معجم أنصار الحسين عليه السلام  (الهاشميون) الجزء الاول

اسم الکتاب : معجم أنصار الحسين عليه السلام (الهاشميون) الجزء الاول

المؤلف : للعلامة المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي
المطبعة : المركز الحسيني للدراسات لندن ـ المملكة المتحدة

 

 

 

فقال: مالي إلى ذلك من سبيل، ولا بد من قتلكما.

       فقالا: یا ملعون ما أجفاك وأقسى قلبك، ثم قالا: نحن غلامان حاسبان کاتبان(1) أدخل بنا بعض الأسواق وناد من يشتري هذين الغلامين فبعنا وانتفع بأثماننا.

       فقال: مالي إلى ذلك من سبيل.

       فقالا له: إذا فارحم الضعيفين الغريبين الطريدين الشريدين، أولاد المقتولين المظلومين.

       فأعرض عنهما، فباتا ليلتهما وهما يناديان: وامحمداه واعلياه واحسناه واحسيناه واأبتاه و مسلماه، عز عليكم لو رأيتم ما نزل بنا بعد مغيبكم عنا.

       وباتت العجوز تلوذ بهما وتقول: يا حبيبي من القتل هربتما، وفيه وقعتها، وهي تبكي بكاء الثكلى، وتلطم رأسها، وتقول: ما عذري غداً عند جدكما ليتني ترکتکما ذهبتما في أرض الله حيث شئتما، ولم أدخلكما منزلي، واحر قلبي عليكما، وواحزني لأجلكما، ثم قالت- من الطويل-:

فياليتني قد كنت حين قدمتمــــــا        تركتكما في الأرض أين ذهبــتما

أحباي من قتل اللعين هربتـــمــا       فواحزني فيه يقينا وقعــــــــــتــما

فما العذر لي يوم اللقا لمـــحمــد        إذا كنتما من أجل فعلي ذبــحــتما

أيا ولدي رعت اليتيمين روعــة        بها تستح النار نار جهــــــــــــنما

أيا ولدي إني بداري رحمـــــــة كفلتهما فارع جنابي ودعهـــــــما

أيا ولدي خالفت ربك فيهمــــــا فتب عاجلاً واصفح لأجلي عنهما

ألم تر للعينين بالدمع يهـــــــميا وقلبهما قد فر والعقل منهـــــــــما

أظن الشقا قد حل فيك فقد أرى فؤادك لم يرحم يتيماً متيـــــــــــما

وتلطم خداً للصغير بوجهــــــه وتوثق كفاً للضعيف مؤلــــــــــما

بني لقد قطعت أنياط مهجتــــي بفعلك في الأيتام فارحم لترحـــما

____________

(1) إذ كان عمرهما سبع وثمان سنوات لا تتناسب هاتان المهنتان لهما إلا إذا كانا متفوقين.

 

(327)

 

       هذا والملعون لم يلن قلبه وكان أقسى من الصخر لم يعبأ بكلامهما، ولم يرحم بكاءهما وغربتهما، فلما أصبح الصباح اخرجهما من داره وقصد بهما جانب النهر، وزوجته وابنه وعبده، وأمه خلفه تحذره وتخوفه من عذاب الله وسخطه وتقسم عليه، فلم يفد لأن الشيطان قد استحوذ عليه، والغضب من الله قد دنا إليه، وزوجته تلاطفه في الكلام، وابنه يقول له: احذر الملك العلام شديد الانتقام، وعبده يقول له: اقتلني دونهما ودعهما، فيا ليت نفسي فداهما، فلم يصغ إلى كلامهم وعذلهم، ولم يلتفت إليهم حتى وصل بهما إلى جانب النهر.

       وطلب من ابنه زهير أن يتولى قتلهما فامتنع(1)، ثم أنشأ يقول- من الطويل -:

____________

(1) وهنا أورد الرواية الثانية والتي سبق ذكرها، وقد حاولنا نقل هذه الرواية مجردة عن بقية الروايات، إذ إن المصدر أحياناً يذكر الرواية الأخرى ويشير إلى ذلك بقوله: «وجاء في رواية أخرى» أو «نقل آخر» ويذكرهما ثم يستمر بذكر روايته، وجاء هنا النص التالي:

وفي نقل آخر دعا بابنه زهير فقال له: يا بني ألست قد ربيتك حتى أدركت وبلغت مبالغ الرجال؟

فقال: بلى فقال له: خذ هذا السيف وانطلق بهذين الغلامين إلى شاطئ الفرات واضرب أعناقهما وائتني برأسيهما حتى آتيك هذه الساعة بأربعة آلاف دينار من أبن زياد. فمضى زهير بالغلامين وساقهما حتى صارا في الطريق.

فقال الصغير للكبير: ألا ترى يا أخي إلى هذا الغلام لقد كان يشبه عبد الله بن عقيل في الحسن والقد وإنا على شبابه وحسنه أن يكون من أهل النار وأن يكون خصمه يوم القيامة جدنا أحمد المختار.

فقال لهما: يا حبيبي من أنتما ومن جدكما الذي يكون خصمي يوم القيامة؟

فقالا له: أما تعرفنا؟

فقال: لا.

فقالا: نحن غلامان غريبان طريدان من أولاد مسلم بن عقيل ابن عم رسول الله فصرنا ضيفين لوالدك فأرسلك لقتلنا بغير ذنب.

فقال الغلام: معاذ الله أن ألقى الله بدمكما وأن يكون خصمي يوم القيامة جدكما رسول الله في يوم لا يغني والد عن ولده شيئاً، إن وعد الله حق.

ثم ألقى السيف من يده وعيناه تهملان دموعاً رحمة ورقة للغلامين ثم أنشأ الأبيات.

 

(328)

 

لطاعة رب الناس أولى وأحسن        وأعصيك إذ أغضب ربي وأعلن

أتفرح أنت اليوم لست بخائــــف       بقتلهــــــــــما بغية وإني سأحزن

وتعلم في ذا الفعل أنك في غـــدٍ ستــــجزی به يوم المعاد وتمحن

أيا أبتا راقب إلهك فيهمـــــــــــا غريبين مظلومين إن كنت تركن

أبي فلوجه الله ربك دعهمـــــــا لــــــــئلا تحوز العار حقاً وتلعن

أبي لا تجئ يوم المعاد مطالبــاً  بـــــدمهما فالمخلص اليوم أهون

       ثم إنه أقبل إلى أبيه وقال: اتق الله كأنك تراه وإن لم تره فإنه يراك، وهو بالمنظر الأعلى، مالك وعترة رسول الله (ص).

       فقال له اللعين: عصيتني وأنا أكابد الدهور والأيام واجمع لك المال من الحلال والحرام.

       فقال له: عصيتك في طاعة الله فإن ذلك خير من أن أطيعك وأعصي ربي.

       ثم إنه صاح بغلامه، وقال: انطلق بهذين الغلامین واضرب أعناقهما وأتني برأسيهما، فانطلق العبد بهما حتى صارا في الطريق، فقال الكبير: يا أخي ما أشبه هذا العبد بعبدنا صبيح.

       فقال: يا غلام من أنتما؟

       فقالا: نحن صبيان غريبان من أولاد مسلم بن عقیل ابن عم الحسين، أنا الطاهر وأخي المطهر، وجدنا رسول الله، هربنا من عسکر الحسين الشهيد المظلوم المذبوح عطشاناً غريباً نازحاً عن الأهل والأوطان، وقد ترى ما نحن فيه أمسينا ضيفين لأم مولاك فأرسلك لتقتلنا ليبعث برأسينا إلى الطاغي الباغي عبيد الله بن زیاد.

       فقال العبد: والله لو عرفتكما ما روعتكما، ولا أحب أن يكون محمد خصمي يوم القيامة، ثم إنه رمى السيف من يده وأقبل يقبل أقدامهما وهو يقول: أعادي مولاي الصغير ولا أعادي مولاي الكبير الذي هو على كل شيء قدير، وفي غير أكب على وجهي في نار جهنم، مالي ولعترة رسول الله و ثم إنه تزفر وقال- من الطويل-:

أعادي مولاي الصغير قبالا            واحذر مولاي الكبير قبالا

 

(329)

 

أخاف بأن أصلي غداً في جهنم فيزداد وجهي ظلمة ونــکـــــالا

وأرجو بطوع الله وجهې سواده يكون بیاضاً نوره يـــــتـــــــلالا

إذا ماقتلت اليدين فإننـــــــــــــي        عصي لربي كان ذاك مـــــحالا

فإن شئت تقتلني فنفسي فداهــما فنفسي وروحي قد جعلت حلالا

       ثم قال: أعوذ بالله من قتل السيدين الطاهرين الغريبين، بالأمس فقد جدكما وقتل أبوكما بعده، فقد الحسين كفيلكما وبقيتما يتيمن بلا أب ولا كفيل، ولا صاحب ولا خليل، واغوثاه تكون الرحمة في المماليك، ولا تكون في الأحرار، وتستولي الفجار على أبناء السادات الأبرار، فتباً لها من دنياً رذيلة، وأنصار الطيبين فيها قليلة، فرمی نفسه في الفرات وغاص في الماء، وخرج من الجانب الآخر، فصاح به مولاه، وقال: عصيتني.

       فقال: أطعتك ما دمت لا تعصي الله، فلما عصيت الله عصيتك أحب إلي من أن أعصي الله وأطيعك.

       ثم إنه قال لقد عصاني الولد والعبد، والله ما يتولى قتلكما غيري وأخذ السيف وأتى إليهما، فلما رآه الغلامان مقبلاً عليهما أيقنا بالموت، وأيسا من الحياة، ثم إنه سل السيف من غمده، فلما هم أن يضرب أحدهما جاءت إليه زوجته مسرعة، وجعلت تقبل يديه ورجليه وتتوسل به، وتقول: اعف عن هذين الغلامين، واطلب من الله تعالى ما تطلبه من أميرك، فإن الله يعطيك عوض ما تطلبه من ابن زياد أضعافاً مضاعفة، فلم يعبأ بكلامهما، ولم يلتفت إليها، ودافعته عنهما فصاح بها، وأراد أن يضربها بالسيف فتأخرت خوفاً على نفسها فصاحت بولدها وعيدها، تعالا دافعا عن أولاد الرسول، لتنالا الشفاعة يوم القيامة.

       قال الراوي: فأتي إليه ابنه زهير، وعبر إليه العبد فلزماه و مانعاه ومسك العبد على يده، فهم أن يضرب العبد فلزم العبد على لحيته وجذبها إليه فصاح صيحة هائلة فضربه بالسيف على يده فبرأها من الزند، فأراد أن يضربه ضربة أخرى ليقتله، فقالت له زوجته: ويلك تقتل عبدي نضربها بالسيف، فجرحها جرحاً منكراً.

 (330)

 

فلما رأى زهير فعله قال له: يا أبتاه قدم حلمك وأخر غضبك، وتفكر فيما يصيبك من عواقب الدنيا وعذاب الآخرة، فلم يعبا الملعون بكلامه.

       ثم قال له: تأخر عني وإلا ضربت عنقك.

       فقال: والله لا أدعك تقتلهما.

فضرب ولده بالسيف فقتله، وانجدل صريعاً يخور في دمه، فلما رأت زوجته ابنها ملقى على الأرض متشحط بدمه أخذت بالعويل والصياح ونادت بالويل والثبور وعظائم الأمور.

فلما رأت أمه ما فعل بزوجته وولده وعبده، تقدمت إليه، وقالت: يا بني إني أريد أن أكلمك بكلمتين فاسمع ذلك.

فقال لها  وما هاتان الكلمتين؟

فقالت: له كم جائزتك من ابن زیاد.

فقال: أربعة آلاف دينار.

فقالت له: خذها حلالاً من مالي.

فقال: لا أقبل.

فقالت له: خذ عقدي الفلاني فهو أكثر من جائزتك.

فقال: ما دون قتلهما شيء أبداً. فقالت له: قتلك الله وأحرقك بالنار قريبة غير بعيد.

فتقرب اللعين إلى الولدين، فلما رأياه مقبلاً عليهما تباکیا، ووقع كل منهما على الآخر يتودعان ويتعلقان به، وهو يدفعهما، ولم يكلمهما، وهو غضبان عليهما.

فقالا: يا ملعون إن كنت لا تقبل شيئ مما عرضت عليك أمك، فامهلنا حتى تمضي بنا إلى ابن زیاد، فلعله أرأف منك، ولا تدعنا نطالبك بدمنا عند جدنا رسول الله يوم القيامة، ويصنع بنا ما يريد.

فقال: أخاف أن يلقاني أحد من الشيعة فيخلصكما مني، فلا أفعل ذلك، بل لا بد من قتلكما وامضي برأسیکما إلى ابن زیاد.

 

(331)

 

فقالا له: ألا ترحم بتمنا وصغرنا.

فقال لهما: ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئاً.

فقالا له: دعنا نصلي ركعتين.

فقال : صليا إن نفعتكما الصلاة.

فصليا أربع ركعات، فلما فرغا من الصلاة استقبلا للقبلة، وقالا: اللهم أذقه ما كان يريد يذيقنا، وأحرمه لذة العيش بعدنا، وسلط عليه الظالم الفاجر ابن زیاد حتى لا يقبل منه عذراً ولا قولاً ولا فعلاً، واحكم بيننا وبينه بالحق وأنت خير الحاکمین، ثم بكيا، وقالا: عز والله على أبنا أن يرانا بين يديك وسيفك مشهور تريد قتلنا

فناداه الكبير، وقال له: نشدتك بالله إذا غلبت عليك شقوتك فابدأ بي قبل أخي، لئلا أراه مذبوحاً فيخرج قلبي ويزيد حزني وكربي.

ثم إنهما تعانقا حتى غشي عليهما، فلما أفاقا نظر كل واحد منهما إلى الآخر .

وقالا: يا هذا ما أشد بغضك لأهل البيت، وهما يتودعان، وكان كلما قصد الملعون واحدا منهما، قال له: اقتلني قبل أخي فإني لا أحب أن أراه قتيلاً، فبينما الصغير ساجد إذ ضرب عنقه ورمی برأسه في ناحية وبجسده في ناحية.

وقيل: إنه ذبح الأكبر أولاً.

وفي نقل آخر فجعل الكبير يتمرغ في دم أخيه وهو ينادي: واأخاه، واقلة ناصراه، وأطول حزناه، واحسرتاه، واغربتاه، وايتماه، هكذا ألقي الله عز وجل وأنا متخضب بدم أخي، ثم إنه بکی بکاء شديداً وجعل يقول- من الطويل-:

حر قلبي عليك ملقى قتيلا(1)     دماؤك سالت في التراب مسيلا

____________

(1) في الصدر خلل، إلا إذا قيل على سبيل المثال «لحر قلبي عليك» فيكون قد دخل الشتر على التفعيلة الثانية فأصبحت مفاعيلن فاعلن.

 

(332)

 

أخي ليت عيني لن تراك معـــــفراً            طريحاً ذبيحاً في التراب غسيـــلا

أخي واشجا قلبي عليك وحسرتـــي          أراك عفيراً في التراب جدیــــــلا

أخي ليتني قد كنت قبلك ميــــــــــتاً    ولم أر منك الرأس كان زميــــــلا

فآهٍ على صنع الزمان بحالــــــــــنا           وقد غال لي من في الزمان خـليلا

وصرنا کمولانا الحسين بکربـــــلا    ومثل أبينا يوم مات قــــــــــــــتيلا

تقضي زمان حالنا فيه حاليـــــــــاً            فسار أبونا کوفة فاغتـــــــــــــــيلا

ومن بعده كان الحسين يحوطنـــــا            فأكرم بسبط المصطفى كفــــــــيلا

فأمسى على شاطىء الفرات مجدلا           وأصحابه إلا علي علـــــــــــــيلا

ومن بعده جارت على الآل عصبة            فأبدت على آل النبي ذحـــــــــولا

فهذا أخي مفطوغ رأسي فليتـــــني            فداه فلم أنظر إليه قتيـــــــــــــــلا

إلى الله نشكو عنده ما أصابـــــــنا            بيوم يراه الظالمون ثقيــــــــــــلا

فقال له: قتلت أخي قتلك الله، وخذلك ولا نصرك.

فقال له اللعين: لا عليك سألحقك بأخيك في هذه الساعة، ثم ضرب عنقه فسقط إلى الأرض يفحص برجله ويده، ويتمرغ بدمه.

ثم إن اللعين أخذ رأسيهما ووضعهما في مخلاة ورمي أبدانهما في الفرات فمال جسد الكبير على جسد الصغير واللعين ينظر إليهما فاعتنقا وغاصا في الماء بقدرة الله تعالی.

فصرخت أمه وزوجته وجميع من حضر قتلهما صرخة واحدة، وصارت تلك البقعة في رجة عظيمة، وصيحة شديدة، وعلا البكاء والنحيب، وصار عندهم مأتم، وند بتهما العجوز بصوت حزين، وأبدت الحنين والأنين، وقالت: واحر قلبي على السيدين الغريبين، الفاضلين الزاكيين، اليتيمين المخذولين، يا ليت شعري هل أحد يقيم عزاكم، ويقيم مأتما لكما، واحر قلبي على صغيري السن، وغربي الوطن، وكثيري المحن وأنشأت تقول- من الكامل-:

شلت يمينك یا کثیر الألـــــكع          وسكنت نـــــــــيراناً بها تتدفع

يا قاسي القلب الشديد فــــؤاده          كيف الجوارح منك لا تتصدع

لم لا رحمت بکا اليتيم ونوحه          وحنــــــــــينه وقت غدا بتفجع

 

(333)

 

كيف استطعت بأن قطعت کریمه             ما ذاب قلبك رحمة أو تجــــــــــزع

عجباً خضبت جبينه بدمائـــــــــه             مافر بك فجع يا ألـــــــــــــــــــــــكع

ولقد تركت الجسم وهو معــــفــر             متخضب بدمائه مــــــــــــــــــــــتلفع

واحسرتاه على اليتيمين الغـريـــ       بين اللذين لحفظهم قد ضيـــــــــــعوا

واحسرتاه على الذبيحين اللـذيـــ       ـن غدت لهم صم الصخور تصدع(۱)

واحسرتاه إذ يستغيثان الـــــــذي              لا يرعوي بالوعظ بل لا يســـــمع(2)

ثم إنه ركب على ظهر جواده ومضى إلى ابن زیاد بالرأسين، وأمه تقول: لا ردك الله ولا رجعك يا قاتل ابني بنت المصطفى. والمرتضی(۳)، وسلط الله ابن زیاد حيث لا يقبل منك قولاً ولا فعلاً ولا عذراً.

ثم إن اللعين دخل على ابن زیاد ووضع المخلاة بين يديه.

فقال له: ما في هذه المخلاة.

فقال  ما يسرك، فيها رأسا ولدي مسلم بن عقیل، فنفض الرأسين من المخلاة، وكشف عن وجهيهما، فإذا هما كالقمرين المشرقين.

فلما نظر إليهما اللعين عبيد الله بن زیاد، قال: يا ويلك لم قتلتهما؟ ولم لا أتيتني بهما حيين حتى أرى فيهما ما أرى؟

فقال: لطمع الجائزة، ثم أخبره بما عرضت عليه أمه من المال الكثير، وبقتل ولده، وجرح زوجته، وعبده، لما أرادوا أن يستنقذوهما منه

____________

(1) في المصدر جاء البيت كالتالي:

واحسرتاه على الصغيرين الذبيحين           اللذين غدت لهم صم الصخور تصدع

وفيها زيادة تفعيلة واحدة وهذا لا يصح، ولذلك نرى أن «الصغيرين» هي نسخة بدل عن «الذبيحين» فطبعت كلاهما معاً خطأً.

(2) في المصدر جاء الصدر: «واحسرتاه عليهما أو يستغيثان الذي» ولكن يزيد بتفعيلة  على بقية الأشطر فحذفنا الهاء من «واحسرتاه» كما حذفنا «عليهما» ليستقيم الوزن.

(3) لعل كلمة المصطفى جاءت من كثرة استخدام الكلمتين معاً وإلا فإنهما بالقطع لم يكونا حفيدين للزهراء «عليها السلام»، وأما كونهما من أحفاد علي «عليه السلام» فهذا ممكن كما سنأتي على بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

 

(334)

فقال عبيد الله بن زياد : الذي عرضت عليك أمك خير لك من قتلهما، ولكنك اتبعت في ذلك هواك، يا ويلك أين وجدتهما؟

قال: في منزلي.

فقال ابن زیاد: في منزلك؟

قال: نعم.

قال: ومن أتى بهما إلى منزلك؟

قال: عجوز لنا أضافتهما من حين مضيا فقال له اللعن عبيد الله بن زیاد ويلك أخذت بأيديهما وقتلتهما وهما ضيفان لك أفلا عرفت لهما حق الضيافة، ألم تعلم أن الضيف له حق على رب البيت وقراهما منك السلامة.

فقال له: ابن زیاد: فهلا أتيت بهما حيين.

فقال: خشيت أن يأخذهما مني أحد، ولا أقدر أن أوصلهما إليك.

فأمر ابن زیاد أن يغسلوا الرأسين من الدم؛ فغسلوهما وأتوا بهما إليه، فتعجب من حسنهما لما رآهما.

وقال له: يا ويلك لو أتيتني بهما حيين تضاعفت لك الجائزة. فاعتذر بعذره الأول.

فقال له: والله لقد أتيت بجناية عظيمة حيث قتلت ضيوفك، فلا بد من قتلك يا ملعون، إذ هذا الفعل لم يفعله أحد قبلك.

وتعجب الحاضرون من حسنهما وجمالهما، وبکی اللعين عبيد الله بن زياد رحمة لهما على صغر سنهما، والجرأة من هذا اللعين عليهما، وبکی كل من كان حاضرا عنده.

فقال له ابن زياد ويلك ألم ترحمهما لصغر سنهما وتضرعهما إليك.

فقال: أحببت طاعتك، والجائزة السنية منك، والمكان الرفيع دون أصحابي.

قال: ما قالا لك.

 

(335)

 

قال: قالا لي: أما تحفظ قرابتنا من رسول الله ، فقلت: ما لكما قرابة من رسول الله، قال: فما قالا لك أيضا؟

وقال: قالا لي: أما ترحم صغر سننا، فقلت لهما: ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئاً.

قال: فما قالا لك أيضاً؟

قال: قالا لي: بعنا في السوق وانتفع بأثماتنا .

فقال: وما قلت لهما؟

فقال: قلت: إني أريد الجائزة من ابن زیاد.

قال: فما قالا لك أيضاً؟

قال: قالا لي: إمض بنا إلى ابن زیاد حيين يفعل بنا ما يريد، فلعله. أرأف منك لنا.

قال: ما قلت: لهما؟

قال: قلت لهما: مالي إلى ذلك من سبيل.

فقال: ما قالا لك أيضا؟

قا: قالا لي: دعنا نصلي ركعتين، فقلت لهما: صليا إن نفعتكما الصلاة.

فقال: ما قالا لك أيضا بعد الصلاة؟

فقال: رفعا أيديهما بالدعاء وقالا: يا حي يا قيوم يا عدل يا حكيم احكم بيننا وبينه بالحق وأنت خير الحاکمین، وسلط الله عليك ابن زیاد بأن لا يقبل لك قولاً، ولا فعلاً، ولا عذراً، یا الله الفعال لما يريد.

ثم التفت ابن زیاد إلى ندمائه، وقال: ما نعطي كثير من الجائزة، لقد خاب رجاه وما أمل، ثم قال له: ويلك إنهما طلبا منك أن تأتي بهما حيين فأبيت إلا قتلهما، يا لعين والله لو أتيت بهما حيين لأعطيتك الجائزة، ولو أتيت بهما حيث طلبا المجيء إلي لأحسنت إليهما، ورددتهما إلى المدينة سالمين إلى أهلهما.

 

(336)

 

ونظر ابن زیاد إلى جلسائه وكان فيهم رجل محب لأهل البيت «عليهم السلام»، وقيل نادي من الكثير؟

فنهض إليه رجل فظ غليظ القلب، فقال: أنا أيها الأمير.

فقال: خذ هذا اللعين، وانطلق به إلى الموضع الذي قتل فيه الغلامين، واضرب عنقه ولا تدع دمه يختلط بدمهما، وخذ هذين الرأسين وارم بهما في الموضع الذي رمى فيه جسديهما، فإذا قتلته فاعط العجوز ماله وخذ أنت سلاحه وفرسه.

فأخذه وسار به وهو يقول: والله لو أعطاني ابن زیاد جميع سلطنته ما قابلت هذه العملية، فقال: له(1) هذا جزاء من يتعرض لآل الرسول، ثم إنه أنشأ يقول- من الكامل-:

هذا غطاء ما سواه عطـــــاء    أبداً ولا ضـــاهاه قط جزاء

قتلي لهذا الرجس ألعن فاجــر   ما مثله فعلت كذا الأعداء(۲)

یا ويك كيف قتلت ضيفاً لائذاً    بـــــــفناء بيتك إن ذا لشقاء

فجعل كلما مر بقبيلة من القبائل أخرج الرأسين وأراهم إياهما، وهو يقول: ألا ترون إلى ما فعل هذا اللعين بهذين الطفلين الصغيرين، وحكي لهم بالقصة وما كان يريد أن يفعل بذلك اللعين، فيبكون رحمة لهما، ويندبونهما شفقة عليهما، وينوحون حزناً لأجلهما.

ثم سار به إلى أن أتی به إلى الموضع الذي قتل فيه الغلامین، فرأي هناك ولد مقتولاً وامرأة مجروحة وعبداً مقطوعة كفه من الزند، ورأى تلك العجوز، وهي تدعو على ذلك اللعين الفاجر، ورأى تلك القرية في صيحة عظيمة، وبكاء ونحيب حزناً على ما نال هذين اليتيمين، فلما رأى ذلك الأمر الشنيع، قال له: لعنك الله من شقي ملعون هكذا، أبشر بعذاب الله تعالى وخزيه ونكاله.

____________

(1) أي فقال الرجل لكثير قاتل الطفلين.

(2) كلمة الأعداء كتفعيلة غير مناسب لأن التفعيلة هنا لا بد وأن تكون «متفاعل» وقد جاءت هنا «مفعولن» وهو جائز ولكن بما أنه التزم في البيتين الآخرين بـ«متفاعل» فلا يمكنه تغيير ذلك.

 

(337)

 

فسأل المرأة المجروحة، وقال من أنت؟

قالت: أنا زوجة هذا اللعين، وقد كنت مانعته عن قتل هذين الطفلين، فلم يقبل مني قولاً، وقتل ولدي، وجرحني، وقطع يد عبدي، فالحمد لله الذي لم يبلغه مراده.

ثم إنها بكت بكاءً شديداً، وقالت: الحمد لله الذي أمكن الله منه، ولم يبلغه مراده، ثم قالت له: لعنك الله يا قاتل عترة نبيه، ولقد جوزیت بالقتل ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، ثم جعلت تنشد وتقول- من الكامل-:

بعداً وسحقاً یا کثیر الأبـــــــــتر       وصُليت ناراً حرها يتسعـــــــــر

لو قد أطعت الأم فزت برحمــة من ربك الرحمن إذا ما تحشــــر

لكن صغيت لطوع نفسك راجياً أن سوف تلقى ما تريد وتبـــصر

فخسرت للدنيا وأخرى بعدهـــا وكذا الظلوم لما يؤمل يخســـــــر

ولقد غللت يد اليتيم وهنتــــــــه ولطمته فتركته يتعفـــــــــــــــــر

هلا علمت ولا جزعت لقتل من        أضحى غريباً خائفاً يتحـــــــسر

يا عين فابكي طاهراً ومطــهراً من قد نماه طاهر ومطهــــــــــر

وابكي يتيمي مسلم بمدامــــــــع تهمي على صحن الحدود وتقطر

یا مسلم قم فانظر الولديــــن ذا متخضب بدم وذا متعفـــــــــــــر

ثم إن ذلك الرجل اشتغل بتعذيبه فقلع عينيه وقطع أذنيه ويديه ورجليه، وتركه يتشحط بدمه ثلاثة أيام، فلما أراد قتله، وهم أن يعلوه بالسيف.

قالت له أمه: سألتك بالله العظيم ونبيه الكريم أن لا تخلط دمه بدم هذين الغلامين الطاهرين الطيبين، سلالة الرسول، ولك عندي خمسمائة درهم، فقال: والله لا آخذ درهما ولا دينارة. وأفعل ما تأمرين به فقد أمر ابن زياد أن لا أخلط دم الأبرار بدم الفجار.

ثم إنه وكزه بذباب(1) السيف في خاصرته، فمد عنقه فعاجله بالضربة

____________

(1) ذباب السيف: طرفه الذي يضرب به.

 

(338)

 

فبرى رأسه عن بدنه فانجدل صريعاً يخور في دمه، وعجل الله تعالی بروحه إلى النار، وبئس القرار.

ثم إنه رمی بالرأسين في الفرات فخرجت الأبدان وتركبت على الرؤوس بإذن الله تعالى وغاصا في الفرات.

ثم إن ذلك الرجل أتی برأس ذلك الملعون ونصبه على قناة عالية وجعل الصبيان يرجمونه بالحجارة وبقي ذلك الملعون ملقى على وجه الأرض ثلاثة أيام جزاء بما فعل بعترة الأطهار وأولاد أخي حيدر الكرار(1).

وهذه الرواية تحمل كل معالم تلك الروايات السابقة و تشترك معها في نقاط الضعف وتزيد عليها إن كل أبطالها كانوا شعراء من السجان (شكور)، والقاتل (كثير) ، وأم القاتل (أم كثير)(2)، وزوجة القاتل (أم زهير) وابن القاتل (زهير)، وعبد القاتل (فليح)، والمقنص من القاتل (نادر)(3)، بالإضافة إلى الطفلين محمد الطاهر وإبراهيم المطهر، مما يدل على أن هذه الأبيات إنما قيلت على لسانهم، وأن القصة فيها الكثير من الإضافات، مضافاً إلى أن الأبيات كلها جاءت من بحر الطويل، فما هذه الصدفة أن جميعهم شعراء وجميعهم نظموا على البحر الطويل وكلهم ضعيفوا النظم، فضعف الأبيات ومضمون القصة وهذه الصدف تدلنا على أن هذه القصة وكأنها من نسيج الحكواتي الذي كان له دور في فترة زمنية تخلق مثل هذه القصص.

ومما يؤيد ضعف القصة برمتها إختلاف الروايات، فهذه الرواية تذكر الطفلين باسم طاهر ومطهر، بينما بعض الروايات السابقة ذكرتهما باسم محمد وإبراهيم، وربما تمكنا من الجمع بينهما وذلك بأن يكون الطاهر والمطهر لقبان لهما فيكونا على الشكل التالي محمد الطاهر، وإبراهيم المطهر.

____________

(1) راجع كتاب مقتل أولاد مسلم بن عقيل لعلي بن إبراهيم البوري البحراني: 3- 60.

(2) وفي بعض الروايات: «الحارث بن عروة».

(3) وفي بعض الروايات: «مقاتل».

 

(339)

 

ومن موارد الخلاف أن مقدار الجائزة اختلف عن سابقاتها من الروايات، حيث ورد هنا أربعة آلاف دينار، وقضاء ثلاث حوائج، أولاً: كثرة المبلغ حيث ارتفع من الألفين إلى أربعة، ومن الدرهم إلى الدينار، ثانياً: إضافة ثلاث حوائج إليها، وربما قيل في الأخيرة أن الفرس كان أحدها كما ورد في بعض الروايات السابقة، وهذا الاختلاف إنما جاء من الاختزال والتفصيل، ولكن هذا لا يتم بعد عرض التفاصيل. إذ إن القاتل كان يفهم أن منها الولاية، وكل هذه تضعف الرواية، حيث إن قتل طفلين صغيرين لم تكن بدرجة عالية من الأهمية لتعطي ولاية لقاتلها.

ومن تلك التناقضات أنهما شبها عبد القاتل بعيدهما صبيح بخلاف بعض الروايات السابقة التي ذكرت شبهه ببلال المؤذن، وفي تشبيه العبد وكذلك تشبيه ابن القائل بعمهما عبد الله بن عقيل يوحي إلى أنه من وضع الحكواتي.

ثم ما هي خلفية هذا الانحراف ليصل بالرجل أن يقتل ابنه ويجرح زوجته ويقطع يد عبده(1) ويهين أمه ولا يرتضي بكل ما عندها مقابل جائزة ابن زیاد، مع العلم أن الرواية تصرح بأنه إنما فعل ذلك لأجل الحصول على الجائزة، اللهم إلا إذا قيل أن فكرة الولاية قد أعمته عن كل شيء، أو أن بغضه لأهل البيت «عليهم السلام» أوصلته إلى الحضيض.

ومن جهة أخرى، إن في خطاب الطفلين للقاتل بكلمة الملعون وهما في حال الالتماس مما لا يتناسب، وكذلك خطاب ابن زیاد له بالملعون وكذا زوجته وأمه بل سائر أبطال القصة، كل ذلك يوحي إلى أنه من وضع واضع.

أيضاً في الرواية شيء من التناقض، ومن ذلك أنها ذكرت بأن السجان صمم على الهرب، ثم تأتي وتقول بأنه عذب وقتل، اللهم إلا أن يقال: أنه كان قد نوى الهرب ثم صمم على المقاومة فعذب وقتل، أو ألقي القبض عليه عندما أراد الهرب، ومن جهة أخرى إن ابن زیاد إذا كان حريصة على الطفلين بحيث قتل قاتلهما، فلماذا قتل السجان الذي أفرج

____________

(1)  وفي رواية إنه  قتله أيضاً.

 

(340)

 

عنهما بأبشع من قتله لقاتلهما، اللهم إلا أن يقال إنه قتل كلا من السجان والقاتل لمخالفة أوامره.

ولكن رغم كل ذلك فإن هذه الرواية حملت إلينا موضوعين لم تطرق الروايات السابقة إليهما

الأول: إنها رفعت التناقض بين النصين السابقين في مسألة سير الطفلين ليلاً أو نهاراً، فإن هذه الرواية تؤكد على أنهما سارا ليلتهما الأولى، كما أنهما سارا نهارهما الأول، ومعنى ذلك أنهما التجئا إلى بيت العجوز في الليلة الثانية، وبهذا أمكن الجمع بين النصين.

الثاني: إن ابن زیاد لم يقصد بسجنهما قتلهما بل كان يتحين الفرصة لأن يلحقهما بأهلهما في المدينة، ولعله بعد وصول ركب السجاد «عليه السلام» إليها.

وأخيراً فإن هناك معلومات يمكن الحصول عليها من مجموعة النصوص التي ذكرناها مما تخص أبطال هذه القصة بما لا يتنافر بعضها مع البعض الآخر أو لا يخالف ما ذهب إليه المشهور في هذه القصة وهي كالتالي:

- الغلام الأكبر: هو محمد الأصغر، ولقبه الطاهر(1) وعمره ثمان سنوات، أي أن ولادته كانت في عام 53 هـ في المدينة، كما ورد في رواية الخوارزمي وابن شاذان إن أحدهما إبراهيم والآخر محمد، وجاء في الروضة تفاصيل عمرهما.

- الغلام الأصغر: هو إبراهيم، ولقبه المطهر(2) وعمره سبع سنين، أي ولادته كانت في عام 54 هـ في المدينة، كما ورد في رواية الخوارزمي وابن شاذان بالإضافة إلى الروضة.

- أب الغلامين: هو مسلم بن عقيل بن أبي طالب، كما هو مشهور ومعروف، وقد صرح بذلك في رواية الطريحي.

____________

(1)  كما ورد في الرواية الرابعة، التي رويت عن أبي مخنف.

(2) كما ورد في الرواية الرابعة.

 

(341)

 

- اسم السجان: مشکور، كما جاء في الرواية الرابعة المنسوبة إلى أبي مخنف.

- قاتل الغلامين: هو الحارث بن عروة الطائي، كما ورد في الروضة بأن اسمه الحارث بن عروة، وجاء في السفير أنه رجل من طيء، وفي رواية الصدوق أنه كان ممن حضر وقعة الطف، ولكن جاء في الرواية الرابعة ذكر بأنه كثير بن الأسود - الكوفي -.

۔ اسم ابن القاتل: زهير كما ورد في الرواية الرابعة.

- عبد القاتل: هو فليح كما ورد في السفر الطيب، وكان أسود اللون كما في روايتي الصدوق والطريحي.

- المقتص من القاتل: هو نادر كما ورد في روايتي الخوارزمي وابن شاذان(1).

- تاريخ الشهادة: عام 6۲ هـ كما يظهر من روايتي الصدوق والطريحي، ويوم الشهادة كان السادس والعشرين من شهر صفر(۲) کما نسب إلى المشهور(3).

وربما القصة على فرض وقوعها كانت كالتالي :

إن الطفلين محمد وإبراهيم ابنا مسلم هربا من مخيم أبي عبد الله الحسين «عليه السلام» بعد قتله حين هجم جيش ابن سعد على المخيم الحسيني وأشعل فيه النار، وضلا الطريق حتى وصلا إلى منطقة المسيب فالتجأ إلى بیت الحارث بن عروة الطائي الذي كان ممن خرج إلى قتال أبي عبد الله الحسين «عليه السلام»، وكان من المتعاملين مع ابن زیاد، وكان مصير بعض الأطفال لدى الهرب هو السحق والموت على أرض کربلاء، ولما أرادت السيدة زینب «عليه السلام» جمع الأطفال وإحصاءهم عثرت على جثث من قتل أو مات ولم تعثر على محمد وإبراهيم فأخبرت بذلك المسؤولين في المعسكر الأموي

____________

(1) ولكن جاء في رواية الكاشفي في روضة الشهداء أن اسمه مقاتل.

(2) ويظفر في رواية الكاشفي أن ذلك تم في عام 60هـ وسنأتي على ذلك.

(3) راجع كتاب أولاد مسلم بن عقيل: 60.

(4) كما صرحت بذلك الرواية الرابعة.

 

(342)

 

فنادى منادي ابن زياد عنهما ليلحقهما بركب السجاد «عليه السلام » إلا أن الذي عثر عليهما طمع في الجائزة وخاف أن يفرا منه فلم ينل الجائزة فقتلهما وحمل رأسيهما إلى ابن زیاد ولكن بعد رحيل ركب الأسرى إلى الشام، ولما كان وضع الكوفة قد انقلب بعض الشيء على يزيد وواليه ابن زیاد و بالأخص بعد انتفاضة عبيد الله بن الحر الجعفي، فأراد أن يرد شيئاً من اعتباره فأمر بقتل القاتل ليس حباً لآل الرسول و بل لرد الاعتبار كمنهج سياسي، ولمخالفة القاتل لأوامره حيث كان قد طلبهما أحياء فأعاد بذلك هيبته.

وعليه فيكون هذا المرقد مكان قتلهما وربما دفنهما إذا ما قلنا بعدم رمیهما في الماء أو التقاطهما ودفنهما.

وربما تكون القصة على شكل آخر فيما إذا قلنا بأن ابن زیاد کان قد سجنهما وتكون كالتالي:

هرب الطفلان بسبب حرق الخيام فظفر بهما جلاوزة(1) ابن زیاد بعد رحيل ركب الأسرى إلى الشام، وأودعا السجن بغرض تلقي الأوامر من الشام أو إلحاقهما بركب السجاد «عليه السلام» فطالت فترة مكوثهما في السجن الاهمال أمر السجناء في الأنظمة الظالمة، فأعلما السجان بنسبهما وحسبهما فافرج عنهما وسارا أياماً حتى وصلا المسيب وكان قد علم ابن زیاد بفرارهما فنادى مناديه في أزقة الكوفة عنهما ووضع جائزة لمن يعثر عليهما، وكان الحارث ممن يعمل مع ابن زیاد فطمع بالجائزة فبدأ يفتش إلى أن وجدهما بعد أيام في بيته وقتلهما بعد أن رفض عبده فليح تولي قتلهما وكذلك فعل ابنه، وحمل رأسيهما إلى ابن زیاد طمعاً في نيل الجائزة منه إلا أن ابن زیاد كان يريدهما أحياء، وكانت الأوضاع السياسية تنحو لغير صالحه فأمر عبده نادر بقتل الحارث والتشهير به کسباً للمجتمع الكوفي الذي انقلب لصالح أهل البيت «عليهم السلام».

هذا ما نرتئيه وذلك جمعاً بين عدم طرح الرواية كاملة وتهذيبها من

____________

ربما كان كثير بن الأسود: هو الذي قبض عليهما، أو أنه كان القاتل وأن الحارث ابن عروة الطائي كان الذي قبض عليهما، والحاصل أن أحدهما قبض عليهما، والآخر قتلهما بعد هربهما من السجن.

(343)

 

الشوائب والتناقض، والله العالم بحقائق الأمور، وسنأتي على التفاصيل في محلها(1).

هذا وقد عثرنا على نص آخر نقله الكاشفي(2) بالفارسية يختلف أولها عن النصوص التي سبق وذكرناها، ننقلها إتماماً للفائدة.

لقد أبلغ بعض المتزلفين ابن زیاد بأن لمسلم بن عقيل ابنين في الكوفة، فأمر مناديه أن ينادي في أزقة الكوفة من وجد عنده ابنا مسلم فسوف نستحل بيته ويقتل صاحبه، وكان من أمر مسلم أنه لما ضاقت به الأرض بما رحبت أودع ابنيه عند شريح القاضي وأوصى بهما خيراً وأنا يعيدهما إلى المدينة، ولما سمع شريح نداء المنادي أقبل إلى ابني مسلم باكياً، وسألاه عن سبب بكائه فأخبرهما بقتل أبيهما فأغمي عليهما ولما أفاقا مزقا جيبيهما ووضعا عمامتيهما من على رأسهما حدادا على أبيهما، وأخذا يقولان: واابتاه واغربتاه وينوحانه.

وأخذ شريح يهدئ من روعهما وصبرهما، ثم قال لهما: ليس الآن وقت البكاء، والعويل، وابن زياد في طلبكما، فإذا عرف مستقركما داهم بيتي وقتلني وقبض عليكما، وإنني متهم بولائي لأهل البيت، وقد فكرت ملياً في هذا الأمر، فرأيت أن أرسلكما إلى المدينة مع من أثق به.

ثم إنه أعطى لكل واحد منهما خمسين ديناراً، وقال لابنه أسد: لقد سمعت اليوم بأن هناك قافلة عازمة على السفر إلى المدينة فخذ بيد الطفلين وأودعهما يداً أمينة توصلهما إلى المدينة.

فلما جن الليل أخذ أسد الطفلين إلى خارج الكوفة فوجد القافلة قد غادرت لتوها من الكوفة، فسارع للالتحاق بها، وبعد مضي مسافة عم

____________

(1) راجع السيرة الحسينية من هذه الموسوعة، راجع أيضاً: أسرار الشهادة، فرسان الهيجاء ووسيلة الدارين، ومراقد المعارف ومشاهد العترة الطاهرة والسفر الطيب في تاريخ مدينة المسيب وغيرها.

(2) الكاشفي: هو حسين بن علي الواعظ السبرزاوي البيهقي المتوفى عام 910هـ، له كتاب جواهر التفسير، المواهب العلية، ومخزن الإنشاء، كان من العلماء الأدباء، مشارك في العلوم الإسلامية والعربية.

 

(344)

الظلام فلم يعد يبصر أثرها، وضل الطريق فالتقاء حرس ابن زیاد، فلما عرف عمن معه قبض عليهما وقادهما إلى ابن زیاد، فأودعهما السجن، وكتب إلى يزيد بأمرهما ليرى فيهما رأيه أيطلق سراحهما أو يقتلهما أو يرسلهما إليه.

وكان السجان رجلاً يقال له مشكور وهو من الموالين لأهل البيت فلما سلمه ابن زياد الطفلين قام بخدمتهما بأحسن وجه، ولما جن الليل أخرجهما من السجن وأوصلهما إلى الطريق المؤدي إلى القادسية، وقال لهما: إن الطريق إليها آمن، خذا مني هذا الخاتم وتوجها إلى أخي في القادسية وأرياه خاتمي فإنه سوف يوصلكما إلى المدينة، فدعوا له بالخير وفارقاه، ولكن الحظ لم يحالفهما للمرة الثانية فقد ضاعا وجالا حتی الصباح حتى وجدا أنفسهما على مقربة من سور الكوفة.

فقال الأكبر للأصغر: أخاف أن يقبض علينا لو بقينا في مكاننا هذا.

واطلعا فإذا على يسارهما بستان من نخيل فالتجئا إلى نخلة على نبع ماء فتحصنا فوقها، ولما كان وقت الظهيرة أقبلت جارية حبشية وبيدها إناء لتمليه من النبع لأجل الوضوء، فوقع نظرها في الماء فإذا قد انعكست صورتهما فيه، فالتفتت إليهما سائلة من أنتما؟

فلما اطمأنا إليها أخبراها بقصتهما، وأنهما ابنا مسلم بن عقیل، فرحبت بهما، وذكرت أن مولاتي ستسر برؤيتكما، وأخذتهما إليها، فلما بشرتها بقدومهما قامت وخلعت عليها مقنعتها وبكت على مسلم وما حل بابنيه(1).

وينقل الكاشفي القصة كما في الرواية الأخرى من اطلاع ابنها على وجودهما وقتلهما وقتله لابنه وغلامه بسبب معارضتهما لقتلهما، وقتل ابن زیاد لقاتلهما إلى آخر القصة. ولكن باختلاف بسيط جداً، وفيه يؤكد بأن اسم القاتل حارث بن عروة، واسم الطفلين محمد وإبراهيم، وإن عمرهما في الثامنة والسابعة، وذكر بأن اسم الذي تولى قتل المقاتل هو مقاتل.

____________

(1)  راجع روضة الشهداء: 292- 304.

 

(345)

وقد يجد القارىء في هذا النص اختلافاً كبيراً بین ما ورد فيه وبين ما ورد في النصوص السابقة، وربما كانت محبوكة أكثر من تلك لولا أن المؤرخين لم يذكروا بأن مسلم حمل معه ابنیه، كما أنه مستبعد ذلك أيضاً.

وعلى فرض صحته فإنه يشير أن الحدث وقع في صبيحة مقتل مسلم ابن عقيل الثامن من شهر ذي الحجة عام 60هـ أو اليوم الذي يليه أي يوم عرفة نادي المنادي وفي المساء أرادا الالتحاق بالقافلة فقبض عليهما وأودعا السجن وفي يوم العيد مساءً أخرجا من السجن وفي يوم الحادي عشر وصلا بيت العجوز وفي اليوم الثاني عشر قتلا، ولن تزيدنا هذه الرواية إلا إرباكاً وتناقضاً يضاف على الإرباكات والتناقضات السابقة مما يضعف أصل الرواية.

وأما عن أمهما فيظهر أولاً: إنهما كانا شقيقين، وأمهما بنت لأمير المؤمنين «عليه السلام» لأن الرواية الرابعة إن صحت ففيها: «یا قاتل ابني بنت المرتضی، فعليه لا بد وأن تكون أمهما إما رقية الكبرى أو أم كلثوم الصغرى، والأول بعيد لعدم تناسب عمرهما مع عمر أبنائها، بل الأقرب أن يكونا من أبناء أم كلثوم الصغرى التي تزوجها بعد وفاة أختها رقية الكبرى، ویکونا عندئذ شقيقين لحميدة بنت مسلم المولودة عام 49هـ(1)، والتي تتناسب مع الرواية القائلة بأن الحسين «عليه السلام» عندما وصله خبر مقتل ابن عمه مسلم بن عقیل مسح على رأسها، وسنأتي على مزيد من التفاصيل لدى ترجمة أبيهما مسلم بن عقيل إن شاء الله تعالی.

وسنذكر فرارهما ومقتلهما ضمن السيرة، الحسينية بما يمليه التحقيق علينا بشكل موضوعي إن شاء الله تعالی.

____________

(1) راجع ترجمتها في قسم النساء من تراجم الأنصار، وعلى قول فإن حميدة هي وعاتكة بنت مسلم المولودة عام 53هـ أيضاً شقيقتان.

 

(346)

 

4

أبو بكر بن الحسن الهاشمي

44- 61هـ = 664- 680

 

هو: أبو بكر عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي.

إن «أبو بكر» مركبة من كلمتين «أبو + بكر»، وغالباً ما يستخدم كنية، وهناك من يسمي بها كعلم، ومما لا يشك فيه أن وضعهما الأولي جاء كنية.

الأب: من الأسماء الستة التي ترفع بالواو، وتنصب بالألف، وتكسر بالياء، وتعني الوالد، الطرف الذكر في الإنجاب، فالهمزة في «أبو» مفتوحة دائما ، والباء تنبع ما يليها فإن كانت واواً ضمت، وإن كانت ألفاً فتحت، وإن كانت ياء كسرت.

وبکر: بفتح أوله وسكون ثانیه، هو ولد الناقة دون أن يحدد بوقت، وقيل الفتى منها  فمنزلته من الإبل منزلة الفتى من الناس، أي البكر بالفتح هو الفتى(1)، وفي خصوص الناقة يصح ضم الباء أيضاً، ولكن في الإنسان إلتزموا الفتح.

و بكر: بالفتح أيضاً موضع ببلاد طي وهو واد عند رمان(۲).

وتستخدم المفردة علماً، وكذلك مشتقاتها أمثال: أبكر وبكور و بکیر و بکار ومبكر وبكرة، وممن سموا ببكر في الجاهلية: بكر بن وائل بن

 

 

____________

(1) تاج العروس: 10/141.

(2) تاج العروس: 10/245.

 

(347)

 

قاسط الربيعي، وبكر بن أشجع بن ريث العطفاني، وبكر بن حبيب بن عمرو بن غنم التغلبي، وبعدما استخدمت علماً کني الأب بأبي بكر منذ أيام الجاهلية، ولكن منذ القرن الأول الهجري بدأوا يستخدمون الكنية علماً كما هو الحال في أبي القاسم و أبي طالب وغيرهما.

ومن الجدير ذكره أنهم عندما يبنونها على الواو في الحالات الثلاثة فيقولون: جاء أبو بكر، ورأيت أبو بكر، ودخلت على أبو بكر، حيث أصبحت علما، ولكن تساهل البعض في الكنية التي تستخدم علما فيجرونها مجرى الكنية فيرفعونها بالواو وينصبونها بالألف ويكسرونها بالياء، حالها حال كلمتي أبي طالب حيث اختلفوا فيه على آراء ثلاثة: البناء على لغة قريش، البناء لكونه علماً، الإعراب باعتبار أصله.

وأما عن شخصية أبي بكر بن الحسن الزكي «عليه السلام» فقد اختلف أرباب القلم في شخصيته إلى فريقين: فريق يقول بأن أبا بكر کنیته واسمه عبد الله، وهؤلاء انقسموا إلى طائفتين ذهبت أولاهما إلى أن هناك شخصيتين باسم عبد الله بن الحسن أكبر وأصغر فالأكبر كنيته أبو بكر، وثانيهما ذهبت إلى أن شخصية عبد الله واحدة وكنيته أبو بكر، وأما الفريق الثاني فيرى بأن للحسن «عليه السلام» إبنين أحدهما أبو بكر والآخر عبد الله.

ومحصل الأقوال إذا يعود إلى رأيين من ناحية الاتحاد والتعدد.

 1- إنهما متحدان: أي أن عبد الله وأبا بكر متحدان.

۲- إنهما متغايران: أي أن عبد الله وأبا بكر شخصيتان، ولكن ربما مال قسم منهم إلى أن كلاهما يسميان بعبد الله، ولكن أحدهما عرف بكنيته وهو الأكبر منهما.

والظاهر أن التعدد هو الأقرب إلى الواقع حيث يسلم الإمام علي في زيارة الناحية بقوله: «السلام على أبي بكر بن الحسن، السلام على عبد الله بن الحسن، السلام على عبد الله بن الحسين»(1) مما يدل على التعدد.

____________

(1) بحار الأنوار: 98/339.

 

(348)