آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 136

على أن الإمام الصادق عليه السلام صور حزن الفاطميات بقوله :
« ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت ، ولا رؤي الدخان في بيت هاشمي خمس حجج إلى أن قتل عبيدالله بن زياد » .
بل إن السيدة آمنة عليها السلام حينما وصلت المسجد النبوي في المدينة صاحت : يا جداه إليك المشتكى مما جرى علينا ، فوالله ما رأيت أقسى من يزيد ، ولا رأيت كافرا ولا مشركا شرا منه ولا أجفى وأغلظ ، فلقد كان يقرع ثغر أبي بمخصرته وهو يقول : كيف رأيت الضرب يا حسين (2) .
هكذا عبرت السيدة آمنة عن لوعتها وتفجعها للمصاب ، فكيف تنسى بعد ذلك وترتكب حياة تعدد الأزواج ؟!
والسيدة الرباب أمها بكت على أبي عبدالله حتى جفت دموعها ، فأعلمتها بعض جواريها بأن السويق يسيل الدمعة ، فأمرت أن يصنع لها السويق لاستدرار الدموع (3) .
والإمام زين العابدين عليه السلام يدعو إلى الحزن على أبي عبدالله عليه السلام ويتعجب ممن لا يحزن من أجله ، ولا يبكي على مأساة ، فقال في خطبته حين وصول المدينة بعد أن حمد الله وأثنى عليه قال : « أيها القوم ، إن الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة ، قتل أبو عبدالله الحسين عليه السلام وعترته ، وسبيت نساؤه وصبيته وداروا برأسه في البلدان ، من فوق عامل السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية .
أيها الناس ، فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله ؟ أم أي فؤاد لا يحزن من أجله ؟ أم أية


(1) مقتل الحسين للقرم : 376 .
(2) المصدر السابق .
(3) المصدر السابق .
آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 137

عين منكم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها ؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسماوات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج البحار ، والملائكة المقربون ، وأهل السماوات أجمعون . أيها الناس ، أي قلب لا ينصدع لقتله ؟ أم أي فؤاد لا يحن إليه ؟ أم أي سمع يسمع بهذه الثلمة التي ثلمة في الإسلام ولا يصم ؟ أيها الناس ، أصبحنا مشردين مطرودين مذودين شاسعين عن الأمصار كأننا أولاد ترك وكابل ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكابناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين أن هذا إلا اختلاق ، والله لو أن النبي تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم اليهم الوصية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأفجعها وأكظها وأفظها وأمرها وأفدحها ، فعند الله نحتسب ما أصابنا ، وما بلغ بنا ، فإنه عزيز ذو انتقام ».

هذه هي وصية الإمام عليه السلام لشيعته بملازمة الحزن وتجدده عند ذكر سيد الشهداء عليه السلام ، وما ينبغي لهم ، فكيف بحال أخته الطاهرة السيدة آمنة عليها السلام وغيرهن من الفاطميات ؟!
محاولة تشويه الحقائق إذن

إذا عرفنا أحزان أهل البيت عليهم السلام وتفجعهم من وقع المأساة ، علمنا أن حزنهم هذا إدانة للأمويين ولمن نحى منحاهم ، والحزن الدائم الذي رفعه أهل البيت عليهم السلام شعارا لمظلوميتهم ، حاول أعداؤهم مسخه وتغييره إلى حالات من التوافق والانسجام بينهم وبين أعدائهم ، بل إلغاء أحزانهم عليهم السلام وإحالتها إلى قضية وقتية ، شعر بها أهل البيت عليهم السلام بالانقباض إبان واقعة الطف ، وانتهى الأمر بنسيانها وإسدال ستار العلاقات الطيبة بين أهل

(1) مقتل الحسين عليه السلام للمقرم : 374 .
آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 138

البيت عليهم السلام وبين الأمويين ، وأن المسألة لم تكن كما تصورها شيعتهم ، بل هي لا تعدو عن منازعة على سلطان انتهت بغلبة أحدهما وإعادة التفاهم بين الطرفين ، وجعلوا دلالة ذلك علاقات الزواج بين السيدة « آمنة » سكينة وبين أزواجها الزبيريين والأمويين ، وبذلك شطبوا على كل الأحداث التي مرت ، من خلال تحسين العلاقات بين الطرفين ، إضافة إلى إلغاء طابع المأساة الذي طبع به أهل البيت عليهم السلام حياتهم ، احتجاجا على ظالميهم .
في حين أن السيدة آمنة تبدو خلاف ذلك ، فهي في سعةٍ من العيش ، تمارس حياة طبيعية لا تشوبها ذكريات الطف . هذا حال المرأة التي من شأنها أن تستذكر أبدا أحزانها وتستعيد آلامها ، تعيش حياتها الطبيعية ، فكيف برجالهم ؟ فهم أولى بممارسة الحياة الطبيعية ، وإقامة العلاقات الطيبة بينهم وبين الأمويين والزبيريين ، وما هذا التباعد بين الطرفين إلا تخيلات الذين يحاولون تصوير عدم الرضا والتفاهم بين الطرفين .
هكذا سعى وضاع أخبار السيدة « آمنة » سكينة عليها السلام إلى إلغاء حالات التظلم التي اظهرها أهل البيت عليهم السلام إدانة لأعدائهم ، وكشفا عن مظلوميتهم النابعة عن إبعادهم عليهم السلام عن حقوقهم ، واستيلاء أعدائهم على مقاماتهم التي رتبها الله لهم ، فإذا ارتكزت أخبار زواج السيدة سكينة من تشكيلات أموية وزبيرية ، وإظهار حياتها مظهر اللهو والعبث ، فمتى يبقى بحال لقداسة مظلومية أهل البيت وسمو مقامهم في الأذهان ، إذا ما انفتح القارئ عل رؤية جديدة تحاول تطبيع العلاقات بين بيتين لم يتوافقا ؟ اختلفا في الله وافترقا في الله ، أي لا يزال أهل البيت عليهم السلام لم يتفقوا مع أطروحة أعدائهم ، مهما حاول الوضاع تصوير العلاقة بين الفريقين إلى حالة طبيعية منسجمة .

آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 139

وحينما تزور الحقائق ...

يصل الأمر بهؤلاء الوضاعين أن يرووا روايات تخالف العقل والوجدان ، إمعانا منهم في الطعن بكرامة أهل البيت عليهم السلام والوصول إلى أهدافهم وغاياتهم .
فقد روى الإصفهاني عن أبي الأزهر قال : حدثنا حماد بن إسحاق ، عن أبيه ، عن الهيثم بن عدي ، عن صالح بن حسان وغيره : أن سكينة كانت عند عمرو بن حكيم بن حزام ، ثم تزوجها بعده زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان ، ثم تزوجها مصعب بن الزبير ، فلما قتل مصعب خطبها إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف فبعثت إليه : أبلغ من حمقك أن تبعث إلى سكينة بنت الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخطبها ؟ فامسك عن ذلك .
قال : ثم تنفست يوما بنانة جارية سكينة وتنهدت ، حتى كادت أضلاعها تتحطم ، فقالت لها سكينة : ما لك ويلك ! قالت : أحب أن أرى في الدار جلبة ـ تعني العرس .
فدعت مولى لها تثق به ، فقالت له : إذهب إلى إبراهيم بن عبدالرحمن ابن عوف فقل له : إن الذي كنا ندفعك عنه قد بدا لنا فيه ، أنت من أخوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاحضر بيتك .
قال : فجمع عدة من بني زهرة ، وأفناء قريش من بني جمح وغيرهم ، نحوا من سبعين رجلا أو ثمانين ، ثم أرسل إلى علي بن الحسين ، والحسن ابن الحسن وغيرهم من بني هاشم . فلما أتاهم الخبر اجتمعوا وقالوا : هذه السفيهة تريد أن تتزوج إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف ، فتنادى بنوهاشم واجتمعوا وقالوا : لا يخرجن أحد منكم إلا ومعه عصا ، فجاؤوا وما بقي إلا

آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 140

الكلام ، فقال : اضربوا بالعصي ، فاضطربوا هم وبنو زهرة ، حتى تشاجوا ، فشج بينهم يومئذ أكثر من مئة إنسان ، ثم قالت بنو هاشم : أين هذه ؟ قالوا : في هذا البيت ، فدخلوا إليها فقالوا : أبلغ هذا من صنعك ؟ ثم جاؤوا بكساء فبسطوه ثم حملوها ، فأخذوا بجوانبه ـ أو قال : بزواياه الأربع ـ فالتفتت إلى بنانة فقالت : يا بنانة أرأيت في الدار جلبة ؟ قالت : أي والله إلا أنها شديدة (1) .
هكذا يروي هؤلاء أساطير دون وازع من دين ، ولا رادع من عقل .

الخلاصة

وخلاصة بحثنا أن السيدة سكينة بنت الحسين عليهما السلام اسمها « آمنة » ، وسكينة لقب لقبت به ، وكل ما قيل من شعر في سكينة فهي ليست سكينة بنت الحسين التي هي آمنة ، بل هناك سكينة بنت خالد بن مصعب الزبيري ، التي كانت معروفة بملاقاتها واجتماعها مع عمر بن أبي ربيعة الشاعر ، الذي تغزل بها وشبب بغيرها ، أمثال عائشة بنت طلحة بن عبيد الله زوجة مصعب ابن الزبير ، وسعدى بنت عبدالرحمن بن عوف ، وبأم البنين بنت عبدالعزيز ابن مروان زوجة الوليد بن عبدالملك ، وغيرهن من النساء الأمويات والمروانيات ، وكانت سيرتهن مجالسة شعراء عصرهن وقتذاك ، ومسامرتهن لهم وتحرشهن بهم ، حتى عرفت فيهن ملاحم اللهو والعبث ، وهذا لعمري إحدى الانتقاصات التي وجهتها المعارضة العلوية الشيعية ، التي كانت تنظم بين الحين والآخر ضد النظام الأموي ، وما ماثلته من حركات زبيرية وأطروحات مخالفة لأهل البيت عليهم السلام ، وكانت هذه المعارضة تستعرض الانتهاكات الشرعية التي كانت ترتكبها هذه الأنظمة ، وما صاحبها

(1) الأغاني 16 : 161 .
آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 141

من حياة عابثة على مستوى نساء هذه التكتلات ، التي لا تقيم وزنا للمحاذير الشرعية وهي ترفع شعار الخلافة الإسلامية ، فهي لم تبق حرمة إلا انتهكتها ، ولا محذور إلا مارسته .
وبالمقابل تجد أهل البيت عليهم السلام لا يزالون يمثلون الخلافة الإلهية حقا ، بالرغم من إبعادهم عن ممارسة مهامهم ، وإقصائهم عن مناصبهم . فالأمة كلما نظرت إلى هؤلاء وأولئك تجد الفرق واضحا ، فهؤلاء أهل بيت الوحي ، ومعدن النبوة ، ومختلف الملائكة ، وأهل التقوى والورع . وأولئك الأمويون وغيرهم يرتكبون كل ما حرم الله .
أما قضية تعدد الأزواج ، فهي إساءة أخرى لهذا البيت الأقدس ، فضلا عما حاوله هؤلاء من التقريب بين آل علي عليه السلام وبين أعدائهم ، وإلغاء العداء التقليدي بينهم وبين مخالفيهم ، والحال أن أخبار الزواج بعد مناقشتها لم تصمد عدا ما ذكر من أن السيدة آمنة بنت الحسين تزوجت من عبدالله بن الحسن السبط الذي استشهد في واقعة الطف ، ولم تتزوج بعده حتى ماتت رضوان الله عليها من عفيفة الطالبيين ، وعقيلة القرشيين .
إنها آمنة بنت الحسين بن علي عليهم السلام ، وحسبك بذلك فخرا وشرفا وعزا ، وأحبط الله محاولات الظالمين الذين أرادوا تشويه تاريخ أهل البيت عليهم السلام ؛ ليضيفوا إلى مظلومياتهم ، مظلومية أخرى ، والله من ورائهم محيط . وسيعلم الذين ظلموا آل محمد أي منقلب ينقلبون ، والعاقبة للمتقين . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

السابق السابق الفهرس