المؤمنين عليه السلام .
فقال طلحة لأصحابه في السرّ : والله لئن قدم عليّ القبصرة لنؤخذنّ بأعناقنا ، وحثّهم على بيات عثمان ونقض عهده ، فأجابوه وقصدوا عثمان في ليلة مظلمة وهو يصلّي بالناس العشاء الآخرة ، وقتلوا من شرطه خمسين رجلاً ، واستأسروه ، ونتفوال شعر لحيته ، وحلقوا رأسه ، وحبسوه .
وكان أمير المؤمنين عليه السلام قد ولّى على المدينة أخاه سهل بن حنيف ، فلمّا بلغه الخبر كتب إلى عائشة : أعطي الله عهداً لئن لم تخلوا سبيله لابلغنّ من أقرب الناس إليكم ، فأطلقوه ، وبعثت عائشة إلى الأحنف بن قيس تدعوه ، فأبى واعتزل في الجَلحاء على فرسخين من البصرة في ستّة آلاف رجل ، ثمّ بعث طلحة والزبير عبد الله بن الزبير في جماعة غلى بيت المال فقتل أبا سالمة الزطّي وكان على بيت المال ؛ وقيل : معه خمسي رجلاً من أصحابه .
وخرج أمير المؤمنين عليه السلام في ستّة آلاف رجل من المدينة ونزل بالربذة ، ومنها إلى ذي قار بالقرب من الكوفة ، وأرسل الحسن وعمّار إلى الكوفة وكتب معهم :
من عبد الله ووليّه عليّ أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة حمية(1) الأنصار وسنام العرب ، ثم ذكر ما تمّ على عثمان وفعل طلحة والزبير [وعائشة](2)، ثم قال : ألا إنّ دار الهجرة قد قلعت بأهلها وقلعوا بها ، وجاشت جيش المرجل ، وقامت الفتنة على القطب ، فأسرعوا إلى أميركم ، وبادروا عدوّكم .
فلمّا بلغوا الكوفة قال أبو موسى الأشعري : يا أهل الكوفة ، اتّقوا الله
(1) في المناقب : جبهة .
(2) من المناقب .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1
387
تقتلوا أنفسكم ، إنّ الله كان بكم رحيماً «ومن يقتل مؤمناً متعمّداً»(1) الآية ، وجعل يثبّط الناس ، وكان رأساً من رؤساء المنافقين لأمير المؤمنين عليه السلام ، وكانت عائشة قد أرسلته أن يثبّط الناس عن عليّ عليه السلام ، فسكّته عمّار .
فقال أبو موسى : هذا كتاب عائشة تأمرني أن اُثبّط الناس من أهل الكوفة ، وأن لا يكوننّ لنا ولا علينا ليصل إليهم صلاحهم .
فقال عمّار : إنّ الله تعالى أمرها بالجلوس فقامت ، وأمرنا بالقيام لندفع الفتنة فنجلس !! فقام زيد بن صوحان ومالك الأشتر في أصحابهما وتهدّدوه ، فلمّا أصبحوا قام زيد بن صوحان وقرأ : «الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون»(2) الآيات .
ثم قال : أيها الناس ، سيروا إلى أمير المؤمنين ، وانفروا إليه أجمعين ، تصيباو الحق راشدين .
ثم قال عمار : هذا ابن عم رسول الله يستنفركم فأطيعوه ـ في كلام له ـ .
وقال الحسن بن علي عليهما السلام : أجيبوا دعوتنا ، وأعينونا على ما بلينا به ـ في كلام له ـ ، فخرج قعقاع بن عمرو ، وهند بن عمرو ، وهيثم بن شهاب ، وزيد بن صوحان ، والمسيّب بن نجبة ، ويزيد بن قيس ، وحجر بن عديّ ، وابن مخدوج ، والأشتر ، يوم الثالث في تعسة آلاف ، فاستقبلهم أمير المؤمنين على فرسخ ، ووقال : مرحباً بكم أهل الكوفة سنام العرب ، وفئة الإسلام ، ومركز الدين ـ في كلام له ـ وخرج إلى أمير المؤمنين من شيعته من أهل البصرة من
(1) في المناقب : وما كان من يدعى .
(2) كذا في المناقب ، وفي الأصل : وأوضعوا .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1
390
فقال ابن عبّاس : لا طاقة لك بحجج المخلوق ، فكيف طاقتك بحجج الخالق ؟(1)
ولمّا رأى أمير المؤمنين انّ الشيطان قد استحوذ ، وانّالآيات والنذر لا تغني عنهم ، زحف عليه السلام بالناس غداة يوم الجمعة لعشر ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ستّ وثلاثين ، وعلى ميمنته الأشتر وسعيد بن قيس ، وعلى ميسرته عمّار بن ياسر وشريح بن هانئ ، وعلى القلب محمد بن أبي بكر وعديّ بن حاتم ، وعلى الجناح زياد بن كعب وحجر بن عديّ ، وعلى الكمين عمرو بن ا لحمق وجندب بن زهير ، وعلى الرجّالة أبو قتادة الأنصاري ، وأعطى رايته محمد بن الحنفيّة ، ثم أوقفهم من صلاة الغداة إلى صلاة الظهر يدعوهم ويناشدهم ، ويقول لعائشة : إنّ الله أمرك أن تقرّي في بيتك ، فاتّقي الله وارجعي ، ويقول لطلحة والزبير : خبّاتما نساءكما وأبرزتما زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله واستغررتماها !(2)
فيقولان : إنّما جئنا للطلب بدم عثمان ، وأن نردّ الأمر شورى .
واُلبست عائشة درعاً ، وضربت على هودجها صفائح حديد ، واُلبس الهودج أيضاً درعاً ، وكان الهودج يومئذ عند لواء أهل البصرة(3) وهو على جمل يدعى عسكرا .(4)
ابن مردويه في كتاب الفضائل : أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال للزبير : أما تذكر يوماً كنت مقبلاً بالمدينة تحدّثني إذ خرج رسول الله صلى الله عليه
(1) مناقب ابن شهراشوب : 3 / 149 ـ 153 ، عنه البحار : 32 / 117 ح 94 .
(2) في المناقب : واستفززتماها .
(3) في المناقب : وكان الهود لواء أهل البصرة .
(4) إلى هنا رواه في أنساب الأشراف : 2 / 239 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1
391
وآله فرآك معي وأنت تتبسّم إليّ ، فقال : يا زبير ، أتحبّ عليّاً ؟
فقلت : وكيف لا اُحبّه وبيني وبينه من النسب والمودّة في الله ما ليس لغيره ؟!
فقال : إنّك ستقاتله وأنت ظالم له .
فقلتَ : أعوذ بالله من ذلك .
فقال : اللهم نعم .
فقال : أجئت تقاتلني ؟
فقال : أعوذ بالله من ذلك .
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : دع هذا ، بايعتني طائعاً ، ثم جئت محارباً ، فما عدا ممّا بدا ؟!
فقال : لا جرم والله لا قاتلتك .
قال : فلقيه عبد الله ابنه ، فقال : جُبناً جُبناً .
فقال : يا بنيّ ، قد علم الناس أنّي لست بجبان ، ولكن ذكّرني عليّ شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله فحلفت [أن](1) لا اُقاتله .
فقال : دونك غلامك فلان فأعتقه كفّارة عن يمينك .
فقالت عائشة : لا والله ، [بل](2) خفت سيوف ابن أبي طالب ، فإنّها طوال حداد ، تحملها سواعد أنجاد(3)، ولئن خفتها فقد خافها الرجال من قبلك ، فرجع
(1 و2) من المناقب .
(3) كذا في المناقب ، وفي الأصل : أمجاد .
ورجل نَجدٌ : شجاع ماض فيما يعجز عنه غيره ؛ وقيل : هو الشديد البأس ؛ وقيل : هو
=
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1
392
إلى القتال .
فقيل لأمير المؤمنين : إنّه قد رجع .
فقال : دعوه ، فإنّ الشيخ محمول عليه .
ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام : أيّها الناس ، غضّوا أبصاركم ، وعضّوا على نواجذكم ، وأكثروا من ذكر ربّكم ، وإيّاكم وكثرة الكلام فإنّه فشل .
ونظرت إليه عائشة وهو يجول بين الصفّين ، [فقالت :](1) انظروا إليه فإنّه يفعل كفعل رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر .
فقال أمير المؤمنين : يا عائشة ، عمّا قليل لتصبحنّ نادمين .
فجدّ الناس في القتال ، فنهاهم أمير المؤمنين عليه السلام وقال : اللهم أعذرت وأنذرت ، فكن لي عليهم من الشاهدين ، ثم أخذ المصحف وطلب من يقرأ عليهم «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا»(2) الآية .
فقال مسلم المجاشعي : هاأنذا يا أمير المؤمنين ، فخوّفه أمير المؤمنين بقطع يمينه وشماله وقتله .
فقال : لا عليك يا أمير المؤمنين ، فهذا قليل في ذات الله ، فأخذوه وهو يدعوهم إلى الله فقطعوا(3) يده اليمنى ، فأخذ المصحف بيده اليسرى فقطعت ، فأخذه بأسنانه فقتل رضي الله عنه ، فقالت اُمّه :
= السريع الإجابة إلى ما دُعي إليه . «لسان العرب : 3 / 417 ـ نجد» .
(1) من المناقب .
(2) سورة الحجرات : 9 .
(3) في المناقب : فأخذه ودعاهم إلى الله فقطعت .
(1) نهج البلاغة : 55 خطبة رقم 11 ، عنه البحار : 32 / 195 ح 144 ، وج 100 / 39 ح 41 .
(2) من المناقب .
(3) مناقب ابن شهراشوب : 3 / 153 ـ 155 ، عنه البحار : 32 / 172 ح 132 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1
394
عليه السلام ودفع الراية إلى محمد ، وقال له : امح الاولى بالاخرى وهؤلاء الأنصار معك ، وضمّ إليه خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين في جمع من البدريّين ، فحمل حملات منكرة ، وأبلى بلاء حسناً ، وقتل خلقاً كثيراً ، وصيّر عسكر الجمل كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف ، ورجع إلى أمير المؤمنين .
فقال خزيمة بن ثابت : أما إنّه لو كان غير محمد لافتضح .
وقال الأنصار : لولا ما نعلم من جعل الإمامة للحسن والحسين لما قدّمنا على محمد أحداً .
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : أين النجم من الشمس والقمر ؟ أين نفع ابني من ابنيّ رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
وأنشأ خزيمة بن ثابت رضي الله عنه يقول :
(1) التعريد : الفِرار ، وقيل : سرعة الذهاب في الهزيمة . «لسان العرب : 3 / 288 ـ عرد ـ» .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1
395
قيل لمحمد بن الحنفيّة : لِمَ كان أبوك يغرر بك في الحرب ولم يغرر بالحسن والحسين ؟
قال : لأنّهما عيناه وأنا يمينه ، فهو يدفع عن عينيه بيمينه .(1)
وروي أنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه أمر الأشتر أن يحمل ، فحمل وقتل هلال بن وكيع صاحب ميمنة الجمل ، وكان زيد بن صوحان يحمل ويقول :
ديني ديني وبيعتي بيعتي .(2)
وجعل مخنف بن سليم(3) يقول :
قد عشت يا نفس وقد غنيت
دهراً وقبل اليوم ما عييت
وبعد ذا لا شـك قـد فنيت
أما مللت طول ما حيـيت
فخرج عبد الله بن اليثربي يقول :
يا ربّ إنّي طالب أبا الحسن
ذاك الذي يعرف حقّاً بالفتن
فبرز إليه أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً .:
(1) أورده في شرح نهج البلاغة : 1 / 244 باختلاف يسير ، عنه البحار : 42 / 99 . وفي ذوب النضار لابن نما ـ بتحقيقنا ـ : 55 .
وأورده في كشفا لغمّة : 2 / 25 بهذا اللفظ : قيل لمحمد بن الحنفيّة رحمه الله : أبوك يسمح بك في الحرب ويشحّ بالحسن والحسين عليهما السلام !!
فقال : هما عيناه وأنا يده ، والانسان يقي عينيه بيده .
وقال مرّة اُخرى ـ وقد قيل له ذلك ـ : أنا ولده وهما ولدا رسول الله صلى الله عليه وآله ، عنه البحار : 42 / 96 ح 27 .
(2) في المناقب : وبيعي بيعي .
(3) كذا في البحار ، ,في الأصل والمناقب : مسلم .
وهو مخنف بن سليم الأزدي ، ابن خالة عائشة . راجع رجال الطوسي : 58 رقم 12 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1
396
إن كنت تبغي أن ترى أبا الحسن
فاليوم تلقاه مليّاً فاعلمن
وضربه ضربة فقتله .
فخرج بنو ضبّة وجعل بعضهم يقول :
نحن بنو ضبّة أعداء عليّ
ذاك الذي يعرف فيهم بالوصيّ
وقال آخر منهم :
نحن بنو ضبّة أصحاب الجمل
والموت أحلى عندنا من العسل
ردّوا علينا شيخـنا بـمر تحل
إنّ عليّاً بعد مـن شـرّ النـذل
وقيل : إنّ ابن اليثربي عمرو ـ أخوه عبد الله المذكور ـ يقول :
إن تنكروني فأنا ابن اليثربي
قاتل علباء ثم(1) هند الجملي
ثمّ ابن صوحان على دين عليّ
فبرز إليه عمّار رضي الله عنه قائلاً :
لا تبرح العرصة يا ابن اليثربي
اثبت اُقاتلك على دين عليّ
فأرداه عمّار عن فرسه وجرّ برجله إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فقتله بيده .
فخرج أخوه أيضاً قائلاً :
أضربكم ولو أرى عليّا
عمّمته أبيض مشرفـيّا
وأسمراً عنطنطاً خطيّا(2)
اُبكي عليه الولد والوليّا
(1) في المناقب : يوم .
(2) الأسمر : الرمح وعنطنط : الطويل . والخَطُّ : مرفأ السفن بالبحرين تنسب إليه الرماح .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1
397
فخرج إليه أمير المؤمنين عليه السلام متنكّراً وهو يقول :
يا طالباً في حربه عليّا
يمنحه(1) أبيض مشرفيّا
اثبت لتلقاه(2) بها مليّا
مهذّباً سميدعاً(3) كمـيّا
فضربه فرمى بنصف رأسه ، فنادى عبد الله بن خلف الخزاعي صاحب منزل عائشة بالبصرة لعليّ : أتبارزني ؟
فقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : ما أكره ذلك ، ولكن ويحك يا ابن خلف ما راحتك في القتل وقد علمت من أنا ؟
فقال : ذرني من بذخك يا ابن أبي طالب ، ثم قال :
إن تدن منّي يا عليّ فترا
فإنّنـي دان إلـيك شـبرا
بصارم يسقيك كأساً مرّا
إن في صدري عليك وترا
فبرز إليه أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً :
يا ذا الذي تطلب منّي الوترا
إن كنت تبغي أن تزور القبرا
حقّاً وتُصلى بعد ذاك جمرا
فادن تجدني أسـداً هـزبـرا
اُذيقك(4) اليوم ذعافاً صبرا
فضربه أمير المؤمنين عليه السلام فطيّر جمجمته .
(1) في المناقب : يمنعه .
(2) في المناقب : ستلقاه .
(3) السميدع : السيد الشريف السخيّ والشجاع .
(4) في المناقب : اصعطك .
واصعطه : أي أدخله في أنفه . والذعاف : السمّ الذي يقتل من ساعته .