موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثاني

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

 

الكلبي: وفد الصقعب بن عمرو النهدي في عشرة من بني نهد على النعمان بن المنذر وكان الصقعب رجلاً قصيراً دميماً تقتحمه العين وكان شريفاً بعيد الصوت فنظر الآذن إلى أعظمهم وأجملهم فقال: أنت الصقعب؟ قال: لا، قال للذي يليه في العظم والهيئة: أنت هو؟ قال: لا، فأستحى فقال: أيكم الصقعب؟ قال الصقعب: ها أنا ذا فأدخله إلى النعمان فلما رآه قال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال له الصقعب: أبيت اللعن إن الرجال ليسوا بالمسوك يستقى فيها إنما الرجل بأصغريه بلسانه وقلبه إن قاتل قاتل بجنان وإن نطق نطق ببيان، فقال له النعمان: لله أبوك كيف بصرك بالأمور؟

                قال: أنقض منها المفتول وأبرم منها المسحول وأجيلها حتى تجول، وليس لها بصاحب من لم ينظر في العواقب.

                قال: قد اجدت وأحسنت فأخبرني عن العجز الظاهر والفقر الحاضر؟

                قال: أما العجز الظاهر فالشاب الضعيف الحيلة التبوع للحليلة الذي يحوم حولها إن غضبت ترضاها وإن رضيت تفداها فذاك الذي لا كان ولا ولد النساء مثله، وأما الفقر الحاضر فالذي لا تشبع نفسه وإن كان له قنطار من ذهب.

                قال: فأخبرني عن السوأة السوءآء والداء العياء؟

                قال: أما السوأة السوءآء فالمرأة السليطة التي تعجب من غير عجب وتغضب من غير غضب فصاحبها لا ينعم باله ولا يحسن حاله وإن كان ذا مال لم ينفعه، وإن كان فقيراً عيرته به فأراح الله منها بعلها ولا متع بها أهلها، وأما الداء العياء فالجار جار البيت إن شهدك سافهك وإن غبت عنه سبك وإن قاولته بهتك وإن سكت عنه ظلمك.

                فقال له النعمان: أنت أنت فأحسن صلته وصلة أصحابه، إنتهى والحكايات كثيرة فأطلبها.

السر في قبح الدمامة ورأي الطبيعيين:

                فكما أن الدمامة من العيوب المحقرة والنقائص المحسوسة من حيث أنها تشويه للخلقة وتشويه الخلقة من صفات الشياطين ومردة الجان وقصة الجاحظ إذ ساقته المرأة إلى الصائغ ليصنع لها تمثال شيطان على صورته مشهورة، والدمامة وحلاكة اللون من سيماء الزنج وقد قرر علماء الطبيعة أن الألوان أفضلها المعتدل في البياض كالحمرة المشربة ببياض ناصع وهو اللون الذهبي ويطلق عليه اسم السمرة كألوان العرب وذلك عندهم دليل أعتدال مزاج الأنثى وسلامة الرحم من الآفات.

(111)

                وشر الألوان السوداء لأنه ناشئ من خروج الرحم عن سمت الاعتدال بغلبة الحرارة في النضج الشديد الموجب للأحتراق فيكتسي الجنين من ذلك سواداً حالكاً كالوان الزنوج ومن شاكلهم من الحبشة والنوبة، والبياض المفرط وهو الذي تسميه العوام البياض الفاهي أي الذي لا رونق له ولا رواء فيه قد سلب النور والإشراق وتطلق العرب على أهل هذا اللون صهيب السبال، والسبلة هي اللحية إذ الغالب على أبيض اللون الشديد البياض أن تكون لحيته صهباء بين الحمرة والبياض وتسميها العوام شقرة وصهبة وهذا ناشئ عن ضعف المزاج عن النضج وفساد قوة الرحم النارية التي تتمم نضج المولد فيخرج حينئذ شديد البياض أصهب الشعر أزرق العينين كألوان سكان أوربا الشمالية وأتراك آسيا الغربية.

                وكلا اللونين عند علماء الطبيعة خارج عن حد الاعتدال فخير الألوان أعدلها وهو ما أشرب بحمرة وعلاه نور وإشراق وهذا هو لون العرب وسكان الأقطار المتوسطة وقد قال شاعر العرب:

هجان عليها حمرة في بياضها               تروق لها العينان والحسن أحمر

                والبياض المشرب بحمرة تسميه العرب القدماء السمرة وليست السمرة التي تعرفها العوام ويسمونها الحنطاوية بل التي يسميها علماء الطبيعة بالذهبية التي تشبه لون الأبريز وكلما علت الوجه لمعات إشراق وتلألؤ وأسارير إضاءة وأنوار على حد ما قيل:

كأن دنانيراً على قسماتهم

جمال النبي (ص) وأهل بيته «عليهم السلام»

                كان أجمل وأكمل بحكم العقل وذلك لون وجه أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» وهو أيضاً لون الأنبياء «عليهم السلام» ولون سيد الرسل وخاتم الأنبياء محمد (ص) وأهل بيته الهداة فإن نبينا محمد (ص) ولا نظير له في العالم كله كان «عليه الصلاة والسلام» عظيم النور يهتدي إليه الناس في الظلماء بنور جبينه وأبنته سيدة النساء فاطمة الزهراء «عليها السلام» يجتمعن النساء فيغزلن على إشراق وجهها وتلألؤ غرتها، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين «عليهم السلام» كان يستدير النور على جباهمم أستدارة الهالة على البدر فصباحة الوجه من دلائل الفضل وإمارات الخير، قال الشاعر لممدوحه:

أنت شرط النبي إذا قال حقاً              أطلبوا الخير من صباح الوجوه

(112)

                وهو عقد لحديث نبوي نصه «أطلبوا الخير عند حسان الوجوه»، وقال آخر:

لقد قال الرسول مقال صدق             وخير القول ما قال الرسول

إذا الحاجات فرت فأطلبوها              إلى من وجهه حسن جميل

أنواع الجمال:

                هو نوعان: نوع يدرك بالبصر كإشراق الوجه وأحمراره وملاحة العينين وأمثال ذلك فهو الحسن والصباحة، ونوع يدرك بالفكر مما تظهره الملامح والهيئة من تناسب الأعضاء في الشكل وحسن التخطيط وإبداع الخلقة وإتقان الصورة من حيث التركيب البديع وظرافة الأعطاف وقد أختلفوا فمن قائل أن الحسن هو النوع الأول والجمال هو النوع الثاني، ومنم من يقول بالعكس.

                قال في الشرح الجلي(1): من الزينة البدنية الحسن والجمال والملاحة؛ فالحسن في اللغة هو تناسب الأعضاء ولطافتها.

                وقال القيصري في شرح ثائية ابن الفارض: الحسن شيء يدرك بالذوق ولا يوصف.

                وقال في محل آخر من الشرح: الحسن عبارة عن تناسب الأعضاء ولطافتها وعليه فإنه يدرك ويحد، وقيل: يدرك ولا يوصف

                قلت: وجه الجمع بين هذا القول وبين عبارتي القيصري أن الحسن ينقسم إلى أربعة أقسام وهو الحسن الحادث:

                الأول: حسن حسي وهو تناسب الأعضاء.

                الثاني: حسن عقلي وهو في المعاني المدركة بالعقل كالعدل والرحمة.

                الثالث: حسن روحاني وهو ما كان في الأخلاق خاصة.

                الرابع: حسن شرعي وهو في الأمور الدينية كلزوم الجماعة والاعتقاد الصحيح ويضاده القبح في الأقسام الأربعة.

                وأما الحسن القديم الذي يضاف إلى الله فهو رتبة خامسة خارجة عن المفهومات الأربعة وهذا لا يضاده قبح كما يضاد الحسن المتعارف  إلخ.

                ثم قال(2): ويرادف الحسن البهجة والوسامة الحسن، وأما الجمال فقال بعضهم هو عين الحسن وقال آخرون أثر يظهر في الإنسان من إدمانه على التغذي بالجميل وهو الشحم وكان ذلك الأثر هو السمن.

(1) الشرح الجلي: ص174.                                             (2) الشرح الجلي: ص175.

(113)

                وقال بعد كلام: ونقل في المصباح عن سيبويه أن الجمال رقة الحسن وعليه يكون الجمال حسناً خاصاً، وقيل: الجمال هو الحسن لكن تختلف أسماؤه بأعتبار الاعضاء كما قال السهيلي في شرح السيرة.

                قال الأصمعي: الجمال في الأنف والملاحة في الفم.

                وقال العارف النابلسي في شرح الفصوص: الجمال الصوري هو إشراق وجه الروح إلى جهة الجسم ويؤيده ما حكي أن المأمون أستعرض عسكره يوماً فرأى رجلاً قبيح المنظر فأستدعاه وأستنطقه فوجده غبياً غير فصيح، فقال لأصحابه: أسقطوا هذا من ديوان الند، قالوا: ولم ذاك؟ قال: لأن الروح لها نور وجمال فإذا أشرق نورها على ظاهر الشخص كان جمالاً، وإذا أشرق على باطنه كان ذكاء وفصاحة هذا الرجل لم يشرق فيه نور الروح لا في الظاهر ولا في الباطن فهو لا خير فيه.

                وقيل: الحسن حسن الخلق بفتح الخاء، والجمال حسن الخلق والخلق والفعل؛ قاله البوريني في شرح ديوان ابن الفارض.

                ثم قال(1): وأما الملاحة فقال في الصحاح أنها البهجة وحسن المنظر.

                ثم قال بعد كلام: قال السهيلي: الحسن يتعلق بالمفردات فلا يوصف به إلا ما كان مفرداً كقولك هذا خاتم حسن والجمال يتعلق بالمركبات الجميلة فإذا أجتمع من ذلك جمع وصف صاحبها بالجمال أي مثل الإنسان إذا كان له جملة أعضاء حسنة فإنه حينئذ يوصف بالجمال.

                قلت: قد وصف الله تعالى بالجمال وهو متنزه عن التركيب ولكن بالنظر إلى جملة من حسن أسماءه وصفاته وأفعاله تعالى فإنها كلها حسنة ولهذا ورد في حديث الجماع الصغير: إن الله جميل يحب الجمال، قال المناوي: أي له الجمال من كل وجه فهو تعالى  يحب أسمائه وصفاته ويحب ظهورها على الخلق فإنه عليم يحب العلماء، كريم يحب الكرماء إلى غير ذلك فهو يحب من تخلق بصفاته، إلخ.

                وفي المزهر للحافظ السيوطي(2): قال الثعالبي في فقه اللغة: عن ثعلب عن ابن الأعرابي: الصباحة في الوجه والوضاءة في البشرة والجمال في الأنف والملاحة في القم والحلاوة في العينين والظرف في اللسان والرشاقة في القد واللباقة في الشمائل وكمال الحسن في الشعر، إنتهى.

(1) الشرح الجلي: ص176.                                             (2) المزهر: 1/ 263.

(114)

وكل واحد يجري على مبلغ أجتهاده في كلام العرب ولكن ليس لذلك مناط واحد فكما يقولون ما سمعت يقولون أيضاً فلان حسن الوجه وفلان جميل الصورة وبهي الطلعة، ويصفون الباري تعالى بالجميل ويعنون به جميل الفعل كما سمعت ولقد تمحل الشاعر مع ظرافته وبديع أسلوبه حيث يقول:

خلقت الجمال لنا فتنة           وقلت لنا ياعبادي أتقون

وأنت جميل تحب الجمال      فكيف عبادك لا يعشقون

                وقد موه هذا الشاعر الظريف وسبك الجد بالهزل فأوهم أن الله تعالى جميل يحب جمال الصورة وهذا لطف وظرافة قواه على هذا التجاسر بعض الأحاديث الضعيفة من أن الله تعالى جميل يستحي أن يعذب صاحب الوجه الجميل بالنار فليصنه عن معصية الله، أو ما هذا معناه، وجمال الله تعالى جمال صفات والصورة منزه عنها ومحبته للجمال ليست كمحبتنا نحن للصور الجميلة على جهة الشوق والتلذذ بل محبته للجميل من الفعال والصورة لو قلنا بها محبة إكرام وإجلال.

                وحيث أن الحسن والجمال من خيرات الله وفواضله التي أفاضها على عباده ومن نعمه التي أسداها إلى خلقه فهو يحب من ظهرت عليه تلك النعمة إذا قام بواجب شكرها في تأدية ما افترض عليه من فرائضه وسننه وإذا لم يقم بذلك الواجب وقابله بجعود النعمة والكفران لزمه ما لزم كافري النعم من المقت والبغض لهم.

                قال في الرياض الخزعلية(1): ونعمة الجمال أول نعمة أنعم الله بها على الإنسان هي وإن كانت أقل من غيرها إلا أنها من الخيرات التي يتوصل بها الإنسان إلى حاجاته ومهماته وذلك لأن القبيح مذموم والطباع عنه نافرة وحاجات الجميل إلى الإجابة أقرب وجاهه في الصدور أوسع فهو من هذا الوجه جناح مبلغ إلى الحاجات كالمال والجاه إذ هو نوع قدرة إذ يقدر الجميل الوجه على تنجيز حاجات لا يقدر عليها القبيح إلخ.

                وليس غرضنا بيان معنى الجمال وحقيقته على الدقة الحكمية بل يكفي معرفته بهذا الأسلوب وإنه من نعم الله تعالى على العباد وإنه من صفات الأنبياء، وأنه ممدوح عند العرب، ويعد في مكارم أشرافهم وساداتهم، أما حسن نبي الله يوسف فقد كفانا القرآن الكريم نعته، وأما نبينا محمد (ص) فقد أتفق علماء الفريقين السنة

(1) الرياض الخزعلية 2/ 203.

(115)

والشيعة على أنه أجمل البشر وتعدادهم في المقام ونقل أقوالهم يوجب تطويلاً.

صفة النبي محمد (ص)

                قال الطبرسي (رحمه الله) في كتاب مكارم الأخلاق عن الحسين بن علي «عليهما السلام» قال: سألت خالي هند بن أبي هالة التميمي وكان وصافاً لرسول الله (ص) عن حلية النبي وأنا أشتهي أن يصف لي شيئاً منها أتعلق به، فقال: كان رسول الله (ص) فخماً مفخماً، يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل إذا أنفرقت عقيصته فرق وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه وهو ذا وفرة، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، سهل الخدين أدعج، ضليع الفم، مفلج الأسنان، دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادناً، متماسكاً، سواء البطن، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرد، موصول مابين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط عدى الثديين والبطن، فما سوى ذلك أشعر الذراعين والمنكبين وأعلا الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، سبط القصب، شثن الكفين والقدمين، سائل الأطراف، خمصان الاخمصين، مسح القدمين، ينبو عنهما الماء، إذ زال قلعاً، يخطو تكفياً ويمشي هونا، سريع المشية، إذا مشى كأنما ينحدر من صبب، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة إلخ.

                وقال الأبشيهي الشافعي في المستطرف(1): وإلى سيدنا محمد رسول الله (ص) ينتهي الحسن والجمال، ثم ذكر ما ذكرنا وذكر قول حسان بن ثابت في رسول الله:

وأحسن منك لم تر قط عيني               وأجمل منك لم تلد النساء

خلقت مبرءاً من كل عيب                 كأنك قد خلقت كما تشاء

صفة مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»

                وقد مر قول ابنه محمد بن الحنفية في خطبته: إخسأوا عن القمر الزاهر والبدر الباهر.

(1) المستطرف 2/ 13.

(116)

                قال محمد بن علي بن شهر آشوب (رحمه الله) في كتاب المناقب(1): عن جابر وابن الحنفية أنه «عليه السلام» كان رجلاً دحداحاً ربع القامة، ازج الحاجبين، ادعج العينين، أنجل يميل إلى الشهلة، كأن وجهه القمر ليلة البدر حسناً وهو إلى السمرة، أصلع، له حفاف من خلفه كأنه إكليل، وكأن عنقه إبريق فضه وهو أرقب ضخم البطن، عريض الصدر، محض المتن، شثن الكفين، ضخم الكسور، لا يبين عضده من ساعده، قد أدمجت إدماجاً، له لحية قد زانت صدره، غليظ العضلات، خمش الساقين إلخ.

صفة سيدتنا فاطمة الزهراء بنت رسوله (ص)

                قال المازندراني في كتاب المناقب المذكور(2): أنس بن مالك قال: سألت أمي عن صفة فاطمة «عليها السلام» فقالت: كانت كأنها القمر ليلة البدر، والشمس كفرت غماماً وخرجت من السحاب، وكانت بيضاء بضة، إنتهى.

                ويذكر غيره أن النساء يجتمعن فيغزلن على ضوء وجهها.

                وقد قال الحسين «عليه السلام» لابن أخيه الحسن المثنى: اخترت لك أبنتي فاطمة لأنها أكثرهن شبهاً بامي فاطمة، وفاطمة بنت الحسين عظيمة الجمال حتى قيل إن امرأة مردودتها سكينة لمنقطعة القرين.

صفة الحسن بن علي سبط رسول الله (ص)

                وحيث قد أتفق الناس أنه شبيه رسول الله (ص) في الخلقة والخلق لم نرى في التطويل حاجة.

صفة الحسين بن علي «عليهما السلام» سبط رسول الله (ص)

                قال علي دده الحنفي في محاضرات الاوائل والأواخر(3): وحملته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء «عليها السلام» ستة أشهر وما سمع بمولود في ستة أشهر إلا يحيى بن زكريا «عليه السلام» وكان له جمال عظيم ونور يتلألأ في جبينه وخده يضيء حواليه في الليلة الظلماء، وكان أشبه الناس برسول الله (ص)، إلخ.

                وقد ذكر بعض أرباب المقاتل أن الأسديين لما جاؤوا لدفن الشهداء بعد أرتجال عسكر عمر بن سعد لم يعرفوا أحداً منهم لأن رؤوسهم قطعت إلا الحسين «عليه السلام» فإنهم عرفوه بأنواره الساطعة فإنه قد جلل القتلى بأنواره، ولجماله

(1) المناقب 3/ 163.                                        (2) المناقب لابن شهر آشوب 4/ 22.

(3) محاضرات الأوائل والأواخر: ص72.

(117)

الباهر وحسنه البديع يقول عدوه وهو يقرع ثناياه بمخصرته: أما إنه كان غلاماً صبيحاً، ويقول عدوه وهو الآخر الشامت بقتله ويهتز فرحاً مرحاً:

يا حبذا بردك في اليدين       ولونك الأحمر في الخدين

كأنما حف بوردتين              شفيت نفسي بدم الحسين

                وقد قال بعد الشهداء معه وهو الغلام الذي قتل أبوه معه:

أميري حسين ونعم الأمير سرور فؤاد البشير النذير

علي وفاطمة والداه               فهل تعرفون له من نظير

له طلعة مثل شمس الضحى             له غرة مثل بدر منير

                ورثاه السوسي الشاعر بقوله:

يا قمراً غاب حين لاحا       أورثني فقداك المناحا

                ورثاه الكعبي الشاعر بقوله:

ومجرح ما غيرت منه القنا                    حسناً ولا أخلقن منه جديدا

قد كان بدراً فاغتدى شمس الضحى                مذ ألبسته يد الدماء لبودا

                وهو كثير في مراثيه، والجمال من المواهب الإلهية والمنح الربانية لبني هاشم فقد كانت العرب تسمي عبد مناف البدر، وتسمي هاشم بن عبد مناف وإخوته اقداح النضار، والنضار الذهب، ولقبوا عبد المطلب بالبدر، ووصفوا أولاده بأنهم جمال جون وهي البيض من الإبل لجمالهم وعظم أبدانهم، وقالوا في العباس بن عبد المطلب كأنه فسطاط أبيض لجماله وعظمه، سرى الجمال على أعقاب بني هاشم فكان أبو الفضل العباس بن علي يسمى قمر بني هاشم، وكان علي بن الحسين الأكبر «عليهما السلام» كفلقه قمر طالع، وكذلك القاسم بن الحسن ووصفه عدوه بذلك، وعبد الله الرضيع بن الحسين الشهيد رمي بالسهم على بريق رقبته فإنها كانت تلمع على عضد أبيه «عليه السلام»، وفي بني العباس من يضرب به المثل في الجمال كالأمين بن الرشيد وأبي عيسى بن الرشيد(1) والمعتز بن المتوكل والمكتفي وجعله مادحه ثالث الشمس والقمر فقال:

(1) قال الثعالبي في ثمار القلوب ص 37: كان أبو عيسى بن الرشيد أحسن أهل زمانه حتى أنه كان أحسن من أخيه الأمين وهو المضروب به المثل في الحسن، وكان يقال لأبي عيسى يوسف الزمان، وفي ص 48: كان يقال لكل من محمد الأمين وأخيه أبي عيسى يوسف الزمان لفرط جمالهما، ويقال: إن جمال ولد الخلافة إنتهى إليهما فما رأى الناس مثلهما إلا المعتز بعدهما، وذكر كلاماً مطولاً فراجعه.

(118)

والله لا قبلتها ولو أنها                          كالبدر أو كالشمس أو كالمكتفي

مدح العرب ساداتها وأشرافها بالجمال

                إن ثناء العرب على العظماء منها في غاية الكثرة فمن ذلك ما ذكره الراغب في المحاضرات: قال ابن عنقاء الفزاري:

كأن الثريا علقت فوق نحره               وفي أنفه الشعري وفي وجهه القمر

                وقال أوس بن حجر:

تجرد في السربال أبيض ناصع             مبين لعين الناظر المتوسم

وقال أبو قيس بن الأسلت في أبي أحيحة سعيد بن العاص الأموي ذكره الجاحظ في البيان والتبين:

كأن البختري غداة جمع        يدافعهم بلقمان الحكيم

بأزهر من سراة بني لؤي     كبدر الليل راق على النجوم

                وقال دريد بن الصمة الجشمي فارس هوازن:

أبلغ نعيماً وأوفى إن لقيتهما                   إن لم يكن كان في سمعيهما صم

فلا يزال شهاب يستضاء به                يهدي المقانب ما لم تهتك الحرم

                أخذه ابن قيس الرقيات في مدح مصعب بن الزبير فقال:

إنما مصعب شهاب من الله                 تجلت بنوره الظلماء

                وكذب في قوله في عبد الملك بن مروان:

يعتدل التاج فوق مفرقه                       على جبين كأنه الذهب

                لم يكن عبد الملك جميلاً إنما كان مشوهاً أبخر، ولشدة بخره كان يتساقط الثباب عليه ولذلك قيل له أبو الذبان.

                قال المبرد في الكامل(1): قال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسدي: ما أحسنت ما مدحت به فاستعفاه فإبى أن يعفيه وهو معه على السرير فلما أبى غلا أن يخبره قال قول القائل:

ألا أيها الركب المخبون هل لكم        بسيد أهل الشام تحبوا وترجعوا

من النفر البيض الذين إذا اعتزوا      وهاب الرجال حلقة الباب فعقوا

(119)

إذا النفر السود اليمانون تمموا             له حوك برديه أجادوا وأوسعوا

جلى المسك والحمام والبيض كالدمى               وفررق المذاري رأسه فهو أنزع

                وقال نصيب الشاعر:

من النفر البيض الذين إذا أنتجوا      أقرت لنجواهم لؤي بن غالب

يحيون بسامين طوراً وتارة                   يحيون عباسين شوس الحواجب

                وقال الكميت الأسدي في إحدى الهاشميات المشهورة:

إلى النفر البيض الذين بحبهم             إلى الله فيما نابني أتقرب

بني هاشم رهط النبي فإنني               بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب

                وقال الأصم الباهلي وذكره الأمدي في المختلف والمؤتلف:

قتيبة أبطال مساعير بالقنا                     خضارمة عند اللقاء بحور

إذا القمر منهم مضى لسبيله                بدى قمر يجلوا الظلام منير

                وقال البرج المري في زفر بن هاشم من آل سنان رؤساء بني مرة:

أرى الخلان بعد أبي حبيب                 بحجر في جنابهموا حذاء

من البيض الوجوه بني سنان             لو أنك تستضيء بهم أضاؤوا

لهم شمس النهار إذا استقلت                           ونور ما يغيبه المساء

بناة مكارم وأساة كلم                          دماؤهموا من الكلب الشفاء

فلو أن السماء دنت لمجد                      ومكرمة دنت لهم السماء

                وقال حبيب بن حباش الغنوي:

تركت سليم إذا أضاعوا أمرهم         يبكون أثر عمائم حمر

جعلت على بيض الوجوه نمت         بهموا آباؤهم لمكارم الذكر

                وقال سبيع بن الخطيم التيمي لزيد الفوارس الضبي:

إن ابن ضرار حين أندبه      زيداً سعى سعياً غير مكفور

سالت براق الحي حين دعى              أنصاره بوجوه كالدنانير

ليس الهجان إذا ما كنت منتحلاً        كالورق تنظر في ألوانها الحور

                وقال المرار العجلي الراجز:

أبلج مثل القمر المبين          كالفحل قدام اليراع الجون

(120)

                وقال ابن عنقاء الفزاري في عميلة الفزاري وقد تقدم منها بيت:

رآني على ما بي عملية فاشتكى            غلي ما له حالي أسر كما جهر

أتاني فآساني ولو ظن لم ألم                   على حين لا باد يرجى ولا حضر

غلام رماه الله بالحسن يافعاً                 له سيمياء لا تشق على البصر

كأن الثريا علقت في جبينه                   وفي جيده الشعرى وفي وجهه القمر

إذا قيلت الفحشاء أغضى كأنه            ذليل بلا ذل ولو شاء لانتصر

                وقال قيس بن عاصم سيد أهل الوبر:

خطباء حين يقول قائلهم                     بيض الوجوه مصاقع لسن

                وقال قطن بن حارثة الكلبي العليمي في رسول الله (ص) لما وفد عليه:

رأيتك يا خير البرية كلها                     نبت نضاراً في الأرومة من كعب

أغر كأن البدر سنة وجهه                    إذا ما بدى للناس من خلل العصب

أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه       ورشت اليتامى في السغاية والجدب

                وقال كعب الأنصاري شاعر النبي (ص) في بني هاشم:

يا هاشماً إن الإله حباكموا                   ما ليس يبلغه اللسان المفصل

قوم لأصلهموا السيادة كلها               قدماً وفرعهم النبي المرسل

بيض الوجوه ترى بطون أكفهم         تندى إذا اغير الزمان الممحل

                وقال المعذل البكري في مدح النهاس بن ربيعة العتكي من أبيات:

كأن دنانيراً على قسماتهم                      إذا الموت للأبطال كان تحاسيا

                وقال الطائي:

فتى عزلت عنه الفواحش كلها          فلم تختلط منه بلحم ولا دم

  إذا ما رمى أصحابه بجبينه               سرى ليلة الظلماء لم يتكهم

                وقال النابغة الذبياني في الحارث ابن أبي شمر الغساني ملك عرب الشام في عصر الرومان:

هذا غلام حسن وجهه                        مقتبل العمر سريع التمام

للحارث الأكبر فالحارث الأ              صغر فالأعرج خير الأنام

ثم لعمرو ولعمرو وقد                        أسرع في الخيرات منهم إمام

(121)

خمسة آباء هموا ما هموا         هم خير من يشرب صوب الغمام

                وقال حسان بن ثابت شاعر النبي (ص) في آل جفنة ملوك غسان:

أبناء جفنة حول قبر أبيهموا                قبر ابن مارية الكريم المفضل

يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل

بيض الوجوه كريمة أحسابهم            شم الأنوف من الطراز الأول

ذم الدمامة

                كما أنهم يمدحون بالجمال ويعدونه من سيماء السيادة يذمون بالدمامة ويجعلونها عيباً في الرئيس ويتخذونها دليل المقت، ففي قول كعب بن زهير بن أبي سلمى في قصيدته التي مدح بها النبي (ص) المعروفة بـ«بانت سعاد»:

إذا عرد السود التنابيل

                دليل على ما قلناه فإنه عاب الأنصار بالقصر والدمامة، وقال آخر في نفسه:

وكيف أرجى أن أسود عشيرتي         وأمي من سلمى ابوها وخالها

رأيتكموا سوداً جعاد ومالك             مخصرة بيض سباط نعالها

                قال الأبشيهي الشافعي في المستطرق(1): أراد رجل أن يكتب كتاباً إلى بعض أصحابه فلم يجد رجلاً يرسله معه إلا رجلاً وخش الصورة بشع المنظر، فلم يقدر على تحليته لفرط دمامته فكتب إلى أصحابه: يأتيك بهذا الكتاب آية من آيات الله تعالى وقدره فدعه يذهب إلى نار الله وسقره.

                وجاءت أمرأة إلى صائغ فقالت له: أصنع لي تمثال شيطان، فقال: إن لم أره، فذهبت فرأت الجاحظ فقالت: تفضل معي، فأقبل معها إلى الصائغ فقالت له: هذا، وذهبت، فبهت الجاحظ وسأل الصائغ، فأخبره بما أرادت، وفي الجاحظ يقول الشاعر:

لو يمسخ الخنزير مسخاً ثانياً              ما كان إلا دون قبح الجاحظ

رجل ينوب عن الجحيم بوجهه        وهو العمى في عين كل ملاحظ

ولو أن مرآة جلت تمثاله                       ورآه كان له كأعظم واعظ

                حج مخنث فرآى رجلاً قبيح الوجه يستغفر الله، فقال له: يا حبيبي! مالك

(1) المستطرف 2/ 250.

(122)

تبخل بهذا الوجه على جهنم!.

                وقال بعضهم لرجل: طلع لي دمل (دنبل) في أقبح المواضع، فقال: كذبت هذا وجهك ليس فيه شيء.

                وخرج رجل قبيح المنظر إلى المتجر فدخل اليمن فلم ير فيها أحسن منه وجهاً فقال:

لم أر وجهاً حسناً                   منذ دخلت اليمنا

فيا شقاء بلدة                         أحسن من فيها أنا

                انتهى. وفي فرسان العرب جماعة يعابون بالسواد ويقال لهم غربان العرب وأغربة العرب، منهم: عنترة الفوارس العبسي فارسهم وبطلهم وشاعرهم، ومنهم السليك ابن السليكة السعدي فارس بني تميم وهو سليك المقانب، والشنفري الأزدي أحد اللصوص، وخفاف بن ندبة السليم فارس بني سليم وهو قاتل مالك بن حمار الشمخي سيد بني فزارة، وعبد الله بن خازم أمير خراسان وفارس بني سليم وهو ابن عجلى، ومنهم الحباب أبو عمير بن الحباب السلمي سيد بني سليم في الإسلام أيضاً، ومنهم هفان بن عقهة بن أبي معيط الأموين ومنهم تأبط شراً الفهمي أحد لصوص العرب وغيرهم وهؤلاء أشهر العرب نجدة وأبعدهم صوت وصيتاً في الفصاحة والفروسية وإنما دخلهم الخلل من جهة السواد فإذن هي عيب من العيوب لا يغطى، والجمال صفة فضل لا تنكر.

جمال أبي الفضل العباس «عليه السلام»

                فأبو الفضل العباس الأكبر بن أمير المؤمنين «عليهما السلام»ممن وسمهم الله بميسم الجمال والوسامة وكساهم أردية الحسن كرامة منه لأنهم أهل الكرامة، وهذا أمر لا نحتاج إلى إثباته بأكثر مما ذكرنا وقد سمعت ما قاله أبو الفرج وكذلك غيره، فكونه يلقب بقمر بني هاشم أمر معروف عند المؤرخين وحسبك بمن يكون قمر هذه العشيرة الفائقة على عامة البشر بجمالها الباهر وحسنها الزاهر وقد أكثر الشعراء من نعته بالجمال في مراثيه الكثيرة وأول من فتح لهم هذا الباب سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين «عليه السلام» ففي أسرار الشهادة للفاضل الدربندي (رحمه الله)(1): قال فيه الحسين «عليه السلام» لما وقف عليه:

أيا ابن أبي نصحت أخاك حتى          سقاك الله كأساً من رحيق

(1) أسرار الشهادة: ص323.

(123)

ويا قمراً منيراً كنت عوني                    على كل النوائب في المضيق

                وهي أربعة أبيات نذكرها تماماً في محل آخر، وقال الأزري (رحمه الله):

الله أكبر أي بدر خر من                       أفق الهداية فأستشاط ظلامها

                وقال السيد جعفر الحلي (رحمه الله) وهو يخبر أن الحسين «عليه السلام» مشى إليه حين سقط:

فمشى لمصرعه الحسين وطرفه           بين النساء وبينه متقسم

ألفاه محجوب الجمال كأنه                    بدر بمنحطم الوشيح ملثم

                وللمؤلف من قصيدة:

قمر العشيرة ليثها مقدامها                   قناص أسد الخيس في الأخياس

                حيث قد عرفت بعض صفات العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» البدنية وهي الجسامة والوسامة وأمتداد القامة وطول العنق والساعدين مع عبالتهما فنعرفك الآن بعض صفاته النفسية وأخلاقه الحميدة ومزاياه الكريمة.

(124)

صفات العباس النفسية
وهي الأخلاق

الأخلاق والصفات النفسية

                صفات العباس بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليهما السلام».

                وهي صفات النفس المعروفة بالأخلاق وهو أن الصفات النفسية منها ما هو راجع إلى معنى قائم بالنفس من حيث الخلقة والفطرة وتسمى هذه بالغرائز والسجايا ويطلق عليها الجبلية والطبيعية، ومنها ما هو راجع إلى النفس بواسطة عروضها لها  من حيث تحصيلها بالممارسة والاكتساب وتسمى بالصفات والحالات النفسية وإنما هي هيئات وعوارض لها طارية عليها بواسطة قوة أستعدادها للقبول فيقال لها صفة وحالة وهيئة بهذا الاعتبار، وإن توسط بعض الفلاسفة فأطلق على القسمين إسم الحال والحق إنهما نوعان يطلق عليهما إسم الأخلاق وقد يقال إن الأخلاق هي النوع الأول، والثاني تخلق لكن يرجع التخلق إلى الخلق بكثرة التمرين وقوة الرياضة على التهذيب، وفي المقام آراء مختلفة، وللفلاسفة مذاهب شتى:

                فبعض ينفي الأخلاق الطبيعية ويجعل الجميع من العوارض فيقول: لاشيء من الأخلاق بطبيعي للنفس وإنها كلها مكتسبات بالرياضة والتمرين وحمل النفس على المحمود والمذموم تدريجي وبالألفة والعادة.

                وبعض يقول: كل الأخلاق طبيعية، واختلف أهل هذا القول بين قائل بقبول التهذيب وبين قائل بعدم قبولها للتهذيب وهذا قول ساقط والوجدان يشهد ببطلانه.

                ومن الفلاسفة من قال بما ذكرنا أولاً من أن الأخلاق تنحصر في نوعين ذاتية ومكتسبة وهو قول أكثر المحققين منهم وهو الصحيح وحيث إنا كتبنا في كتابنا «السياسة العلوية» شرح عهد مولانا أمير المؤمنين «عليه السلام» لمالك الأشتر «رضوان الله عليه» فصلاً مطولاً تركنا التوسع هنا.

                قال ابن مسكويه الخازن (رحمه الله) في كتاب تهذيب الاخلاق على هامش

(125)

المبداً والمعاد لصدر الدين الشيرازي (ملا صدرا)(1): الخلق حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبيعياً من أصل المزاج كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء فيغضب ويهيج من أقل سبب، وكالإنسان الذي يجبن من أيسر شيء، وكالذي يفزغ من أدنى صوت يطرق سمعه أو يرتاح من خبر يسمعه، وكالذي يضحك ضحكاً مفرطاً من أدنى شيء يعجبه، وكالذي يغتم ويحزن من أيسر شيء يناله، ومنها ما يكون مستفاداً بالعادات والتدرب وربما كان مبدأه بالروية والتفكر ثم يستمر عليه أولاً فأولاً حتى يصير ملكة وخلقاً ولهذا أختلف القدماء في الخلق: فقال بعضهم: الخلق خالص بالنفس غير الناطقة، وقال بعضهم: قد يكون للنفس الناطقة فيه حظ.

                ثم أختلف الناس أيضاً أختلافاً ثانياًً فقال بعضهم: من كان له خلق طبيعي لم ينتقل عنه، وقال آخرون: ليس شيء من الأخلاق طبيعياً للإنسان، ولا نقول إنه غير طبيعي وذلك إنا مطبعون على قبول الخلق بل نتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعاً أو بطيئاً وهذا الرأي الأخير هو الذي نختاره لأنا نشاهده عياناً، ولأن الرأي الأول يؤدي إلى أبطال قوة التمييز والعقل وإلى رفض السياسات كلها وترك الناس همجاً مهملين، وإلى ترك الأحداث والصبيان على ما يتفق أن يكونوا عليه بغير سياسة ولا تعليم وهذا ظاهر البشاعة جداً.

                أما الرواقيون فظنوا أن الناس كلهم يخلقون أخياراً ثم بعد ذلك يصيرون أشراراً بمجالسة أهل الشر(2) والميل إلى الشهودات الردية التي لا تقمع بالتأديب فينهمك فيها ثم يتوصل إليها من كل وجه ولا يفكر في الحسن منها والقبيح.

                وأما قوم آخرون كانوا قبل هؤلاء فإنهم ظنوا أن الناس خلقوا من الطينة السفلى وهي كدر العالم فهم لأجل ذلك أشرار بالطبع وإنما يصيرون أخياراً بالتأديب وفيهم من ليس هو في غاية الشر فيمكن أن ينتقل من الشر إلى الخير بالتأديب من الصبيان ثم بمجالسة الأخيار وأهل الفضل.

                وأما جالينوس فإنه رأى أن الناس فيهم من هو خير بالطبع وفيه من هو شرير بالطبع وفيهم من هو متوسط بين هذين ثم ذكر أحتجاجه ولا فائدة فيه.

(1) تهذيب الأخلاق بهامش المبدأ والمعاد: ص 385.

(2) ربما يقوي مذهب الرواقيين الحديث النبوي وقوله (ص) «كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجاسنه» الحديث دل بنصه على أن الله تعالى يفطر الناس على الخير وإنما هم يكتسبون الشر والكفر بمتابعة الأشرار.

(126)