معجم أنصار الحسين عليه السلام  (الهاشميون) الجزء الاول

اسم الکتاب : معجم أنصار الحسين عليه السلام (الهاشميون) الجزء الاول

المؤلف : للعلامة المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي
المطبعة : المركز الحسيني للدراسات لندن ـ المملكة المتحدة

 

 

 

أننا لا ننكر بعض الكرامات إلا أنها لا بد وأن تكون في دائرة المعقول، وما ذكر في هذا المجال مستبعد، فإن هذا لم يحدث للإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام ذلك الإمام المعصوم.

       ع- إن نهاية النصوص تشر إلى رحم ابن زياد على الغلامين، وتبين عطفه عليهما من قاتلهما، وقوله للقاتل: «لو أتيتني بهما حيين لضاعفت لك الجائزة» وبذل عشرة آلاف درهم للمقتص من القاتل، كل ذلك يوجب الريبة في أصل الرواية وهي أقرب إلى الوضع منها إلى الواقع، وإلا فكيف به وقد جعل الجائزة لمن يأتي برأسيهما كما وردفي نص الصدوق، ثم يأمر بقتل قاتلهما، مضافاً إلى أن ابن زياد يصل به الورع إلى درجة يوصي المقتص للقاتل بأن لا يختلط دم القاتل بدم الغلاميين، هذا الذي لا يتورع من قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، ولا يتورع من قتال سيد الشهداء ابي عبد الله الحسين على القناة ثم إنه يأتي هنا ليسمح بأن يرفع رأس قاتل الغلامين على القناة  ليرموه الناس ويوقولون: هذا قاتل ذرية رسول الله ص ـ بغض النظر عن أنهم ليسوا ذرية الرسول ص ـ، ويدفع لنادر ذلك العبد الذي أمره بالاقتصاص من قاتل الغلامين عشرة ألآلف درهم بالإضافة إلى سلب القاتل، مضافاً إلى عتقه في سبيل الله، إلا إذا صدق عليه قول الشاعر أحمد شوقي(1) من مجزوء الرمل:

برز الثعلب يوماً           في شعار الواعظينا(2)

       ف- جاء في رواية الطريحي أن ابن زياد حرق جسد القاتل، وفيه أيضاً

ـــــــــــــــــــــــــ

(1) أحمد شوقي: هو ابن علي بن أحمد (1255ــ 1351هـ) ولد وتوفي في القاهرة، ذاع صيته في عصره حتى عده البعض أميرالعشراء، درس في مصر وفرنسا وتمكن من الأدبيين العربي والفرنسي وتولى عدداً من المناصب الثقافية والسياسية، له: الشوقيات، أمير الأندلس، وأسواق الذهب.

(2) وللقصيدة فصة طريفة جوهرها أن الثعلب أراد أن يصطاد فريسته بعد أن ساءت سمعته فارتدى لباس الواعظين ومسك بيده مسبحة (لتصدقه الحيوانات وتدنو منه ويقبض عليهم).

  

(308)

 

أن العبد نادراً الذي أوكل إليه ابن زياد قتل القاتل للغلاميين عذب القاتل قبل قتله بقلع عينيه وجز أذنيه وقطع يديه وبتر رجليه، ووصفت الرواية بأن نادراً كان من محبي أهل البيت عليه السلام، وهذا مستبعد كل البعد ممن هو من محبي أهل البيت عليه السلام، ولا ينتقض بفعل المختار لأن لنا في ذلك كلاماً، بالإضافة إلى أنه عاملهم بالمثل.

       ص- وأخيراً فإن في الرواية بالاجمال نوع من تلميع صورة، ابن زيادة للتغطية عما ارتكبه من جرائم عظمى مما لايمكن أن تغتفر، إلا أذا حرجه السياسيون على أنه إنما فعل ذلك حباً بأهل البيت عليه السلام بل وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه حيث نقم الناس من فعلته الشنيعة في كربلاء فتظاهر بالندم وفعل ذلك سياسة لكسب الرأي العام والتنصل مما جرى ليلقي عبء ذلك على ابن سعد وأشباهه، كما فعل أسياده، وسوف نبحث هذا الأمر في مكان آخر إن شاء الله تعالى.

       8ـ إن قصة لجوئهما إلى دار المرأة  تشبه قصة لجوء أبيهما مسلم بن عقيل إلى دار طوعة، وهذا إن حدث فهي صدفة غريبة وهي بحد ذاتها توجب الريبة في صحتها.

       9ـ ذكر المظفر بأن هناك خلافاً في اسم أحد الغلامين حيث قال: اسم القتيلين واحدهما إبراهيم إتفاقاً(1)، والثاني هل هو عبد الرحمان أم محمد أم جعفر في ذلك أقوال(2) وفي الحقيقة إن الخلاف هو في شخصية محمد بن مسلم الشهيد في كربلاء مع أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وليس في هذا المقتول على شط المسيب، وسحب المظفر الخلاف إلى هذه الشخصية المقتولى على شط المسيب لايصح، فيما إذا قلنا بصحة القصة وبأن هناك شخصيين أحدهما قتل في كربلاء وآخر على شط المسيب، نعم قد يناقش في أصل التسمية فيكون أحدهما علىى سبيل المثال جعفراً والآخر محمداً، ولكن بعد ما ورد التصريح باسمه في رواية ابن شاذان والخوارزمي

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ليس هناك اتفاق كما سوف تقرأ في الرواية الرابعة أن اسم احدهما كان الطاهر والآخر المطهر.

(2) راجع سفير الحسين للمظفر: 19.

(309)

 

لا مجال للخلاف في اسم القتيل عند شط المسيب على أقل التقادير، وإذا كان هناك خلاف فليكن في الشهيد في كربلاء، وسنأتي على تفاصيل ذلك لدى ترجمة المحمدين وجعفر وعبد الرحمان، وسنذكر هناك بأنهم أربع أشخاص، وإنما الخلاف في المواقع الثلاثة في كربلاء، وأما القتيل على شط المسيب مع أخيه فلا خلاف فيه على فرض صحة القصة، وعليه فالشهيد في كربلاء هو محمد الأكبر بن مسلم، والقتيل على شط المسيب هو محمد الأصغر.

       10ـ وأما بالنسبة إلى المرقدين المنسوبين إليهما والواقعين في المسيب، فقد تحدثنا عن ذلك في تاريخ المراقد(1) بما فيه الكفاية، وحاصلة أن الأصحاب تسالموا على صحة نسبة المقام إليهما، ولكن اختلفوا في أنه مكان سجنهما أو قتلهما أو دفنهما، وذهب المشهور إلى أنه مكان قتلهما، حيث إن الرواية ذكرت بأن جسديهما رميا في الماء، ورأسيهما حًملا إلى ابن زياد، ورغم الإصرار من قبل العلماء والكتاب الذين كتبوا وتحدثوا عن هذا المرقد الماثل في المسيب فليس لديهم دليل على صحة هذه النسبة، كما لا دليل على عدم صحتها، وإنما هو استبعاد محض لبعد منقطة المسيب عن الكوفة بما يزيد على 110كيلومترات، ومهما قلنا بأن الكوفة أو ضواحيها وألقي جسداهما في الفرات فجرفهما الماء إلى هذا المكان فالتقطا من الفرات ودفنا في هذا المكان الماثل إلى يومنا هذا، لأن ماء الفرات يجري من المسيب باتجاه الكوفة، وليس العكس.

       وإذا كان هذا المكان مكان قتلهما فمن المفروض أن يكون قريباً من بيت المرآة التي استضافتهما حسب الروايات التي نقلت القصة إلينا، ويظهر منها أيضاً أنهما لم يبعدا عن الكوفة أكثر من سير نهار واحد أو ليلة واحدة، ومن المعلوم أن السجن كان على مقربة من دار الإمارة الملتصق بمسجد الكوفة، هذا على القول بأنهما هربا من السجن، وكذلك على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع ترايخ المراقد: 1/173ــ 183.

(310)

 

القول بأنهما هربا من ركب الأسارى حيث إن الأسرى أيضاً كانوا على مقربة من دار الإمارة إن لم يكونوا في أحد اروقتها، ومن المعلوم أن السير آنذاك في اليوم الكامل كان يطوى من المسأفة نحو ثمانية فراسخ أي 44 كيلومتراً وهو المعبر عنه في بعض الروايات بيباض يوم.

       ولايخفى أن الغلامين لايمكنهما قطع هذا المسافة في حالة الخوف، في وضح النهار وفي عمريهما أكثر من وصولهما إلى خارج البلد، هذا إن قلنا بأن السجان أطلق سراحهما في أول النهار، ولكن مقتضى نصيحة السجان وتسلسل رواية الصدوق أنه أطلق سراحهما قبيل المساء(1) فسارا ليلاً ليكمنا نهاراً ولما كان في آخر الليل التجآ إلى بيت المرآة ليواصلا سيرهما في الليلة الثانية، كما يظهر من الرواية أن التفتيش عنهما كان قد تم الكوفة وقد رجع قاتلهما إلى البيت متأخراً بسبب التفتيش عنهما.

       وكل هذا يبعد القول بأن المسيب هو مكان قتلهما، اللهم إذا قيل بأنهما هربا من كربلاء عندما أحرقوا خيام أهل البيت عليهم السلام فوصلا إلى المسيب، حيث إنها تبعد عن كربلاء نحو 45كيلومتراً، ويمكن لهم السير إليها في ليلة واحدة أو نهار كامل، وعليه لا بد من إلغاء فكرة السجن تماماً، بل لا بد أن تكون الصورة كالتالي أنهما قتلا هناك وحمل برأسيهما إلى أبن زياد.

       وهذا التضارب في المعلومات وعدم إمكانية تطبيقها على أرض الواقع يوجب الإرباك مما لا يمكن القطع بصحة القصة والنتائج المترتبة عليها.

       11ـ ومما يزيد في إرباك القصة القول بأنهما كانا مع أبيهما، فقد نقل المظفر بأنهما كانا مع أبيهما عندما قبض عليه الكوفة، وأودعا في السجن، ثم فرا من السجن(2).

       وهذا لم لم نجده في المقاتل التي تطرقت إلى سيرة الحسين عليه السلام

ــــــــــــــــــــــــــ

(1) أي قبل أن تغلق باب سور الكوفة.

(2) راجع سفير الحسين: 20.

(311)

 

ومقتله ومقتل مبعوثة مسلم بن عقيل(1)، وهو لا يتلاءم مع بقية قضايا الطف إذ كان من المفترض أن يلحقا بركب الأسرى من آل الرسول ص.

       12ـ وهناك نص رابع مروي عن أبي مخنف، ولعله متحد في الأساس مع ما نقله الطريحي حيث هو الآخر رواه عن أبي مخنف ايضاً، الأساس مع ما نقله الطريحي حيث هو الآخر رواه عن أبي مخنف أيضاً، ولكن يختلف عنه اختلافاً كبيراً لذلك وجدنا ضورة إيراده بكامله ونصه كالتالي:

       نقل علي بن إبراهيم البوري المتوفى في القرن 14هـ(2) في كتابه مقتل أولاد مسلم بن عقيل قائلاً: روى محمد أبراهيم(3) عن أبي يوسف(4) عن أبي مخنف (157هـ) قال: لما قتل الحسين عليه السلام، وأقبل الملاعين وحزب الشيطان إلى مخيم الحسين لينهبوا رحالة ويسبوا نسائه

ـــــــــــــــــــــــــ

(1) لكنا أخيراً عثرنا على هذا النص بالفارسية في روضة الشهداء للكاشفي: 292ـ 304، وسنأتي على ذكره.

(2) علي بن إبراهيم البوري: هو حفيد حسن البوري البحراني، إن شخصيته غير معروفة، إنما جاء على كتاب طبع في النجف باسم مقتل أولاد مسلم بن عقيل كتب عليه: «المؤلف علي بن إبراهيم بن الحس نالبوري البحراني» لم نجد هل ذكراً في المعاجم التي تخص البحرين وبلاد هجر، وليس فيه ما يدل على شخصيته، نعم جاء في الذريعة: 22/31 ذكر للكتاب، وقال عنه: «ضمن مجموعة من المقاتل بخط علي بن إبراهيم بن الحسن البوري البحراني، وفيها وفاة الزهراء تأليف الشيخ حسين العصفوري والنسخة عند الشيخ مهدي شرف الدين التستري» ولا زيادة، ويبدو أن النسخة طبعت وذكر بأنها من تأليف البوري، وربما يرشدنا ما جاء في الكتاب قصيدة للشيخ علي بن حسن الجشي (1296ـ 1376هـ) فإن كان القصيدة من وضع المؤلف في الكتاب فيظهر أنه كان معاصراً له حيث لم يصف الشاعر بالمرحوم أو ماشبه ذلك، ولكن يحتمل أن يكون الذي طبع الكتاب ألحق القصيدة بالمناسبة والله العالم، وهذا الإرباك يضعف أصل الرواية.

(3) محد بن أبراهيم: الظاهر محمد إبراهيم بن عبد الحميد، الذي روى عن علي ابن بحر، ويروي عنه إسماعيل بن محد الصفار، وربما كان تصحيفاً لعلي بن إبراهيم القمي الذي كان من رواة رواية الصدوق.

(4) أبو يوسف: ربما كان أبو يوسف الرواي عن أبي بكر الحضرمي وغيره، ولكن لم نعثر على الشخصيتين بشيء من التفصيل والتوثيق وإنهما كانا في طريق الرواة إلى أبي مخنف، ولذلك فإن الرواية مرسلة ومجهولة الرواة.

(312)

 

 

وحريمة وعياله واشتغل الناس بالنهب وسلب حرم رسول الله ص، خرج من عند النساء الطاهر والمطهر ولدا مسلم بن عقيل من الخوف هاربين على وجهيهما، وكان الأكبر منهما له ثمان سنين، وهما لا يدريان اين بتوجهان في أرض الله تعالى، فقال الصغير أين نأخذ، ليس لنا في هذا الأرض معرفة، ونحن غريبان وليس معنا زاد ولا ماء ولا نعرف أحداً من الناس.

       فقال الكبير: نسير على وجوهنا ونتوكل على الحي الذي لا يموت، وأنشد يقول ـ من الطويل-:

على اسم الإله قصدنا مسيرنا(1)         غريبين مطرودين بأمر عدانا

وكان الحسين السبط والله مثلنا          فمات الحسين كهفنا ورجانا(2)

وقد كان كالاب الشفيق يحوطنا                 فأزمع عنا راحلا وقلانا

قضى عطشاً والماء في النهر جار             وحز كريم السبط منه عياناً

فواخزننا أين الفرار من العدى                 إلى الله نشكو يتمنا وبلانا

       فبينما هما سائران إذ عرض لهما عبد لابن زياد فقال لهما من أنتماء، ومن أين جثتما وإلى أين تريدان؟

       فقالا له: نحن غلامان غريبان شريدان من ولد مسلم بن عقيل.

       فقال لهما: أيها الغلامان ما طلب الأمير غيركما.

       ثم إنه أخذ بأيديهما حتى دخل بهما على ابن زياد فلم يسلما عليه بالإمارة بل سلما عليه بتسليم العامة فغضب ابن زياد.

       فقال لهما ابن زياد: من أنتما يا غلامان؟

       فقالا: ولنا الأمان.

       قال: نعم.

       فأعطاهما الأمان فقالا: يا هذا نحن غلامان يتيمان كريمان من ولد مسلم بن عقيل.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في الأصل: «اسم الهي قصدنا ومسيرنا» ولكن لا يستقيم الوزن.

(2) في الاصل: «حسين» في الشطرين بلا ألف ولام  أن الوزن لا يستقم إلا بهما.

(313)

 

       فقال لهما ابن زياد: ما أنتما بكريمين، بل أنتما رجسان نجسان.

       فقال الأكبر منها وكان عمره ثماني سنين: كذبت يا عدو الله وعدو رسوله بل النجس الرجس الذي قتل ولد رسول الله وهو يعلم أنه ابن بنت نبيه وحبيب حبيب الله وبكى وقال ـ من الطويل-:

قتلت حسيناً ثم تحسب أنه         تخال بري فأبشر بسوءعقاب(1)

وكاثرته بالحيش ثم تركته               وحيداً فريداً بع قتل صحاب

وصيرت ماء الشط تشربه العدى وأن حسيناً لم يدق لشراب

فابشر بخزي الله والنار في غد          إذا جئت عريانا ليوم حساب

       فغضب ابن زياد ودعا بسجان له، وقال: تعلم أن نعمتي عليك سابغة، ونفسي لك صافية.

       فقال: بلى يا أمير.

       قال: خذ هذين الغلامين، وانطلق بهما الى السجن، وقيدهما بالقيود في أرجلهما والأغلال في أعناقهمان ومن طيب الطعام فلا تطعهما، ومن بارد الماء فلا تسقهما، وأجعلهما في اضيق موضع.

       فمضى السجان بهما ففعل بهما ما أمره به وكان يطعهما خبز الشعير وجريش الملح، وهما يبكيان ليلاً ونهاراً ويتضرعان إلى الله تعالى ألى أن صار لهما سنة كاملة في السجن فضافت صدروهما وانتحلت أبدانهما وتغيرت ألوانهما.

       وذهب السجان يوماً إلى ولمية دعي أليها فأبطا على الغلامينن فأقبل اليهما ليطعمهما ويسقيهما كعادته سابقاً ومعه قرصان من خبز الشعير وكوز من ماء، فلما دنا من الباب ليفتحه سمع بكاءهما وأنينهما وحنينهما من قلب مفجوع وجسم موجوع وخاطر مكسور وفؤاد محسور، وهما يقولان: وأمحمداه واأبا القاسماه واعلياه واجعفرا وامسلماه واعقبلاه واحمزتاه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) جاء في المصدر «تخلى بريء» ولا يستقم المعنى والوزن، والضمير في «إنه» لابد أن يكون للخطاب كما لا يخفى على المتأمل.

(314)

 

واحسناه واحسيناه واإماماه بماذا أصيب به الأرامل واليتامى وماذا لقينا بعدكم وعبد مغيبكم عنا.

       فاقشعر قلب السجان ورق لهما وجرت دموعه على خديه رحمة لهما، وبكى لبكائهما وهملت عيناه بالدموع، وفكر في نفسه وقال: إن لهذين الغلامين شأناً من الشأن، وإنه قد أخنت عليهما صروف الزمان حتى جعلتهم في هذا المكان، وأظن أن هذين الغلاميين من أبناء الملوك السادات، ومن نسل المرضيين والقادات، فبكى وقال ـ من الطويل-:

أطنكما من نسل قوم تسودوا             على الخلق قد أخنت عليهم صروفها(1)

وإن لكم شأنا عظيماً وقصة             وفي خاطري أنتم عياناً حروفها

أطنكما نسل الكرام الذي لهم             على قتلهم خاطري أنتم عيانا حروفها

فيا ليت شعري كيف عذري في غد             وعند إلهي يوم كان مخوفها

أيا رب إني لست أعلم عذري من هما          فإن أليك الخلق مدت كفوفها

       فقال الصغير للكبير: يا أخي يوشك أن تفنى أعمارنا، وتبلى أبداننا في هذا السجن، فلم لا نخبر السجان يخبرنا ونعرفه بحالنا ليخفف عنا بعض الذي نحن فيه من البلاء والعذاب، فإن القلوب بيد الله تعالى يقلبها كيف يشاء.

       فقال أخو إفعل يا أخي ما شئت.

       فلما جاء السجان قام إليه أحد الغلامين وتزفر وحن وجعل ينشد ويقول ـ من الوافرـ:

أيا سجان ما ترعى اليتامى              أناخ عليهم خطب جليلُ

فأمسوا في يدي رجس غشوم            أسارى ليس يكفلهم كفيل

أبونا مسلم والعم يدعى                  علي جدنا حقاً عقيل(2)

ورب العرش ما تخشاه فينا             بغل في اليدين فلا تميل

وتطعمنا الشعير وكذا وملحاً             وماء شربنا ماء قليل

ـــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في المصدر: «أظنكم من»

(2) في المصدر: «وحقاً» ولا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(315)

 

إلى كم ذا تعذبنا بـــــــجوع       وقيد جسمنا منه نحيــــــل

أترضى أن نكون لهم عبيداً       وإن الله يغضب والرسول

نحذرك العذاب بيوم حشـر وناراً قعرها قعر طويل(1)

       ثم إنهما صبرا إلى الليل فلما جن الليل أتى السجان إليهما بعشائهما قرصين من شعير وكوز من ماء، فقام إليه الصغير وتعلق به فقال يا شيخ أجبننا أن نعرفك قرابتنا من رسول الله (ص).

       فلما سمع السجان كلام الصبي فرح فرحاً شديداً، وقال: نعم اخبراني بقرابتكما من رسول (ص).

       فقالا: يا شيخ أتعرف محمداً المصطفى؟

       فقال: كيف لا أعرفه وهو نبيي وشفيعي يوم القيامة.

       فقالا: يا شيخ أتعرف علي بن أبي طالب «عليه السلام»؟

       فقال: كيف لا، أعرفه وهو إمامي وابن عم نبيي.

       فقالا: يا شيخ أتعرف مسلم بن عقيل؟ فقال: كيف لا أعرفه وهو ابن عم رسول الله (ص).

       فقالا: نحن غلامان طريدان شريدان من أولاد مسلم بن عقيل انهزمنا من عسكر الشهيد المظلوم الغريب أبي عبد الله الحسين وقد كان لنا كالأب الشفيق، وكان عند الطعام يجلسنا بين يديه ويؤثرنا على نفسه، فلما فجعنا فيه الزمان ورأيناه قد قتل هو وأصحابه وأخوته وبنوه ونهبوا رحله وسبيت نساؤه انهزمنا من بين يدي القوم على وجوهنا.

       فهملت عيناه بالدموع على الحسين «عليه السلام» وحزناً على ما حل بهما وجعل أحدهما يشند ويقول من- الطويل-:

لقد كان سبط المصطفى بعد والدي      كمثل أبينا قبل أن يترحـــــلا

فأصبح مقتولاً على الترب ثاويـــاً       قطيع كريم في التراب مجدلاً

____________

(1) لا يقال للقعر طويل بل يقال قعر عميق.

وجاء في المصدر بعد الشعر: «وفي نقل آخر أن الصغير قال للكبير بسم الله يا أخي» أي تكلم مع السجان.

(316)

 

ويؤثرنا منه على النفس رحــــمة       لأنا يتامى لم نعاين لــنـا ولا

فأفجعنا فيه الزمان وخــــاننـــــــا              فبعد حسين ما نرى متكفــلاً

وبعد حسين الطهر واطول حزننا       فإن على الأيتام قد نزل البلا

       فقالا له: قد وقعنا في يد عبد لهذا الطاغي فأدخلنا عليه، فأمرك بنا وفعلت بنا ما أمرك به هذا اللعين، فعذبتنا العذاب الأليم سنة كاملة، نسألك من طيب الطعام فلا تطعمنا، ومن بارد الماء فلا تسقينا، وقد ضيقت علينا سجننا، فانتحلت أبداننا، وأطلت إهانتنا، فما لك وما لنا، ألا ترحم صغر سننا! أما تراعينا! لأجل قرابتنا من رسول الله، فهل عندك من معروف تفعله معنا وأنت بريء مما خولتنا به، فوالله لقد انتحلت أبداننا وأجسامنا، وقد ضاقت أنفاسنا من السجن وطول المكث فيه، ليكون الله لك ولياً ومحمد (ص) مكافياً، وأمير المؤمنين «عليه السلام» مرافقاً ومراعياً.

       فلما سمع السجان كلامهما بكى بكاءاً شديداً وانكب على أقدامهما يقبلهما ويقبل رأسيهما، وهو يقول: نفسي لنفسكما الفدا، وروحي لروحكما الوقا، يا عترة محمد المصفطى، ثم قال: واسوأتاه غداً من رسول الله (ص) إذا نصب الميزان لفصل القضاء من ذنبي وجرمي، وما أتيت به على نفسي، وما حملته على ظهري، وما أراد ابن زياد إلا أن يكون محمد خصمي يوم القيامة، يوم تبلى السرائر، وتحصى الجرائر، وتبدو الضمائر، ولا يقبل فيه  لعاذر، اللهم إنك تعلم أني لا أعرفهما، ولا أدري من هما، حتى أعلماني بأنفسهما، أيها الغلامان اجعلاني في حل من قبل أن أرى عملي، وأوخذ بجرمي.

       فقالا: يا سجان ليس عليك ذنب، وإنما هو على الطاغي الباغي عبيد الله بن زياد عدو الله، وعدو رسوله، جعلك الله في حلٍ من قبلنا، ولا نؤاخذك بما فعلت بنا.

       فبكى السجان رحمة لهما، وفك الأغلال من أعناقهما، والقيد من أيديهما، وصار يتندم على فعله، ويقول- من الطويل-:

ندمت فهل يجدي التأسف في غدٍ        فما العذر عند الله في يوم ألقاه

فياليتني قد كنت أعلم من همــــا         فلا واحد يوماً تـــــغل يــــداه

(317)

 

فــــواحر قلبي لليتيمين هكذا            جرى لهما فالكل طال بلاه

فيكفيكما في الدهر قتل إبيكما            كذا اليتم كسراً لليتيم كفــاه

فيا رب عفواً منك إني نـــادم            فإن لم تعف عنه طال عناه

فإني أبكيت اليتيم وهنتـــــــه            وأنت رحيم لليتيم بكـــــاه

ألا لعن الله ابن سعد وابنــــه             كذا ابن زيادٍ ذا عديم هداه

       فأغلق السجان عليهما الباب حتى جن الليل فأتى إليهما وفتح الباب، واطلق سبيلهما، واطلق أهل السجن لأجلهما، وقال لولدي: مسلم: إمضيا وخذا أي طريق شئتما سيرا بالليل، واكتنا بالنهار، وجدوا في أرض الله، وأنا أنجو بنفسي، وهذه آخر ليلة يراني فيها ابن زياد.

       ونقل أنه لم ينهزم ولكن قصد منزله واستسلم لأمر الله وقضاه.

       فخرج الغلامان يسيران وليس لهما طاقة على المسير حتى مضى الثلث الأول من الليل، وما يدريان أين هما من أرض الله وإذا هم بقرية على شاطىء الفرات فقال الصغير للكبير: يا أخي لو دخلت بنا هذه القرية لعلنا نصادف فيها أحداً من أهل الخير يأوينا ليلتنا هذه، فلقد أضر بنا السهر، وكلت أقدامنا من المشي.

       فقال له: نعم يا أخي.

       فدخلا القرية واختفيا خوفاً من ابن زياد فما وجدا أحداً يأويهما تلك الليلة فخرجا من القرية على وجهيهما خائفين مرعوبين فضجا إلى الله بالبكاء وفزعا إليه وجعل أحدهما يتزفر ويتحسر على ما أصابهما والآخر جعل ينشد ويقول- من الطويل-:

إلهي إليك الــــــمشتكى والمعــول       بهذا جرى الحال منتهاه وأول(1)

غريبين لم ننظر رحـــــــيماً ليتمنا             فما ذنبنا من غير جرم نقتــــــل

إلهي فأدركنا بـــــــروح معجــــل              وإلا توفانا هنا يا مؤمـــــــــــل

فإن قضاء الأرض ضاقت برحبها             علينا فأمسينا بها نترحـــــــــل

____________
(1) ولا يستقيم الوزن إلا إذا قيل مثلاً: «ختاماً وأول».

(318)

 

خرجنا لننجي النفس من هلكاتها        فصرنا حيارى أين نمضي ونرحل

       فبينما هما سائران وإذا هما بعجوز على شاطىء الفرات وبيدها سبحة وهي تقول: سبحان الله عدد قطر المطر وورق الشجر وكيل البحار، سبحانك يا عزيز يا جبار لا تحرمني النظر من وجه نبيك المختار وأهل بيته الأطهار، فلما سمعا كلامها إطمأن خاطرهما، وسكن روعهما، فقال الكبير: إن النساء أقرب رقة من الرجال، فلو أتينا هذه العجوز، فإن سألتنا عن حالنا أخبرناها بقصتنا، وإن لم تسألنا شكونا إليها ما لقينا من الحدثان، وطوارق الزمان، وقلة الزاد، والمحنة بين العباد، وبعد الأهل والوطن، وشدة البلاء والمحن، ثم دنيا منها وهي تسبح الله وتهلله فسلما عليها، فردت عليهما السلام، وأنكرت حالهما.

       وقالت: أيها الغلامان من أين جئتما، وأظنكما غريبين وليس معكما زاد، وقد اكفهر الليل، وإني لم أرَ وجها أحسن من وجهيكما، وليس معكما صديق ولا رفيق، وأنتما طفلان صغيران، فكيف وقعتما في هذا المكان، وقد أنكرت شأنكما غير أن أبدانكما أبدان الملوك(1) ولباسكما لباس الفقراء.

       فقالا لها: يا هذه إن أنكرت أمرنا وما حل بنا فهل تعرفينا.

       فقالت: لا والله لا أعرفكما.

       فقالا: يا أمة الله نحن غلامان طريدان شريدان غريبان من أولاد مسلم ابن عقيل هربنا من عسكر الشهيد المظلوم أبي عبد الله الحسين وقد كان لنا كالأب الشفيق وأشفق من الوالدة على ولدها وكان يطعمنا أطيب الأطعمة، ويلبسنا أجود الثياب، وعلمنا القرآن وغيره، فلما قتل هربنا على وجوهنا، ولم ندر أين نذهب.

       فقالت العجوز: مرحباً بكما يا حبيبي، وقامت إليهما واحتضنتهما وقبلتهما وسكنت روعهما، وبكت رحمة لهما، وجعلت تنشد وتقول- من الطويل-:

______________
(1) أمر غريب، هل أبدان الملوك تختلف عن أبدان الفقراء، ولعلها أرادت هيأتكما هيئة العظماء.

(319)

 

إلي أحباي أقبلا بكرامـــــــــــــة إلى فقد والله زادت سعادتـــــــــــــي

ألا فادخلا بالأمن والرحــــــــــب ببيتي إكراماً لرب الــــــــــــشفاعـة

محمد المبعوث من آل هاشـــــــم وحيدر الساقي بيوم القـــــــــــيامــة

ألا لعن الله الذي أيتموكــــــــــما  صغيرين في الدنيا بغـير جــــــنايـة

ألا لعن الله الذي أتعبوكمــــــــــا  يتامى حيارى في الفيــاقي بوحـــشة

أيا مسلم فانظر ابنيك في عــــــنا شقــــــــــــاء وضر متعبين بغربـة

لقد كنت أحيى من فتاة حييـــــــة وأشجع من ليث الشرى في المغارة

حبيبك مقتول ونسلك ضائـــــــع  فلا كافل بيـــــــن الملا وامصيبتي

فواحر قلبي لليتيمين في الفــــلا         بلا ماء ولا زاد بــــــليل وظلمة(1)

وليس لهم من راحم فيصـــونهم         سوى الله في بر يكــــــونوا وبلـدة

ألا ليت روحي سيدي لكما الفدا          لما نال كلا منكما من أذيـــــــــــة

       ثم قالت لهما: ادخلا داري على رحب وسعة، فلما دخلا دارها قدمت لهما ما تيسر من الطعام فأكلا منه حسب كفايتهما، ثم بعد ذلك أدخلتهما في مكان لم يدخل فيه أحد من أهل بيتها، وخدمتهما خدمة تليق بهما، وباتوا تلك الليلة، فلما أصبح الصباح شاع الخبر بأن مشكور السجان خلص أولاد مسلم بن عقيل من السجن، فلما سمع ابن زياد لعنه الله بذلك بعث إليه فأحضره إلى مجلسه، وقال له ما بالك خلصت الولدين إبني مسلم بن عقيل اللذين أمرتك بسجنهما.

       فقال: للتقرب إلى الله تعالى ورسوله وأهل بيت نبيه.

       فقال له: ويلك ألم تخف من عذابي.

       فقال: عذابك يفنى وعذاب الله يبقى، فغضب ابن زياد وأمر بجلده خمسمائة، فلما جعلوه على النطع، قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فلما ضرب أول سوط، قال: اللهم ارزقني الشهادة على يد أشر خلق الله، فلما ضرب الثاني، قال: اللهم احشرني في زمرة محمد وآل محمد، ولما ضرب الثالث، قال: اللهم ادخلني الجنة بغير حساب. ثم سكت ولم يتكلم حتى

___________

(1) ماء: يختل الوزن بالهمزة، وبرفعها يختل المعنى.

(320)

 

ضرب خمسمائة سوط، فغشي عليه، وجعل يعالج سکرات الموت، ثم فتح عينيه، وقال: اسقوني شربة من ماء.

       فقال ابن زیاد لا تسقوه إلا بضرب السياط.

       قال الراوي: فلم يبق في يدته حركة فحملوه وأدخلوه في بعض حجر القصر فلما وضع فتح عينيه وقال: إني قد سقيت من الكوثر، ثم فارقت روحه الدنيا.

       ثم إن ابن زياد أمر منادياً ينادي في شوارع الكوفة ألا ومن أتی بولدي مسلم بن عقيل فله أربعة آلاف دينار، وقضاء ثلاث حوائج، وكان الغلامان جلوسهما في بيت من بيوت الظلمة لآل رسول الله (ص) فأقاما عند العجوز باقي ليلتهما حتى أصبح الصباح وبقيا يومهما ذلك فصنعت لهما العجوز طعام وأتت به إليهما وسلمت لهما کوزاً فيه ماء بارد فأكلا وصليا.

       فقال الكبير للصغير: قم بنا حتى تنام فإني أظن أن هذه الليلة هي آخر ليلة من ليالي الدنيا، وإن هلاكنا قد قرب.

       فقال: وما أدراك يا أخي.

       فقال: بينما أنا البارحة بين النوم واليقظة وإذا بأبي قد أتي إلينا، وضمنا إلى صدره، وإذا برسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم وهم يقولون لأبي مالك قد أتيت وتركت أولادك بين الكلاب والخنازير.

       فقال أبي: يا رسول الله ها هما بأثري قادمين، فتزفرا وبكیا بكاءاً شديداً، وجعل كل واحد منهما يودع صاحبه وداع الفراق، وجعل الأكبر يتوفر ويبكي ويقول- من الطويل- :

أخي إن أسباب الفراق لقد دنـت               وأعمارنا حقاً تقضت ومــــــــــرت

فنفسي تناجيني بأني مـــــــــيـت       فواحزني مما جرى بل وحـــسرتـي

تعال بنا كل يودع صــــــــاحـباً        لصاحبه قبل الممات وفــــــــــــرقة

أخي يا أخي إن الرحيل إلى أب              لخير لنا ما بين آل أميــــــــــــــــــة

وإن حياة مثل هذي دنــــــــــيـة               فلا حلت الدنيا علينا ومــــــــــــرت

أبعد حسين السبط يهنا شرابـــنا               وقد ذاق كأس الموت من بعد غصة

 

(321)

فلو أن مولانا الحسين بقي لنا          لمانالنا من محـــــــــــــــنة وأذية

ولكن مولانا أبيد بغيلــــــــــة                  على عطش والماء بجري بسرعة

وحزوا وریدیه وداروا برأسه                 وسبقت ذراريه بضرب وذلـــــــة

أيا ليتنا متنا وکنا بقـــــــــربه                 ولم نك في هذا المكان بغربـــــــة

فهذا الذي قد جاءنا بعد قتـــله                  فلا خير في الدنيا عقيب الأحبـــة

       فلما سمعت العجوز كلامهما تزفرت وانتحبت باكية وانكبت على أقدامهما تقبلهما وعيناها تهملان دموعاً ولم تستطع ترد كلامهما رجوعاً، وقالت: نفسي لنفسكما الفدا وروحي لروحکما الوقا، وخرجت من عندهما، ومضت إلى دارها لتنام فلم تغمض عينها، فجلست في صحن دارها وقد أخذها القلق خوفاً على الغلامين، فتزفرت وتحسرت وقد اشتعل قلبها بالأحزان ناراً وجعلت تقول- من الطويل-:

أيا رب فاحفظ الغلامين رحمـــــــة           لنور عيوني الذي منه أبصـــــــر

أيارب قلبي قد تعلق فيهمــــــــــــا            وحبهما بين الجوانح مضمــــــــر

فلا صبر لي يارب عند فراقهـــــم           فإن فؤادي فيهما متطــــــــــــــير

أيا خالقي تنجيهما من معانـــــــــــدٍ           وكل عدو قاهر متجبــــــــــــــــر

صغيرين واحزني غريبين ها همـا          يتيمين مكسورين والله يجبــــــــر

أيا رب فاجعلني ومالي فداهــــــمـا           إذا لهما خطب دهی أو مقـــــــدر

فإنك تمحي ما تشاء لماتشــــــــــا             وتثبت ما ترضاه إذ أنت أبصــــر

فإن يهلكا أو يقتلا بمنظــــــــري(1)           تقطع نفسي حسرة حين أنـــــــظر

وإن يسلما حزت الرضا من محمد            ونلت المني من خالقي حين أحشر

       وكان ولدها من أعوان اللعين ابن زیاد و من جملة الطالبين لولدي مسلم بن عقيل فبينما هي في تحسر وتزفر وبكاء ونحيب إذ أقبل ولدها كثير بن الأسود شاكاً في سلاحه، ومعه غلامه، فقرع الباب، فلما سمعت أمه قرع الباب اضطربت جوارحها وجزعت جزعاً شديداً، وقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فقرع الباب.

___________
(1) في وزنه خلل، ويصح إذ ما قيل على سبيل المثال «نصب منظري».

 

(322)

 

فقالت: ما شاء كان، فقرع الباب ثالثة، فقالت: استغثت بالله، ثم قامت العجوز وهي ترتعد خوفاً على الغلامين، ولم تدر ما يكون من أمرهما.

       ثم قالت: من بالباب.

       فقال: كثير.

       فقالت له: ما حاجتك هذه الليلة وقد اعتكر الظلام. فقال لها: افتحي الباب لا أملك، قد أتعبت نفسي وغلامي وفرسي في طلب الغلامين اللذين أطلقهما السجان، وقد قتله الأمير عبيد الله بن زیاد لأجلهما، ولا تعبت منذ خلقني الله مثل تعبي هذه الليلة، ولا أدركت لهما خبراً، ولا وقفت لهما على أثر وقد بذل أبن زیاد لمن يأتيه بهما أربعة آلاف دينار وقضاء ثلاث حوائج، وأنا أرجو أن تكون فيهن ولاية.

       فقالت له: ويحك، إن هذا الطريق لم يسلكه غيرهما فامض من ساعتك. فقال: أريد أن أريح نفسي وفرسي وغلامي فإذا كان آخر الليل خرجت في طلبهما وأنا على فرسي وهما يمشيان على أقدامهما فما قدرت إلا أن تفتح له الباب، ففتحته فدخل عدو الله، وعدو رسوله، وحل سلاحه، وحط عن فرسه سرجها، ودخل داره واستلقى على قفاه.

       وقال لزوجته: هاتي ما عندك، فأتته بطعام وشراب، فأكل حتى شبع.

       فقالت له: نم في صحن الدار واسترح حتى تعرف الوقت الذي تخرج فيه.

       ثم أتت إليه أمه، وقالت له: يا بني من هذان الغلامان اللذان بذل ابن زیاد هذه الأموال في طلبهما؟

       فقال: الطاهر والمطهر ولدا مسلم بن عقیل.

       فقالت: يا بني أتعبت نفسك في طلبهما. فقال: نعم أنا وغيري.

       فقالت: ما تصنع بهما إذا ظفرت بهما، وهما من عترة رسول الله (ص).

 (323)

 

فقال: اضرب أعناقهما وأمضي برأسيهما إلى عبيد الله بن زیاد، فإذا رضي عني، فلا أبالي، وآخذ الجائزة.

       فقالت: يا بني تبيع حظك من محمد (ص) في الآخرة برضا ابن زیاد.

       فقال: إذا رضي عني فلا أبالي.

       فقالت: بئس ما صنعت ولا رضي الله عنك.

       فقال: مستهزئاً يا أماه و ما تشیرین به علي.

       فقالت له أمه: أشير عليك أن تتقي الله ربك، وتذكر معادك إلى ربك، وخفف الصحيفة بين يديك، قد علمت أن الخلائق يحشرون ويقفون بين يدي الله عز وجل، فينتصف الله من الظالم للمظلوم، وتنشر الدواوين، فأيما أحب إليك أن تكون من أمة محمد وتدخل في شفاعته، أو رضا اللعين عبيد الله بن زياد، وخير نفسك بين العذاب الشديد وبين العيش الرغيد في جوار محمد (ص)، با بني إحذر عقوبة الله تعالى، فإن الظالم لا يسود، ثم قالت- من الوافر-:

أما تخشى إلهك في الـــمآب            إذا ما جئت قصداً للحساب

وإن محمداً ليكون خصمــــاً            لقاتل نسله يوم العــــــقاب

وتجمع الخصوم إلى الجحيم            فيأخذظالماً من أي باب(۱)

وتصلى في القيامة حر نــار            وتلقي في مهانات الــعذاب

فخر نفسك الشوما بنـــــــارٍ            وجنات فكنفطن الجـواب

       وتفكر الجلف في نفسه، وقال: والله لولا وقع عندك خبر منهما وعندك علم بهما ما تكلمت بهذا الكلام، فهل رأيتيهما.

       قالت: لا بل سمعت اليوم رجلاً يقول على شاطىء الفرات غلامان صغيران لم تجر عليهما أحكام الرجال، فلعلهما الذي تطلبهما.

       فسكت ونام وبقيت العجوز قلقة لا تفتر من البكاء والنحيب.

       فبينما هو في النوم واليقظة إذ سمع همهمة الولدين من داخل البيت،

____________

(1) جاء في الأصل: «جحيم»، ولو قال: «فتؤخذ الخصوم» كان أنسب.

 

(324)

 

وقد صرخ أحدهما صرخة عالية وتزفر زفرة شديدة، وقال: ماذا لقينا من الجهد والتعب والأذى والنصب.

       فوقع الصوت في أذن الملعون فانتبه، وقال لزوجته: ما هذه الهمهمة؟

       فلم ترد عليه جواباً، كأنها لم تسمع.

       فقال لها: ويلك قومي وأئتيني بالسراج.

       فقالت له: ما تصنع بالسراج في هذا الوقت؟

       فقال: قد سمعت أمراً قد رابني.

       فقالت له: انطفأ السراج.

       فقال: أتيني بالنار، وإلا ضربت عنقك.

       فقالت: هذه الساعة لا أقدر على النار فزعق بأهل بيته فتناوموا كأنهم لم يسمعوا، فعند ذلك قام اللعين وعمد إلى مقدحة عنده فضربها، وأخرج منها ناراً وأشعل السراج، وجعل يطوف بالمنزل بيتاً بعد بیت، حتى أتي إلى البيت الذي فيه الغلامان، فدخل فتبعته العجوز، وقالت: عندي امرأة غريبة ومانعته من الدخول فضربها ودفعها على صدرها، ودخل عليهما فوجدهما نائمين متوسداً كل منهما عضد الآخر والنور يسطع من وجهيهما، فرآهما كالقمرين الزاهرين فرفسهما برجله، فانتبها فزعين مرعوبين، وهما يقولان: من هذا الذي أيقظنا من نومنا، وأفزعنا من مضجعنا؟ لا أمنه الله يوم الفزع الأكبر، وأذاقه الله في الدنيا حر الحديد عاجلاً غير بعيد، وعذبه الله العذاب الشديد.

       فقال لهما الملعون: ما أكثر كلامكما تدعوان علي وأنتما في منزلي.

       فقالا: يا ملعون نحن في منزلك وأنت تعلم أن الضيف له حق على رب البيت، فاجعل قرانا منك السلامة.

       فقال اللعين: من أنتما؟ ومن أبوكما؟

       فقالا: نحن ولدا مسلم بن عقيل قد طفنا هذه القرية فلم نجد أحداً يأوينا غير هذه العجوز، فجزاها الله عنا خير الجزاء.

 

(325)

 

فضحك فرحاً مستبشراً بظفره بهما، وقال: والله لقد حصلت الجائزة من ابن زیاد، ثم إنه جعل ينشد ويقول- من الطويل-:

لقد نلت ما أرجو وما أنا آمــــــــــل    من ابن زیاد فالعطايا تحضــــل

سأمضي إليه بعد حين مـــــــــبادراً    برأسیکما والخير ما كنت أفعــل

ولست أبالي ما بين الله فاعــــــــــل    إذا حزت في الدنيا لما كنت آمل

ولو كنت أعطي ضعف مالي أربعاً    فرأسيكما بالسيف لا بد أعــــزل

       فقال الملعون: إني أتعبت نفسي وفرسي في طلبكما وأنتما في داري، ثم إنه لطم الأكبر منهما لطمة أكبه على الأرض حتى تهشم وجهه وتكسرت أسنانه من شدة الضرية، وسال الدم من وجهه، وأسنانه.

       ثم إن اللعين كتفه كتافاً وثيقاً وجاء إلى الآخر ولطمه حتى خر على وجهه، وهو ينادي: واأبتاه، ثم كتفه كتافاً وثيقاً، فضجا بالبكاء والنحيب ، وقالا: واأبتاه وامسلماه واحسناه، واحسيناه، ويلك أما ترحم اليتيمين المنقطعين الغريبين الضائعين، بالأمس فقدنا أبانا، ومن بعده فقدنا الحسين، فاترکنا لوجه الله تعالى، أما ترحمنا لصغر سننا ويتمنا وقرابتنا من رسول الله.

       ثم قالا له: يا هذا مالك تفعل بنا هذا الفعل؟ وأمك قد أضافتنا وأكرمتنا وأنت تضربنا وتوثق أيدينا بالقيد، أما تخاف الله فينا، أما تراعي يتمنا وصغرنا وقرابتنا من رسول الله.

       فلم يعبأ الملعون بكلامهما، ولا رحمهما، ولا رق لهما، ثم إنه دفعهما إلى خارج البيت وبقيا مكتفين إلى الفجر، وهما يتوادعان ويبكيان لما جرى عليهما من البلاء.

       فقال اللعين: والله لأذبحكما وأمضي برأسیکما إلى ابن زیاد.

       فقالا له: وكم جائزتك منه؟

       قال: أربعة آلاف دينار، وقضاء ثلاث حوائج، وأظن أن فيها ولاية.

       فقالا له: يا ملعون فلماذا تأخذ الجائزة، وتقتلنا فخذها ونحن أحياء.

 

(326)