كربلاء في القرن الثالث عشر الهجري

(1785 ـ 1882 ميلادي )
كان هذا القرن من مبتدئه الى منتهاه من أسوء القرون التي مرت بها المدينة المقدسة . كأنما القدر أبى أن تعيش ولو الى حين في طمأنينة وهدوء . فأنزل ضربته القاضية بما حل بها من محن واراقة دماء وخراب ونهب . وان كان ما حل بهذه المدينة المقدسة ـ في هذا القرن ـ لم يقتصر عليها وحدها ولم يختص بها بل عم جميع البلاد ، وشمل البلاء سائر العباد .
ولسيادة الفوضى وكثرة القتل والنهب في البلاد ، اضطرب حبل الأمن وانقطعت طرق المواصلات بين البلاد . فألجأ هذا الحال الأمراء والولاة وبعض أهل الفضل الى أن يبذلو الاموال لتشييد المعاقل والخانات ، وتوظيف الخفراء فيها وذلك لتأمين المسافرين من الأخطار . وليأخذوا بها قسطا من الراحة أيضا وتلك المعاقل موجودة حتى اليوم ، بعضها عامر والبعض الآخر على شرف الاضمحلال لترك الناس لها عندما استتب الأمن نوعاً ما وكانت القوافل لا تسير أكثر من ساعتين أو ثلاث . ولذلك راعوا في بناء هذه المعاقل أن تكون المسافة قليلة بين معقل وآخر ، فاذا خرجت القوافل من كربلاء قاصدة بغداد أمت المعقل الاول الذي يسمي اليوم بـ ( خان العطيشي ) ، ثم الى معقل المسيب ثم معقل الاسكندرية ثم معقل المحمودية . وقد يمرون بثلاثة معاقل حتى يصلوا بغداد . ولم تكن المسافة بين معقل وآخر لتتجاوز الثلاث ساعات .
وبلغ الحال بها من السوء درجة أن أصبحت القوافل مهددة في أقل من هذه المسافة . وأصبح الصعاليك يضربون الأتاوة على ما يتمكنون من استيفائه . اذ لم تكن هناك قوة حازمة لتردعهم . فهؤلاء الزكاريت وليسوا هم الا من صعاليك البدو كانوا يجبون بما في بساتين كربلاء من التمر . وقد وصل الأمر من السوء درجة انه اذا اعترض أحد الأهالي عليهم أو تكلم عنهم بسوء فسوف يصبح وهو لا يملك من نفسه ولا أرضه شيئاً . وربما أجبروا الأهلين الى تفويضهم حق امتلاك بساتينهم . فكم ترك الاهالي لهؤلاء الصعاليك من الأراضي والبساتين اذ لليوم تطلق أسمائهم على القطع التي اغتصبوها .
فلا نستغرب اذن من أنهم قد ألقوا الذعر والفزع في نفوس أهل المدن الكبرى اذ أن لعصبياتهم وتحزبهم صار شرهم لا يطاق لنهب كل عشيرة ما يجاورها من النواحي والأقضية والمدن .
ولربما اتفق هؤلاء جميعا وشاركهم من هم على شاكلتهم في حصارهم للمدن . وقد صادف في بعض السنين أن ورد من الايرانيين الى كربلا بقصد الزيارة ما ينوف عددهم على الاربعين ألف زائر ، وفيهم زوجة شاه ايران . فتحركت عليهم أطماع العرب . فاتفقت : خزاعة وزبيد وشمر وآل ضفير الى نهبهم . فقصدوا كربلاء وحاصرواها مدة من الزمن ولوجود زوجة الشاه بينهم . خاف سعيد باشا والي بغداد حينذاك من عواقب الأمور . فاهتم لذلك وبعث داود الذي صار واليا على بغداد بعد حين لما عرف فيه من الكفاية والبسالة والاقدام . اذ كان ذلك باديا على محياه من نعومة اظفاره فقام داود بالمهمة التي عهدت اليه . اذ جرد ما تمكن من تجريده من المتطوعة ونزل الحلة الى أن تمكن بعد جهد جهيد من ردع هؤلاء الأعراب وتفريق جمعهم . فسير مع الفرس من يخفرهم الى النجف ثم أعادوهم الى بغداد وأوصلوهم الى مأمنهم .
وفي سنة 1216 هـ هجم الامير سعود الوهابي على كربلاء ( التفاصيل . . . )
وقد صارت كربلاء بعد هذه الواقعة في حال يرثى لها ، وقد عاد اليها بعد هذه الحادثة من نجا بنفسه فأصلح بعض خرابها وأعاد اليها العمران رويدا رويدا
وفي أوائل القرن التاسع عشر الميلادي ( 1215 هـ ) زار كربلاء يمين الدولة علي خان الحاكم السادس من ملوك مملكة أودة في الهند الذي حكم ما بين 1213 1229هـ (1798ـ 1814م) ( بعد حادثة الوهابيين ) فأشفق على حالتها ، وبنى فيها أسواقاً حسنة وبيوتاً قوراء ، أسكنها بعض من نكبوا وبنى للمدينة سوراً حصيناً وأقام حوله الأبراج والمعاقل ، فأمنت على نفسها وعاد إليها بعض الرقي والتقدم.
وفي سنة 1217 هـ تصدى السيد علي الطباطبائي ( صاحب الرياض ) لبناء سور المدينة الثالث بعد غارة الوهابيين وجعل له ستة ابواب عرف كل باب باسم خاص.
وفي سنة 1217هـ (1802م) زار مدينة كربلاء الرحالة الهندي أبو طالب خان والتقى بعمته التي كانت تسكن بجوار مرقد الإمام الحسين ، فوصفت له أحداث غزو الوهابيين بتفاصيلها. فذكر في رحلته ما حل بالروضتين عند الغزو. كما ورد لدى وصفه للصحن الحسيني الشريف قوله: (وفي وسط الصحن مقام إبراهيم المجاب) مما يدل على أن مرقد إبراهيم لم يكن ضمن الرواق الحسيني حتى ذلك الحين .
في حدود عام 1241هـ (1826م) بدأت الدولة العثمانية تنهار وحدثت اضطرابات عدة وثورات عارمة ضد الحكومة فأرسل داود باشا جيشاً كبيراً فدخل الحلة ثم توجه إلى كربلاء وحاصرها أربع سنوات ، وسميت هذه الواقعة بواقعة المناخور ( التفاصيل . . . ).
الروضة الحسينية بريشة البريطاني روبرت كلايف سنة 1850 م
الروضة الحسينية بريشة البريطاني روبرت كلايف سنة 1850 م وتظهر مئذنة العبد الى يمين الصورة

بعد تولي السلطان عبد المجيد ( حوالي 1258 هـ ) الحكم عين الوالي نجيب باشا الحكم في بغداد للقبض على زمام أمور العراق ، فقصد أولا الى تأديب بني حسن والفتلة وطفيل داخل قضاء الهندية ، فاقتصر في حربهم على حبس جريان ماء الفرات عنهم ومنعه من السيلان في شط الهندي اصف الدولة الا انه لم يقف على طائل بالرغم من تكبده لخسائر فادحة وعالج ذلك بنفسه الا أن الطبيعة كانت أقوى منه اذ انفلق السد ولم يمتثل الماء لأمره .
ثم ساق جيوشا يرأسها سعد الله أحد قواده وأمرهم بمحاصرة كربلاء واباحتها ، في واقعة سميت حادثة نجيب باشا ( التفاصيل . . . ) فهابه العراقيون عندما توالت على الأطراف هجماته . فتسنى له من اجراء بعض الاصلاح من التشكيلات في ألويتها وأقضيتها ونواحيها من نصب أمراء وترك الجمد في البلاد .
وفي سنة 1270هـ (1853م) زار كربلاء عالم الآثار الإنكليزي لوفتس . وقد أبدى إعجابه بمدخل كربلاء قائلاً: (إنه أكثر جمالاً من مدخل النجف لوجود غابة كثيفة من أشجار النخيل والبساتين حول المدينة.) . ويقول: (إن الأبنية الكثيرة المشيدة خارج أسوار المدينة توحي بالأمان من خطر القبائل البدوية) .ويشير إلى وجود كور في ضواحي كربلاء لصنع الطابوق (الآجر) ويقول (إنه يشابه طابوق بابل في شكله وحجمه) .
ويتحدث لوفتس عن الروضة الحسينية قائلا ً: « إنها كثيرة الشبه في تصميمها بمشهد الإمام علي (ع) وإن قبة الحسين وحدها هي المكسوة بالذهب في كربلاء وإن إحدى المآذن الثلاث تبدو متداعية وتوشك على السقوط (على ما يبدو كان يتكلم عن مئذنة العبد) »ويذكر أيضاً بأن قبة مرقد العباس (ع) كانت مكسوة بالبلاط المزجج (القاشاني) الأزرق المعتم ، ويقول أن أسواق كربلاء كانت ممتلئة بالبضائع والسلع. ويذكر لوفتس ما حدث به واقعة نجيب باشا لكربلاء بأن الكثير من الدور المقابلة للسراي قد تهدمت ولم يتم ترميمها أو بناؤها من جديد.
وفي سنة 1277 هـ (1860 م) تم ايصال خطوط التلغراف واتصال كربلاء بالعالم الخارجي
وفي سنة 1285 هـ (1868 م) زار مدينة كربلاء والي بغداد العثماني مدحت باشا واقام خمسة ايام فيها ، بنيت الدوائر الحكومية ، وتم توسيع واضافة العديد من الاسواق والمباني ، وهدم قسماً من سور المدينة من جهة باب النجف ، وبعد ان شعر بان المدينة لا تتسع لاهلها والوافدين اليها ، قرر توسيع المدينة من الناحية الجنوبية الغربية فسميت المنطقة بمحلة العباسية .
وزار المستر جون أشر ، عضو الجمعية الجغرافية الملكية في لندن كربلاء سنة 1281هـ (1864م) ، وأبدى إعجابه بمدخل كربلاء الذي تقع على جانبيه البساتين الجميلة بمحاذاة نهر الحسينية.
ويستطرد جون أشر وصفه لكربلاء قائلاً « إنها كانت تتميز بحركتها ونشاطها الملموس وأن اسواقها كانت مزدحمه بالزوار » . وأنه لم يجد فيها ما وجده في سواها من علامات الركود والأنحطاط خلال رحلته. ويشير إلى وجود عدد من مسلمي الهند في كربلاء ومشاهدته لزوار قادمين من إيران وأفغانستان. وصف أيضاً قبة مرقد الحسين والمآذن المذهبة ، والجدران والأفاريز المزينة بالقاشاني الجميل. ويقول عن مرقد العباس بأنه كثير الشبه بمرقد الحسين.
وفي سنة 1288 هـ ( 1871 م ) زار ناصر الدين شاه القاجاري حفيد فتح علي شاه العتبات المقدسة في كربلاء بدعوة رسمية من الحكومة العثمانية فأنعم على المجاورين للروضة الحسينية بالهدايا وأهتم بالمرقد الشريف. كما تبرعت زوجته السيدة أنيس الدولة بضريح فضي لقبر الشهداء في الروضة الحسينية والذي لا يزال موجوداً إلى الآن.
ووقعت في سنة 1293 هـ فتنة علي هدلة ( التفاصيل . . . )
وفي سنة 1295هـ (1878م) قام محمد علي شاه ملك أود سلطان الهند بزيارة مدينة كربلاء وزيارة مرقدي الإمام الحسين وأخيه العباس (ع) .
وزارت الرحالة المعروفة مدام ديولافوا الفرنسية مع زوجها كربلاء سنة 1299هـ (1881م) ، وأشادت بالمدينة ومعاهدها العلمية الدينية وقالة : « إنها مدينة تعد من مراكز الشيعة المهمة ، وهي عبارة عن جامعة دينية كبيرة تضم عدداً من المدارس الدينية الكبيرة التي يقصدها طلبة العلم من كافة أنحاء العالم الإسلامي فيقضون معظم سني حياتهم فيها » .

تابع ايضا : تاريخ الروضة الحسينية وكذلك تاريخ الروضة العباسية في هذا القرن