الاديب محمد زمان

المنظورات الحسينية مدرسة شعرية حية

محمد زمان الكربلائي
على مدى ربع قرن ابتداء من عام 1940 دأب المرحوم الحاج جاسم الگلگاوي من خلال مطبعته على توثيق تراث شاعر أهل البيت الكبير المرحوم الحاج كاظم المنظور الكربلائي الذي رحل إلى جوار ربه في السابع عشر من تموز عام 1974 واهبا للخلود أحد عشر جزءاً مطبوعا من ديوانه الموسوم ( المنظورات الحسينية ) ومجموعة غير مطبوعة من قصائده المنجزة خلال العامين الأخيرين من حياته.. هذه المجموعة التي لم تطبع رغم احتفال الكربلائيين عام 2000 بذكرى مرور ربع قرن على رحيل المنظور وهي بمثابة الجزء الثاني عشر وكخاتمة للمنظورات في حساباتنا منذ الاحتفال الموثق بالتسجيل الصوتي والتصوير الفوتوغرافي بالذكرى السنوية الأولى صيف 1975 على رحيل المنظور.. وما بين الاحتفالين المذكورين عام 1975 وعام 2000 م مع مقدمتي للجزء الثاني عشر المسجلة بصوتي عام 1979 ضمن برنامج أماسي جمعية الشعراء الشعبيين.. وبمناسبة مرور قرن هجري( صيف 1990م ) على تولد المنظور تبلورت مقدمتي تلك تحت عنوان ( المنظورات الحسينية مدرسة شعرية حية) ومن خلال قيام محمد الرادود بجرد قصائد المنظور وتحقيق ما يصلح لطبعه في الجزء الأخير بخطي ووثقت ذلك بلقاء جمع واضح في الصورة الفوتوغرافية الملتقطة صيف 1990م

من اليمين الى اليسار : سليم البياتي ، محمد زمان ،مهدي الاموي ، محمد شعبان ، محمد القندرچي

ولقطع الطريق على تعرض تراث المنظور الشعري لأي تجزيء آخر يستلب المعنى القدري الذي ينطوي عليه استيفاء أجزاء المنظورات الحسينية لعدد الأئمة الاثني عشر عليهم السلام فإن ما يستجد من قصائد غير مطبوعة بعد طبع الجزء الثاني عشر وبعد التحقق من أنها بخط المنظور أو بخط الموثوق منه فيمكن طبعها تحت عنوان (المنظورات الحسينية) كملحق أول ثم ثاني ثم ثالث وهكذا.. على أن لا تكون من القصائد المطبوعة سابقا أبدل الآخرون مستهلاتها ورباطاتها الأصلية لقراءتها بأطوار جديدة على المنبر الحسيني.. أما القصائد التي قلبها المنظور بنفسه كقصيدة ( أمسه ) فتطبع مستهلاتها ورباطاتها المستبدلة فقط مع الإشارة إلى وجودها مطبوعة في أجزاء المنظورات الحسينية.. ولهذا فليس هناك جزء ثالث عشر بعد الجزء الثاني عشر الذي يطبع كجزء أخير من ديوان المنظورات الحسينية.. وبهذا الاشتراط تم تسليم هذا الإرث الحي إلى ( علي بن كاظم المنظور) ليتولى طبعه بعد رحيل جاسم الگلگاوي عام 1998.
إذن فإن الجزء الثاني عشر من المنظورات الحسينية أتيح لي أن اختار لها العناوين المناسبة مسطرا استذكارا شاملا عن حياة وشعر المنظور تحت عنوان ( المنظورات الحسينية مدرسة شعرية حية) يترجمه تاريخي الشعري الذي يلخص أولا بأن المنظور حقا شاعر أهل البيت الكبير وثانيا بأن هذا الشاعر كمن تجلى له نور الحق في طف كربلاء وثالثا بأن الله قد ختم اسم الحسين بنوره الحق فشمل شاعرنا هذا بنظرة الحسين ذات النور المقدس ولقب بالمنظور حقا ورابعا بأن حب الحسين كان وحي الشاعر المنظور في تسطير ديوانه الموسوم بالمنظورات الحسينية وخامسا بأن هذه المنظورات قدرت أجزاؤها بعدد الأئمة المعصومين الاثني عشر طبع أحد عشر منها وظل الجزء الثاني عشر بعد غياب المنظور كأنه نذر باسم الإمام الثاني عشر القائم الغائب وسادسا بأن الأبيات الثمانية المتكون منها التاريخ الشعري تشكل إحدى السعفات الست في ( مشجرة كربلاء )الشعرية التي نظمتها في مائتين وأربعة وخمسين بيتا:
أقـول حقـا كاظـم المنظـور شـاعر أهـل البيـت والمأثـور
لـه تجلـى النور في صلاتـه لكـن بطـف كربلا. . لا الطور
لقـب بالمنظـور قـل تيمنـا بنظـرة الحسـيـن ذات النـور
قد رضع الحب الحسيني الرؤى مستوحيـا ديوانـه المسـطـور
جزءا فجزءا قـدر الشعر لنـا بـعـدد الأئـمـة الـمـقـدور
يا ميتـا حيـا بيوميـن همـا يـوم الردى و يـوم نفخ الصور
هجريـة الذكـرى وميلاديـة في كل شطـر رقمهـا مذكـور
بنعيـكم واكـاظمـاه أرخـوا لـلـحـده يـودع المـنـظـور

تبلورت المدرسة المنظورية في الشعر الحسيني كيفا وكما عبر أساليب متجددة من التصورات والأوزان والأطوار والطقوس الدينية التي تصاحبها تشكيلات تعبيرية الحركة والصوت.. ولهذا يتعذر استشفاف ملامح هذا الفن الشعري دون الرجوع إلى التسجيلات الصوتية الموثقة له واستقصاء حقيقته الفلكلورية لأنه ليس مجرد نمط من الشعر الشعبي أو العامي له أوزانه المحدودة وموضوعاته المعروفة كالمديح والرثاء.. الخ.
ويقينا إن الصورة التي تبلورت فيها طقوس ذلك الفن الشعري على مدى القرن العشرين هي في حقيقتها تفاصيل مترابطة أفقيا وعموديا بواقع مدينة الحسين التي ولد في خضمها الشاعر المنظور ورحل عنها تاركا بصماته الخالدة على صفحة العزاء الحسيني . .
يا عيون الفواطم لا تنامين الليله توادعي ويا هل الحميه
منهوبه الخدر باچر تمسين غريبه من الأهل بالغاضريه

لقد ظل هذا المستهل الشعري الخالد كمثال لنصف قرن يتردد ليلة العاشر من محرم في كل عام من خلال موكب عزاء القصابين الذي كان يستقطب الآلاف وهو يخترق الروضة العباسية ثم الحسينية منتهيا بروضة المخيم وسط طقس إشعال شموع النذر دون أن يستطيع مؤلف المستهل المذكور كاظم المنظور نفسه تبديل كلماته أو طوره المقتبس من التراث العراقي المغنى ( خذني وطير بيه للسماوه ) ولا ريب أن شهري محرم وصفر من كل عام كانا المساحة الزمنية المتوهجة بمحافل العزاء الحسيني حيث تبلغ ذروتها ظهيرة العاشر من محرم ( يوم الطبگ ) بطقس عزاء طويريج ( الركضة ) ويوم العشرين من صفر ( زيارة الأربعين ) بطقس العزاءات الراجلة التي بلغ عددها الألف موكب عام 1970 وفي الطقسين المذكورين كان الجمهور الوافد إلى كربلاء من كل حدب وصوب ينصهر في مسيرة متواصلة على اختلاف فئاته العمرية والاجتماعية والثقافية .
أما صورة الفن الشعري الحسيني التي آلت إليه حتى رحيل المنظور المساهم جوهريا في رسمها.. فقد تشكلت من خلال مواكب عزاءات أطراف مدينه كربلاء كطرف باب الخان وباب السلالمة وباب النجف والبلوش وباب بغداد وباب الطاق وطرف العباسية والمخيم.. وإلى جانب الأطراف كانت هناك الهيئات والأصناف كصنف القصابين والقندرجية والصفارين والصاغة عدا عزاء السقائين والحمالين.. أما موكب عزاء السادة فقد كان أكثر جلالا وتنظيما ولكنه كان يقتصر على خدمة الروضتين الحسينية والعباسية فقط.. كما كان هناك عزاء البحرينيين ( البحارنة ) وناحية الحر ( الچمالية ).. وقد اشتهر كل موكب بطابعه الأدائي شعرا ولحنا كطابع المصيبة أو الملحمة أو السياسة.
لقد رحل الشاعر الكبير كاظم المنظور الكربلائي صيف 1974 وكنت قد سمعت منه ربيع العام نفسه بأنه أدرك سن الثمانين.. وإذا عرفنا أنه عمل في ( الجندرمة ) خلال الشهور الأخيرة من الحكم العثماني وأنه كان أحد حراس بوابة كربلاء الشمالية ( الطريق من وإلى بغداد ) في ثورة العشرين 1920 م وهذان الأمران يفترضان منطقيا أن يكون المنظور آنذاك قد تجاوز سن العشرين ليقوم بهما فإن تاريخ تولده المثبت في السجلات الرسمية 1892 أقرب إلى الصحيح من التاريخ 1900 الوارد في أحد أجزاء المنظورات الحسينية على أن الحالين لا ينفيان أن يكون المنظور ممارسا واعيا لفن الأبوذية في العشرين من عمره وهو سن شعري مبكر النضوج لشاب سرعان ما عرف بخليفة رائد الأبوذية حسين الكربلائي المتوفى عام 1909 وحيث كان المنظور دون سن الثامنة عشر مما يؤكد قوله ذات مرة بأنه لم يتصل بحسين الكربلائي.
حتى سن الثلاثين تقريبا لم يكن يعرف شاعرنا بالمنظور بل كان معروفا بكاظم الجايجي أو ساقي الشاي المشهور بقدرته على حمل أربعة عشر كوبا بين أصابع كفه الواحدة.. ولعل مهنته تلك أتاحت له معايشة كل شرائح المجتمع وأن يلفت أنظارهم إليه وهو يمارس نظم الشعر خلال تنقله بين المقاهي التي كانت تتنافس في تشغيله كنادل يستجيب لظروف العمل المتواصل ليل نهار خلال المناسبات التي يؤم بها زوار الحسين مدينة كربلاء من كل فج عميق وعلى مدار السنة.. ويقينا أن محاولات المنظور الشعرية في العشرينيات من عمره كانت من المستوى الرفيع بحيث أوحت لأحد أدباء تلك الفترة المعروفين ( الشيخ عبد الحسين الحويزي ) أن يتصل به ليرشده إلى تكريس موهبته الشعرية في حق أهل البيت عليهم السلام بدلا من تعليق وقته في موضوعات الشعر الأخرى التي برع فيها الشاعر آنذاك كهذا النموذج الذي يعتبر أولى محاولات المنظور في الأبوذية :
إديـه و المشـن علگـاع ماتـن
على النـاشر جعوده فوگ ماتـن
لحگت ظعون ساهي العين ماتـن
انـتوادع وانتبـاره من الخطيـه
والجدير بالذكر ان هذه المحاولات ونماذج شعرية أخرى منتقاة قد جمعت وطبعت عام 1958 في ديوان ( الأغاريد الشعبية ) وأعيد طبعه بعد وفاته.
لقد كان مهما حقا استجابة المنظور لنصيحة الحويزي وهو في حدود الثلاثين من عمره ولكن الأهم في تاريخ كربلاء الشعري هو العام 1924 فقد تردد لأول مرة اسم كاظم مقترنا لقب ( المنظور ) الذي أطلقه عليه رادود المنبر الحسيني آنذاك الشيخ حسين الفروخي.. لى أن جريان حرف الظاء مجرى حرف الذال بألسنة الناس كما يبدو عوم نطق ( المنظور ) لى أنها ( المنذور ) التي دخلت سهوا كلقب عائلي في قيود الإحصاء السكاني بينما وثق لقب ( المنظور ) على الصحيح في ديوان المنظورات الحسينية منذ طبع جزءه الأول أواخر لأربعينيات.. وهكذا بدا الناس ينسون تدريجيا اسم ( كاظم الچايچي بن حسون الشمري ) اعر الأبوذية والغزل وأخذوا يلهجون باسمه الجديد ( كاظم المنظور الكربلائي ) لشاعر الذي وهب حياته لتمجيد أهل البيت عليهم السلام حتى الساعة الأخيرة مشفوعا حب الحسين حيث سمعنا آخر ما لهج به لسانه وهو في صحوة الموت مردداً :
علتي الچامنه بحشاي لگيت اللي يداويها
دواها بتربتك يحسين روحي بيك اسليها
ويـن دواي جرحـي الداي
عند حسين تضميده

وإذا كان الجزء الثاني عشر آخر مجموعة من القصائد لشاعر أهل البيت الكبير كاظم المنظور فأنا آخر من ربطتني به علاقة أدبية وثيقة أتاحت لي الوقوف على ظروف حياته كشاعر شغل الساحة لفترة نصف قرن.. وقد كان ذلك من خلال اللقاءات على مدى العامين 1973ـ 1974 والتي تمت في محل محمد الرادود محفظ أشعار المنظور ومصمم أطوار العديد من قصائده في السنوات الأخيرة من حياته.
وحقا كان الشاعر المنظور من الحيوية والمرونة في علاقاته المختلفة بحيث لم أكن لأشعر بأية حدود في لقاءاتنا تلك على الرغم من كونه ثلاثة أضعاف عمري آنذاك .. فيا لها من لقاءات كان فيها المنظور على السجية في جوابه عن أي سؤال حول حياته وقصائده التي كان لبعضها مناسبتها وملابساتها كقصيدة :
أسأل من المعبود لا عـذب أمـي
رضعتني من الوصي
وحب الوصي برّاني

هذه القصيدة التي يجاري فيها إحدى قصائد القريظ الشهيرة :
لا عــذب الله أمـي شـربـت حـب الوصي وغـذتنيـه باللـبن
وكـان لي والد يهـوى أبا حسن فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسن

وكان المنظور قد نظم قصيدته المذكورة في مناسبة قاتمة من حياته حيث ألم به مرض تيقن منه الشاعر أنه لا محالة ملاق ربه.. أما قصيدته :
تنعقد محكمه كبرى للخـلگ بالآخـره
شافع الأمـه محمد والمحامي حيـدره

هذه القصيدة من القصائد التي أحاطت بها ملابسات تشير إلى مدى الصراع الذي استفحل بين المنظور الشاعر المجدد والمتشاعرين الذين توهموا أنفسهم آنذاك قيمين على ساحة الشعر.. إذ احتج هؤلاء بعريضة قدموها إلى العلامة ( السيد عبد الحسين الحجة ) يطلبون فيها أن يفتي بمنع هذا الشاعر المتلاعب بالألفاظ والمحرف بالمعاني.. إذ كيف يتجرأ ويذكر بأن عليا عليه السلام ( محامي ) في محكمة الباري وكيف يكون في هكذا محكمة ربانية العدل ثمة محام طالما أن المحامي وجد لرفع الحيف والدفاع عن المظلوم.. لكن العلامة المذكور استدعى المنظور الذي أجابه مقوضا منطق المحتجين عليه بقوله ( إن كانت المحكمة في الدنيا تعين حتى للمعترف بذنبه محاميا ليطلب له الرحمة فكيف لا نتصور ذلك في محكمة الباري وهو أرحم الراحمين )..
وبعد نقاش مستفيض فهم المستدعي ( عبد الحسين الحجة ) من المستدعى ( كاظم المنظور ) مقاصد شعره وتيقن من استيعابه لما يقوله ولما جاء به من رؤية شعرية جديدة كما فهم ما يحاوله المتزمتون من تأليب المجتمع للقضاء عليه قبل أن يقضي الشاعر المجدد عليهم.. بعد ذلك النقاش ختم العلامة عريضة المعترضين بختمه وردها إليهم وفي ظهرها هذه العبارة ( صدق الشاعر وكذب المعترضون ) ولا زال أحد معاصري المنظور ومناصريه الشاعر صالح أبو الطوس يحتفظ بالعريضة المختومة تلك حتى كتابة هذه السطور.
ومع أن المنظور كان مطبوعا في الشعر غير أنه لم يقرر أن يصبح شاعرا إلا بعد حفظه ألف بيت من الأبوذيه والدارمي وخمسين من المربع وعدد غير قليل من قصائد القريظ.. ذلك ما قاله هو عندما سئل ذات مرة مشيرا إلى ضرورة مثابرة الشاعر على الحفظ والإطلاع .. وهذا يذكرنا بما أشار المعلم الكوفي إلى تلميذه أبي نؤاس بأن يحفظ ألف قصيدة ثم ينساها قبل أن ينظم الشعر .. صحيح إن شاعرنا المنظور لم يتعلم القراءة والكتابة إلا في العشرينيات من عمره وفي أبسط المستويات الملائية ككتابة اسمه أو تهجي بعض الآيات القرآنية ثم أتيح له في شيخوخته أن يطور خطه ليدون بعض القصائد التي لم تكن في الحقيقة سوى مسودات لا يحسن قراءتها إلا محمد زياد حسين النوري المشتهر بكاتب الوحي إذ كان يلازم المنظور كالظل ليلتقط ما تجود به شفاه الشاعر من مستهلات ومقاطع شعرية خلال زحام المواكب الحسينية.. ومع ذلك لم يكن المنظور أميا بالمعنى الذي يتصوره الكثيرون لأنه كان يحرص وباستمرار على أن ينصت جيدا وبوعي إلى القرآن الكريم والتفسير والحديث الشريف والمسائل الفقهية وإلى ما يقرأ في المحافل الحسينية والمناسبات الدينية من مواعظ وأخبار وتواريخ وحقائق علمية .. إلخ. أو إنه ( الأمي المثقف ) كما يسميه محمد شعبان أحد خبراء العزاء الحسيني وأحد الذين عايشوا المنظور يوما بيوم في العقدين الأخيرين من حياته وهو خير ناقد وشاهد على أن المنظور لم يأخذ شيئا ممن سبقوه أو عاصروه جميعا بينما أخذ الجميع كل شيء منه خلال تبلور المنظورات الحسينية.. ومثلما كان يسير وتتبعه قوافي الشعر فقد كان يطير وتحلق حوله أجنحة الشعر إلى يوم رحيله كما تؤكده استذكارات تلميذه عودة ضاحي الذي صاحبه في الأعوام الخمسة الأخيرة من حياته حيث رصد أيضا فيه تقبله للنقد البناء وتفتحه على موجة شعر الشباب الجديد.
ومن ناحية أخرى فإن المنظور لم يفكر أبدا أن يغتني من ظروفه بعد عمله كنادل في المقاهي خلال النصف الأول من حياته رغم أنه كان اللولب والممون لشعر المواكب والمنابر الحسينية تلك بل كان قانعا بما يقسمه الله له من رزق حلال لقاء تعامله المحدود بشراء وبيع التمر والغنم .. أجل كان زاهدا ولكن أصيل الزهد كأصالة شعره .. وهذا مؤشر يتميز به ويؤكد وحدة التجربة بين حياته كشاعر وحياته كإنسان..
على أن السؤال الكبير الذي ينبغي الإجابة عنه هو ( لماذا كاظم المنظور شاعر فذ ؟! ولماذا هو دون غيره يمكن أن يوسم بشاعر أهل البيت !؟)..
إن نظرة خاطفة عبر العصر تخبرنا بأن الفترة التي عاشها المنظور هي فترة تصادم حضاري وتحول من عصر زراعي جذوره الفكرية والنفسية حسينيا ودينيا عمرها أكثر من ألف عام إلى عصر غزته مفاهيم التطور الصناعي .. والشاعر الذي يعكس هكذا صراع حضاري هو الذي يستحق وسمه بصفة ( الفذ ) كما يقرره نقاد الأدب والفن المعاصرون إذ أشروا ( شكسبير ) شاهدا على عصره ( العصر الاليزابيثي ) وان ذلك المقياس لعمري ينطبق على شاعرنا الكبير كاظم المنظور بحق كشاهد على عصره أيضا .. لم لا وقد كان هاضما كل أساليب الشعر التي وصلتنا عبر العصور إلى جانب امتلاكه الموهبة العبقرية على التجديد الجذري للشعر الحسيني والديني الذي كان يراوح آنذاك ويدور في فلك مهمل التصوير لواقعة الطف ونقل مكرور للفضائل الدينية يمس قشورها دون لبابها.. حتما لم يتم للمنظور ذلك عفويا.. إنه من الذكاء بحيث عرف كيف يدخل إلى عالم الشعر الحسيني والديني لينطلق به إلى آفاق جديدة تتناسب وهذا العصر بعد أن تفتحت الأبواب له حين راح ينهل من معين القرآن الكريم وأحاديث الأنبياء والأوصياء الأئمة الطاهرين وسيرهم وأخبارهم وما يتعلق خاصة بالموت والبرزخ والبعث وما في الآخرة من حساب عقابا أو ثوابا .. كل ذلك يصبه صبا شعريا شفافا .. ولهذا فهو شاعر أهل البيت الرائد بالمعنى سالف الذكر .. لأن منظوراته الحسينية هي المرآة الشعرية العاكسة لعموم ما تركه أهل البيت عليهم السلام من وصايا وتصورات وأفكار وآثار حضارية ونفسية ومواقف رسالية توارثتها ذاكرة الأجيال عبر التاريخ مرورا بفجيعة الطف التي تعتبر عصب التجربة في دراما الشعر الحسيني .. ويمكننا تلمس تجدده في الأساليب والخيال الشعري في ديوانه ( الأغاريد الشعبية ) الذي يعكس ممارسته لفنون الشعر وضروبه المختلفة قبل أن يتحول نهائيا لتمجيد أهل البيت عليهم السلام في مقتبل حياته ..
علما انه على مدى ممارسته للشعر عموما لم ينفصل يوما عن حبه للشعب والوطن .. وقد تجلى ذلك من خلال قصائد شفافة الرمز يندد فيها بالاستعمار والتجزئة والصهيونية مكرسا مبدأ عدم الفصل بين وحدة الأمة العربية والإسلامية من خلال قصائد واضحة الصدق يمجد فيها انتفاضات الشعب العربي وإنجازاته التي عاصرها ابتداء من ثورة العشرين 1920م التي كان فيها الشاعر المنظور من المسلحين بالموزر ومرورا بنكبة فلسطين والعدوان الثلاثي ونضال الجزائر ( وغيرها ).. وهو يلخص ببعض دارمياته الشعرية نصف قرن من الأحداث كقوله مثالا لا حصرا :
من ثورة العشرين معول ذخرناه
وسع للاستعمـار قبره ودفناه

وكصرخته في هذا المطلع الشعري الذي أطلقة قبل دارمياته المذكورة بنصف قرن :
يا رجال الشعب هبوا من اجل هذا الشعب
لا تروح السله منكم مثل مـا راح العنب

أو كانتخائه ببطولة الإمام علي عليه السلام حيث نزلت نكبة فلسطين بأمة العرب والإسلام عام1948
وينـك يا أميـر النحل يا سردال يخيال الحرب ما ينحرك خيال
هاي يهود خيبر ردت اعله الحال
يا لچـاتل مرحب رد ليها

وينسحب اهتمام المنظور بقضايا أمته على دوره الاجتماعي في حل مشاكل الناس من خلال حكمته ونصائحه وتدخله في فض اعقد المنازعات .. ناهيك عن سلطانه الشعري الذي جعل منه رجل المواقف العصيبة كما في حادث انفجار هودج الأنوار الكبير وسط سوق الحسين عام 1947 حيث اجتمع رجال المدينة كلها لتشييع شهداء ذلك الحادث.. وكان الجميع في ( حيص بيص ) بصدد أنسب الشعارات المطلوبة لتسيير موكب الجنازة حتى اطل عليهم المنظور الذي كان قد أقبل مستفسرا عن سبب تلكؤ الموكب .. وحال وقوف المنظور على السبب ارتجل المستهلات الشعرية التي انتظم من خلالها موكب الجنازة مهيبا منسجما في مجموعات من المشيعين تنشد كل منها مستهلا بطور قصيدة ( يحسين أخبرك .. من طحت عالغبره ) التي اشتهرت في فترة لاحقة .. أما مستهلات الموكب المذكور فنورد منها هذين النموذجين :
گلنه احترگنه بالعزا يا مظلوم
برد وسلام النار صارت النه بالعزا يا مظلوم
نار ابعزانه يا عزيز الزهره
نورك طفاها الناس ما طفوهه يا عزيز الزهره

وفي الواقع إن دور كاظم المنظور القيادي للمحافل الشعرية الكربلائية تجلى بصورة بارزة خلال مناسبات يتم الاحتفال بها خارج كربلاء كذكرى وفاة الرسول (ص) والإمام علي (ع) في إلى النجف الأشرف والإمامين الكاظم والجواد عليهما السلام في الكاظمية والإمامين الهادي والعسكري عليهما السلام في سامراء.
وقد كان يكفي المنظور أن يصطحب معه الرادود حمزة الزغير إلى مدينة النجف حتى يتوافد الكربلائيون خلفهما إلى جامع الطوسي لينتظم من خلال موكب عزاء جمهور كربلاء مخترقا شارع الإمام زين العابدين (ع) والسوق الكبير ليستقر في صحن الروضة الحيدرية حيث ينشد حمزة الزغير أحدث أشعار المنظور ذات الأطوار الجديدة .. وقد كانت مناسبة وفاة الرسول محفلا يتبارى فيها شعراء العراق من خلال مواكب المدن المختلفة التي تتوافد تباعا مما جعل جمهور الزائرين جميعا يفاضلون بين هذا الموكب وذاك .. ولعل موكب عزاء كربلاء كان له الصيت المشهود من حيث أسلوبه وحجمه ونظامه .. ولطالما فاجأ المنظور كل المتتبعين لأساليب المواكب في أداء المستهلات والقصائد .. فقد كان الموكب على سبيل المثال يتواصل في عشرات المجموعات البشرية وهو يتناوب مستهلين اثنين فقط على التوالي من مجموعة إلى مجموعة ولكن المنظور استطاع كسر هذه القاعدة مسندا لكل مجموعة مستهلا شعريا لا تكرره مجموعة أخرى حتى انه ذات مناسبة ارتجل أكثر من عشرين مستهلا شعريا ليغطي عدد مجموعات موكب عزاء جمهور كربلاء .. وكما شهدنا فإن آخر هذه المحافل لم يتكرر بعد وفاة المنظور عام 1974 سوى محفل ذكرى وفاة الرسول عام 1975 الذي كان دليلا حيا على أهمية وجود المنظور إذ تم تغطيته بأشعار السنة السابقة ومن خلال موكب تقدمته صورة الشاعر المتوفى مؤطرة بالسواد والى جانبها أحد عشر جزءا من ديوان المنظورات الحسينية المطبوعة خلال حياة شاعرنا الكبير كاظم المنظور الكربلائي ومن خلال يافطة كتب عليها هذا البيت الشعري لكاتب هذه السطور :
لو غربلت أيدي الزمان الخالي شعر الهدى لصفوت في الغربال

ولعل فن المستهلات الشعرية الذي تطور على يد تلامذة المنظور بعد وفاته حتى بلغ الخمسين كلمة وحرف لكل مستهل شعري يؤدى بثلاثة أو أربعة مستويات من الأداء النغمي كهذا النموذج ليلة العاشر عام 1978 م وهو من الشعر الملمع الذي صاغه كاتب هذه السطور لموكب عزاء طرف باب السلالمة
يحسين آياتك زهت بيها البراهين انجلت
من عجزت عقول البشر
سيفك فتاهه
بيك الإمامه تقدرت والآيه منها تفسرت
من وجرت نـار الشـرك
دمك طفاهه
آية الدم التي شعت وساما لك نتلوها قعودا وقياما

السماء اليوم تبكي واحسيناه تنادي
فترد الأرض آه يا ذبيحا في العباد
ليلة العاشر ما تجف
وانت نبعهه وانت مصبهه

نقول لعل هذا النموذج من المستهلات الشعرية ليس إلا استمرارا متدفقا لأسلوب مدرسة المنظور الذي أخذ شكل آخر نموذج للمنظور بمناسبة ذكرى وفاة الرسول عام 1974 في النجف :
كربله تنادي يحيدر هاك صوت الاعتقاد
أنت بالحق ولي
لا فتى إلا علي
قد عهدنا قد عهدناك أمين

ولعلي كنت الشاهد الحي على آخر استجابات المنظور لتحديات التجديد في العامين الأخيرين من حياته .. فبمجرد أن جرب البعض أسلوب تلميع بعض القصائد والمستهلات مستعينين غالبا بقريظي حتى بادر المنظور إلى تلميع بعض موشحاته معتمدا على سليقته في صياغة القريظ .. ولعل الصدفة التي ساقتني إلى رفد الشعر الحسيني الملمع عام1973 هي التي التقتني بالمنظور من خلال زياراته الأسبوعية لمحل محمد الرادود حيث كنت أقضي فيه معظم وقتي آنذاك فأتيح لي أن أكون الأول والأخير في تلميع بعض أشعار المنظور خلال أيامه الأخيرة .. ومن خلال تجربتي في تلميع بعض قصائده التي قرئت بعد وفاته اكتشفت إحدى خصائص المنظور الشعرية وهي اشتمال لغته الشعبية على تركيب الفصحى غير المعقد سواء في المعاني أو الألفاظ .. ومن هنا كان طيعا لي إعادة صب مستهلات ورباطات قصائده في شكل الشعر الملمع كالمستهل المذكور آنفا والذي كان نظما مشتركا بيننا مع عدد مشابه من مستهلات موكب عزاء جمهور كربلاء في النجف الأشرف بمناسبة ذكرى وفاة الرسول عام 1974م ـ 1394 هجري .
أجل لقد كان شاعرنا المنظور بحق دائم المعاصرة .. ولعله بأسلوبه السهل الممتنع استطاع تطويع كثير من كلمات ومصطلحات العلم الحديث ومنجزاته التكنولوجية للمنبر الحسيني .. فانظر كيف يستخدم كلمة ( تلفزيون) في إحدى قصائده بحق الإمام الرضا عليه السلام منتصف الستينيات بما يتقبله المجتمع الكربلائي الذي كان معظمه آنذاك يتحرج من نصب هوائي جهاز التلفاز ( الايريل ) على سطوح المنازل :
لا تقول شلون اشاهد عالبعـد دار المكارم
اخذ تلفـزيون عقلك شوف بي كل العوالم

وعلى هذا المنوال يستخدم ( كاميرات ـ كهرباء ـ لاسلكي ـ مطبعة ـ كلية .... الخ ). ويتجلى هذا المنحى المتفتح على العلم بشكل أهم في تعليلات أفكاره المصورة في القصائد لأن ذلك في الواقع هو الذي جعله في محك الصراع المشروع مع الرعيل القديم والمتزمتين الجدد ليثبت أقدامه في مؤثرا بشكل حاسم في فكر وذوق جيلين من الشعراء الحسينيين أهمهم الحاج مهدي الأموي وعزيز الگلگاوي وسليم البياتي إضافة إلى دوره في رفد المنير الحسيني بمنشدي الشعر أمثال حمزة الزغير ومحمد الرادود وعبد الأمير الأموي حيث ساهم المذكورون مع شاعرنا كاظم المنظور حتى آخر حياته وبعد وفاته في ترسيخ المدرسة المنظورية التي تعلموا فيها صياغة الشعر الحسيني ليس فقط بالنظم على الورق وبالأداء النغمي المسجل على الشريط بل من خلال قيادة المواكب الحسينية بأنفسهم في مسيرات ومنابر العزاء المعقود طوال العام .. لأن الشعر الحسيني في حقيقته قد نشأ وتبلور عبر الهم الجماعي للناس .. ومن هنا امتزجت بعض طقوسهم المقدسة بطابع حياتهم الدرامي متمسكين بالأصيل ومتجاوزين الدخيل .. ولقد لفتت علمية المنظور انتباهي بشكل لا يقبل الشك في تنور عقله بحيث لم يكن يرتجل الشعر بحكم الفطرة حسب ـ وإن كان كثرة المطلوب منه يضطره لارتجال المستهلات الشعرية ذات الظرف السريع دون الوقوع في الركاكة ـ إنما نستطيع الجزم بأنه لم يطلق أفكاره الشعرية إلا بعد التأني في صياغتها بأسمى الأشكال وبأن لا بيت نظمه المنظور إلا له تبرير ومستند في القرآن الكريم أو الحديث الشريف أو التاريخ والأخبار المتواترة أو حقائق العلم والخلق.. وأوضح نموذج نجده في هذا المقطع الشعري في تأبين الشيخ فخري كمونة المتوفى عام 1936م
الفـرع راح الأصـل بـاقي الـفـرع مـن الاصـل زوده
اشبيهـا الشمـس مكسوفـه اقتبـسهـه و ازهـر وجـوده
نعم ( فخري) قمرنه و غاب ( محمـد ) شمـس موجـوده
القمـر من الشمـس نـوره
عليها غبرة التأبين

فلله من ربط محكم بين المتوفى ( فخري ) باعتباره الفرع وشقيقه الأكبر باعتباره الأصل عميد أسره آل كمونة ( محمد علي ) الحاضر في مجلس التأبين من حيث التعليل العلمي لظاهرة الخسوف والكسوف في وقت لم يكن البعض من دارسي العلوم الدينية ليسلم بهكذا تعليلات .. ولله من استخدام شعري رائع ورمزية شفافة حين تقرأ وتردد تعبير ( غبرة التأبين ) موحيا لك بجو الحزن والأسى .. وهذا الرمز الشعري يذكرني بتعبير ( الصمت المشمس) للشاعر العالمي طاغور كأبلغ رمز يوحي بالفرح والنشوة .. كما لا يخفى ما لطول عمر الشاعر المنظور وما لتواجده في مدينة الحسين وما لتيسر الكهرباء ووسائل الإعلام الصوتية وغير الصوتية وما لسهولة وتطور المواصلات من أثر في انتشار صيته وسرعة تعرف المجتمعات الريفية والحضرية عليه .. هذا عدا ما للتسجيلات الصوتية من أهمية جوهرية للتعرف على شعره حيا من خلال الأطوار التي قري بها على المنابر وفي مختلف المواكب والمناسبات الحسينية والدينية خاصة التسجيلات بصوت الرادود خالد الذكر حمزة الزغير التي تفنن وتسابق العديد من ممتهني التسجيل الصوتي في تسويقها وتوثيقها حتى بلغت ذروتها على يد الحاج حسن علوان الصباغ مابين 1965 ـ 1975 م .. ويكمن وراء تلك الأهمية كون هذا المنحى الشعري بتشكل عبر الاختيار المسبق غالبا للقالب النغمي طورا ووزنا في ضوء الطقوس التي من خلالها يأخذ أبعاده الدرامية .. فهناك قصيدة الجلسة أو اللطم المرتبطة بمكان ثابت المنبر معتمد على تناوب الرادود ـ منشد الشعر ـ والجمهور في أدائها .. وهناك أسلوب المستهلات الشعرية المعتمدة في أدائه على نظام المواكب الجماهيرية الراجلة .. وهكذا تتعدد الأساليب وتتشعب حسب تطور المواسم الحسينية والدينية ..
ولو رجعنا إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة حيث طبع شعر المنظور لوجدنا كيف تسارع المهتمون من رجالات الأدب والدين إلى تقريض وتقويم نتاج هذا الشاعر الحسيني دون غيره مما يدل على أن شعره كان شاخصا في أذهان الجماهير العامة والخاصة قبل مطبوعاته الأولى بعشرين عاما على الأقل .. ومن منا لا يتوقف عند قصيدة ( الأبجدية الحسابية ) أو ( أسماء من نور ) ولا يعترف له بقدرته على تحريك مفاتيح اللغة الشعرية والتحليق في سماوات المعاني وملكوت الخيال الواسع المتجدد .. كما ينطبق هذا القول إلى حد ما على قصيدته الوعظية ( لا هادي ولا عبود ) المطبوعة في ديوانه ( الأغاريد الشعبية ) التي نظمها ردا على عتاب شاعر موجه إلى شاعرنا المنظور لأنه لم يواسه على ما ألم به من محبيه وأحبابه ..
ولعل قصيدة ( لا تظن يصفي المرجون ) نموذج حكمي رائع من أشعار المنظور غير المطبوعة والتي بادرت لتلميعها بقريظي في الأيام الأخيرة من حياته لكي تقرا كقصيدة لطم ولم يتحقق ذلك إلا بعد وفاته .. وقد أوصينا بطبعها ملمعة ضمن الجزء الثاني عشر من المنظورات الحسينية :
لاتظـن يصفي المرجون لمـن تگـوم الساعـه
فاحسب حسـاب الأيـام و احسب حساب الحشر

علما أن القصيدتين المذكورتين ـ الوعظية والحكمية ـ من القصائد القليلة المسجلة بصوت المنظور من خلال لقاء عابر .. وهل أفصح مؤشر على شاعرية المنظور التي لم تنضب من قصيدة ( من نشأة الروح ) التي تعتبر آخر نموذج مهم سجله في العام الأخير من حياته حيث نجده فيها يعيد صياغة عالمه المنظوري شعريا دون الوقوع في التكرار ..
وهكذا كان ديدنه الشعري في كل نموذج يطرحه من هذا القبيل بين موسم وآخر عبر نصف قرن من قصائده التي صور فيها عالم المنظورات الحسينية .. ولا أدري بعد هذا وذاك ـ لولا جهود تلميذه جاسم الگلگاوي الذي أحسن اختيار عنوان المنظورات الحسينية بطبع أجزاء ديوانه ـ كم كان سيضيع من شعر المنظور او يتلف إذا لم يكن قد ضاع أو تلف الكثير منه بسبب من الإهمال أو عدم اهتمام المجتمع آنذاك بجمع وطبع وتوثيق نتاج الأدب الشعبي وفنونه المختلفة .. وبهذا الصدد لم تشهد كربلاء خلال طبع أجزاء المنظورات الحسينية سوى مجموعتين شعريتين بتأثير من ظهور المنظورات.. وهذا واضح من عنوان المجموعة الأولى ( المنظومات الحسينية ) للشيخ عبد الكريم الكربلائي ومن عنوان المجموعة الثانية ( السلاميات الحسينية ) للحاج كاظم السلامي ..
ولعلنا لو حاولنا أن نؤرشف حياة كاظم المنظور لا نعثر إلا على التسجيل الصوتي المذكور آنفا والذي أنجزه بالكاسيت عودة ضاحي في إحدى الأماسي عبر الأعوام الأخيرة التي قضاها شاعرنا الكبير في جامع ( أبو الفهد ) مقر جمعية النهضة الإسلامية التي ترأس فيها المنظور جمعية الشعراء الشعبيين .. كما لا نعثر إلا على بعض الصور الفوتوغرافية التذكارية موزعة لدى بعض الأشخاص من الذين وجد المنظور في ضيافتهم مناخا للطقوس الحسينية كدار الحاج جواد الحداد
أما المؤشر الأخير في هذه السطور هو أننا قد نفتقد إلى وجود الملحمة في الأدب العربي إلا أن شعر كاظم المنظور يشع بملامحه الملحمية بالقدر الذي يوازي فيه ما يقال عن شعر المتنبي الذي يصور فيه معارك سيف الدولة الحمداني ويخلدها . .
إنني أتحدث عن ذلك وفي وجداني تتردد كالشلالات أصداء قصائده الشجية الخالدة كمثل ( جابر يجابر ـ يلنايم على العلگمي ـ بالله يلميمون ـ زفة شباب ـ آه يبني .. الخ ) ولا يفوتني هنا التذكير بالقصيدة الرائعة بمستهلها الجديد ورباطاتها المضافة ( أمسه .. راس الحسين ويالجسم امسه ) هذه الحوارية التي يصور فيها الشاعر لقاء رأس الحسين بجسمه الطاهر بعد إعادته مع ركب السبايا من الشام إلى كربلاء يوم الأربعين حيث يشكو الرأس والجسم كل إلى الآخر مما جرى له فترة الافتراق .. بل كيف لا نتوقف مليا عند قصيدة
يا بن امي عالتربان عفتك رميه لعيني العمه ولا شوف ذيچ المسيه

إذ يخطف بالذاكرة برق من بروق الشاعر الملحمية مصورا بلسان العقيلة زينب عليها السلام يوم غادرت ارض الطف تاركة وراءها رفات ـ أخيها ريحانة رسول الله ـ الذي يشدها شدا .. وهل أكثر تفجرا من هذا المشهد الغارق بدموع الوداع :
يابـن امي خلينـاك عالغـبره عاري
مغسـل بفيض دماك و الچفـن ذاري
روحـي بگت وياك و الجـدم ساري
امشي و اديـر العين للـغـاضـريـه

من اليمين

ونستطيع تكثيف ما سطرنا عن الشاعر بعبارة واحدة هي أن المنظورات الحسينية هي الجسر الذي عبر عليه الشعر الحسيني الشعبي إلى هذا العصر حيا خالدا .. فرحم الله رادود المنبر الحسيني الشيخ حسين الفروخي الذي تبنى موهبة هذا الشاعر ولقبه بالمنظور ذات يوم من أيام 1344 هجري ـ 1924 ميلادي إذ كان مستغرقا بعد صلاة المغرب في الركن الغربي من باب القبلة للروضة الحسينية وكمن سمع في الرؤيا هاتفا يقول هذا الشاعر مشمول بنظرة الحسين فسمه ( كاظم المنظور) .. ورحم الله المنظور شاعر أهل البيت المدفون في الركن الشرقي ( مقبرة الميرزا مهدي الحسيني ).. هذا الشاعر الكبير الذي رسم له القدر الإلهي أن يترك لنا سفره الشعري مختوم الأجزاء بعدد الأئمة المعصومين الاثني عشر عليهم السلام
لـلأربعيـن أضـف ثمانيـة وزد حـرفا فحرفـا أربعيـن فأربـعه
و بسبـعـة فـالأربعيـن فواحـد واصل الخمسين الحروف وقل معه
الكـربـلائـي المـرقـم لـيتـه أوفـى بمعشـار المقـال فوقـعه

تسطير : محمد زمان الكربلائي