كربلاء في القرن الاول الهجري

(622 ـ 719 ميلادي )
إن أسم كربلاء كان معروفاً للعرب قبل الفتح الإسلامي للعراق وقبل أن يسكنها العرب المسلمون وذكرها بعض المسلمين الذين رافقوا خالد بن الوليد عند فتح الجانب الغربي من العراق .
وورد في معجم البلدان لياقوت الحموي أيضاً: إن كربلاء سميت بالطف لأنها مشرفة على العراق وذلك من أشرف على الشيء أي أطل ، والطف: طف الفرات أي الشاطئ. وجاء أيضاً أن الطف: أرض من ضاحية الكوفة في طريق البرية فيها كان مقتل [ الإمام ] الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) وهي ارض بادية قريبة من الريف فيها عدة عيون ماء جارية ، منها (الصيد) ، و(القطقطانية) ، و(الرهيمة) ، و(عين الجمل) وذواتها ، وهي عيون كانت للموكلين بالمسالح (الحصون والقصور) التي كانت وراء خندق سابور الذي حفره بينه وبين العرب وغيرهم .
وإلى جانب تلك القرى الموغلة في القدم كانت توجد قرى أخرى عامرة بالسكان والحياة. وكانت أكبر هذه القرى المحيطة بكربلاء هي بلدة (عين التمر) والتي تضم ناحية شثاثا ومنها يجلب القسب (التمر اليابس) والتمر .
ومن القرى المحيطة بكربلاء أيضاً قرية الغاضرية. وقد أنشئت بعد أنتقال قبيلة بني أسد إلى العراق في صدر الإسلام . وعلى هذا فإنها ليست قديمة في التاريخ ، وهي لا تزال معروفة بأسم « الغاضريات » وهي الأراضي المنبسطة التي هي اليوم إحدى نواحي مدينة كربلاء وتعرف بمنطقة الحسينية الواقعة على طريق كربلاء بغداد القديم عامرة ببساتين النخيل والفواكه .
وجاء في كتاب ( دلائل الدين ) تأليف عبد الله بن الحاج هادي ما ترجمته : روى عن السجاد عليه السلام ان الله تعالى ذكر في القرآن ان السيدة مريم عليهما السلام عندما أرادت أن تلد ابنها المسيح ابتعدت عن قومها ، وذهبت الى كربلاء ـ بصورة معجزة ـ بجنب نهر القرات . وقد ولد المسيح قرب مكان ضريح الحسين (ع) . وفي نفس الليلة عادت السيدة مريم الى دمشق . ومصداق هذا الخبر ما ورد عن الباقر (ع) ان صخرة على مقربة من قبر الحسين نصبت في الحائط . قد أجمع ساكنوا هذا المقام على أن الرأس الشريف قد حز على هذه الصخرة ، ويقولون ان المسيح قد ولد على نفس تلك الصخرة أيضاً ـ الموجودة في أعلى الباب الثالث من أبواب الحرم المقابل للشبكة المباركة( واقفه محمد على خان القواينلو سنة 1216 ) هـ . وكذلك هذا التأريخ موجود بعينه في الكتيبة القرآنية داخل القبة على الضريح المقدس .
ولكن كل ما يمكن القول عن تاريخها القديم عند الفتح الإسلامي : إنها بقعة زراعية واقعة على ضفاف نهر الفرات ، والأقوام الذين سكنوها كانوا يعولون على الزراعة لخصوبة تربتها ، وغزارة مائها لكثرة العيون التي كانت منتشرة في أرجائها .
في سنة 12 هـ وعلى أثر الفشل الذي مني به القائد الاعلى سعد بن أبي وقاص والموفقية التي حازها خالد بن عرفطة في فتح ساباط أولا ، ثم استتبعه فتح البقية المدائن عاصمة الدولة الساسانية ، وتكلل فوز المسلمين بأكاليل النصر ، وتم لهم الغلبة ، أرغم يزدجرد الملك بالانسحاب والتقهقر مقهورا الى اصطخر ، فارس ، عطفوا عندها باتخاذ قاعدة تكون معسكرا لهم على تخوم الجزيرة ، فاختاروا كربلاء ولتمنع ساكنيه من التسليم والخضوع لارادتهم قصدهم خالد بن عرطفة وفتح كربلاء عنوة وسبى أهلها ، وقسم سعد أراضيها بين أصحابه ، ونزل كل قوم في الناحية التي خرج سهمه بها ، فأحيوها .
وفي سنة 12 هـ ايضا نزلها أيضاً خالد بن الوليد قبل عند مسيره لنجدة عياض بن غنم وعندما هادن أهل الحيرة ـ دهاقين الفرات الاوسط ـ خالد بن الوليد ، شكا عبد الله بن وثيمة النصري ذباب كربلاء ، وقال رجل من أشجع :
لقـد حبسـت في كربلا مطيتي وفي العين حتى عاد غثاً سمينها
اذا رحلت من منزل رجعت له لعمـري وأيهـا اننـي لأهينها
ويمنعهـا من مـاء كل شريعة رفـاق من الذبان زرق عيونها

وتناقلت الألسن أنباء الشكوى والشعر وأحيط بعلم الخليفة عمر بن الخطاب في حينه فعند وصول كتاب سعد يخبره بما قام به ، لم يرتضه للمسلمين معسكراً . وأمر سعد بتحويلهم ونقلهم منها ، فحولهم سعد من كربلاء الى سوق حكمه ، ويقال الى كويفة ابن عمر دون الكوفة .
وفي تلك السنة ( 12 هـ) فتح خالد بن الوليد عين التمر(اقرأ تفاصيل فتح عين التمر . . .) .
وفي سنة 14 هـ وفي عهد الفتوحات الإسلاميّة مر بها خالد بن عرفطة ، واتخذها مقراً لجنده ومعسكراً لجيشه فترة من الزمن ثم انتقل منها إلى الكوفة بعد بنائها وتمصيرها.
وقد ورد ان سلمان الفارسي الصحابي الجليل قد مر بها عند مجيئه من المدينة اذ يحدثنا الكشي في رجاله ( ص 24 ) في سنده عن ابن نجيه الفزاري . قال : لما أتانا سلمان الفارسي قادما فتلقيته ممن تلقاه فسار حتى انتهى الى كربلاء فقال : ما يسمون هذه ؟ قالوا : كربلا . فقال : هذه مصارع اخواني ، هذا موضع رحالهم ، وهذا مناخ ركابهم وهذا مهراق دمائهم . قتل بها خير الاولين ، ويقتل بها خير الآخرين ، ثم سار حتى انتهى الى حروراء . فقال ما تسمون هذه الأرض ؟ قالوا : حرورا ، فقال : خرج بها شر الاولين ويخرج بها شر الآخرين . ثم سار حتى انتهى الى بانقيا وبها جسر الكوفة الاول ، فقال : ما تسمون هذه ؟ . قالوا : بانقيا . ثم سار حتى انتهى الى كوفة . قال : هذه الكوفة ! قالوا : نعم ، قال قبة الاسلام »
والواقع ان هذا الترتيب الذي ذكر لسلمان عند قدومه العراق ، لا يصح الا للوارد الى العراق من الشام لا من الحجاز ، اذ بانقيا على ما ذكر أرباب كتب الفتوح تقع على سيف البادية على خط الحيرة قريبة من أرض النجف ، ثم يتلو بانقيا الكوفة ثم كربلاء ثم حرورا والمستفاد من ذلك ان كربلاء لم تكن سوى صحراء خالية لا أثر بها خلا بعض نخيلات ان صحت الرواية .
وفي سنة 36 هـ يروي الشيخ المفيد (قدس سره) في كتاب (الإرشاد) وغيره من المصادر أن الإمام علي (عليه السلام) عند توجهه إلى صفين بلغ طف كربلاء فشاهده أنصاره يقف متأملاً ما في هذه الارض من أطلال وأثار ثم استعبر وقال: هذا مناخ ركابهم وموضع قتلهم فسُئل ما هذا الموضع؟ فأجاب (عليه السلام): هذه كربلاء يقتل فيها قوم يدخلون الجنة بغير حساب ، إن لهذه الارض شأناً عظيماً فها هنا محط ركابهم وها هنا مهراق دمائهم ، فسئل في ذلك فقال: « ثقل لآل محمد ينزلون هنا » ، ثم سار الإمام علي (عليه السلام) دون أن يعرف الناس تأويل حديثه
وغالب الظن ان محل وقوف الامام علي(ع) المذكور اعلاه كان في المزار المعروف اليوم بالقنطرة البيضاء كما ان هناك مقامات اخرى للامام علي (ع) متعلقة بمروره بكربلاء كـ (دوسة علي) و (قطارة علي) وبالامكان الاطلاع اكثر عليها في (صفحة المشاهد المقدسة) وكذلك(اقرأ تفاصيل اكثر عن القنطرة البيضاء. . .)
وكانت توجد قرية بالقرب من كربلاء عامرة بالمساكن تسمى (العقر) . وقد روي إن الامام الحسين (ع) ، لما أنتهى إلى هذه الأرض قال لبعض أصحابه: ما تسمى هذه القرية؟ واشار إلى العقر ، فقيل له: اسمها العقر ، فقال الحسين (ع) : نعوذ بالله من العقر ، ثم قال (ع) : فما أسم هذه الأرض التي نحن فيها؟ قالوا: كربلاء ، فقال (ع) : أرض كرب وبلاء! وأراد الخروج منها فمنع كما هو مذكور في مقتله.
وعلى أية حال لم تكتسب مدينة كربلاء الحالية هذه المكانة السامية والمنزلة المقدسة التي لها الأن لولا استشهاد الإمام الحسين (ع) وصحبه في سنة 61 هـ (680م) ، في هذه البقعة التي تقع بين كربلاء القديمة في التاريخ والنواويس على وجه التحديد. وقد تنبأ بذلك الإمام الحسين (ع) نفسه قبل أن يرد أرض كربلاء ويلقى مصرعه فيها ، إذ قال (ع) : كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء .
ففي شهر محرم الحرام سنة 61هـ (680م ) شهد التاريخ الإسلامي في كربلاء واقعة مروعة تعد من أكبر الوقائع والأحداث المؤلمة التي شهدها العالم الإسلامي ، ألا وهي حادثة الطف (عاشوراء) التي وقعت بين قوى الخير والشرعية المتمثلة بالإمام الحسين بن علي بن ابي طالب (ع) وأهل بيته واصحابه المعدودين ، وبين يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وجيشه الكبير .(اقرأ تفاصيل واقعة الطف . . .)
وهكذا كانت النهاية المؤلمة للإمام الحسين (ع) الذي لقب بسيد الشهداء وأهل بيته وصحبه الكرام الذين ضربوا أروع الأمثلة في الثبات على المبدأ ، وسمو النفس والفداء ، وقد تركت واقعة الطف آثاراً بعيدة المدى في التاريخ الإسلامي والحضارة الإنسانية ، ظلت أصداؤها تتجاوب على مر القرون كما كان لها اثرها العميق في نشوء مدينة كربلاء المقدسة.
أضطر الإمام الحسين (ع) تحت ضغط الجيش الأموي أن ينزل بأهله وأصحابه في أرض غير مأهولة بالسكان وكانت تحيط بها يومئذ قرى عديدة متناثرة هنا وهناك تعرف بكربلاء. كان بعضها موغلاً في القدم لم يبق منها سوى الأطلال مثل عمورا ، وماريا ، وصفورا ، وبعضها الآخر قرى قديمة أو محدثة مثل نينوى والغاضرية وشفية.
وهذه القرى معروفة بخصوبتها وكثرة ما فيها من العيون والنهيرات ، ومن أهم هذه النهيرات نهران كان أحدهما يتفرع من الفرات قرب مدينة المسيب والذي سمي بعد ذلك بالعلقمي . أما النهر الآخر فكان يسمى بنهر نينوى وكان يتفرع من الفرات أيضاً في المنطقة الواقعة بين سدة الهندية الحالية والمسيب.
وبعد أستشهاد الإمام الحسين (ع) بيومين ، وضع رهط من بني أسد معالم على قبره . وأخذ الزوار يأمون القبر رويداً وبأعداد تتكاثر باستمرار. وقد أدى ذلك إلى أن يكون القبر نواة لمدينة كربلاء.
ومن أوائل الزائرين ، كما تروي المصادر التاريخية ، عبيد الله بن الحر الجعفي والمختار بن أبي عبيد الثقفي ومصعب بن الزبير وسليمان بن صرد الخزاعي وكثيرون آخرون في عام 61هـ (680م) ، وذلك بعد الواقعة بقليل.
وفي السنة التالية (20 صفر سنة 62 هـ (681م) ) قام الصحابي الجليل الضرير جابر بن عبد الله الأنصاري بزيارة قبر الإمام الحسين (ع) قادماً من المدينة المنورة مع جماعة من أهلها من المسلمين ، وأجتمع في السنة نفسها بالإمام علي بن الحسين (زين العابدين) (ع) . وتروي الأخبار أنه عندما وصل إلى قبر الإمام (ع) قال لأصحابه (المسوني القبر).
وفي سنة 66 هـ (686م) كان بجانب قبر [ الإمام ] الحسين مسجد شيده المختار إبن أبي عبيدة الثقفي أيام إمرته على الكوفة وكانت على مقربة منه شجرة السدرة التي كان المسلمون يتظلّلون بها عند زيارتهم القبر الشريف.

تابع ايضا : تاريخ الروضة الحسينية وكذلك تاريخ الروضة العباسية في هذا القرن