ثمرات الاعواد /ج2 150



المطلب الثامن والثلاثون

في تنزيه المختار عليه السلام

لفق أشياع بني امية وأرباب التاريخ الأقلام المأجورة وأهل الجهل والعصبية أخباراً كثيرة في ذم المختار بن أبي عبيدة الثقفي رحمه الله , وافترى عليه من افترى منهم , ودسوا فيه أخباراً كاذبة وقضايا مختلفة هو منها بريء وكلما لفقوه واختلفوه هو إزاء نضاله وبلائه دون عقيدته والأخذ بثار سيد الشهداء ومقاومته للحكومة الأموية لا أكثر , وكلما ذكروه في ذمه عار من الحقيقة فما ذكروه :
أنه ادّعى النبوة وأنه يأتي إليه جبرئيل وحاشاه من هذا الإفتراء بل كان يدعي بإمامة السجاد زين العابدين ويدعو الناس أيضاً الى امامة السجاد , فلو كان يدعي الوحي لما كان يدعو الناس أولا الى إمامة محمد بن الحنفية , ثم لما ظهر له الحق وانجلى عنه غسق الريب صار يدعوا الى إمامة السجاد , وهو الذي أرسل للسجاد عليه السلام مالاً كثيراً وأرسل أيضاً حورية ام زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام .
ومنها : أنهم ذكروا أنه أرسل الى السجاد عليه السلام بمائة ألف درهم , وكره السجاد أن يقبلها منه , يجوز ان الامام عليه السلام لما ورد عليه المال من المختار ولم يقبله كان خوفه من السلطة الجائرة من حكومة عبدالملك بن مروان , فاتّقى الإمام في ذلك.
ومنها : قالوا : أن الإمام علي بن الحسين عليه السلام لعنه وهذا صريح على الإمام غير معقول في مذهبنا هذا وكيف يلعن الإمام شخصاً مسلماً موحداً يقول بنبوة
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 151

محمد صلى الله عليه واله وسلم ويعترف بالبعث والنشر , وقد جاءت الرواية عن أبي سدير عن أبي جعفر الباقر عليه السلام : لا تسبوا المختار , فإنه قتل قتلتنا وطلب بثارنا , وزوج أراملنا , وقسم المال فينا على العسرة , وروي مثله عن عبدالله بن شريك , قال : دخلنا على أبي جعفر عليه السلام يوم النحر , وهو متكئ , وقد أرسل الى الحلاق فقعدت بين يديه إذ دخل شيخ من أهل الكوفة فتناول يده ليقبلها فمنعه , ثم قال : أنا أبو محمد الحكم بن المختار بن أبي عبيدة , وكان متباعداً عن أبي جعفر , فمد يده الى حتى كاد يقعده في حجره بعد منع يده , ثم قال : أصلحك الله إن الناس قد أكثروا في أبي , وقالوا والقول والله قولك , قال : وأي شيء يقولون ؟ قال : يقولون كذاب ولا تأمرني بشيء إلا قبلته . فقال عليه السلام : سبحان الله ، « أخبرني أبي والله أن مهر امي كان مما بعث به المختار , أو لم يبن دورنا , وقتل قاتلنا , وطلب بدمائنا , رحم الله أباك رحم الله أباك , ما ترك لنا حقاً عند أحد إلا طلبه , قتل قتلتنا وطلب بدمائنا » .
فهذه الروايات كلها واردة في حقه والرحمة عليه , معناه رضى الأئمة عليه , ورضى الأئمة رضى الله تعالى , أضف الى ذلك ما رواه الأصبغ بن نباتة , قال : رأيت المختار على فخذ أمير المؤمنين عليه السلام وهو يمسح على رأسه ويقول : « يا كيس يا كيس (1) » ونحن نعتقد بأن أمير المؤمنين عليه السلام يعلم مآل المختار وعاقبة
(1) ذهب بعض الناس إلى تسمية المختار بكيسان , حيث ان أمير المؤمنين عليه السلام قال له : يا كيس , هذا قول وقيل : هذه النسبة التي لحقت بالمختار من صاحب شرطته , حيث كان اسمه كيسان , سمي باسم كيسان , مولى علي بن أبي طالب المكنى بإبي عمرة , وهو الذي كان يدله على قتلة الحسين عليه السلام وكان صاحب سره الغالب على أمره , وكان لا يبلغه شيء عن رجل من أعداء الحسين عليه السلام في دار أو موضع إلا قصده وهده داره بأسرها , وقتل كل من فيها من ذي روح , وكان أهل الكوفة يضربون به المثل , فإذا افتقد منهم أحد قالوا : دخل بيته أبو عمرة , يعنون بذلك كيسان صاحب المختار بن أبي عبيدة الثقفي رحمه الله .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 152

أمره , فلو كان ذلك كلما ذكروا لما أجلسه أمير المؤمنين عليه السلام في حجره ومسح على رأسه , ولما قال هذه المقالة وتلطف معه , وعلي أمير المؤمنين عليه السلام لا يخفي عليه أمر المختار , ودعا ابن الحنفية له أيضاً يوضح لنا حبه له , وحب محمد له من حب الأئمة عليهم السلام , وذلك لما أرسل الرؤوس الى السجاد عليه السلام ونظر إليها محمد بن الحنفية خر ساجداً ودعى للمختار وقال : جزاه الله خير الجزاء فقد أدرك ثارنا ووجب حقه على كل من ولده عبدالمطلب بن هاشم .
نعم شفى قلوب أهل البيت بأخذه الثار من أعدائهم وشفى غليله من أعدائهم وكان يأخذ بثارهم ويقتل أعدائهم فكان يقتلهم وهو يبكي كل ذلك حزناً على أبي عبدالله الحسين عليه السلام .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 153



المطلب التاسع والثلاثون

في فضل الكوفة والأخبار الواردة فيها

قال أمير المؤمنين عليه السلام من خطبة له : « كأني يا كوفة تمدين مد الأديم العكاظي (1) وتركبين بالزلازل , وتعركين بالنوازل , وإني اعلم أنه ما أراد بك جبار سوءاً إلا ابتلاه الله بشاغل , أو رماه بقاتل » .
قال ابن أبي الحديد : قد جاء في فضل الكوفة عن أهل البيت عليهم السلام شيء كثير نحو قوله عليه السلام : « نعمت المدرّة » .
وقوله عليه السلام : «إنه يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفاً وجوههم على صورة القمر».
وقوله عليه السلام : «هذه مدينتنا ومحلتنا ومقر شيعتنا».
وقول الصادق عليه السلام: «اللهم أرم من رماها وعاد من عاداها».
وقوله : « تربة تحبنا ونحبها » .
وأما ما هم به الملوك وأرباب السلطان والجبابرة فيها من السوء ودفاع الله
(1) الأديم هو الجلد الذي يعمل جيداً ويجلب الى سوق عكاظ ويباع هناك , وسوق عكاظ : من قديم الأزمان كان يقام سوق بمكة في أيام الموسم مثل ما كان يقام بالبصرة سوق المربد وبالقطيف اليوم سوق الأربعاء وفي البحرين سوق الخميس .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 154

عنها فكثير , قال المنصور للإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام : إني هممت أن أبعث الى الكوفة من ينقض منازلها ويجمر نخلها ويستصفي أموالها ويقتل أهل الربية منها فأشر علي , فقال : « يا أمير المؤمنين إن المرء ليقتدي بسلفه ولك أسلاف ثلاثة , سليمان اعطى فشكر , وأيوب ابتلى فصبر , ويوسف قهر فغغر , فاقتد بأيهم شئت » فصمت قليلاً ثم قال قد غفرت .
ويروى : أن زياد بن أبيه لما حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم وهمّ أن يخرب دورهم ويجمر نخيلهم ثم جمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة ليعرض عليهم البراءة من علي بن أبي طالب عليه السلام وعلم أنهم سيمتنعون فيحتج بذلك على استأصالهم وإخراب بلدهم , فقال عبدالرحمن بن السائب الأنصاري : فإني مع نفر من قومي والناس يومئذ في أمر عظيم إذ هومت تهويمة , فرأيت شيئاً أقبل طويل العنق , له عنق مثل عنق البعير , أهدر أهدل فقلت : من أنت ؟ فقال : أنا النقاد ذوالرقبة بعثت الى صاحب هذا القصر , قال : فاستيقظت فزعاً فقلت لأصحابي : هل رأيتم مثل ما رأيت ؟ قالوا : لا , فأخبرتهم , قال : ثم خرج عيلنا خارج من القصر فقالوا , انصرفوا فإن الأمير يقول لكم إني عنكم اليوم مشغول وإذا بالطاعون قد ضربه فكان يقول : إني أجد في النصف من جسدي حر النار حتى هلك , فقال عبدالرحمن بن السائب :
ما كـان مـنتهياً عمـا أراد بنا حتى تناوله النـقاد ذو الرقبه
فأثبت الشق منه ضربة عظمت كما تناول ظلما حاجب الرحبه (1)

هذا من الجبابرة الذين ابتلاهم الله بشاغل , ومن الجبابرة هذا الحجاج بن
(1) يريد بصاحب الرحبة أمير المؤمنين عليه السلام على ما ذكره شيخنا العلامة الشيخ عبدالواحد المظفري أيده الله في كتابه الأمالي المنتخبة .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 155

يوسف الثقفي , فإنه تولدت في بطنه الحيات واحترق دبره حتى هلك .
ومنهم عمر بن هبيرة وابنه يوسف رميا بالبرص .
ومنهم خالد القسري ضرب وحبس حتى مات جوعاً .
وممن رمي بقاتل عبيدالله بن زياد ومصعب بن الزبير ويزيد بن المهلب .
فالكوفة أفاضت الأخبار في فضلها وأن البلاء مدفوع عنها , وفي البحار عن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال : « ذكر علي عليه السلام الكوفة فقال : يدفع البلاء عنها كما يدفع عن أخبية النبي صلى الله عليه وآله وسلم». وعن إبن نباتة قال: بينا نحن ذات يوم حول أميرالمؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة إذ قال: « يا أهل الكوفة لقد حباكم الله عزوجل بما لم يحب به أحد , ففضل ملاكم وهو بيت آدم وبيت نوح وبيت إدريس ومصلى إبراهيم الخليل ومصلى أخي الخضر ومصلاي , وإن مسجدكم هذا أحد المساجد الأربعة التي اختارها الله عزوجل لأهلها , وكأني به يوم القيامة في ثوبين أبيض شبيه بالمحرم , يشفع لأهله ولمن صلى فيه فلا ترد شفاعته ، ولا تذهب الأيام حتى ينصب الحجر الأسود فيه (1) وليأتين زمان يكون مصلى المهدي من ولدي ومصلى كل مؤمن ولا يبقى مؤمن إلا كان به أو حن قلبه إليه , فلا تهجروه وتقربوا الى الله عزوجل بالصلاة فيه
(1) وهذه من مغيباته عليه السلام أشار الى القرامطة ورئيسهم أبو طاهر سليمان بن الحسن القرمطي بعد أن أظهروا أمرهم بالبحرين سنة مائتين وثمانية وخمسين هجرية , ودخلوا مكة يوم الإثنين لسبع خلون من ذي الحجة سنة ثلاثمائة وسبعة عشر , في سبعمائة رجل فخرج إليهم والي مكة في جماعة من الأشراف فقتلهم القرامطة جميعاً ودخوا المسجد بخيلوهم وسلاحهم ووضعوا السيف في الطائفين والمصلين والمحرمين الى أن قتلوا في المسجد وشعاب مكة زهاء ثلاثين ألف إنسان , ركض ابو طاهر بفرسه في المسجد وسيفه مشهور بيده وأمر بالقتلى ورموهم في بئر زمزم وبقية الآبار وأقام بمكة أحد عشر يوماً ينهب ويقتل ثم اقتلع الحجر وأخذه معه وجاء به الى الكوفة كما أخبر أمير المؤمنين عليه السلام من قبل .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 156

وارغبوا إليه في قضاء حوائجكم , فلو يعلم الناس ما فيه من البركة لأتوه من أقطار الأرض ولو حبوا على الثلج » .
وقال المؤلف سامحه الله في فضل مسجد الكوفة :
كوفان ما أسـما وأعلى مسجداً بك مـن أتـاه مؤمـّلا لا يحرم
لله مـن بيـت تـعالـى رفعة فله على سـمك الـضراح تقدم
بيت أتـاه آدم مـن غـابـرا لازمان حـيث بـفضله هو أعلم
بيت له روح الأمين وأحـمـد وجميع رسل الله قـد ما يـممّوا
وأتاه شيخ المرسلين مـصليـاً فـيه وكـل لـلإلـه يـعظـم
ولكم بـه كان الامام المرتضى يقـضي بـحـكم الله لـما يحكم
فكـأنه فلـك لـرفعت شـأنـه وكأنما هذي المـحارب أنـجـم
وكأن جـل الأنـبياء برحـبه قاموا الى فرض الصلاة وأحرموا
وعلي فـي محـرابه مـتقدم إن الإمـام الـى الصـلاة يـقدّم

وروي بحذف الأسناد عن اسامة عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال : سمعته يقول : « الكوفة روضة من رياض الجنة فيها قبر آدم ونوح وإبراهيم وقبور ثلاثمائة وسبعين نبياً وستمائة وصي , وقبر سيدالأوصياء علي أمير المؤمنين عليه السلام » .
وجاء إليه رجل قال له : سيدي إني قد ضربت على كل شيء لي ذهباً وفضة وبعت ضياعي فقلت : أنزل مكة . فقال عليه السلام : « لا تفعل فإن أهل مكة يكفرون بالله جهرة » . قال : أنزل بالمدينة ؟ قال : « هم شر منهم » . قال : فأين أنزل ؟ قال : « عليك بالعراق الكوفة فإن البركة منها على إثني عشر ميلاً هكذا وهكذا , والى جنبها قبر ما أتاه مكروب قط إلا وكشف الله كربه ولا ملهوف إلا وفرج الله عنه وهو قبر أمير المؤمنين عليه السلام » .
وقال : « حرمت النار على قدم تغبرت في زيارة جدي أمير المؤمنين عليه السلام » ,
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 157

بلى والله قبره حمى لجواره , قال الشاعر :
بقبرك لذنا والقبور كثيرة ولكن من يحمي الجوار قليل

وقال الآخر :
إذا مـت فـادفنّي مـجاور حـيدر أبي شبر ومولى الورى وشبير
فعار على حامي الحمى وهو بالحمى إذا ظل فـي البيدا عقال بعير
ولسـت أخـاف الـنار عند جواره ولا أختشـي من منكر ونكير

نعم , هو حامي الجار يحمي جواره , ولذا سكينة قالت لحميد بن مسلم , إن لنا قبراً في بالنجف واريد الرواح الى جدي أمير المؤمنين عليه السلام فأشكوا إليه ما جرى علينا من أهل الكوفة .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 158



المطلب الأربعون

في ما فعله السفاح ببني أمية

ذكر أرباب التاريخ وأهل السير : أنه لما انهار كيان الدولة الأموية وانهدم عرش جورهم على يد أبي مسلم الخراساني والمسوّدة , تربع على كرسي الخلافة ابو السفاح (1) ، خافته الملوك والتجأت إليه الأمم , وتشتت بنو أمية شرقاً وغرباً خوفاً من سطوته والفتك بهم .
قال أرباب التاريخ : ولما استتب له الأمر كتب إليه جماعة من الأمويين يطلبون منه الأمان ويسألونه التعطف والإحسان , وأنه لا يؤاخذهم بما كان , وأن يجعلهم أهل بطانته , فأجابهم : أنه غير غني عنهم , وإنه يحتاج الى خدمتهم , وضمن لهم الأموال والعطايا والأقطاع , واجتمع إليه الكبير والصغير من آل أبي سفيان واعقاب يزيد وآل زياد , فقربهم إليه , وجعل منهم أمراء وحجاب وندماء ووكلاء حتى اختلفت فيه الأقوال , فمن قائل يقول : إنه عمل هذا سياسة منه ,
(1) هو أبو العباس السفاح عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب , ولد في مستهل رجب سنة أربع ومائة , وبويع له بالكوفة يوم الجمعة لثلاث عشر ليلة خلت من ربيع الآخر، سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر , وامه ريطة بنت عبيدالله بن عبدالله بن عبدالمدان , توفي بالأنبار لثلاث عشر ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة , وصلى عليه عمه عيسى بن علي .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 159

ومنهم من يقول : كيف صار يقرب أعداءه وقتلة آبائه .
قال ابو الحسن : فبينما السفاح ذات يوم جالس وحوله بنو أمية عليهم الدروع المطرزة والعمائم الملونة , وقد تقلدوا بالسيوف المذهبة المحلاة بالأحجار الكريمة إذ دخل عليه بعض حجابه وهو مذعور , فقال له : يا أمير المؤمنين إن على الباب رجل ذميم المنظر عظيم المخبر شاحب اللون رث الاطمار يريد الدخول عليك , فقلت له : امض واغسل بدنك وثيابك وتطيب حتى أستأذن لك منه , فتدخل عليه فنظر الي شزرا , وقال : إني آليت أن لا أنزع ثوباً ولا أستعمل طيباً ولا ألذ بعيش حتى أصل الى أمير المؤمنين وها هو على الباب منتظر رد الجواب . قال : ولما سمع السفاح ذلك , قال : صاحبنا وعبدنا سديف (1) ورب الكعبة أذنا له فليدخل .
قال الراوي : ولما دخل سديف وسلم على السفاح وأنشأ يقول :
أصبح الملك ثابت الأساس بالـبهاليل من بني عباس
طلبـوا وتر هاشم فشفوها بعد ميل من الزمان وباس
(1) سديف كان عبداً لبني هاشم , وكان فصيح اللسان , قوي الجنان , وكان يخرج في موسم الحج الى بيت الله الحرام , ويصعد على ذروة من الأرض ينادي : أيها الناس , فيجتمع إليه الناس , ويبسط لسانه بمدح بني هاشم ويهجو بني امية ويصغر ملكهم ويحرض الناس عليهم , ليخلعوا الخلافة منهم ويجعلوها في بني هاشم الذي جعلها الله فيهم , وهم آل بيت محمد صلى الله عليه واله وسلم حتى انه جاء في موسم الحج وصعد زمزم وصاح برفيع صوته : يا أهل الأرض , ويا أهل الأبطح والصفا وباب مكة والكعبة العليا , فدونكم فاسمعوا , والله على ما أقول وكيل , فتكلم في بني امية ما استطاع , فقام إليه جماعة من بني أمية , وضربوه ضرباً موجعا حتى غشي عليه حتى ظنوا انه مات , قال الراوي : فجاءت امرأة فسقته شراباً بعد أن أفاق , وجعلت تمرضه حتى برئ وخرج من مكة الى الشعاب ورؤوس الجبال مثله في بحار الأنوار جلد العاشر منه .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 160

قال أرباب السير : ويقال أن سديف لما دخل على السفاح وأنشأ يقول شعراً
لا يـغرنك مـا ترى من رجال إن بين الضلوع داءاً دويّا
فضع السيف وارفع الصوت حتى لا ترى فوق ظهرها أمويّا

فقال له السفاح : يا سديف أهلاً بطلعتك ومرحباً برؤيتك , قدمت خير مقدم , وغنمت خير مغنم , فلك الاكرام والإنعام , وأما أنت ماله من الأعداء فالصفح أجمل , فإن أكرم الناس من عفا إذا قدر , وصفح إذا ظفر , ثم نادى : يا غلام عليّ بتخت من الثياب وكيس من الورق (1) فأتاه بذلك , فقال الصفاح : يا سديف خذ هذه الثياب وغير ثيابك , واصلح بهذه الدنانير حالك , وعد إلينا في غد انشاءالله , فلك عندنا ما تحب وترضى .
قال الراوي : فعند ذلك خرج سديف من عند السفاح وأخذ بنو أمية يحدّث بعضهم فالتفت إليهم السفاح , وقال لهم : يا بني امية لا يكبرن عليكم ما سمعتم من هذا العبد , وليس له رأي سديد ولا ينبغي أن نأخذ بأقواله , وإنما قال لهم هذا ليرفع ما وقع في نفوسهم من الهلع والجزع .
قال الراوي : ولما كان غداة غد بكر إليه بنو أمية على عادتهم فدخلوا وسلموا عليه فرد عليهم السلام , وقرب مراتبهم ورفع مجالسهم ففرحوا لذلك فرحاً شديداً وأخذ يحدثهم ويلاطفهم , فبينا هو كذلك إذ دخل عليهم سديف , وقد غير ثيابه , فسلم على السفاح , فأشار السفاح إليه بيده وقال : نعم صباحك وبان فلاحك وظهر نجاحك , كشف الله بك رواكد الهموم وفداك أبي لأنك آخذ بالثار وكاشف عن قومك وخيمة العار , وحاشاك أن تكون من الغافلين عن ثار قبيلتك فأغضب لعشيرتك يابن الرؤساء من هاشم , والسراة من بني عبد مناف .
(1) الورق الدراهم المضروبة جمعها أوراق ووراق .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 161

قال الراوي : فلما سمع السفاح كلامه أطرق برأسه إلى الأرض , ثم رفع رأسه وقال له : يا سديف أحلم الناس من صفح عمن ثلمه , وصان عرضه عمن ظلمه , فلك عندنا افضل الكرامة والجزاء , فانصرف يا سديف , ولا تعد الى مثلها أبداً , فخرج سديف من عنده , والتفت السفاح الى بني امية , وقال لهم : إني اعلم إن كلام هذا العبد قد أرجفكم , وقد أثر في قلوبكم , فلا تعبئوا بكلامه فإني لكم كما تحبون وفوق ما تأملون , وسأزيد لكم العطاء وأقرب لكم الجزاء , وأقدّمكم على غيركم , فخرجوا من عنده وقد سكن ما بهم واجتمعوا للمشورة فيما بينهم , قال قائل منهم : هلموا بنا حتى ندخل على السفاح ونسأله ان يسلم إلينا هذا العبد فنقتله , وامتنع الآخرون من هذا القول .
ولما أن أمسى المساء أرسل السفاح خلف سديف فأحضره عنده , فلما دخل عليه سديف قال له : ويلك يا سديف إنك لعجول في أمرك , مفش لسرك , ألا تستعمل الكتمان . فقال سديف : الكتمان قد قتلني , والتحمل قد أمرضني , والنظر الى هؤلاء الظلمة قد أسقمني , ولكن يخفى عليك أمري وما حل بي وبأهلك وعشيرتك من قتل الرجال وذبح الأطفال وهتك النسوان حمل حريم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم على الأقتاب بغير غطاء ولا وطاء يطاف بهم البلدان , فأي عين ترقا مدامعها وأي قلب لا ينفجع عليهم , فاستوف لهم الدماء , واضرب بحسامك العدا , وخذ بالثار من الظلمة لأئمة الهدى ومصابيح الدجى وسادة الأحرار , ثم أنشأ يقول :
رجالكم قتلوا من غير ذي سبب واهلكم هتكوا جهراً على البدن

بلى والله لقد قتلوا أبناء رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأحفاده وأسروا كرائمه على عجف النياق بلا غطاء ولا وطاء .
رجالهم صرعى وأسر نساؤهم وأطفالهم في السبي تشكوا حبالها

السابق السابق الفهرس التالي التالي