المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 146

وحزبه الاستهانة بمركزه الرفيع ، وهو مع ذلك صابر محتسب ، قد كظم غيظه ، وأوكل الى الله أمره ، وقد عزم على مغادرة العراق ، والشخوص الى مدينة جده (16) .
وطلب منه بعض أهل الكوفة البقاء عندهم ، لكنه لم يستجب لهم وكان يوم سفره مشهوداً في الكوفة حيث خرج الناس بمختلف طبقاتهم الى توديعه ، وهم ما بين باك وآسف .
ولم تكن العقيلة زينب بعيدة عن تلك الأحداث القاسية ، بل كانت الى جانب أخيها الحسن تشاطره معاناته ، وتعيش معه آلام الأمة المنكوبة . . وقد غادرت الكوفة مع أخيها الى مدينة جدها ومسقط رأسها بعد أن قضت في الكوفة حوالي خمس سنوات مليئة بالحوادث والآلام ، ومن أشدها وأفجعها فقد أبيها علي .
وفي المدينة واصلت السيدة زينب تحمل مسؤليتها في الهداية والأرشاد وبث المعارف الوعي ، كما كانت تشارك أخاها الإمام الحسن مواجة اساءات الحكم الأموي وانحرافاته ، حيث لم يلتزم معاوية بأي شرط من شروط الصلح ، وصار يحكم المسلمين حسب رغباته وشهواته بعيداً عن تعاليم كتاب الله وسنة رسوله ، كما كان يوجه سهام بغيه وحقده صوب أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم ، فسن شتم الإمام علي على المنابر ، وقتل خيار أتباعه ، وضيق على شيعته ، وصار يخطط لتنصيب ولده يزيد خليفة وحاكماً على الأمة من بعده .
بالطبع كان وجود الإمام الحسن يقلق معاوية ، ويعرقل بعض مخططاته الفاسدة ، لذلك فكر في تصفية الإمام الحسن والقضاء على حياته ، فأغرى زوجته جعدة بنت الأشعث بمائة ألف درهم ، ووعدها بأن يزوجها ولده يزيداً إن هي دست السم للإمام الحسن وقضت على حياته .
واستجابت جعدة لتلك الأغراءات وألقت السم الفتاك الذي بعثه اليها معاوية في طعام الإمام الحسن ، فتقطعت بذلك كبده وامعاؤه واستعد لمفارقة الحياة .

(16) المصدر السابق ص 285 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 147

ورأته أخته زينب وهو في فراش الموت ، فانفطر قلبها لمأساة أخيها وتجددت عليها المصائب والأحزان .
ومما زاد في آلام السيدة زينب وأحزانها ما تعرضت له جنازة أخيها من إساءة وهوان ، حيث كان الإمام الحسن قد أوصى بأن يدفن عند قبر جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) أولاً أقل أن يمر به على قبر جده ليجدد به عهداً ، لكن الحزب الأموي اعترض جنازة الإمام وأثاروا السيدة عائشة لتتبنى مواجهة الهاشميين ومنعهم من الأقتراب بجنازة الإمام الحسن عند قبر جده بحجة أنه يقع في بيتها وأنها لا تسمح لهم بذلك ! ! .
وهكذا رافقت الظلامة والمأساة الإمام الحسن حتى بعد وفاته ، ومنعوا اقتراب جنازته من قبر جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو سبطه الحبيب وولده العزيز ! .
كل ذلك ضاعف من أحزان السيدة زينب والهاشميين لذلك ورد في التاريخ أن نساء بني هاشم وفي طليعتهن السيدة زينب استمرين في النياحة على الإمام الحسن (عليه السلام) شهراً كاملاً ، وأظهرن الحداد ، ولبسن السواد سنة كاملة (17) .

(17) المصدر السباق ص 502 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 148




المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 149

بطلة كربلاء


المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 150




المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 151

يبدو أن كل ما سبق في حياة السيدة زينب كان بمثابة اعداد وتهيئة للدور الأكبر الذي ينتظرها في هذه الحياة .
فالسنوات الخمس الأولى من عمرها والتي عايشت فيها جدها المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) وهو يقود معارك الجهاد لتثبيت أركان الإسلام ويتحمل هو وعائلته ظروف العناء والخطر .
والأشهر الثلاثة التي رافقت خلالها أمها الزهراء بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ورأت أمها تدافع عن مقام الخلافة الشرعي ، وتطالب بحقها المصادر ، وتعترض على ما حصل بعد الرسول من تطورات ، وتصارع الحسرات والآلام التي أصابتها .
والفترة الحساسة الخطيرة التي عاصرت فيها حكم أبيها علي وخلافته وما حدث فيها من مشاكل وحروب .
ثم مواكبتها لمحنة أخيها الحسن وما تجرع فيها من غصص وآلام كل تلك المعايشة للأحداث والمعاصرة للتطورات . . كان لإعداد السيدة زينب لتؤدي امتحانها الصعب ودورها الخطير في ثورة أخيها الحسين بكربلاء .

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 152

وما كان للسيدة زينب أن تنجح في أداء ذلك الأمتحان ، وممارسة ذلك الدور لو لم تكن تمتلك ذلك الرصيد الضخم من تجارب المقاومة والمعاناة ، ولو لم يتوفر لها ذلك الارث الكبير من البصيرة والوعي .
وواقعة كربلاء تعتبر من أهم الأحداث التي عصفت بالأمة الإسلامية بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
ففي واقعة كربلاء تجلى تيار الردة الى الجاهلية والأنقلاب على الأعقاب ووصل الى قمته وذروته من خلال المعسكر الأموي . . كما تجسد وتبلور خط الرسالة والقيم الالهية في الموقف الحسيني العظيم .
وواقعة كربلاء شرعت للأمة مقاومة الظلم والطغيان ، وشقت طريق الثورة والنضال أمام الطامحين للعدالة والحرية .
وكان للسيدة زينب دور أساسي رئيسي في هذه الثورة العظيمة .
فهي الشخصية الثانية على مسرح الثورة بعد شخصية أخيها الإمام الحسين ( عليه السلام ) .
ومن يقرأ أحداث كربلاء ويقلب صفحات كتابها ، يرى السيدة زينب الى جانب الحسين في اغلب الفصول والمواقف ، بل انها قادت مسيرة الثورة بعد استشهاد الإمام الحسين وأكملت حلقاتها .
ولولا كربلاء لما بلغت شخصية السيدة زينب هذه القمة من السمو والتألق والخلود . . ولولا السيدة زينب لما حققت كربلاء أهدافها ومعطياتها وآثارها في واقع الأمة والتاريخ .
لقد أظهرت كربلاء جوهر شخصية السيدة زينب ، وكشفت عن عظيم كفاءاتها وملكاتها القيادية ، كما أوضحت السيدة زينب للعالم حقيقة ثورة كربلاء ، وأبعاد حوادثها .
وحقاً انها بطلة كربلاء وشريكة الحسين .

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 153

سطور من كتاب الثورة

قبل أن نتحدث عن دور السيدة زينب في ثورة كربلاء ، لابد من قرائة بعض سطور كتاب الثورة الحسينية ، لتوضيح خلفيات ذلك الدور الزينبي .

طبيعة الحكم الأموي

في شهر ( جمادي الأول سنة 41 ه ) وبعد صلح الإمام الحسن تم لمعاوية ما كان يريده ويسعى اليه ، فقد أصبح هو الخليفة والحاكم على الأمة الإسلامية جمعاء .
ودخلت الأمة في نفق الحكم الأموي ، حيث لم تعد مبادئ الإسلام وأنظمته هي المرجع والمقياس ، وإنما هي ارادة الحاكم يعمل كيف يشاء وما يشاء ، وحتى لا تزاحمه أي ارادة اخرى ولا يجرأ أحد على معارضته فقد بدأ في تنفيذ مخطط لتصفية كل رجالات المسلمين الأحرار الشرفاء وكان من ضحايا ذلك المخطط .
الإمام الحسن بن علي حيث دسّ اليه السم ، وحجر بن عدي الصحابي الجليل ، وعبد الرحمن بن حسان العنزي ، وصيفي بن فسيل الشيباني ، وقبيصة بن ربيعة ، وشريك بن شداد الحضرمي ، وكدام بن حيان العنزي ، ومحرز بن شهاب التميمي ، والصحابي العالم رشيد الهجري والصحابي العظيم

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 154

عمرو بن الحمق الخزاعي ، واوفى بن حصن ، وجويرية بن مسهر العبدي ، وعبدالله بن يحيى الحضرمي (1) ، وغيرهم من شخصيات الأمة وأفاضلها المخلصين .
كما عمل الحكم الأموي على تعبئة أجواء الرأي العام ضد أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وسن سب الإمام علي بن أبي طالب على المنابر وفي خطب الجمعة ، وفرض ذلك على جميع عماله وولاته ومن أبى منهم عزله ، وبقي ذلك سنّة الى عهد عمر بن عبد العزيز حيث أمر بإلغائه حين تولى الخلافة سنة ( 99 ه ) أي أن سب الإمام علي استمر أكثر من نصف قرن من سنة ( 41 الى سنة 99 ه ) .
وازدادت الضغوط القمعية على أهل البيت وشيعتهم من قبل الحكم الأموي ، فقد رفع معاوية مذكرة الى جميع عماله وولاته جاء فيها :
أنظروا الى من قامت عليه البينة انه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان واسقطوا عطاءه ورزقه .
ثم شفع ذلك بنسخة أخرى جاء فيها : ومن أتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره .
وتحدث الإمام الباقر عما جرى على أهل البيت وشيعتهم من الأضطهاد والأذى في زمن معاوية ، فقال : « وقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة ، وكان من يذكر بحبنا والإنقطاع الينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره » (2) .
اضافة الى اظهار الفساد والمخالفة للدين ، كتعطيل الحدود وممارسة الخلاعة والمجون ، واستلحاق معاوية لزياد بن أبيه ، والجرأة الصريحة على مخالفة الأحكام الشرعية من قبل معاوية حتى في العبادات كالأذان في صلاة العيد والخطبة قبل

(1) ( حياة الإمام الحسن ) القرشي ج 2 ، ص 358 ، الى 385 . راجع تراجم المذكورين وكيفية قتلهم .
(2) المصدر السابق ص 356 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 155

صلاة العيد ، وأخذ الزكاة من الأعطية ، والتطيب في الاحرام واستعمال أواني الذهب والفضة ، ولبس الحرير .
وقد ساءت أوضاع الناس الاقتصادية لأن معاوية كان يستأثر هو ومن حوله بأموال المسلمين ويضعون عليهم مختلف الضرائب ، وكان معاوية يرى لنفسه الحق في التصرف كما يشاء في ثروات الأمة بينما يتضور الفقراء والمستضعفون جوعاً وحرماناً ، وينقل عنه قوله .
الأرض لله وأنا خليفة الله فما أخذت من مال الله فهو لي وما تركته كان جائزاً لي (3) .
وذكر ابن حجر أنه جاء بسند رجاله ثقات : إن معاوية خطب يوم جمعة فقال : إنما المال مالنا ، والفيء فيئنا فمن شئنا أعطيناه ، ومن شئنا منعناه (4) .
وفي ( ربيع الأبرار ) قال : خطب معاوية فقال :
إن الله ( تعالى ) يقول : « وَإِنْ مِّنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَ بِقَدَرٍِمَّعْلُومٍ »(5) فعلام تلومنني اذا قصرت في إعطائكم (6) .
كما سلط معاوية على الأمة ولاة جفاة قساة نشروا الرعب والبطش ، وحكموا الناس بالأرهاب والقمع مثل سمرة بن جندب والذي استعمله زياد على البصرة نائباً عنه فأسرف في قتل الأبرياء وازهاق الأنفس بغير حق ، فقد حدث محمد بن سليم وقال :
سألت أنس بن سيرين : هل كان سمرة قتل أحداً ؟ .
فاندفع أنس بحرارة والتأثر بادياً عليه قائلاً : وهل يحصى من قتل سمرة بن

(3) ( النصائح الكافية لمن يتولى معاوية ) محمد بن عقيل ص 131 134 .
(4) ( النصائح الكافية لمن يتولى معاوية ) محمد بن عقيل ص 131 134 .
(5) سورة الحجر ، الآية ( 21 ) .
(6) ( النصائح الكافية لمن يتولى معاوية ) محمد بن عقيل ص 131 134 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 156

جندب ؟ استخلفه زياد على البصرة وأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس .
فقال له زياد : هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً ؟ .
فأجابه سمرة : لو قتلت اليهم مثلهم ما خشيت (7) .
ومن ولاة معاوية الظالمين : بسر بن أرطاة ، والذي وجهه الى اليمن ففعل فيها الأفاعيل المنكرة التي لم يشهد التاريخ نظيراً لها في فظاعتها وقسوتها ، وذكر الرواة أن بسر بن أرطاة قتل ثلاثين ألفاً من المسلمين عدا من أحرقهم بالنار (8) .
ومن أخطر ولاة معاوية وأكثرهم جوراً وظلماً زياد بن أبيه وقد ولاه معاوية البصرة والكوفة وسجستان وفارس والسند والهند .
هكذا عاشت الأمة الإسلامية في ظل الحكم الأموي ، وبمراجعة بسيطة لكتب التاريخ يرى الأنسان صور الظلم الفظيعة البشعة التي سجلها الأمويون في تاريخ حكمهم الأسود .

يزيد بن معاوية حاكماً

واستكمالاً لمشروع الردة الى الجاهلية ختم معاوية بن أبي سفيان حياته باستخلاف ولده يزيد على الأمة ، ليبدأ بذلك عهد الملك العضوض والحكم الوراثي العائلي ، خلافاً لما أقره الإسلام وتعود عليه المسلمون .
ولم تكن لدى يزيد أدنى مؤهلات الحكم والخلافة ، فقد كان كلفاً بالصيد لاهياً به ، وكان يلبس كلاب الصيد الأساور من الذهب والجلال المنسوجة منه ، ويهب لكل كلب عبداً يخدمه (9) ، كما كان ولعاً بالقرود وله قرد يجعله بين يديه ويكنيه

(7) ( حياة الإمام الحسن ) القرشي ج 2 ، 194 .
(8) المصدر السابق ص 199 .
(9) المصدر السابق ص 181 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 157

بأبي قيس ، ويسقيه فضل كأسه (10) كما كان مدمناً على شرب الخمر (11) .
يقول الحسن البصري ضمن تعداده لموبقات معاوية :
واستخلاف ابنه بعده سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب الطنابير (12) .
وقد اعترض كبار الصحابة على معاوية حينما أراد مبايعة ولده يزيد بولاية العهد ، وعقد مجلساً في المدينة المنورة ضم نخبة من أفاضل الصحابة ليخبرهم برغبته في تعيين ولده يزيد ولياً لعهده ، فانبرى له عبدالله بن جعفر بن أبي طالب زوج السيدة زينب قائلاً بعد حمد الله والثناء عليه :
« أما بعد : فإن هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن اُخذ فيها بسنة رسول الله فأولوا رسول الله ، وإن أخذ فيها بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول ؟ وأيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه لحقه وصدقه ، ولاُطيع الرحمن ، وعُصي الشيطان ، وما اختلف في الأمة سيفان ، فاتق الله يا معاوية فانك قد صرت راعياً ونحن رعية فانظر لرعيتك فانك مسؤول عنها غداً » (13) .
واندفع عبدالله بن عمر فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيه :
« أما بعد : فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية ولا قيصرية ، ولا كسروية ، يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فوالله ما أدخلني مع الستة من أصحاب الشورى ، الا أن الخلافة ليست شرطاً مشروطاً ، وإنما هي في قريش خاصة لمن كان لها أهلاً ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ممن كان أتقى وأرضى » (14) .

(10) المصدر السابق ص 182 .
(11) المصدر السابق ص 183 .
(12) المصدر السابق ص 184 .
(13) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 2 ، ص 205 .
(14) المصدر السابق ص 207 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 158

وبنفس المضمون تكلم عبدالله بن عباس ، وعبدالله بن الزبير ، الا أن معارضة هؤلاء الصحابة وغيرهم من أعيان الأمة لم تؤثر في عزم معاوية على فرض ولده حاكماً من بعده ، بل شهر سلاح التهديد أمام المعارضين ، وقال ناطق بإسم معاوية في حضوره وهو يزيد بن المقفع : أمير المؤمنين هذا وأشار الى معاوية فان هلك فهذا وأشار الى يزيد ومن أبى فهذا واشار الى السيف (15) .
ومات معاوية في شهر رجب سنة : ( 60 ه ) وأصبح ولده يزيد خليفة وحاكماً على المسلمين .

الحسين يرفض البيعة :

وكتب يزيد الى الوالي الأموي على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان يطلب اليه أخذ البيعة قسراً من كبار الصحابة وفي مقدمتهم الإمام الحسين ( عليه السلام ) .
وفي منتصف الليل استدعي الإمام الحسين الى مجلس الوليد ، وطلب منه البيعة الى يزيد ، فأجاب الإمام : « إن مثلي لا يبايع سراً ، ولا يجتزي بها مني سراً ، فاذا خرجت الى الناس ودعوتهم للبيعة ، دعوتنا معهم كان الأمر واحداً » .
وقبل الوليد كلام الإمام الحسين لكن مروان بن الحكم والذي كان جالساً الى جانب الوليد رفض ما قاله الإمام وطالب الوليد بإجبار الحسين على البيعة فوراً ! ! .
ورداً على هذا التهديد أعلن الإمام الحسين موقفه الرافض لبيعة يزيد قائلاً : « أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحل الرحمة ، بنا فتح الله ، وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب خمر ، قاتل النفس المحرمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أينا أحقّ بالخلافة والبيعة » (16) .

(15) المصدر السابق ص 203 .
(16) المصدر السابق ص 255 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 159


الحسين يغادر الى مكة :

وغادر الإمام الحسين المدينة المنورة في ( 28 رجب 60 ه ) متجهاً الى مكة المكرمة بعد أن عهد الى أخيه محمد بن الحنفية بوصية أبان فيها هدف خروجه وتحركه حيث جاء فيها : « إني لم أخرج أشراً ، ولا بطراً ، ولا مفسداً ، ولا ظالماً ، وإنما خرجت لطلب الأصلاح في أمة جدي ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحق ، فالله أولى بالحق ، ومن رد عليّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين » (17) .
ووصل مكة المكرمة في الثالث من شهر شعبان ، وبدأ يعلن موقفه هناك ، ويوضح رأيه في الحكم الأموي لجموع المسلمين الذين يؤمون البيت الحرام حجاجاً ومعتمرين .
كما بعث الإمام برسائله الى زعماء العراق والكوفة والبصرة يخبرهم بموقفه الرافض لحكم يزيد ويستحثهم على تأييده ونصرته .
استجابة الكوفة



أجواء الكوفة كانت مهيأة للثورة على الحكم الأموي ، لذلك تفاعل الكوفيون مع موقف الإمام الحسين ، وبعثوا له الوفود ، وكتبوا له آلاف الرسائل يعلنون بيعتهم له واستعدادهم لنصرته .
ويقول المؤرخون : انه اجتمع عنده في نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب ، ووردت اليه قائمة فيها مائة وأربعون ألف اسم يعربون عن نصرتهم له حال ما يصل الكوفة ، كما ورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب (18) .
فبعث اليهم الإمام الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل ، ليرى حقيقة الأوضاع

(17) المصدر السابق ص 264 .
(18) المصدر السابق ص 335 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 160

في الكوفة ، وليأخذ منهم البيعة للإمام ، وليهيء الأمور لمقدم الإمام ( عليه السلام ) .
وغادر مسلم مكة المكرمة ليلة النصف من شهر رمضان المبارك ليصل الكوفة في الخامس من شهر شوال حيث استقبلة أهلها بالبهجة والترحيب ، وبادرت جماهيرها لمبايعته كممثل وسفير للإمام الحسين ، فكتب للإمام يبشره باستجابة الناس لبيعته ويستحثه على الأسراع في القدوم للكوفة .
الا أن الحكم الأموي والذي أرعبه تمرد الكوفة على سلطته بادر الى عزل والي الكوفة « النعمان بن بشير » لضعفه في مواجهة التمرد ، وعين يزيد بن معاوية بدلاً منه عبيدالله بن زياد وهو معروف بقسوته وغلظة .
وبعد أن استلم ابن زياد ولاية الكوفة خطط بمكر ودهاء ، واستخدم أشد أساليب القمع والأرهاب للقضاء على التمرد الموالي للإمام الحسين ، وكانت النتيجة إلقاء القبض على سفير الحسين مسلم بن عقيل واعدامه في الثاني من ذي الحجة الحرام ، مع زعماء آخرين ، واعتقال مجموعة كبيرة من شخصيات الكوفة وزعمائها ، واعلان حالة الطوارئ القصوى .

الى العراق
:
كتب مسلم بن عقيل الى الإمام الحسين يخبره عن استجابة أهل الكوفة لطاعته وتشوقهم لقدومه طبعاً قبل التطورات اللاحقة فعزم الإمام الحسين على مغادرة مكة باتجاه العراق ، لأنه لا يريد أن تكون مكة ساحة لتفجير الثورة والصدام مع الحكم الأموي ، حفاظاً على قداسة الحرم وأمنه ، ولأن جمهور العراق أكثر تهيأ للثورة حسب رسائلهم وتجاوبهم مع سفير الحسين اليهم .
وقد استفاد الإمام من فترة وجوده في مكة المكرمة للأتصال بجموع المسلمين القادمين للحج والعمرة .
وغادر مكة في اليوم الثاني من شهر ذي الحجة ( سنة 60 ه ) وكان توقيت المغادرة مثيراً لجموع الحجيج والمسلمين حيث كانوا يتأهبون لأداء مناسك الحج ،

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 161

فلماذا يحرمون من الحج مع الإمام ؟ ! .
وقد رافق الإمام في سفره عدد كبير من أهل بيته رجالاً ونساءً وجماعة من أنصاره وأتباعه ، وفي احدى مراحل الطريق وصلت الى الإمام الحسين أنباء التطورات الخطيرة في الكوفة وسيطرة الأمويين عليها ، ومقتل سفيره مسلم بن عقيل ، ورغم تألمه لما حدث الا أنه صمم على الأستمرار في حركته ومسيرته .
وحينما علمت السلطة الأموية باتجاه الحسين الى العراق ، بعثت بعض الفرق والمفارز العسكرية لتمنع الإمام الحسين من دخول الكوفة .
وبعدما تجاوزت قافلة الإمام الحسين موقعاً يقال له « شراف » واجهتهم فرقة عسكرية من الجيش الأموي تضم زهاء ألف فارس بقيادة الحر بن يزيد الرياحي ، وكان جنود الفرقة يعانون من الظمأ الشديد في حر الصحراء اللاهب ، فأنقذهم الإمام من الموت المحتم وبذل لهم ما يحتاجون من الماء ثم بدأ يحاورهم موضحاً لهم أسباب قدومه الى العراق ، لكنهم أصروا على أن يستسلم لهم ليقدموا به على ابن زياد والي الأمويين على الكوفة ، كما لم يسمحوا له بالرجوع من حيث أتى ، وحصل الاتفاق أن تسير قافلة الإمام الحسين في طريق لا يدخله الكوفه كما يريدون هم ، ولا يرجعه الى الحجاز كما يريده الإمام .

في كربلاء :

ووصلت الى قائد الفرقة الأموية رسالة من عبيدالله بن زياد ، تأمره بإبقاء الحسين في فيافي الصحراء ، وعدم اجباره على الدخول الى الكوفة ، خلافاً لقراره السابق ، ولعله فكر في أن دخول الحسين الى الكوفة قد يؤدي الى تطورات غير محسوبة ، فمواجهته في الصحراء وبعيداً عن الجمهور أفضل .
وعلى إثر الأمر الجديد أرادت الفرقة العسكرية أن تعرقل سير الإمام وتمنعه بينما كان الإمام يريد مواصلة السير ، ومع المشادة وتوتر الأجواء وصلوا الى منطقة على شاطئ الفرات ، وسأل الإمام عن اسم تلك المنطقة ، فأجيب انها كربلاء ، فأمر بالنزول فيها ، فهي الأرض التي اختارها الله لتكون مسرح ثورته ، وميدان

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 162

شهادته ، وموضع قبره .
وإذا كانت كربلاء في الجغرافيا مجرد بقعة محدودة من الأرض .
وإذا كانت في التاريخ قد سجلت باعتبارها مسرحاً لأهم حدث ديني سياسي في الأمة الإسلامية بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وإذا كانت قد أصبحت قبلة للمؤمنين يؤمونها ويقصدونها بقلوبهم وعواطفهم وأبدانهم .
وإذا كانت كربلاء قد أضحت وتراً حزيناً تعزف عليه قرائح الشعراء والأدباء وملحمة بطولية يستلهم منها الثوار والمصلحون .
فانها عند أهل البيت ( عليهم السلام ) أعمق من كل ذلك وأكبر .
فليست هناك قضية أو حادثة نالت من الأهتمام والتركيز لدى أهل البيت ما نالته قضية كربلاء .
فقبل وقوع الحادثة كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يتحدث عنها ويشرح بعض تفاصيلها ويبين أهميتها وابعادها . . وكذلك الإمام علي والسيدة الزهراء والإمام الحسن . . وبعد الحادثة كان أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) يجددون ذكراها ويحيون وقائعها ويأمرون الناس بتخليدها وتعظيمها .
روي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أعطى أم سلمة تراباً من تربة الحسين حمله اليه جبرئيل ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأم سلمة :
اذا صار هذا التراب دماً فقد قتل الحسين .
فحفظت أم سلمة ذلك التراب في قارورة عندها ، فلما قتل الحسين صار التراب دماً ، فأعلمت الناس بقتله أيضاً (19) .
وأخرج ابن سعد عن أم سلمة أيضاً قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه

(19) ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 4 ، ص 93 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 163

وآله ) : « أخبرني جبريل أن الحسين يقتل بأرض العراق ، فقلت لجبريل : أرني تربة الأرض التي يقتل فيها ، فجاء فهذه تربتها » (20) .
وأخرج ابن سعد أيضاً والطبراني في ( الكبير ) عن عائشة عنه ( صلى الله عليه وآله ) انه قال : « أخبرني جبريل ان ابني الحسين يقتل بعدي بارض الطف ، وجاءني بهذه التربة وأخبرني ان فيها مضجعه » (21) .
وأخرج البغوي ، وابن السكن ، والباوردي ، وابن مندة ، وابن عساكر ، والطبراني في ( الكبير ) باسناد رجاله ثقات عن أم سلمة :
« ان ابني هذا يعني الحسين يقتل بارض من أرض العراق يقال لها كربلاء فمن شهد ذلك منكم فلينصره » (22) .
وأخرج أحمد ، وابو يعلى ، والبزاز ، والطبراني في الكبير ( الكيبر ) باسناد رجاله ثقات ، عن نجي الحضرمي انه سار مع علي ، وكان صاحب مطهرته ، فلما حاذى نينوى ، وهو منطلق الى صفين ، فنادى عليّ : أصبر أبا عبدالله ، اصبر عبدالله بشط الفرات .
قلت : وما ذاك ؟ .
قال : دخلت على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذات يوم واذا عيناه تذرفان ، قلت : يا نبي الله أأغضبك أحد ؟ ما شأن عينيك تفيضان ؟ .
قال : بل قام من عندي جبريل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات ، قال : فهل لك أن أشممك من تربته ؟ قلت : نعم ! فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني ان فاضتا (23) .

(20) ( درّ السحابة في مناقب القرابة والصحابة ) محمد بن علي الشوكاني ص 294 .
(21) المصدر السابق .
(22) المصدر السابق .
(23) المصدر السابق ص 297 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 164

وفي ( تذكرة الخواص ) ( ص 260 ) أنه لما قيل للحسين هذه أرض كربلاء أخذ ترابها فشمه : وقال : والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله أنني أقتل فيها .
وجاء في ( حياة الحيوان ) للدميري ( ج 1 ص 60 ) ان الحسين سأل عن اسم المكان : فقيل له : كربلاء .
فقال : ذات كرب وبلاء ، لقد مر أبي بهذا المكان عند مسيره الى صفين وأنا معه ، فوقف وسأل عنه فأخبروه بإسمه ، فقال : هاهنا محط رحالهم ، وهاهنا مهراق دمائهم ! . . فسئل عن ذلك ؟ فقال : نفر من آل محمد ينزلون هاهنا . . ثم أمر بأثقاله فحطّت في ذلك المكان .
وكذلك جاء في ( مختصر صفة الصفوة ) (24) .
وكان وصول الإمام الحسين الى كربلاء في اليوم الثاني من شهر المحرم ( سنة 61 ه ) .

عاشوراء :

زحفت القوات العسكرية الأموية لتحاصر الحسين وأصحابه في كربلاء ، واختلف المؤرخون في عدد أفراد القوات الزاحفة نحو كربلاء ، ولعل القول الأقرب والأصح هو ثلاثون ألف مقاتل (25) ، بينما كان عدد أفراد معسكر الحسين لا يزيد على ثمانين رجلاً .
بينما فرضت السلطات الحصار على الكوفة وحالة الطوارئ في داخلها حتى لا يتسلل منها أحد للالتحاق بالإمام الحسين .
وكانت قيادة الجيش الأموي بعهدة عمر بن سعد .
وتحدّث الإمام الحسين للجيش الأموي الزاحف لقتاله مراراً ، ليعرفهم بنفسه

(24) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ، ص 91 .
(25) المصدر السابق ص 122 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي