ذكريات نحلة في ظل جبل


عودة ضاحي التميمي
منذ نيف وثلاثين عاما كنت ما أزال أحبو في بيداء الشعر، أبحث عن واحة أسكن إليها، وعن زمن يؤويني من طوفان الشعر نفسه. في تلك الحقبة كانت قصائد المنظور هي المهد واللبن والرئة التي أتنفس من خلالها، وكان لقاء المنظور الحلم المؤجل وربما المستحيل.
وبعد حين تدور الأيام دورتها لتجعلني الظل الملازم لهذا الجبل الشاعر، وكان هذا اللقاء أو الخطوات والفرصة الذهبية التي ربما لم تتح لغيري وأنا في خطواتي الأول، فأخذت أدرج في كنف هذه المدرسة الشعرية الرصينة وأتلقى فيها تعاليمي الأولى ولأكثر من خمس سنوات.
أخذت أرافق المنظور في حله وترحاله وأحاول أن أتعلم منه كل شيء لأنه كان ولا يزال المثل الأعلى في الشعر والأخلاق والتواضع والنفس الكريمة المترفعة على كل مغريات الدنيا.
القريبون من المنظور يعرفون عن هذا الكائن الشعري العملاق أشياء كثيرة ربما يجهلها الآخرون.. إنه الغائب الحاضر في كل مجالس الأدب فعندما يغيب يكون المحور الأول لكل حديث شعري وعندما يحضر يكون قطب الرحى لكل النقاشات الأدبية. وكانت مجالسه تتسم بالعفوية الصادقة والعمق المعرفي والحميمية الحارة والنكتة اللاذعة. فكثيرا ما كان يتم حديثه وقراءته بنكات لها مغزى جميل. وكان يحاول أن لا يحرج أحدا أو يجرح أحدا.. له أسلوبه الخاص في تعليم تلامذته وتربيتهم وتهذيبهم، فكثيرا ما كان يطرح بيتا من الشعر ويطلب منا أن نباريه فنتسابق على مباراته فرحين فيقبل علينا بوجهه وكلماته التشجيعية فيجعلنا نمتلئ ثقة وسرورا.. كان يفرح بكتاباتنا كثيرا ويطلب منا قراءتها بعد أن يهذبها لنا فنقرأها أمام محضر من الشعراء الكبار وكان يثني على ما نكتب لكي نتشجع فكانت هذه الجلسات والقراءات هي عملية مران لنا وتنمية لمواهبنا وكانت تكسبنا الثقة بالنفس والجرأة الأدبية.. كما كان يقول في مسار توجيهاته لنا إذا لم تتعبك القصيدة فلا تتعبها ولا ترضى بالمعاني البسيطة التي تأتيك لأول وهلة ويضرب لنا مثلا فيقول هناك صياد يطرح شبكة على الشواطئ ويسحبها مكتفيا ببعض السمكات الصغيرة وهنالك آخر يحاول مرارا ويطرح الشبكة بعيدا كي يصطاد الأجود.
وكان يشرح لنا الجناسات والمعاني الخافية في القصائد ويتبسط معنا كثيرا نحن الصغار ولكنه كان كبيرا وصعبا جدا مع الكبار أو من يدعون ذلك.. فكان شاعرا يحترم نفسه وشعره ويضعه في مجال النواميس ولا يسمح لأحد أن يقتحمه مهما كان شأنه ولكنه كان متواضعا كل التواضع ولا يعرف الغرور أو الحقد طريقا إلى نفسه. إنه يتقبل النقد الموضوعي ويناقش ويقنع بالرأي والرأي الآخر إذا كان صادقا وبناء ولكنه كان لا يقبل حتى المديح من بعض الذين في قلوبهم مرض ولا يسمح لهم أن يناقشوا بشيء مطلقا في حين أنه كان لا يتحرج من السؤال عن المستجدات أو الأمور التي تغيب عن ذهنه.
سألني يوما عن التأميم فأجبته فكتب مستهلات مسيرة إلى عزاء باب الخان عن كيفية تأميم نهر العلقمي بشجاعة العباس عليه السلام وإباحة مائه للجميع وكان ربطا رائعا ..
كان رحمه الله مهيبا ومحترما من جميع الأوساط الأدبية يفد عليه الأدباء من جميع أنحاء العراق ومن الدول الإسلامية ليسلموا عليه ويتبركوا برؤيته.. أتذكر إحدى زيارات الأربعين، زاره مجموعة من شعراء ورواديد النجف الأشر ف بينهم المرحوم هادي القصاب وأبو شبع وعبد الرضا والسيد داود وغيرهم وبعد السلام والمجاملة طلب منهم أن يسمعوه من بعض كتاباتهم فأبوا ذلك وقالوا نحن جئنا نسمع لا نقرأ وطلبوا منه وبإلحاح أن يسمعهم آخر ما كتب فأمرني أن أقرأ لهم قصيدته الجديدة وكانت (يا فاروق الديانة) فقرأتها وأخذت منهم مأخذا كبيرا مما حدا بالشاعر السيد حسن السيد داود أن يقوم ويقبله بفرح وإعجاب كثير.
لقد استفاد الشاعر المنظور من القرآن الكريم استفادة كبيرة جدا وهو الرجل الأمي فكثيرا من الآيات القرآنية نجدها في قصائده نصا ومضمونا، وله كتابات في اللغة الفصحى كما أنه كتب التاريخ الشعري وهذا صعب جدا.
طريقته في الكتابة
كان ينظم البيت أو البيتين أو الثلاثة ويمليها مرة واحدة وعندما كان يستعصي عليه شطر أو معنى فيقوم يتخطى جيئة وذهابا وبيده مشرب السجائر الذي لا يبارحه حتى يكمل المعنى. وكان يكتب قصائده في الصخب أو الهدوء، في السيارة ونحن نتجول أو هو جالس في تجمع أو مجلس أو في أي مكان.. ليست له طقوسية خاصة بالكتابة فجأة يقول لي أكتب ويملي علي أكثر من بيت وربما قصيدة.
وكان في أيام عاشوراء يكتب المستهلات لأكثر من رادود وفي وقت واحد يقول لفلان اقرأ آخر الشعر ويكمل له ويقول للثاني كذلك ويكمل له وهكذا.. إنها الموهبة الفذة ونظرة الحسين عليه السلام .
طرح أحدهم شطرا وتحدى من يجاريه لصعوبة وندرة القافية فكان الشطر ( كيشة تمرنه مشورثه ) فقال له اكتب :
من دهري ورثني الهضم روحي غدت مستورثه

وأول بيت أبوذية يكتبه المنظور يدلل على أنه ولد شاعرا كبيرا فيقول فيه :
إديـه و المشـن علگـاع ماتـن
على النـاشر جعوده فوگ ماتـن
لحگت ظعون ساهي العين ماتـن
انـتوادع وانتبـاره من الخطيـه
كان يملي علي قصائده وأنا أكتب وعندما كنت أتأخر عن تدوين شطر ما يقول اتركه ويأتي بغيره وعندما استوضح عن ذلك يقول عندما تأخرت عن كتابة هذا الشطر يعني أنك لم تستوعبه وأنت شاعر فكيف بالناس الذين سيستمعون له من خلال المنبر وأكثرهم أناس بسطاء فهم بحاجة إلى معان واضحة.. هكذا كان يتعامل بشعره مع الناس فيتحترمهم ويقدر مداركهم لذلك انتشر انتشارا هائلا بين جميع الأوساط المثفقة والشعبية البسيطة ومن هنا تكمن عبقرية وعظمة هذا الشاعر الكبير فأين تواضع الجبال من ادعاءاتنا نحن السفوح.. رحمه الله حيث يقول :
بعدنه نحوچ بالملبن وعالحايچ تبطرنه وبعدنه نزحف وعالگاع ما ثبتت قوايمنه
واليزحف شلون يريد للحيط ايتشلباها

كنت أقرأ له بعض قصائد الشعر الحديث لمظفر النواب وعريان السيد خلف ولغيرهما فكان يستأنس بالكثير من القصائد ولا يستنكر الأسلوب الحديث أي الشعر الحر ويقول لكل ورد رائحة.. وكان يتابع الحداثة ويغير جلده كثيرا فديوانه الحادي عشر وديوانه الثاني عشر الذي لم ير النور بعد تجد فيهما الكثير من الرومانسية والتراكيب الحديثة والصور الرائعة ولا يسعني المجال لإيرادها الآن، وسوف أفرد لها بحثا خاصا إن شاء الله.
كتب الشاعر جعفر آل عزوز قصيدة وطلب من الشعراء مواساته وكان مطلعها :
ياوسفه انگضه عمري وماني محصل مرادي
زماني شح وصل عبود حظي ما حوه هادي

وكان رد المنظور ردا قاسيا فكتب له :
يا لتتبـع هوه نفسك و نفسك عوج ممشاهه
لا هـادي ولا عبود ظلـت حيـل ويـاهه

إلى آخر هذه القصيدة الرائعة التي تحمل بين طياتها الكثير من الحكم والصور المتبصرة التي تحاكي المعلقات برزانتها وروعتها وهذه القصيدة لم يحوها ديوان ولكن بعض أبياتها مسجلة بصوته.
كان رحمه الله مستقيما في سلوكه وفي شعره وتعامله ناذرا كل حياته لخدمة دينه وآل بيت الرسول الكريم متمسكا بسلوكهم وسالكا طريقهم في مسيرته الحياتية. وكان محبا لمعارفه وصادقا معهم وكان يحترم تلامذته ويوقرهم ولا يتكبر عليهم أبدا.. حصلت جفوة بينه وبين المرحوم حمزة الصغير فقطع عليه قصائده وبذل الحاج حمزة جهدا كبيرا لإعادة العلاقة ولكنه لم يفلح فكلفني أن أتوسط بينه وبين المنظور فقلت له أن محاولاتك لم تفلح وتريد مني أنا أحلها أرجوك أن تعذرني من هذا فأخذ رحمه الله يلح علي ويقول حاول ففوضت أمري إلى الله وذهبت إلى المنظور داخلا له من باب ضعفه من عاطفته هذه العاطفة الجياشة التي تسيطر على هذا الرجل الكبير فبادرته بالقول: (عمي أبو حسين أريد منك حظوة.. لي حاجة لديك وأريد قضاءها) فصمت قليلا ثم قال: (مر عليك حمزة) فبهت من فراسته وقلت له: نعم، وكلفني أن أتوسط بينكما وأجلب له قصيدة. فقال: لقد حاول كثيرا.. فقلت له: أعلم ولكنه كلفني أنا وأنت تقول أنت ابني فإن كنت كذلك أرجو تحقيق هذه الأمنية لي.. فقال رحمه الله: (لقد استخدم حمزة الزغير عقله لأول مرة) فضحكنا وأخذت منه قصيدة جديدة وذهبت بها مسرورا إلى حمزة وكانت القصيدة (راية محمد) ففرح كثيرا وطلبت منه أن نذهب معا إلى المنظور فذهبنا واعتذر منه حمزة رحمه الله وعادت المياه إلى سابق عهدها .
كان الرجل يحترم تلامذته ويحاول أن يصنع لهم مكانة اجتماعية تليق بهم وهنالك الكثير الكثير من المواقف والمساجلات والآراء والأمور الأخرى التي يطول إيرادها أو شرحها وإذا أردنا أن نتناولها فنحتاج إلى كتاب وهذا ما سأسعى إليه أن شاء الله. لقد قمت بتسجيل شريط كاسيت له يحتوي على بعض المقاطع الشعرية وجمعت كل أوراقه وخصوصياته الشعرية وخواطره ومطارداته وردوده على الشعراء وديوانه الثاني عشر بشقيه (اللطم والگعدة) وكلها بخط يدي وسلمتها بعد وفاته إلى الرادود الأخ محمد حمزة ولم أستأثر بورقة واحدة رغم اعتزازي الكبير بهذا التراث العظيم ولكوني أحد الذين تتلمذوا على يده وكتبوا قصائده فكنت الشاهد على ما كتبه وعلى مواقفه الخيرة وتفانيه في خدمة المنبر الحسيني وهذه المدينة المقدسة في تلك السنوات الخمس الأخيرة من عمره ورغم التصاقي به وحبي الكبير له لم أتمكن من كتابة قصيدة رثائية له ولحد الآن.. ولكني شاركت بكلمة في حفلة التأبين.. رحم الله كاظم المنظور شاعرا وإنسانا وأبا ومفكرا قل نظيره وامتزج عقله وقلبه ووجدانه وروحه بحب آل البيت وبقي حتى آخر نفس يردد:
علتي الچامنه بحشاي لگيت اللي يداويها
دواها بتربتك يحسين وروحي بيك اسليها

ولقد خرج من هذه الدنيا وهو لا يملك من حطامها شيئا سوى حبه وإخلاصه لعقيدته ولآل البيت عليهم السلام.. ذهب إلى لقاء ربه وهو يحمل هذا الزاد الكبير والكبير جدا وآخر ما قلت له عند احتضاره: (باچر احنه بشاربك أبو حسين) وأكررها اليوم لأن مثله يرتجى وله حظوة كبيرة عند الله وعند آل البيت..
لقد عاش في جوار الحسين عليه السلام ودفن في جواره في الصحن الشريف فكان رحمه الله أحد معالم هذه المدينة المقدسة وسيبقى إلى أمد بعيد..