زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 238

الحسين ، قتل أسد الله الباسل ، قتل إبن سيد الأوصياء ، قتل إبن فاطمة الزهراء ، ثم غشي عليه وسقط على الأرض مكبوباً على وجهه .
فأخذت السيدة زينب رأسه ووضعته في حجرها ونادت :
إجلس تفديك عماتك .
إجلس تفديك أخواتك .
إجلس يا بقية السلف .
إجلس يا نعم الخلف .
وهو لا يجيب نداها ، ولا يسمع شكواها ، فعند ذلك إنكبت عليه ومسحت التراب عن خديه ونادت : يا زين العباد ، يا مهجة الفؤاد ، ففتح عينيه . . . . (1)

(1) كتاب «تظلم الزهراء» ص 233 ـ 234 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 239


الفصل الحادي عشر

  • الهجوم على المخيمات لسلب النساء
  • إحراق خيام الإمام الحسين (عليه السلام)
  • السيدة زينب تجمع العيال والأطفال
  • ليلة الوحشة
  • ترحيل العائلة من كربلاء
  • نياحة السيدة زينب على سيد الشهداء


  • زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 240




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 241

    الهجوم على المخيمات لسلب النساء


    وبعد ما قتل الإمام الحسين (عليه السلام) بمدة قصيرة . . هجم جيش الأعداء بكل وحشية على خيام الإمام الحسين (عليه السلام) ، وهم على خيولهم ! ! حتى سحق سبعة من الأطفال تحت حوافر الخيل . . ساعة الهجوم (1) وقد سجل التاريخ أسماء خمسة منهم ، وهم :
    بنتان للإمام الحسن المجتبى عليه السلام. (2)
    طفلان لعبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب ، وإسمهما :

    (1) كتاب «معالي السبطين» ج 2 ص 135 ، الفصل الخامس عشر ، المجلس الثاني عشر .
    (2) معالي السبطين ، ج 2 ص 140 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 242

    سعد وعقيل . (1)
    عاتكة بنت مسلم بن عقيل ، وكان عمرها سبع سنوات . (2)
    محمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب وكان له من العمر سبع سنوات . (3)
    نعم ، لقد كان الهجوم على العائلة ـ المفجوعة لتوها ـ بعيداً عن الرحمة والإنسانية ، وقد وصف التاريخ ذلك الهجوم بقوله :
    وتسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول ، وقرة عين الزهراء البتول ، حتى جعلوا ينزعون ملحفة المرأة عن ظهرها ! ! (4).
    وكانت المرأة تجاذب على إزارها وحجابها . . حتى تغلب على ذلك . (5)

    (1) معالم السبطين ، ج 2 ، ص 135 .
    (2) نفس المصدر ، ص 135 .
    (3) نفس المصدر .
    (4) الملحفة : الملاءة التي تلتحف بها المرأة ، كما في «أقرب الموارد» . ويعبر عنها ـ حالياً ـ بالعباءة والإزار .
    المحقق
    (5) كتاب معالي السبطين ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثاني . أي :
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 243

    وخرجن بنات آل الرسول وحريمه يتساعدن على البكاء ، ويندبن لفراق الحماة والأحباء . (1)
    قال حميد بن مسلم : رأيت امرأة من بني بكر بن وائل ـ كانت مع زوجها في عسكر عمر بن سعد ـ فلما رأت القوم قد اقتحموا على نساء الإمام الحسين في خيامهن ، وهم يسلبونهن ، أخذت سيفاً وأقبلت نحو الخيام وقالت :
    «يا آل بكر بن وائل
    اتسلب بنات رسول الله ؟ !
    لا حكم إلا لله ! !
    يا لثارات رسول الله ! !»
    فأخذها زوجها ، وردها إلى رحله . (2)
    قالت فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السلام :
    «كنت واقفة بباب الخيمة ، وأنا أنظر إلى أبي وأصحابه

    كانت المرأة تمسك عباءتها وحجابها بقوة ، وكان الأعداء يسحبون ويجذبون عنها ذلك ، ويضربونهن على أيديهن بالعصي والسياط لكي يستطيعوا سلب ما عليهن من أزر ومقانع ! !
    المحقق
    (1) كتاب (الملهوف) لابن طاووس ، ص 181 .
    (2) نفس المصدر .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 244

    مجزرين كالأضاحي على الرمال ، والخيول على أجسادهم تجول ! !
    وأنا أفكر فيما يقع علينا بعد أبي . . من بني أمية !
    أيقتلوننا أم يأسروننا ؟
    فإذا برجل على ظهر جواده ، يسوق النساء بكعب رمحه ، وهن يلذن بعضهن ببعض ، وقد أخذ ما عليهن من أخمرة وأسورة (1) وهن يصحن : «وا جداه ! وا أبتاه ! وا علياه ! وا قلة ناصراه ! واحسيناه !
    أما من مجير يجيرنا ؟
    أما من ذائد يذود عنا ؟»
    قالت : فطار فؤادي ، وارتعدت فرائصي ، فجعلت أجيل بطرفي (2) يميناً وشمالاً على عمتي أم كلثوم خشيةً منه أن يأتيني .
    فبينا أنا على هذه الحالة وإذا به قد قصدني ، ففررت منهزمة ، وأنا أظن أني أسلم منه ! ! وإذا به قد تبعني ، فذهلت خشيةً منه ، وإذا بكعب الرمح بين كتفي ، فسقطت على وجهي

    (1) أخمرة ـ جمع خمار ـ : ما تغطي به المرأة رأسها .
    أسورة ـ جمع سوار ـ : حلية ـ كالطوق ـ تلبسها المرأة في زندها أو معصمها ، ويعبر عنها ـ أيضاً ـ : بالمعاضد .
    (2) أجيل بطرفي : أدبر بعيني وبصري .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 245

    فخرم أذني ، وأخذ قرطي ومقنعتي ، وترك الدماء تسيل على خدي ، ورأسي تصهره الشمس ، وولى راجعاً إلى المخيم وأنا مغشي علي ! !
    وإذا بعمتي عندي تبكي ، وهي تقول :
    قومي نمضي ، ما أعلم ما جرى على البنات ، وعلى أخيك العليل ؟
    فما رجعنا إلى الخيمة إلا وهي قد نهبت وما فيها .
    وأخي : علي بن الحسين مكبوب على وجهه ، لا يطيق الجلوس من كثرة الجوع والعطش والأسقام ، فجعلنا نبكي عليه ويبكي علينا ! ! (1)
    وروي عن السيدة زينب (عليها السلام) أنها قالت : كنت ـ في ذلك الوقت ـ واقفة في الخيمة إذ دخل رجل أزرق العينين (2) فأخذ ما كان في الخيمة ، ونظر إلى علي بن الحسين وهو على نطع من الأديم (3) وكان مريضاً فجذب النطع من تحته ، ورماه إلى الأرض ! !

    (1) بحار الأنوار للمجلسي ج 45 ص 61 .
    (2) وهو خولى بن يزيد الأصبحي . كما في كتاب (اسرار الشهادة) للدربندي الطبعة الحديثة ، ج 3 ص 129 .
    (3) النطع : بساط من الجلد يفرش تحت الإنسان . الأديم : الجلد المذبوغ .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 246

    قال حميد بن مسلم : انتهيت إلى علي بن الحسين ، وهو مريض ومنبسط على فراش ، إذ أقبل شمر بن ذي الجوشن ومعه جماعة من الرجالة ، وهم يقولون [له] : ألا تقتل هذا العليل ؟
    فهم اللعين بقتله ، فقلت : سبحان الله ! أتقتل الصبيان ؟ ! إنما هو صبي .
    فلم يمتنع اللعين وسل سيفه ليقتله ، فألقت زينب (عليها السلام) بنفسها عليه وقالت : والله لا يقتل حتى أقتل .
    فأخذ عمر بن سعد بيده وقال : أما تستحي من الله ، تريد أن تقتل هذا الغلام المريض ؟ !
    فقال شمر : قد صدر أمر الأمير عبيد الله بن زياد أن أقتل جميع أولاد الحسين .
    فبالغ عمر في منعه ، فكف عنه . (1)

    (1) كتاب معالي السبطين ج 2 ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثاني . وكتاب أسرار الشهادة ج 3 ص 129 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 247

    إحراق خيام الإمام الحسين عليه السلام


    ولما فرغ القوم من النهب والسلب ، أمر عمر بن سعد بحرق الخيام .
    فأضرموا الخيم ناراً ، ففررن بنات رسول الله من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء . .
    وذكر في بعض كتب المقاتل : أن زينب الكبرى (عليها السلام) أقبلت إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) وقالت :
    يا بقية الماضين وثمال الباقين ! (1) قد أضرموا النار في مضاربنا (2) فما رأيك فينا ؟

    (1) الثمال ـ على وزن كتاب ـ : الغياث الذي يقوم بأمر قومه ، يقال : فلان ثمال قومه : أي غياث لهم . كتاب «مجمع البحرين» للطريحي .
    (2) المضارب : الخيام .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 248

    فقال (عليه السلام) : عليكن بالفرار .
    ففررن بنات رسول الله صائحات باكيات .
    قال بعض من شهد ذلك :
    رأيت امرأة جليلة واقفة بباب الخيمة ، والنار تشتعل من جوانبها ، وهي تارةً تنظر يمنة ويسرة ، وتارةً أخرى تنظر إلى السماء ، وتصفق بيديها ، وتارةً تدخل في تلك الخيمة وتخرج .
    فأسرعت إليها وقلت : يا هذي ! ما وقوفك ها هنا والنار تشتعل من جوانبك ؟ ! وهؤلاء النسوة قد فررن وتفرقن ، ولم لم تلحقي بهن ؟ ! وما شأنك ؟ !
    فبكت وقالت : يا شيخ إن لنا عليلاً في الخيمة ، وهو لا يتمكن من الجلوس والنهوض ، فكيف أفارقه وقد أحاطت النار به ؟ (1)
    وعن حميد بن مسلم قال : رأيت زينب ـ حين إحراق الخيام ـ قد دخلت في وسط النار ، وخرجت وهي تسحب إنساناً من وسط لهيب النار ، فظننت أنها تسحب ميتاً قد احترق ، فاقتربت لأنظر إليه ، فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين . (2)

    (1) معالي السبطين ج 2 ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثالث .
    (2) كتاب «الطراز المذهب في أحوال سيدتنا زينب» .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 249

    أيها القارئ الكريم : أنظر إلى هذه العملية الفدائية ، وهذه التضحية بالحياة ! !
    كيف تقتحم هذه السيدة الجليلة المكان المشحون بلهيب النار ، لتنقذ ابن أخيها ـ، وإن شئت فقل : إمام زمانها ـ من بين أنياب الموت ؟ !
    فهل تعرف نظيراً لهذه السيدة فيما قامت به من الخطوات والأعمال ؟ !
    إنها مغامرة بالحياة من أجل الدين .
    إنها إبنة ذلك البطل العظيم الذي كان يخوض غمار الموت ـ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ للدفاع عن الإسلام والمحافظة على حياة نبي الإسلام .
    إنها إبنة أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب (عليهما السلام) .

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 250




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 251

    السيدة زينب تجمع العيال والأطفال


    لقد أوصى الإمام الحسين أخته السيدة زينب بالمحافظة على العيال والأطفال بعد استشهاده (عليه السلام) ، ويعلم الله كم كان تنفيذ هذه الوصية أمراً صعباً ، وخاصةً بعد الهجوم الوحشي على مخيمات الإمام الحسين (عليه السلام) وعبد إحراق الخيام وتبعثر النساء والأطفال في الصحراء !
    ففي ساعة الهجوم على الخيام كانت النساء تلجأ إلى السيدة زينب ، وتخفي أنفسهن خلفها ، وكان الأطفال ـ أيضاً ـ يفزعون إليها ويتسترون وراءها خوفاً من الضرب بالسياط والعصي ، فكانت السيدة زينب (عليها السلام) تحافظ عليهم ـ كما يحافظ الطير على فراخه حين هجوم الصقور على عشه ـ فتجعل جسمها مانعاً من ضرب النساء والأطفال ، وقد إسود ظهرها ـ في مدة زمنية قصيرة ـ بسبب الضرب المتوالي على جسمها !

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 252

    وبعد الهجوم والإحراق بدأت السيدة زينب تتفقد النساء والأطفال ، وتنادي كل واحدة منهن باسمها ، وتعدهم واحدةً واحدة ، وتبحث عمن لا تجده مع النساء والأطفال !
    ونقرأ في بعض الكتب : أن السيدة زينب (عليها السلام) لما بدأت بجمع العيال والأطفال ، لم تجد طفلين منهم ، فذهبت تبحث عنهما هنا وهناك ، وأخيراً . . وجدتهما معتنقين نائمين ، فلما حركتهما فإذا هما قد ماتا من الخوف والعطش ! !
    ولما سمع العسكر بذلك قالوا لا بن سعد : رخص لنا في سقي العيال . . . . (1)
    وذكر في بعض الكتب أن طفلين لعبد الرحمن بن عقيل كانا مع الحسين ، إسمهما : سعد وعقيل ، وأنهما ماتا من شدة العطش ومن الدهشة والذعر ، بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) وهجوم الأعداء على المخيم للسلب . وأمهما : خديجة بنت الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام . (2)

    (1) كتاب «الإيقاد» للسيد محمد علي الشاه عبد العظيمي ، الطبعة الحديثة ، ص 139 .
    (2) معالي السبطين ج 2 ، الفصل 12 ، المجلس الرابع .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 253

    ليلة الوحشة


    باتت العائلة المفجوعة ليلة الحادية عشرة من المحرم بحالة لا يستطيع أي قلم شرحها ووصفها ، ولا يستطيع اي مصور أن يصور جانباً واحداً من جوانب تلك الليلة الرهيبة .
    قبل أربع وعشرين ساعة من تلك الليلة باتت العائلة المكرمة وهي تملك كل شيء ، وهذه الليلة أظلمت عليها وهي لا تملك شيئاً .
    رجالها صرعى مرملون بدمائهم ، وأطفالها مذبحون ، والأموال قد نهبت ، والأزر والمقانع سلبت ، والظهور والمتون قد سودتها السياط وكعاب الرماح .
    ليس لهم طعام حتى يقدموه إلى من تبقى من الأطفال ، ولا تسأل عن المراضع اللواتي جف اللبن في صدورهن جوعاً وعطشاً .
    واستولت على العائلة ـ وخاصةً الأطفال ـ حالة الفواق ، وهي

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 254

    حالة تشنج تحصل للإنسان حينما يبكي كثيراً ، فتتشنج الرئة ، ويخرج النفس متقطعاً .
    يا للفاجعة ، يا للمأساة ، يا للمصائب .
    لا غطاء ، ولا فراش ، ولا ضياء ، ولا أثاث ، ولا طعام .
    قد أحدقت السيدات بالإمام زين العابدين (عليه السلام) وهو بقية الماضين ، وثمال الباقين ، وهن يتفكرن بما خبأ لهن الغد من أولئك السفاكين .
    فالفاجعة لم تنته بعد ، والظلم ـ بجميع أنواعه ـ بالنتظار آل رسول الله الطيبين الطاهرين ، والحوادث المؤلمة سوف تمتد إلى غد وما بعد غد ، وإلى أيام وشهور ، مما لا بالبال ولا بالخاطر .
    وسوف تبدأ رحلة طويلة مليئة بالآلام والأهات والدموع .
    وحكي أن السيدة زينب (عليها السلام) تفقدت العائلة في ساعة من ساعات تلك الليلة ، وإذا بالسيدة الرباب لا توجد مع النساء ، فخرجت السيدة زينب ومعها أم كلثوم ، وهما تناديان : يا رباب . . يا رباب .
    فسمعها رجل كان موكلاً بحراسة العائلة ، فسألها ماذا تريدين ؟ !
    فقالت السيدة زينب : إن إمرأةً منا مفقودة ولا توجد مع النساء .

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 255

    فقال الرجل : نعم ، قبل ساعة رأيت امرأة منكم إنحدرت نحو المعركة !
    فأقبلت السيدة زينب حتى وصلت إلى المعركة ، وإذا بها ترى الرباب جالسة عند جسد زوجها الإمام الحسين (عليه السلام) وهي تبكي عليه بكاءً شديداً وتنوح ، وتقول في نياحتها :
    وا حسيناه وأين مني حسين أقصـدته أسنة الأدعيـاء
    غادروه فـي كربلاء قتيلاً لا سقى الله جانبي كربلاء

    فأخذت السيدة زينب (عليها السلام) بيدها وأرجعتها معها إلى حيث النساء والأطفال .
    وفي هذا الجو المتوتر ، والوضع المقرح للفؤاد ، يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) : «فتحت عيني ليلة الحادية عشر من المحرم ، وإذا أنا أرى عمتي زينب تصلي نافلة الليل وهي جالسة ، فقلت لها : يا عمة أتصلين وأنت جالسة» ؟
    قالت : نعم يابن أخي ، والله إن رجلي لا تحملني ! ! (1)

    (1) كتاب «زينب الكبرى» للشيخ جعفر النقدي ، ص 58 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 256




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 257

    ترحيل العائلة من كربلاء


    لقد جاءوا بالنياق المهزولة لترحيل آل رسول الله ، فلا غطاء ولا وطاء ! !
    آل رسول الله ، أشرف أسرة وأطهرها وأتقاها على وجه الأرض ، وكأنهن سبايا الكفار والمشركين ! !
    لقد كان تعامل الأعداء معهن في منتهى القساوة والفظاظة وكأنهم يحاولون الإنتقام منهن ، ويطلبون بثارات بدر وحنين !
    وهل أستطيع أن أكتب ـ هنا ـ شيئاً من مواقف بني أمية تجاه آل رسول الله ؟ !
    والله . . إنها وصمة خزي وعار لا تمحى ولا تزول بمرور القرون .
    لقد وصموا بها جبهة التاريخ الإسلامي النزيه المشرق الوضاء .

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 258

    عن كتاب (أسرار الشهادة) للدربندي : ثم أمر عمر بن سعد بأن تحمل النساء على الأقتاب (1) ، بلا وطاء ولا حجاب ، فقدمت النياق إلى حرم رسول الله (صلى الله علهي وآله وسلم) وقد أحاط القوم بهن ، وقيل لهن : تعالين واركبن ، فقد أمر إبن سعد بالرحيل . (2)
    فلما نظرت زينب (عليها السلام) إلى ذلك نادت وقالت : سود الله وجهك يا بن سعد في الدنيا والآخرة ! تأمر هؤلاء القوم بأن يركبونا ونحن ودائع رسول الله ؟ !
    فقل لهم : يتباعدوا عنا ، يركب بعضنا بعضاً .
    فتنحوا عنهن ، فتقدمت السيدة زينب ، ومعها السيدة أم كلثوم ، وجعلت تنادي كل واحدة من النساء باسمها وتركبها على المحمل ، حتى لم يبق أحد سوى زينب (عليها السلام) !
    فنظرت يميناً وشمالاً ، فلم تر أحداً سوى الإمام زين العابدين وهو مريض ، فأتت إليه وقالت :

    (1) أقتاب ـ جمع قتب ـ : وهو وشيء يصنع من خشب ، يشد على ظهر البعير ، ويغطى بقماش سميك ، لراحة الراكب ، وحفظه من السقوط . قال في «المعجم الوسيط» : القتب : الرحل الصغير على قدر سنام البعير .
    المحقق
    (2) لقد ذكر السيد ابن طاووس في كتاب «الملهوف» ص 189 : أن ترحيل العائلة كان بعد الزوال من اليوم الحادي عشر من المحرم .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 259

    قم يابن أخي واركب الناقة .
    قال : يا عمتاه ! إركبي أنت ، ودعيني أنا وهؤلاء القوم .
    فالتفتت يميناً وشمالاً ، فلم تر إلا أجساداً على الرمال ، ورؤوساً على الأسنة بأيدي الرجال (1) ، فصرخت وقالت :
    واغربتاه ! وا أخاه ! وا حسيناه ! وا عباساه ! وا رجالاه ! وا ضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله . . .
    فأقبلت فضة وأركبتها . . (2)

    (1) الأسنة ـ جمع سنان ـ : الرمح .
    (2) كتاب (أسرار الشهادة) للعالم الجليل الشيخ الدربندي .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 260




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 261

    نياحة السيدة زينب على سيد الشهداء


    وفي يوم الحادي عشر من المحرم . . لما أراد الأعداء أن يرحلوا بقافلة نساء آل رسول الله من كربلاء إلى الكوفة ، مروا بهن على مصارع القتلى ـ وهم جثث مرملة ومطروحة على التراب ـ فلما نظرت النسوة إلى تلك الجثث صحن وبكين ولطمن خدودهن . وأما السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) فقد كانت تلك الساعة من أصعب الساعات على قلبها ، وخاصةً حينما نظرت إلى جثة أخيها العزيز الإمام الحسين وهو مطروح على الأرض بلا دفن ، وبتلك الكيفية المقرحة للقلب ! !
    يعلم الله تعالى مدى الحزن الشديد والألم النفسي الذي خيم على قلب السيدة زينب وهي ترى أعز أهل العالم ، وأشرف من على وجه الأرض بحالة يعجز القلم واللسان عن وصفها .
    فقد مد أولئك الذئاب المفترسة (الذين لا يستحقون إطلاق إسم

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 262

    البشر عليهم ، فكيف باسم الإنسان ، وكيف باسم المسلم) أيديهم الخبيثة إلى جسد أطهر إنسان على وجه الكرة الأرضية آنذاك . وأرقوا دماءً كانت جزءاً من دم الرسول الأقدس ، وقطعوا نحراً قبله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مئات المرات ، وعفروا خداً طالما إلتصق بخد الرسول الأطهر ، ورضوا وسحقوا جسداً كان يحمل على أكتاف الرسول الأعظم ، وكان محله في حجر الرسول ، وعلى صدره وظهره .
    لقد كان الرسول الكريم يحافظ على ذلك الجسم العزيز ، حتى من النسيم والمطر . . فكيف من غيره ؟
    نعم ، إن المجرمين الجناة كانوا في سكرة موت الضمير ، وفقدان الوعي والإدراك للمفاهيم ، فانقلبوا إلى سباع ضارية ، وذئاب مفترسة ، ووحوش كاسرة ، لا تفهم معنى العاطفة والشرف والفضيلة ، ولا تدرك إلا هواها الشيطاني .
    فصنعت ما صنعت بذلك الإمام ، المتكامل شرفاً وعظمة ، وجعلت جسمه هدفاً لسيوفها ورماحها وسهامها ، وميداناً لخيولها ، وهم يحاولون أن لا يتركوا منه أثراً يرى ، ولا أعضاء فتوارى .
    كان هذا المنظر والمظهر المشجي ، المقرح للقلب ، الموجع للروح بمرأى من السيدة زينب الكبرى .
    فهي ترى نفسها بجوار جثمان إمامها ، وإمام العالم كله ، وسيد شباب أهل الجنة ، فلا عجب إذا اختضنته تارةً وألقت

    السابق السابق الفهرس التالي التالي