معجم  أنصار الحسين  (النساء)     (الجزء الأول)

اسم الکتاب : معجم أنصار الحسين (النساء) (الجزء الأول)

المؤلف : للعلامة المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي
المطبعة : المركز الحسيني للدراسات لندن ـ المملكة المتحدة

 

 

 

تزوجها موسى «عليه السلام» تحملت معه تلك المشاق وناصرته، وجاءها المخاض وهي في طور سيناء في طريقها إلى مصر، وموسى كان على موعد مع ربه، وقال الله عن ذلك: ( فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور ناراً قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبرٍ أو جذوةٍ من النار لعلكم تصطلون)(1).

       5- مثال الحكمة: [بلقيس بنت هدهاد الحميرية] ملكة سبأ «اليمن» كان لها سلطان عظيم، إلا أنها كانت على الصابئة وتعبد الشمس فلما جاءها رسول النبي سليمان «عليه السلام» وعرض عليها الاستسلام، جمعت مستشاريها وطرحت عليهم ما عرضه عليها سليمان من الإيمان بالله، إلا أنهم رفضوا ذلك ولكنها درست الأمر بحكمة وتعاملت مع رسول سليمان بحكمة، ثم إنها قررت الذهاب للقاء النبي سليمان، فلما التقت به وشاهدت عظمة النبوة وسمعت منه ما يسرها، آمنت بالله العظيم وضمت ملكها إلى ملك سليمان، فقال عنها سبحانه وتعالى: (قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجةً وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)(2).

       6- مثال الأمل: [حنة بنت قافوذا الإسرائيلية] زوجة عمران وأم السيدة مريم العذراء، كانت حنة عاقراً، فالتجأت إلى الله سبحانه وتعالى ولم تقطع أملها بالله العظيم وتضرعت إليه متوسلة أن يرزقها ولداً يكون نذراً خالصاً لأن يعمل في بيت المقدس في سبيله تعالى، فاستجاب الله دعاءها ولكنها وضعته أنثى فاختارت في أمرها فأوحى الله لها أن تفي بنذرها وإن كانت أنثى فخالفت قومها واتبعت تعاليم ربها وتحملت الفراق فذكرها الله بقوله: (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم* فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى)(3).

_____________
(1) سورة القصص، الآية: 29.

(2) سورة النمل، الآية: 44.

(3) سورة آل عمران، الآيتان: 35- 36.

(101)

 

       7- مثال الطهارة: [مريم بنت عمران الإسرائيلية](1) أم النبي عيسى ابن مريم «عليه السلام»، تلك الطفلة الطاهرة، والفتاة الصالحة، والمرأة الرسالية، التي ولدت بدعاء أبيها وأمها بعد العقر، وكانت منذورة لخدمة بيت المقدس، ورغم أنها كانت أنثى تقبلت مستقبلها الغامض برحابة صدر مع علمها بما سيلاقيها من المتاعب، بين زمرة الرجال الذين لا يحملون من الشفقة حرفاً ولا من الإيمان كلمة، ومضت في دربها وشقت طريقها، وتحملت ما تحمله في سبيل الله، وتقبلت أمر الله برضاها فنفخ الله فيها من روحه، فاتهمها القوم فاعتزلتهم غير مبالية بهم، وأنجبت نبياً من أنبياء أولي العزم ألا وهو عيسى «عليه السلام»، فجعلها الله مثلاً يحتذى بها. قال تعالى: (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين)(2).

       فإن كل واحدة من اللائي ذكرناهن أصبحت مثالاً للكمال البشري وقدوة يحتذى بها ليس للنساء فحسب بل لكلا الجنسين، ولم يكتف القرآن المجيد بذكر هذه النخبة فحسب بل ذكر نموذجاً آخر من بنات حواء ممن انتمين إلى المعسكر الآخر فتحدث عنها القرآن بالذكر السيىء. من تكلم النساء امرأتا نوح ولوط «عليه السلام» اللتان قال عنهما تبارك وتعالى في كتابه الكريم: (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوحٍ وامرأة لوطٍ كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين)(3)، وقد أعرضنا عنهما وعن أمثالهما كي لا نتوسع، ولا يخفى أن في كل قضية من قضايا القرآن عبرة لألي الألباب.

____________
(1) حيث إن نسلها يصل إلى النبي يعقوب «عليه السلام» وأبوها هو عمران بن ماثان.

(2) سورة التحريم، الآية: 12.

(3) سورة التحريم، الآية: 10.

(102)

 

النموذج النسوي في المعسكر الحسيني

 

       إن المعسكر الحسيني الذي مثل في كربلاء رغم صغره وقلة أفراده احتوى على أطياف الأمة ففيه المولى والعبد، والشيخ والطفل، والرجل والمرأة، وفيه الصحابي والتابعي، والأبيض والأسود، كما فيه الشريف والوضيع، والقوي والضعيف، والعلوي والعثماني، وفيه المسلم وغيره(1) والعربي وغيره، لقد تجمع فيه أصناف وألوان الإنسان الذين جبلوا على الكرامة، والعدالة، والإنسانية.

       وإذا نظرنا إلى خلفية تلك الطاهرات اللاتي جئن إلى أرض المعركة نلاحظ أن فيهن الأم والجدة، والأخت والشقيقة والعمة والخالة، والإبنة والحفيدة، والزوجة والسرية، ويجب التمعن بأن لكل منهن مهمة ربما تختلف تماماً عن مهمة الأخرى، ولكن يجمعهن الإيمان بأرقى مفاهيمه الإنسانية والتي جاء بها الإسلام ولخصها في شخص الإمام الحسين «عليه السلام» وأهدافه، وفي هذا المقطع سنشير إلى بعض النماذج التي يشار إليها بالبنان من تلك الزمرة الطاهرة التي لم تأخذها في الله لومة لائم سواء من اللاتي حضرن كربلاء أو كن على ضفاف نهضته المباركة، سنذكرهن حسب الحروف الهجائية:

       1- أم وهب النصرانية: المرأة التي آمنت وضحت، كانت أم وهب وابنها وهب على الديانة النصرانية، ولم يعرفا عن الإسلام ما يجعلهما يفكران بجد في التحول عن معتقدهما، ولكن كان للصدفة دور كبير، حيث كانا قد نزلا الثعلبية(2)، وصادف أن الإمام الحسين «عليه السلام» قد سبقهم إليها،

____________
(1) إشارة إلى من لم يكونوا مسلمين ثم أسلموا.

(2) الثعلبية: هي المرحلة التاسعة عشرة من مراحل حركة الإمام الحسين «عليه السلام»، تقع بين سوقة وبطان- راجع باب السيرة، ومعجم الأماكن من الموسوعة.

(103)

 

فأخذت هيبة الإمام «عليه السلام» الولد والوالدة، فدخل نور الهداية في قلبيهما حينما تحدثا إلى شخصه الكريم، فلما علما بأن الإمام قد نهض لدفع الظلم وإحقاق الحق، أسرع إليه وهب وأخذ يسأله عن أشياء كان يضيق بها صدره وتدور في مخيلته، فلما عرف الحقيقة من منهلها واستوعب الفكرة، أسلم على يدي الإمام وأسلمت أمه أيضاً، وكانا متعطشين إلى تطبيق هذه الشريعة بكل بنودها، وكان الذب عن ابن بجدتها سبط الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من أبرز معالم هذه الشريعة، فالتحقا بركب الحسين «عليه السلام» ووصلا كربلاء معه، فما كان من الأم إلا أن تحث ولدها في الدفاع عن شريعة تدور حول ابنها وتشجعه على النضال والجهاد إلى أن استشهد، وما أن التحق بالرفيق الأعلى إلا وخرجت بنفسها إلى المعركة وأخذت بيدها عمود الخيمة وأخذت تدافع عن ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندها أسرع الإمام فأرجعها إلى الخيمة وأعلمها بأن الإسلام أسقط عن المرأة فريضة الجهاد ولأنها كانت تواقة الى الجنة  فقد أوعدها الحسين بذلك، إنها ضمنت الجنة بعد ثلاثة عشر يوماً فقط من إسلامها، فمن يا ترى أسلمت وضحت بفلذة كبدها، وضمنت الجنة!.

       2- بحرية بنت مسعود الخزرجية: المرأة التي تجهز ابنها للشهادة كانت بحرية ممن حضرن كربلاء مع زوجها جنادة بن كعب الخزرجي فخرج الزوج وقاتل قتال الأبطال بين يدي أبي عبد الله الحسين «عليه السلام»، ولما لم تملك بحرية وسيلة أخرى للدفاع عن الحق المتمثل بالحسين «عليه السلام» جاءت إلى ابنها عمر، والذي لم يتجاوز العقد الأول من عمره، فألبسته لامة الحرب وقلدته السيف، وتحدثت معه بأمر القتال بين يدي أبي عبد الله والنواميس التي يدافع عنها، محثة إياه على ذلك وقالت فيما قالته: أخرج يا بني وانصر الحسين «عليه السلام» وقالت بين يدي ابن رسول الله فلما جهزته خرج ووقف أما الحسين «عليه السلام» يستأذنه للقتال، فلم يأذن له فأعاد عليه الاستئذان، فقال الحسين «عليه السلام»: «إن هذا غلام قتل أبوه في المعركة، ولعل أمه تكره ذلك » فقال عمر: «يابن رسول الله إن أمي هي التي أمرتني وقد قلدتني هذا السيف وألبستني لامة الحرب» وعندها سمح له الحسين «عليه السلام» فذهب إلى ميدان القتال وهو ينشد ما يختلج بقلبه قائلاً من المتقارب:

(104)

 

أميري حسين ونعم الأمــــير           سرور فؤاد البشير النذير

علي وفاطمة والــــــــــــــده            فهل تعلمون له من نظير

له طلعة مثل شمس الضحى            له غرة مثل بدر منير(1)

 

       فقاتل حتى قتل وقطع رأسه فرمي به إلى جهة الحسين «عليه السلام»، فأخذته أمه وضربت به رجلاً أو رجلين فقتلتهما، وخف إليها الحسين «عليه السلام» فأرجعها إلى الخيمة. فمن يا ترى يمتلك قلباً مفعماً بالإيمان والشجاعة!.

       3- دلهم بنت عمرو الكوفية: المرأة التي وضعت زوجها على الطريق، لم يكن زوجها زهير بن القين البجلي من الموالين لأهل البيت «عليه السلام» بل كان على الخط العثماني الذي على النقيض مع خط أهل البيت «عليه السلام» ولكن الطريق جمع بينه وبين الإمام الحسين «عليه السلام» وهما في طريقهما إلى الكوفة، وما كانت إلا ساعة فإذا برسول الحسين «عليه السلام» على باب خيمة زهير يقول: إن أبا عبد الله بعثني إليك لتأتيه، فساد صمت رهيب في مجلس زهير، حيث كان يكره زهير وقومه مسايرة الحسين «عليه السلام» وهو في الطريق فكيف بهم ورسول الحسين يدعوهم للقياه، وفي هذه اللحظة مزقت دلهم- تلك المرأة الحكيمة والمؤمنة- أجواء الصمت والذهول، والتفتت إلى زوجها مفجرة بكلماتها بركاناً من الدرن الذي تراكم على القلوب وقالت: يا زهير أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه، سبحان الله، لو تأتيه فتسمع كلامه، ثم انصرفت، فما كان من زهير إلا أن قرر الذهاب إلى أبي عبد الله «عليه السلام» ويستمع إليه، وفجأة وجد زهير إلا أن قرر الذهاب إلى أبي عبد الله «عليه السلام» ويستمع إليه، وفجأة وجد زهير نفسه في مجلس الحسين «عليه السلام» حيث حملته رجلاه إليه، ولما حاوره الحسين «عليه السلام» وبين أهداف نهضته، انقلب زهير واتخذ قراراً حاسماً، وصمم على الالتحاق بركب ريحانة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فعاد إلى قومه مستبشراً قد أسفر وجهه والتفت إلى زوجته ليطلقها ويلحقها بأهلها، لا كرهاً بها بل حياً لها، موطناً نفسه للشهادة، فبشرها بقراره الشجاع، والتحاقه بركب الحق فقامت إليه زوجته تودعه باكية لتقول له بكل ثبات: خار الله لك أسألك أن تذكرني في القيامة عند جد الحسين. وهكذا ودع زهير كل متاع الدنيا ليقول للحسين «عليه السلام»:

_____________
(1) راجع ديوان القرن الأول الهجري: 1/248 من هذه الموسوعة.

(105)

 

«والله لو كانت الدنيا لنا باقية وكنا مخلدين إلا أن فراقها في نصرتك ومواساتك لآثرنا الخروج معك  على الإقامة فيها... أما والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل هكذا ألف قتلة وأن الله يدفع بذاك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.. »، طلق زهير زوجته والدنيا، وطلقت زوجته حلاوة الدنيا وبهجتها وأذعنت لقرار زوجها خوفاً من أن يتردد عن الشهادة، فمن يا ترى كان وراء تحول زهير!.

       4- زينب بنت علي بن أبي طالب: المرأة التي أبت إلا المشاركة في النهضة، تلك الزوجة الوفية ، والأم الحنونة، والعمة العطوفة، والخالة الرؤوفة، والأخت المسؤولة التي كانت قدوة ليس للنساء فحسب بل وللرجال أيضاً، أخذت على عاتقها أدواراً مختلفة يصعب على المرء حصرها، ولكن سنشير إلى جانب منها ألا وهو تفعيل وتكريس الأهداف التي من أجلها نهض الإمام الحسين «عليه السلام» وذلك بعد شهادته «عليه السلام»، وإن شئت فقل تكميل ذلك  الدور واستمراريته فقد وقع على عاتقها، ولا يمكن نسيان هذا الدور الفاعل، ولولا جهودها لما أثمرت تلك النهضة المباركة  بهذا الشكل الذي أثمر، وقد أبت السيدة زينب إلا أن تشارك شقيقها الحسين «عليه السلام»، فقد ذكر المؤرخون أن أبن عباس جاء إلى الحسين «عليه السلام» ناصحاً ومودعاً وهو بعد بأرض الحجاز ليثنيه عن السفر إلى العراق، ولكنه وجد نفسه أمام إصرار الإمام «عليه السلام» الذي لا محيص عنه فطلب منه «عليه السلام» أن وجد نفسه أمام إصرار الإمام «عليه السلام» الذي لا محيص عنه فطلب منه «عليه السلام» أن لا يأخذ معه النساء قائلاً: جعلت فداك يا حسين ، إن كان لا بد من السير إلى الكوفة فلا تسر بأهلك ونسائك، فسمعته السيدة زينب «عليه السلام» فانبرت تخاطبه: يا بن عباس تشير على سيدنا وشيخنا أن يخلفنا ههنا ويمضي وحده؟ لا والله بل نحيا معه ونموت معه وهل أبقى الزمان لنا غيره.

       فقد أبت إلا المشاركة في تلك النهضة الإلهية، وكانت بالفعل شريكة الحسين «عليه السلام» في نهضته، عرفت دورها فأجادت تطبيقه، ويحتار المرء في الحديث عن أدوارها ومواقفها، حيث إن لها مواقف قبل الوصول إلى أرض المعركة، كما أنيط لها بأدوار وهي على أرضها فكانت تحث الأنصار وتساند الحسني وتلاطفه وتخفف عنه، وأما عن دورها يوم المعركة فكبير جداً، ولم تترك جانباً إلا ولها يد فيها، فلم تغفل عن تمريض الإمام

(106)

 

زين العابدين، ولا نسيت الأطفال حيث كانت تجمع الأطفال والنسوة بل والذكور أيضاً، وتشرف عليهم، وحتى في مراحل الأسر، ولما جاء دور مخاطبة الجماهير وإعلامهم بأهداف الثورة وإخبارهم بالأحداث الدامية لم تتقاعس، بل قامت بتأليب الأمة على الطاغية ونظام حكمه، كما قامت بأعباء الإمامة بالنيابة عن ابن أخيها السجاد «عليه السلام». إن السيرة الحسينية مليئة بمواقفها الجليلة التي لا يمكن حتى الإشارة إليها في هذه المقدمة التمهيدية، فإلى هناك وإلى قولها مخاطبة ربها حين وقفت على جثمان أخيها الحسين «عليه السلام» «اللهم تقبل منا هذا القربان» فمن يا ترى أوصل صوت الحسين «عليه السلام» إلى بلاط الطغاة وإلى الأمة!

       5- طوعة الكوفية: المرأة التي احتضنت الثائر، لم تكن طوعة استثناء في حبها لابنها الوحيد، فكانت تقف بالباب تنتظر قدومه خوفاً من أن يصيبه مكروه وكانت قلقة عليه فترة غيابه عن البيت، وكانت الكوفة آنذاك في انتفاضة عارمة ضد الطاغية يزيد وأعوانه، وجلاوزة الطاغية يمارسون القمع والاضطهاد، وطوعة على الباب وإذا بالثائر المنتفض، والسفير القائد على بابها إنه مسلم بن عقيل سفير الحسين يبحث عن ملجأ آمن، وعن مأوى ينجيه من الغدر، تعرفت عليه طوعة من خلال حديث دار بينهما، فلم تتردد ولو للحظة في القيام بالواجب الملقى على عاتقها من إيواء هذا الثائر المخلص فقامت بالترحيب به، وأسرعت بخفة معهودة عند النساء، فجهرت له بيتاً يأوي فيه، وهيأت له كل مستلزمات الضيافة والتكريم، وجاء ابنها المدلل بلال ذلك المتعاون مع السلطة الذي كان من مصاديق قوله تعالى: (ويخرج الميت من الحي)(1) ولما عرف من أمره أن أخبر السلطان بالأمر، وكان من أمر مسلم خوض المعركة مع الظالمين حين جاؤوا للقبض عليه ما كان أمام طوعة إلا أن تتبرأ من ابنها بلال (إنه عمل غير صالحٍ)(2) فتعذر من مسلم بن عقيل (لا تؤاخذني بما

 

___________
(1) سورة يونس، الآية: 31.

(2) سورة هود، الآية: 46.

(107)

 

نسيت)(1)، وطلبت من الله الغفران (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)(2) ومسلم ينهض ليستعد لمواجهة القوم ويلتفت إليها ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم)(3) فأخذ يودعها يقول رحمك الله وجزاك عني خيراً. فمن يا ترى احتضن رجلاً خطيراً كمسلم!.

       6- عاتكة بنت مسلم بن عقيل: الطفلة التي لا تنسى القائد، ربما كانت عاتكة هي التي قامت بهذا الدور حيث لم يوضح المؤرخون ذلك إلا أنها هي المرشحة لذلك، إنها ابنة شهيد، وأخت شهيد، والشهادة تنتظرها، ولا تملك من العمر إلا قليلاً حيث كانت ابنة سبع سنين ولكنها كانت تملك قلباً كبيراً ملؤه المحبة والعطف نحو قائد لم يغفل عنها رغم انشغاله بأمور تراكمت عليه كالجبال، فهوى على أرض المعركة وهي لا تدري، رق العدو عليها حين رآها تلهث من العطش وشفتاها ذابلتان، أقدم أحدهم على جلب الماء لها بعد أن تمكن من استصدار الإذن من قائده فلما قدم إليها الآنية أمسكت بها وانحدرت نحو ساحة المعركة والمقاتل يتبعها ويناديها إلى أين.. إلى أين؟ فترد عليه: إلى الحسين.. إلى الحسين.. إنه كان عطشاناً... إنه بحاجة إلى الماء.. إلا أن المقاتل لم يرحمها بلطيف الكلام وقال: إن الحسين ليس بحاجة إلى الماء.. إنه قتل. وما أن صك خبر الموت أذنيها أراقت الماء وكسرت الآنية قائلة: وا ذلاه، فهل هناك تعبير أبلغ من هذا، فمن يا ترى ملك قولب الأطفال، ومن يا ترى واس القائد!.

       7- مارية بنت منقذ العبدي: المرأة التي مولت الثائرين، كانت مارية أرملة استشهد زوجها في معركة الجمل نصرة لأمير المؤمنين «عليه السلام» ومع هذا فقد كانت موالية للحق دون أي ملل وكلل، وكانت تحوز على مكانة مرموقة في المجتمع البصري وتمتلك أموالاً طائلة، ولما بدأ الصراع العلوي الأموي على أشده فتحت بيتها للزعماء الموالين للبيت العلوي

____________
(1) سورة الكهف، الآية: 73.

(2) سورة البقرة، الآية: 286.

(3) سورة يوسف، الآية: 92.

(108)

 

ليكون نادياً فكرياً يناقش فيه الزعماء قضايا الأمة، ومركز اتصال وتواصل لدعم المعارضة، ولما عرفت بوصول رسائل من الإمام أبي عبد الله «عليه السلام» إلى أشراف البصرة، خرقت ببكائها الغاضب محفل الأشراف الذين كانوا يجتمعون في بيتها لتقول كلمتها المدوية بعدما سألوها عن سبب غضبها وبكائها: «ويلكم ما أغضبني أحد، ولكن أنا امرأة ما أصنع؟ سمعت أن الحسين ابن بنت نبيكم استنصركم وأنتم لا تنصرونه»، فأخذوا يعتذرون بعدم امتلاكهم السلاح والراحلة، عندها أخذت كيساً مليئاً  بالدنانير الذهبية والدراهم الفضية وأفرغته أمامهم وقالت: «فليأخذ كل منكم ما يحتاجه وينطلق إلى نصرة سيدي ومولاي الحسين». فيا ترى من جاد بماله في نصرة الحق والعقيدة!.
       8- نوار بنت مالك الحضرمية: المرأة التي رفضت بلعها، لقد استندب الخولي بن يزيد الأصبحي ليحمل رأس الحسين «عليه السلام» إلى الطاغية عبيد الله بن زياد، وكان عجلاً من أمره للوصول إلى دار الإمارة لينال الجائزة إلا أنه وصلها متأخراً حيث خيم الظلام وأغلقت الكوفة أبوابها فاضطر إلى المضي إلى داره ليستريح ليلته ويعود في الصباح الباكر، ولما دخل بيته سألته زوجته نوار عما يخبئه في التنور، فقال لها بعد حوار طويل: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين «عليه السلام» معك في الدار، لا والله لا يجمع رأسي ورأسك في بيت أبداً، ثم أضافت قائلة: إرجع، وأخذت عموداً وأوجعته ضرباً، وقالت: والله ما أنا لك بزوجة، ولا أنت لي ببعل.

       وهكذا فارقته لتعلم الآخرين درساً في التعامل مع الظالمين وإن كان الظالم ولي نعمتهم، وبالفعل تبعتها ضرتها عيوف الأسدية حيث هي الأخرى رفضت الخولي فبات بلا مأوى، فمن يا ترى استنكر فعلة الظالمين!.

       9- هانية بنت... الكلبية: المرأة التي استبدلت شهر العسل بالفوز بالشهادة، كانت هانية قد تزوجت من وهب بن عبد الله الكلبي وكانا قد خرجا إلى أطراف الكوفة ومعهما أمه، وربما كان خروجهم من قبيل ما يسمى اليوم بشهر العسل حيث تزوجا في الثالث والعشرين من شهر ذي

(109)

 

الحجة عام 60هـ، وبينما هم كذلك إذ رأى وهب أن يقوم بالنخيلة في عرض عسكري ليسرحوا إلى القتال، فسأل عن مقصدهم فقيل له: يسرحون إلى قتال الحسين ابن فاطمة بنت رسول الله، فقال في نفسه: والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصاً وإني لأرجو أن يكون جهاد الذين يغزون ابن بنت نبيهم أيسر ثواباً عند الله من ثوابه إياي في جهاد المشركين، فدخل إلى امرأته فأخبرها بما سمع، وأعلمها بما يريد، فقالت له أصبت أصاب الله بك، وأرشدك أمورك، إفعل وأخرجني معك، وخرجوا  جميعاً ليلاً حتى أتوا الحسين «عليه السلام» ولما كان يوم العاشر من محرم، خرج إلى القتال واستبسل وأمه تحرضه على الذب عن ابن بنت رسول الله، ولكن زوجته هانية قالت له: يا وهب إني أعلم أنك إذا قتلت في نصرة ابن رسول الله دخلت الجنة وضاجعت الحور وتنساني فيجب أن آخذ عليك عهداً بمحضر الحسين في ذلك فأقبلا إلى الحسين وسألته حاجتين الأولى أن تلتحق بركب أهل بيت الحسين بعد مقتل زوجها، والثانية أن تكون من أهل الجنة بصحبة زوجها، فطيب الحسين خاطرها. وبعد هنيئة، لما كان وهب يقاتل، سمع زوجته تحرضه على القتال، وخرجت تقاتل فاستغرب وهب من هذا التحول، فقالت له: يا وهب لا تلمني إن واعية الحسين كسرت قلبي، وتوجهت نحو المعركة لتقاتل إلى جنب زوجها، فاستنجد وهب بأبي عبد الله «عليه السلام» ليرجعها فخف إليها الحسين وأرجعها. فمن يا ترى ضحت بالزوج لتؤجل اقترانها به إلى الجنة!.

       10- هند بنت عبد الله بن عامر: ملكة  البلاط تهدد صاحب البلاط، كانت هند زوجة الطاغية يزيد بن معاوية الأموي عليه اللعنة، وكانت على معرفة بأهل بيت النبوة حيث كانت تخدمهم تقرباً إلى الله حين كانت في المدينة، ولكن بعد زواجها من طاغية الشام أبعدها جغرافياً عن أهل البيت «عليه السلام»، ولما أسر الركب الحسيني وفيهم بنات الرسالة أمثال زينب وأم كلثوم بنت علي «عليه السلام» وأضرابهما، خرجت على العادة المتبعة لاستطلاع على الأسرى الجدد الذين وصلوا إلى البلاط، وكانت قد توشحت بوشاح الملكات، وما أن التقت بهم خطفت زينب نظرها فأجرت معها حواراً علمت بعدها أنها ابنة فاطمة وعلي فأجهشت بالبكاء وخرت

(110)

 

مغشياً عليها، ولما أفاقت لم تتحمل صنع الطاغية زوجها فركضت نحو البلاط بحالة لم يعهد لها من قبل وإذا طاغية مجتمعاً بأركان دولته في جلسة رسمية ليستقبل بعض الوافدين، وقفت وهي حاسرة تخاطب يزيد، وكلما حاول يزيد أن يهدىء من روعها ويغطي رأسها ليمنع نظرات الحاضرين إليها إلا أنها رفعت صوتها قائلة: أخذتك الحمية علي، فلم لا أخذتك الحمية على بنات فاطمة الزهراء، هتكت ستورهن وأبديت وجوههن، وأنزلتهن في دار خربة والله لا أدخل حرمك حتى أدخلهن معي، فانقلب السحر على الساحر في لحظة سريعة.. فمن يا ترى كان وراء انتفاضة بلاط الطاغية(1)!.

       هذه كوكبة من النساء الطاهرات اللواتي حملن مشعل الكرامة والحرية، وقمن بما لم يقم به الرجال، والأرض لا تخلو من مثل هذه المجاهدات على مر التاريخ وحتى في عصرنا الحاضر، ولكن نهضة الحسين «عليه السلام» جمعت كل مقومات الحياة الكريمة فكانت نهضته مثلاً رائعاً لكل الشعوب، ونعود لنؤكد أن كل واحدة من العناصر النسوية ممن كان لها ارتباط بالمعسكر الحسيني مثلت دوراً رائعا بقيت الأجيال تتحدث عنه، وأصبحت المجاهدات من هذه الأمة وغيرها يحتذين بهن.

____________
(1) راجع ترجمتهن وسيرتهن في هذا المعجم وفي السيرة الحسينية من هذه الموسوعة.

(111)


من تاريخ المرأة(1)

 

       رغم أن المرأة كان لها دور عظيم في تقدم الأمم وارتقائها في كل الأزمنة الغابرة وبين كل الشعوب، ولكن لم يعترف به إلا في بعض الأحيان، ولم يكن دورها يوماً متوقفاً عل المساواة بين الجنسين، فقد كانت المرأة معطاءة بغض النظر عن كل الاعتبارات، فالمرأة اليونانية على سبيل المثال كان لها شأن عظيم في رسم سياسة بلادها، رغم أن المجتمع اليوناني كان يرى منزلتها دون منزلة الرجل، ويذكر أن العرب في سالف الزمان كانوا يحترمون النساء احتراماً يقترب من العبادة، ولكن بعد فساد الأخلاق كنتيجة طبيعية لفساد الأحكام  وسيطرة الدخلاء الذين حملوا الأمة العربية كل ما يضعف عزيمتها ويفسد أخلاقها فانمحت بذلك صورة المرأة العربية الحرة الشمائل الأبية النفس والأصلية لترسم صورتها على شكل امرأة مترفة اقتدت بنساء الروم والفرس، وكان للمرأة قبل ذلك شأن عظيم حيث يحدثنا التاريخ عن زوجة الحرث بن عوف(2) سيد بني مرة التي أصلحت بين قبيلة عبس وذبيان بعد أن كادتا تفنيان.

       ولما جاء الإسلام كانت المرأة العربية بالذات- كما وغيرها- في أسوأ وضع حيث شاع الفساد في المجتمع الرجالي وكذلك النسوي، فكانت القيان تتبوأ مكاناً رفيعاً بينما أصبحت المرأة ينظر إليها بحقارة

___________
(1) اختزال وتعديل في مقال للقاضي أمير علي الهندي المنشور بالإنكليزية في مجلة القرن التاسع عشر، والذي ترجم إلى معاوية ونشرته مجلة المقتطف المصرية/ حزيران 1899م: 427- 433.

(2) الحرث بن عوف المري: أو الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري، والذي كان من فرسان الجاهلية وله فيها أخبار، ولد في الجاهلية وأدرك الإسلام وأسلم- راجع الاستيعاب: 1/303.

(112)

 

ومهانة فجاء الإسلام ليرفع من مكانتها ويصونها بالعفة والكرامة، وأبقت المرأة المسلمة على مكانتها إلى ما بعد عهد القادر بالله العباسي(1)، ففي عهد معاوية بن أبي سفيان(2) استخدم العرب الخصيان حيث أخذوا ذلك عن الروم، كما اقتبسوا نظام الحريم في عهد الوليد الثاني الأموي(3).

       هذا وقد أمر المتوكل العباسي(4) بفصل النساء عن الرجال في الولائم والحفلات العمومية، لكن بقي النساء يختلطن بالرجال إلى أواخر المائة السادسة للهجرة، وكن يقابلن الزائرين ويعقدن مجالس الانس ويمضين إلى الحرب لابسات لامة الحرب ومتقلدات السيف، وبعد القادر بالله العباسي تراجع شأن المرأة وضعف دورها في بلاد المسلمين بشكل عام، ولم يشتهر منهن بعد ذلك إلا قليل، وأخذ الرجال ينتقضون حقوق النساء ويستخدمون عبارات تتنافى والمكانة التي أولاها الإسلام لهن حتى قيل عنهن الكثير من المقولات السيئة ومن تلك قولهم «إن المرأة تقفل أبواب السعادة وتدس السم في كأس الرجال »، يطلقون هذه الكلمات دون التعمق في أصول الأديان جميعها والتي تجد عند كل ينبوع منها حوراء تبث الحياة في ذويها، ولولا المرأة لما صار الإسلام قوة حية، فلولا وقفة السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما انطلق الإسلام بتلك القوة التي انطلق بها، فقد طيبت قلبه وشدت عزائمه منذ اللحظات الأولى التي سمع فيها النداء الإلهي، ثم وقفتها معه أمام جحافل المشركين، وبذل كل ما لديها لدعم المسلمين الذين حاصرتهم القوى الظالمة محاصرة اقتصادية.

__________
(1) القادر بالله العباسي: هو أحمد بن إسحاق بن الفضل بن جعفر المقتدر، الخامس والعشرون من حكام العباسيين، حكم ما بين (381- 422هـ).

(2) معاوية بن أبي سفيان: واسم أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس الأموي، أول من انشق عن الدولة الإسلامية، وأسس الدولة الأموية في دمشق عام (36- 60هـ).

(3) الوليد الثاني: هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان الأموي، حكم ما بين (125- 126هـ).

(4) المتوكل العباسي: هو جعفر بن المعتصم بن هارون الرشيد، حكم ما بين (232- 247هـ).

(113)

 

       وإذا ما رجعنا إلى قرون قبل ذلك نجد أن مريم العذراء كانت من وراء ذلك النبي الذي لا أب له، فأصبحت تلك الأم المثالية قديسة تعد في مصاف الأنبياء وتكرم تكريم المرسلين، وهذا ما نشاهده في السيدة فاطمة الزهراء «عليه السلام» ابنة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهي التي وصفها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بسيدة نساء العالمين، تلك القديسة الطاهرة والبتولة الصديقة التي وصلت من حيث المكانة درجة العصمة، وقد روى عنها خيار الصحابة في الفقه والموعظة الحسنة.

       ولكن نساء بني أمية غيرن من سيرتهن عندما أصبحت الخلافة ملكاً عضوضاً فاقتدين بالنساء الرومانيات، أو كما في يومنا الحاضر كنساء الولايات الشرقية المعروفة بإنگلترا الجديدة.

      وبانتشار لواء الإسلام في المشارق والمغارب ثم توسع مجال المعارف فلم تعد نساء المسلمين يقتصرن على تعلم الشريعة والأحاديث النبوية بل أخذن يدرسن الشعر وفنون الأدب فكن على عهد الوليد وهشام الأمويين ينظمن الشعر ويخطبن مثل أكبر الشعراء والخطباء، ولم يقتصر ذلك على نساء الخاصة بل تناول نساء العامة أيضاً.

      ويتابع المصدر قائلاً: لقد نشأ في عهد بني العباس نساء كثيرات من عقيلات النساء وسمعن الفقه والحديث وكن يقرأن في المدارس والبيوت، والإمام الشافعي(1) كمثال على جلالة قدره قرأ الفقه والحديث على إثنتين من هؤلاء النساء اللاتي برزن في عهده وبقيت منزلة المرأة على حالها تقريباً إلى ما بعد أيام الواثق بالله العباسي(2)، وكان للمرأة نفوذ واضح في البلاط العباسي، وكانت الكثيرات من زوجات الحاكمين يعتبرن من ربات

____________
(1) الشافعي: هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي (150- 240هـ) أحد الأئمة الأربعة من مذاهب السنة، ولد في غزة فلسطين، وتوفي في القاهرة في مصر، كان إماماً في الفقه والحديث، وكان شاعراً عرف بولائه لأهل البيت «عليه السلام»، من مؤلفاته: السنن، أحكام القرآن، وأدب القاضي.

(2) الواثق بالله العباسي: هو هارون بن المعتصم بن هارون الرشيد، حكم في الفترة (227- 232هـ).

(114)

 

الحجى والأدب والفكر والسياسة، ولهن دور كبير في بناء المنشآت الحيوية صحية كانت أو ثقافية كالمدارس والمستشفيات.

ويذكر المصدر أن القادر بالله العباسي منع النساء من دخول المساجد والمدارس وكل المجتمعات التي كانت مختلطة إلا متبرقعات- ومع هذا فلم يؤثر في عطائهن الثر- ويرى المصدر بأن المرأة فيما بعد ذلك حط من قدرها وتراجع عطاؤها بشكل ملموس وأصبحت جليسة الدار.

ويصف وجدي(1) حالة المرأة في الغرب قائلاً: «كانت المرأة في أوروبا مستعبدة، ليس لها شخصية ممتازة فكانت لا ترث ولا تملك، وقد تغالى آسروها حتى حرموا عليها الضحك وأكل اللحم، ووضعوا على فمها الأقفال الحديدية وحكم عليها بأنها مجردة عن الروح الإنسانية التي للرجل، فقام أحد أفراده يطالبون لها الحرية، وحسناً طلبوا لو كانوا وقفوا بمطالبهم عند حدود الحكمة، ولكن دفعتهم الأهواء إلى متاهات التعسف، فطلبوا للمرأة وباسمها كل شيء حتى ما ينافي وظيفتها ويفسد خصائصها، طالبوا أن تستخدم في المعامل وأن تكون طبيبة ومحامية ومهندسة.. إن بجانب كل مهندسة أو طبيبة أو محامية مائة ألف من بنات جنسها وقفن تحت كلاكل الأشغال الشاقة تكد أجسادهن الأعمال، وتلفح وجوههن النار، غصت المعامل بالنساء الضعيفات، وشحنت لهن مخازن التجارات في مقابل أجور لا تبلغ البلغة من العيش»(2).

________________
(1) وجدي: هو فريد مصطفى وجدي المصري (1292- 1373هـ) ولد في الإسكندرية، وتوفي في القاهرة، كاتب صحفي، أنشأ مجلة الحياة، ومطبعة، كما أنشأ صحفاً أخرى، من مؤلفاته: على أطلال المذهب المادي، الإسلام دين عام خالد، والفلسفة الحقة في بدائع الأكوان.

(2) دائرة معارف القرن العشرين: 3/338.

(115)

 

تصريحات غريبة

 

هناك عدد كبير من المفكرين في الغرب انتقدوا الأسلوب الغربي لمعالجة اضطهاد المرأة في القرون الماضية في مجتمعاتهم فما بذلك العصر الحديث، حيث اعتبروا أن هذا الذي يقومون به أو يشجعون عليه هو انحلال ولا يمكن عده من الإصلاح وإعطاء الحقوق، وقد أدى إلى خسارة المرأة نفسها وإلى تربية جيل لا يملك مقومات الصلاح والعطاء وبالتالي خسارة الحياة الأسرية المقدسة، وربما مدح بعضهم الأسلوب الذي اختاره الإسلام كمنهج لإنقاذ المرأة من براثن الجاهلية وخلاصها من العبودية، والعطاء والقضاء على مكونات الفساد وإصلاحها، وفيما يلي نورد قسماً من الحالة التي وصلت إليها المرأة ليكون ما نورد هنا درساً للمرأة الشرقية أو بالأحرى المسلمة لكي لا تعتز بالنموذج الغربي الذي قد ترى بريقه المغري وتسمع الدعايات الكاذبة.

قال سامويل سميلس(1): «إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل، مهما نشأ عنه من ثورة فإن نتيجته هادمة لبناء الحياة المنزلية لأنه يهاجم هيكل المنزل ويقوض أركان الأسرة ويمزق الروابط الاجتماعية  ويسلب الزوجة من زوجها والأولاد من أقاربهم وصار بنوع خاص لا نتيجة له إلا تسفيل أخلاق المرأة إذ وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات

_____________
(1) سامويل سميلس، (Samuel smils) مفكر إنكليزي وأحد أركان النهضة الإنكليزية، وهو أكبر أشقائه الأحد عشر، ولد سنة 1227هـ (1812م) في مدينة هدنگتون بمقاطعة اسكتلنده، والتحق بجامعة ادنبره سنة 1244هـ (1829م) وتخرج منها طبيباً، انتخب عضواً في المجلس النيابي من ليدز سنة 1253هـ (1837م) ثم أمين عام المجلس سنة 1256هـ (1840م)، وتوفي سنة 1322هـ (1904م).

(116)

 

المنزلية، مثل ترتيب مسكنها وتربية أولادها والاقتصاد في وسائل معيشتها مع القيام باحتياجاتهم البيتية، ولكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات بحيث أصبحت المنازل غير المنازل، وأضحت الأولاد تشب على عدم التربية، وتلفى في زوايا الإهمال، وانطفأت المحبة الزوجية، وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة والحبة اللطيفة وصارت زميلته في العمل الشاق، وصارت معرضة للتأثيرات التي تمحو غالباً التواضع الفكري، والتوادد الزوجي، والأخلاق التي عليها مدار حفظ الفضيلة»(1).

 ونشرت جريدة لندن تروث- London Truth – مقالة عن الحياة الأسرية للمرأة الغربية وجاء نصها المعرب كالتالي: «إن البلاء كل البلاء في خروج المرأة عن بيتها إلى التماس أعمال الرجال، وعلى أثرها يكثر الشاردات على أهلن واللقطاء من الأولاد غير الشرعيين، فيصبحون كلاً وعالة وعاراً على المجتمع، فإن مزاحمة المرأة للرجال ستحل بنا الدمار، ألم تروا أن حال خلقتها تنادي بأن عليها ما ليس على الرجل وعليه ما ليس عليها؟»(2).

وصرحت آني رود(3) في مقال لها عن المرأة في ظل النظام الغربي قائلة: «لأن يشتغل بناتنا في البيوت خير وأخف بلاءً من اشتغالهن في المعامل، حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب رونق حياتها إلى الأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة تنعم المرأة بأرغد عيش تعمل كما يعمل الأولاد في البيت، ولا تمس

_____________
(1) نهاية المرأة الغربية: عن دائرة معارف القرن العشرين: 8/639، قالوا عن المرأة: 49 عن مجلة المرشد البغدادية: 3/9 بتاريخ 1347هـ، عن كتاب الأخلاق لسامويل.

(2) نهاية المرأة الغريبة: 9، عن مجلة المنار القاهرية: 3/481 عن جريدة «ذي لاغوس ويكلي ريكورد» 20/4/1901م، عن جريدة «لندن تروث». راجع أيضاً: حقوق النساء في الإسلام: 72، عن عدد من الصحف الأجنبية، وعن مجلة المنار القاهرية في عددها الصادر في جمادى الآخرة سنة 1319هـ.

(3) مس آني رود: هي (Ani Rod) الإنكليزية، كاتبة شهيرة لها مقالات في عدد من الصحف الإنكليزية منها جريدة الاسترن ميل.

(117)

 

الأعراض بسوء، نعم إنه لعار على بلاد الإنگليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها من القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها»(1).

وتقول كوك(2) عن اختلاط الجنسين في المجتمعات الغربية: «إن الاختلاط يألفه الرجال وقد طمعت المرأة فيه بما يخالف فطرتها، وعلى كثرة الاختلاط، تكون كثرة أولاد الزنى، وهنا البلاء العظيم على المرأة، فالرجل الذي علقت منه يتركها وشأنها تتقلب على مضجع الفاقة والعناء وتذوق طعم مرارة الذل والمهانة والاضطهاد من الحمل وثقله والوحم ودواره، أما آن لنا أن نبحث عما يخفف إذا لم نقل عما يزيل هذه المصائب العائدة بالعار على المدنية الغريبة؟، يا أيها الوالدان، لا يغرنكما بعض الدريهمات تكسبها بناتكم باشتغالهن في المعامل ومصيرهن إلى ما ذكرنا، علموهن الابتعاد عن الرجال، أخبروهن بالكيد لهن بالمرصاد. لقد دلنا الإحصاء على أن البلاء الناتج من حمل الزنى أنه يعظم ويتفاقم حيث يكثر اختلاط النساء بالرجال، ألم تروا أن أكثر أمهات أولاد الزنى هن المشتغلات بالمعمل والخادمات في البيوت، ولولا الأطباء الذين يعطون الأدوية لإسقاط الحمل لرأينا اضعاف ما نرى الآن. لقد أدت بنا هذه الحالة إلى حد من الدناءة لم يكن تصرها في الإمكان، حتى أصبح رجال مقاطعات بلادنا لا يقبلون المرأة زوجة شرعية، وهذا غاية الهبوط بالمدينة»(3).

وتذكر إيفلين كوبولد(4) واجبات المرأة الزوجية وتركز على ناحية المنزل فتقول: «الزوجة تقوم بواجباتها المنزلية في صباح النهار وأطرافه،

_______

(1) نهاية المرأة الغربية: 10 عن مجلة المنار القاهرية: 4/481، عن جريدة: The Eastren Mail بتاريخ 10/5/1901، قالوا في المرأة: 36 عن كتاب الإسلام والمرأة.

(2) السيد كوك (Cook): كتابة معروفة تكتب بجريدة «الايكو».

(3) نهاية المرأة الغربية: 10 عن مجلة المنار: 4/482 عن جريدة الايكو، وكتاب قالوا عن المرأة: 36، عن الاسلام والمرأة.

(4) إيفلين كوبولد: باحثة اجتماعية أوصلتها بحوثها العلمية إلى اعتناق الإسلام وكتبت كتابها المعروف «البحث عن الله».

(118)

 

حتى إذا انتهت من أعمالها استقبلت صديقاتها وصويحباتها، وخرجت معهن للتنزه وهي مسرورة كل السرور بحياتها»(1).

       ويحدثنا كاريل(2) عن الفوارق بين الرجل والمرأة ويرى بأن المرأة لا يمكنها أن تجاري الرجل في كل صغيرة وكبيرة بل عليها أن تطالب بما يتناسب وخلقتها وطبيعتها ولذلك صرح قائلاً: «والحقيقة أن المرأة تختلف  اختلافاً كبيراً عن الرجل، فكل من خلايا جسمها تحمل طابع جسمها والأمر نفسه صحيح بالنسبة لأعضائها، وفوق كل شيء بالنسبة لجهازها العصبي، فالقوانين الفسيولوجية «الخلقية» غير قابلة للين مثل قوانين العالم الكوكبي، فليس في الإمكان إحلال الرغبات الإنسانية محلها، ومن ثم فنحن مضطرون إلى قبولها كما هي، فعلى النساء أن ينصبن أهليتهن تبعاً لطبيعتهن، من غير أن يحاولن تقليد الذكور، فإن دورهن في تقدم الحضارة أسمى من دور الرجال، فيجب أن لا يتخلين عن وظائفهن المحدودة»(3).

       وتنصح إيدا إلين(4) بوصفها الخبيرة الاجتماعية في أمريكا، تنصح المرأة بوجوب الالتزام حيث تقول: «هذه التجارب أثبتت ضرورة لزوم الأم لبيتها، وإشرافها على تربية أولادها فإن الفارق الكبير بين المستوى الخلقي لهذا الجيل والمستوى الخلقي للجيل الماضي، إنما مرجعه إلى أن الأم هجرت بيتها وأهملت طفلها وتركته إلى من لا يحسن تربيته»(5).

       وينشر رينيه سبيتنز(6) عن تجاربه في حقل تربية الطفل والعناية به

___________
(1) ماذا عن المرأة: 109 عن كتاب البحث عن الله: 86 تعريب عمر أبو نصر.

(2) كاريل: هو ألكسيس Alexix Carrel ولد عام 1290هـ [1873] وتوفي سنة 1363هـ (1944م) جراح وعالم فرنسي، له العديد من المؤلفات، حاز على جائزة نوبل للعلوم، من مؤلفاته: الدعاء، والإنسان ذلك المجهول.

(3) ماذا عن المرأة: 121 عن الإنسان ذلك المجهول: 78 ترجمة الكتاب Man The UnKnown  : 89.

(4) إيدا إلين: دكتورة اجتماعية.

(5) ماذا عن المرأة: 125.

(6) سبيتنز رينيه (Rainie) أخصائي وباحث في شؤون الأطفال، من سكنة نيويورك.

(119)

 

حيث اعتمد في تربية الطفل وحضانته إلى مجموعتين، الأولى: كانت تحت رعاية الأمهات، والثانية: كانت تحت رعاية الممرضات، فذكر الفوارق قائلاً: إن نزلاء المؤسسة الثانية، المحرومين من عطف الأم وحنانها لم ينجحوا في تعلم الكلام، ولا المشي ولا تنازل الطعام بمفردهم، وبلغت الوفيات بينهم نسبة 37%، بينما نزلاء المؤسسة الأولى «تحت رعاية الأمهات» كانوا على عكس نزلاء المؤسسة الثانية «تحت رعاية الممرضات» ولم تحدث بينهم وفيات خلال خمس سنوات من التجربة على المؤسستين(1).

       ويؤكد أشلي مونتاغو(2) الحقيقة السابقة، وهو أن لتربية الأم ورعايتها للطفل أثر كبير في نمو الطفل وتطوره النفسي والعقلي إذ يقول: «بتنا نعرف الآن أن الحب يشكل عنصراً أساسياً في تغذية كل طفل وليد، فالحنان شرط رئيسي لا غنى عنه أبداً من أجل نموه وتطوره النفسي والعقلي والجسدي، أما إذا حرم هذا الصغير فقد يتعرض للذبول- حتى إذا أحسنت تغذيته- بل وربما يتعرض للموت، وهذه المهمة المقدسة هي مهمة الأم »(3).

       ويفصل لوبون(4) الكلام عن تعدد الزوجات ويمتدح الإسلام بأنه سباق إلى ذلك، ولكنه ينتقد المسلمين بسوء التصرف، وننقل هنا مقاطع من كلامه في هذا المجال: «ولا نذكر نظاماً أنحى الأوروبيون عليه باللائمة كمبدأ تعدد الزوجات، كما أننا لا نذكر نظاماً أخطأ الأوروبيون في إدراكه كهذا المبدأ، فيرى أكثر من مؤرخي أوروبا اتزاناً أن مبدأ تعدد الزوجات يعد حجر الزاوية في الإسلام، وأنه سبب انتشار القرآن، وأنه علة انحطاط الشرقيين... ذلك وصف مخالف للحق، وأرجو أن يثبت عند القارىء

__________
(1) ماذا عن المرأة: 127 عن مجلة طبيبك: 184/52.

(2) مونتاغو أشلي (Montago) طبيب مختص في علم الأجناس البشرية.

(3) ماذا عن المرأة: 128 عن مجلة طبيبك: 184/53.

(4) لوبون غوستاف (Lebon Gustave) طبيب وعالم اجتماعي فرنسي يعد رائد علم الاجتماع، ولد عام 1257هـ (184هـ) وتوفي سنة 1350هـ (1931م). من آثاره: نفسية الجماهير، وعلم النفس في الأزمنة الجديدة.

(120)

 

الذي يقرأ هذا افصل بعد أن يطرح عنه أوهامه الأوروبية جانباً أن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقوم به ويزيد الأسرة ارتباطاً، ويمنح المرأة احتراماً وسعادة لا تراها في أوروبا، ولا أرى سبباً لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من مبدأ تعدد الزوجات السري عن الأوروبيين، مع أنني أبصر بالعكس ما يجعله أسنى منه، وبهذا ندرك مغزى تعجب الشرقيين الذين يزورون مدننا الكبيرة من احتجاجنا عليهم، ونظرهم إلى هذا الاحتجاج شزراً...».

       ويقول في موضع آخر: «إن تعدد الزوجات على مثال ما شرعه من أفضل الأنظمة وأواها بأدب الأمة التي تذهب إليه وتعتصم به وأوثقها للأسرة، وأشدها لآصرته أزراً، وسبيله أن تكون المرأة المسلمة أسعد حالاً وأوجه شأناً، وأحق باحترام الرجل من أخته الغربية»(1).

        كانت بعض الكنائس تحرم الطلاق، فكانت المرأة تبقى معلقة لا هي مطلقة يمكنها الزواج ولا هي زوجة تعطى حقوقها كزوجة كما هو الحال في الجاهلية، وقد قال تعالى: (فأمسكوهن بمعروفٍ أو سرحوهن بمعروفٍ)(2) وقال جل وعلا: (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالملعقة)(3)، وكانت إيطاليا وأسبانيا أعتى دولتين متعصبتين منذ تشريع الطلاق ولكنهما أخيراً رضختا للحالات الاجتماعية والأسرية والمتردية، فقد أقر المجلس النيابي الإيطالي في 18/9/1390هـ «17/11/1970م» قانوناً بإباحة الطلاق، وكذلك فعلت إسبانيا في شعبان 1398هـ «تموز 1078م»، ولا يخفى أن الحكومتين أجرتا استفتاءً عاماً في البلاد وكانت نتيجة الاستفتاءين الفوز المبين لأنصار الطلاق بين الرجال والنساء على حد سواء(4).

__________
(1) ماذا عن المرأة: 145 عن حضارة العرب: 482- 484.

(2) سورة البقرة، الآية: 231.

(3) سورة النساء، الآية: 129.

(4) ماذا عن المرأة: 163.

(121)

<