
لك أن تتصور أن فتاة في ربيع العمر ( 19 عاماً ) وجهها الطفولي البريء أضظر الجلادون الى عرضها على طبيب للتأكد من عمرها الحقيقي قبل تنفيذ حكم الإعدام . .

لك أن تتصور هذه الحورية بوجهها المتورد طهراً وحياءً . . عيناها النجداوان بالأمل . . وقلبها النابض بالحب . . حب الناس الطيبين . . حب الوطن . . حب الله . . هذا القلب الطاهر يكاد يسع الوجود بأسره . .

فتاة بطهر الندى ورقة النسيم وعبير البنفسج . .

يقول التاريخ أنها من مواليد مدينة الكاظمية . . نشأت في ظلال أسرة ثرية . . دخلت الجامعة لتدريس اللغة في كلية الآداب . . التحقت بالعمل الجهادي في زمن عز فيه الرجال, وكان معها شاب أحبها وأحبته وجمع بين قلبيهما الحب الطاهر في ظلال من الإيمان الوارفة . وعندما أراد ذلك الشاب ــ وكان طالباً في كلية الطب يدعى حسام ــ أن يطلب يدها رسمياً ذكرت له مهراً عجيباً ؟ ! القيام بعمل ثوري لزعزعة نظام الطاغية نمرود العراق في القرن العشرين . .

لقد كان إستشهاد الإمام محمد باقر الصدر على ذلك النحو المأساوي وراء تفجير نبع العشق الإلهي في قلبها . . إنها ثقافة عاشوراء التي ترى في التضحية طريقاً للحب الإلهي . .

أرادت هذه الفتاة أن تقف الى جانب خطيبها حسام فقي جهاده الباسل ضد طغمة حزب البعث المنحط .

ِاعتقلت مع جميع أفراد خليتها الجهادية, وكانوا بعدد أفراد الأصابع, بعد ما دل عليهم ( الأسخربوطي ) ذلك المهندس الحقير . .

وأعترفت ميسون بكل شجاعة أدهشت الجلادين؛ إذ لم يكن هناك من مجال للإنكار . .

وسيقت الى المحكمة ليصدر بحقها حكم الإعدام شنقاً حتى الموت, وكان ذلك في خريف عام 1984 م .

أمضت فترى توقيفها في العبادة ونظم الأشعار العرفانية التي تتغنى بالعشق الإلهي ولقاء المحبوب . . وطالما أحيت الليل البهيم تتأمل النجوم في أغوارها السحيقة, وكانت أمنيتها الوحيدة في أيامها الأخيرة أن تلتقي خطيبها لتفي بالوعد الذي قطعته على نفسها .

وأقترب موعد تنفيذ حكم الإعدام . . وجاءت السيارة السوداء . . سيارة الإعدام . .

تألف وجهها بالفرح وأرتدت أكفانها تحت ثيابها . . حتى أكفانها كانت مطرزة بالكلمات المقدسة . . آيات ومناجاة . . وتجمعت النسوة حولها والفتيات السجينات . . لقد حانت لحظات الوداع . .

كانت تعانقهن الواحدة تلو الأخرى وتترنم بشعر عرفاني كانت قد نظمته إستعداداً للرحيل :
النور ملء عيوني |
|
والحور ملك عيني |
وكالملاك أغني |
|
لجنة وعيون |
أرى الحياة متاعاً |
|
ورحلة وصراعاً |
فاخترت دربي بنفسي |
|
وسرت فيه سراعاً |
غداً تقولوا خسرنا |
|
فلتسألوا الأمس عنا |
إن كان في الخدّ خسر |
|
فالخير أن تخسرونــي |

ثم أعتلت منضدة أو كرسياً لتخطب في المودعات من أخواتها ورفيقات المحنة والمعاناة وتبشر يسقوط النمرود الى الأبد . .

أخذوها الى سجن ( أبو غريب ) الى أعواد المشانق المنصوبة للأحرار من شبان العراق وفتياته . .

وجاءوا أيضاً بخطيبها حسام . . وهناك أبدت رغبتها في لقاء خطيبها حسام . . ولا أحد يدري لماذا سمح الجلادون باللقاء . .

لقد وافق الضابط الجلاد على ذلك لدقائق, وجيء بحسام وكان الفريد . . وأمتلأت العيوم بالدموع . . لقد حان وقت الوفاء . . الوفاء بالعهد .

طلبت ميسون من خطيبها الحبيب أن يقرأ صيغة الزواج والعقد الشرعي . . وهكذا تم عقد القران بين حبيبين جميلين وسط ذئاب الليل المجنونة . .

لا حبيب ولا قريب ولا صديق يشهد هذا الزواج سوى أؤلئك الجلادين الأوغاد .

أجل تم عقد الزواج في حفلة إعدام . . أشار الجلاد بإنتهاء اللقاء بعد أن تعاهد الحبيبان إذا رزقهما الله الجنة أن يعيشا معاً في ظلال الأشجار الخالدة حياة زوجية هانئة . .

وجروا حسام الى أعواد المشانق . . أما هي فأخذوها الى الكرسي الكهربائي . . لقد تغير حكم الإعدام من الشنق الى الصعقة الكهربائية لماذا ؟ لأن ميسون شتمت نمرود وحولت مشهد الوداع الى مهرجان خطابي وتبشر بسقوط صدام, أستمر صعقها بموجات الكهرباء زهاء الساعتين حتى أستحال لسانها الى خشبة . .

طلبت مسيون جرعة ماء, ولكن الجلادين الذين استلهموا ميراثهم من يزيد وعبيد الله بن زياد رفضوا ذلك حتى ( أم سفيان )
(1) رق قلبها الصخري لهذه الحورية المعذبة . .

وأخيراً سكن الجسد الذي مزقته الكهرباء . . وقد عرجت الروح وأنطلقت بعيداً الى عالم مفعم بالسلام . .

وستلتقي هناك الحبيب . . حسام الذي رحل قبلها بساعتين . .

هل هذه قصة واقعية ؟ ! لا أكاد أصدق ولكنها حقيقة كبرى يتضائل أمامها الخيال . .

أجل لقد قاست ميسون الأحوال في الكرسي الكهربائي وأراد الجلادون إنتزاع كلمة ثناء واحدة لنمرود ولكن دون جدوى . .

هكذا رجلت ميسون . . رحلت وظلت قصتها التي لايصدقها أحد . . ومن حق أي أنسان ألا يصدق قصة هذه الفتاة التي عشقت النور فهوت إليه فراشة تدور حول شموع العشق . . العشق الإلهي . . ظلت تطوف وكانت الروح تسطع والجسد الآدمي يتقد ويتوهج . .

وأخيراً أحترقت ميسون فبلغت تلك مرحلة الفناء في ذات المحبوب وتلك ذروة العشق . .

وأستحالت ميسون في النهاية الى آخر أساطير الحب في الربع الأخير من القرن العشرين . .

أجل ميسون وحسام آخر أسطورة حب في هذا العصر المثقل بالآثام . .

الى تلك الحورية الشهيدة :

لن يطول الزمان . .

فاللقاء الذي إنتظرناه قادم من وراء الدخان . .

عرسنا قائم هناك . .

إنني أسمع منذ الآن شدو الأغاني

وأرى في عيون الصبايا الضحاك . .

بزوغ الأماني . .

لن يطول الزمان . .

سيولد القمر بسمة في السماء . .

سماء العراق . .

والنجوم التي أستشهدت في المساء ستغدو منابت ورد . .

وتلك الدماء التي قد أريقت . .

ستغدو فؤوساً تهشم وجه الذي قال : إني إله . .

إله العراق . .

إله أنهاره والمياه . .

إله أشجاره والنخيل . .

ألا فانظروا ما رواء المدى . .

إنني ألمح الآن عرساً وراء تلك الضباب . .

ضباب السنين العجاف . .

آه تلك ميسون . .

وذاك !

حسام زين الشباب . .

كفـّها الرقيقة تمتد لكف الحبيب الملاك . .

ألا بورك عرس الشهيد . .

بورك عرس الخلود . .

خلود الحياة . .

وبورك حب تطهر من كل شيء . .

بورك عشق الإله .