ بربي أن تكون منيتي                   كمامات في سوق البراذين أربد

تعاوره همدان خفق نعالهم                  إذا رفعت عنه يد وضعت يد

                وقد استبان حال الشجاع من المتشجع فإن نفس الشجاع إذا كرهت الإقدام قهرها والمتشجع تقهره.

                قال ابن مسكويه الخازن في تهذيب الأخلاق(1): حال من يعمل أعمال الشجعان وليس بشجاع وذلك أن من باشر الحروب وأقدم على ركوب الأهوال لبعض ما يوصل إليه المال أو لبعض الرغبات التي لا تحد كثرة فإن مثل هذا يعمل عمل الشجعان ولكن يعمله بطبيعة الشره لا بطبيعة الفضيلة التي تدعى شجاعة وذلك أنه يخاطر بنفسه الشريفة ويصبر على المكاره العظيمة طمعاً في المال وما يوصل إليه بالمال وقد رأيت أهل الشقاوة يعملون عمل الأعفاء وعمل الشجعان وهم أبعد الناس عن كل فضيلة وذلك أنهم يصبرون عن الشهوات كلها ويصبرون على عقوبات السلطان وضرب السياط وتقطيع الأعضاء والجراحات التي للرؤوس منها وينتهون فيه إلى أقصى الصبر حتى للطلب وسمل العيون وقطع الأوصال وضروب التمثيل طلباً للاسم وذكراً بين قوم في مثل حالهم من سوء الاختيار ونقصان الفضائل وقد يعمل عمل الشجعان من يخاف لأئمة عشيرته أو عقوبة سلطان أو سقوط جاه وما أشبه ذلك، وقد يعمل علم الشجعان من أتفق له أن يغلب أقرانه مراراً كثيرة فهو يقدم ثقة منه بالعادة الجارية وجهلا بمواقع الاتفاقات وقد يعمل عمل الشجعان العشاق وذلك أنهم يركبون الأهوال في طلب المعشوق لرغبتهم في الفجور وحرصهم على متعة العين منه لا طلباً للفضيلة ولا اختيار الموت الجميل على الحياة الرذيلة كما يفعل الشجاع بالحقيقة.

                وإن شجاعة الأسد والفيل وأشباههما من الحيوان فإنها تشبه الشجاعة

(1) تهذيب الأخلاق: ص431.

(169)

وليست بشجاعة حقيقة وذلك أنها قد وثقت بقوتها وأنها تفوق غيرها فهي تقدم لا بطبيعة الشجاعة بل لتمام القدرة وثقة النفس بالغلبة وما كان منها سبعاًَ فهو مع هذه الحال مزاح العلة في السلاح الذي عنده فهو كصاحب السلاح إذ أقدم على الأعزل وليست هذه شجاعة مع عدم الاختيار الذي استعمله الشجاع وذلك أن الشجاع خوفه من الأسر أشد من خوفه من الموت لذلك يختار الموت الجميل على الحياة القبيحة على أن لذة الشجاع  ليست تكون في مبادي أموره فإن مبادي الأمور تكون مؤذية لكنها تكون في عواقب الأمور وتكون أيضاً باقية مدة عمره وبعد عمره لا سيما إذا حامى عن دينه وعن اعتقاداته الصحيحة ووحدانية الله عز وجل الشريفة التي هي سياية الله وسنته العادلة التي بها مصالح العباد في الأولى والآخرة، فإن مثل هذا إذا فكر في قصر عمره وعلم أنه لا محالة سيموت بعد أيام ثم كان محباً للجميل ثابتاً على الرأي الصحيح فهو لا محالة يحامي عن دينه ويمنع العدو من استباحة حريمه والتغلب على مدينته وأنف من الفرار ويعلم أن الجبان إذا اختار الفرار فإنما يستبقي شيئاً هو لا محالة فإنه زائل وإن تأخر أياماً معدودة ثم هو في هذه الحياة اليسيرة ممقوت مكدر الحياة بالذل وضروب الصغار، وهذه حال الشجاع مع قوة نفسه أعني مفارقة شهواته وأستسلامه فإن حالته تلك الحالة الأولى بعينها.

                ومن جميع كلام الإمام «صلوات الله عليه» مع صدوره عن حقيقة الشجاعة إذا قال لأصحابه: أيها الناس! إن لم تقتلوا تموتوا والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف على الرأس أهون من ميتة على فراش، تبين له أن جميع ما أحصيناه للإنسان ليس بمصدر دين وإن كان يشبهه في الصورة وذلك أنه ليس كل من يقدم على الأهوال فهو شجاع ولا كل من يخاف من الفضائح فهو شجاع وذلك أن من لا يفزع من ذهاب شرفه وفضيحة حرمه أو عند حدوث الرجفان والزلازل والصواعق والزمانات والأمراض أو عدم الأعوان والأصدقاء أو عند أضطراب البحر وهول الأمواج وهواء هائج فهو بأن يوصف بالجنون أولى من أن يوصف بالشجاعة، وكذلك من خاطر بنفسه في وقت الأمن والطمأنينة بأن يثب من سطح عال أو يصعد مرتقاً صعباً أو يحمل نفسه على خوض ماء غزير وهو لا يحسن السباحة أو يثاور جملاً هائج أو ثورا صعباً او فرساً لم يرض من غير ضرورة تدعوه إلى ذلك بل مراده الشجاعة وإظهار مرتبة الشجعان فهو بأن يسمى مطرمذاً مائقاً أولى منه بأن يسمى شجاعاً.

(170)

وأما من خنق نفسه خوفاً من الفقر أو الذل فأهلكها بالسم أو شبهه من باب الضيم فهو بأن يوصف بالجبن أولى منه بأن يوصف بالشجاعة وذلك أن الإقدام وقع منه بطبيعة الجبن لا بطبيعة الشجاعة فإن الشجاع يصير على مايرد عليه من  الشدائد صبراً جميلاً ويعمل أعمالاً تليق بتلك الحالة ولذا يجب أن يعظم الشجاع ويشح بنفسه وحقيق على السلطان خاصة والقيم بأمر الدين والملك أن ينافس فيه ويجل قدره ويعلي خطره ويميزه من سائر من يشتبه به ممن ذكرنا.

                وقد تبين من جميع ذلك أن الشجاع هو الذي يستهين بالشدائد في الأمور الجميلة ويصبر على الأمور الهائلة ويستخف بما يستعظمه عوام الناس حتى الموت بالاختيار والأمر الأفضل ولا يحزن على ما لا درك فيه ولا يضطرب عندما يفدحه من المصائب ويكون غضبه إذا غضب بمقدار ما يجب وفي الوقت الذي يجب وكذلك يكون أنتقامه على هذه الشرائط فإن الحكماء قالوا: (إن من لا ينتقم يلحق قلبه ذبول)، فإذا انتقم عاد إلى حالته من النشاط وهذا الانتقام إذا كان بحسب الشجاعة كان محمودا وإذا لم يكن كذلك كان مذموماً فقد نقل إلينا في الأخبار المأثورة عمن أقدم على سلطان قوي ورام أن ينتقم منه فيهلك نفسه من غير أن يضر سلطانه روايات كثيرة وكذلك حال من أقدم على قرن قوي أو خصم ألد لا يستطيع مقاومته فإن الانتقام منه يعود وبالاً عليه وزيادة في الذل فإذن ليست تتم شرائط الشجاعة والعفة إلا للحكيم الذي يستعمل كل شيء في موضعه الخاص به ويقدر أقساط العقل له فكل شجاع عفيفي حكيم وكل حكيم شجاع عفيف، إنتهى كلامه(رحمه الله).

نقد كلام ابن مسكويه

                في كلام هذا الفيلسوف مجال للنظر واسع النطاق لأنه على قوله ينبغي أن لا يكون من طبعه الجرأة والإقدام شجاعاً حتى تحصل له ملكة التميز كالسباع وأن يكون على ثقة من الانتصار والغلبة وعلى يقين من المنعة وهو مخالف لما عليه العقلاء وفيه خرق للرأي العام من عدة وجوه: من حيث أتفاقهم على شجاعة الأسد وقد وصفوه بالشجاعة كقول بعضهم في ممدوحه:

وكذاك مجزأة بن ثور            كان أشجع من أسامه

                وهو كثير في شعر العرب.

                ومن حيث أنهم صرحوا بأن الشجاعة من الغرائز النفسية في الحيوان ومن

(171)

الطبائع المرتكزة في أصل خلقة الإنسان وقد تقدم قول عمرو بن عبد ولد العامري فارس قريش الذي قتله أمير المؤمنين «عليه السلام» يوم الخندق.

                وذكر المبرد في الكامل في أخبار الأزارقة ما لفظه(1): قال مصعب للمهلب: أشر علي برجل أجعله بيني وبين عبد الملك، قال: أذكر لك واحداً من ثلاث: محمد بن عمير بن عطارد الدارمي، أو زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي أو داود ابن قحذم، قال: أو تكفيني؟ قال: أكفيك إن شاء الله، فولاه الموصل فشخص إليها المهلب وصار مصعب إلى البصرة فقال: من يكفيني أمر الخوارج ويفد إلى أخيه؟ فأختلف الناس، فقال قوم: ول عبيد الله بن أبي بكرة، وقال قوم: ول عمر بن عبيد الله بن معمر، وقال قوم ليس لهم إلا المهلب فأردده إليهم، وبلغت المشورة الخوارج فإداروا الأمر بينهم فقال قطري بن الفجأة المازني: إن جاءكم عبيد الله بن أبي بكرة أتاكم سيد سمح جواد كريم مضيع لعسكره، وإن أتاكم عمر بن عبيد الله أتاكم شجاع بطل فارس جاد يقاتل لدينه وملكه وبطبيعة لم أر مثلها لأحد قد شهدته في وقائع فما نودي في القوم الحرب إلا كان أول فارس يطلع حتى يشد على قرنه فيضربه، وإن رجع المهلب فهو من قد عرفتموه إن أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر يمده إذا أرسلتموه ويرسله إذا مددتموه ولا يبدءكم ألا أن تبدؤوه إلى أن يرفصه فينتهزها فهو الليث المبير والثعلب الرواغ والبلاء المقيم، فولي عليهم عمر بن عبيد الله الخ وهو كثير وفي أستيفائه شذوذ عن المقصود.

                ومن حيث أن الغضب بزعمه ينفي حقيقة الشجاعة وهذا بديهي البطلان للأتفاق على أن حمزة بن عبد المطلب كان من أشجع العرب وكان لا يبصر ما بين يديه إذا غضب في الحروب ولهذا السبب اختار وحشي قتله يوم أحد دون النبي (ص) ودون علي «عليه السلام».

                ومن حيث زعمه أن الواثق بالغلبة والقدرة لا يسمى شجاعاً وبهذه العلة نفى شجاعة الأسد والفيل وهذا في غاية السقوط للقطع بأن رسول الله (ص) وأمير المؤمنين «عليه السلام» أشجع الخلق وهما واثقان من أنفسهما بالغلبة لك مبارز والمنعة من كل قرن وكيف لا يكون واثقاً بالغلبة من يعلم أنه كيف يموت، قال الله تعالى لرسوله (ص): (إنك ميت وإنهم ميتون)(2)، وقال له: (والله يعصمك من الناس)(3).

(1) الكامل للمبرد: 3/ 185.                                        (2) الزمر: 30.

(3) المائدة: 67.

(172)