آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 44

أنه عنونها باسم أميمة ، ولعل اختياره كان مسايرة لما عليه الأكثر ليس إلا .
من هنا يتأكد لنا الاسم الحقيقي للقب سكينة وهو آمنة بنت الحسين عليهما السلام ، لذا فالأمانة العلمية تدعونا إلى إثبات اسمها الصحيح ، والتعامل معه تعاملا جديا ، وذلك لغلق الطريق على الأكاذيب التي عهد إليها البعض للإساءة إلى بيت النبي الأطهر ، وتمحلات الآخرين الذين حسبوها أنها مرتكزات تاريخية ، دون أن يتكلفوا أدنى مطالب التحقيق في شأن هذه الحادثة الخطيرة ، لذا فإننا نأمل من ذوي التحقيق وأهل الإنصاف ، أن يرتكز في أذهانهم اسم آمنة بنت الحسين ، والتعامل معه تعاملا حقيقا ، والإعراض عن لقبها الذي استغله بعض أهل الأهواء ، والسذج من بسطاء العوام ، الذين لا خلاق لهم بتحقيق الوقائع ، ومعرفة الأحداث ، ومالهم بذلك إلا المطامع ، أو النعيق مع كل ناعق .
مصالح أموية ومطامع زبيرية

لم تزل الروايات التاريخية تحت مطرقة الأهواء والأغراض السياسية ، بل انجر ذلك حتى إلى رواية الحديث النبوي ، وقد أشرنا إلى ذلك بشيء من التفصيل في كتابنا « تاريخ الحديث النبوي بين سلطة النص ونص السلطة » ، ولا يزال تاريخنا مخبوءا خلف ظروف روائية أسهم في إيجادها رواة وظفتهم السياسة ؛ لإيجاد حبكات قصصيةٍ وروايات توهم الآخرين بأنها ضمن تراثنا التاريخي الإسلامي ، في حين لم تكد مدونات التاريخ تستعرض واقعة تاريخية ، أو تسبر سيرة شخصية ، إلا وتجد مشكلة الوضع تخترق الحدث ، وتحيله إلى قراءة لتوجهات سياسية ، تتحكم فيها أغراض الراوي الذي ينتسب إلى تلك الجهة المعنية ، أو تلك الرؤية المحسوبة ،

آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 45

وهكذا تتدخل هذه التوجهات لتأسيس تاريخ مشوه ، أو روايات موضوعة ، أو حدث مفتعل تجيد صياغته تارة أو تضطرب أخرى ، فتبدو القضية متناقضة غير حقيقية ، بأدنى تأمل ودقة نظر .
من هنا يمكننا أن نستعرض لهذه الظاهرة نموذجين من الوضع والتزوير ، تتدخل فيها عدة توجهات سياسية معينة :

أحدها :

المصالح الأموية التي ما برحت تكيد لآل علي عليهم السلام منذ عهد معاوية بن أبي سفيان .

وثانيا :

المطامع الزبيرية التي ما فتئت تلاحق المجد العلوي منذ حرب الجمل ، حتى ما ارتكبه آل الزبير من تأسيس مجدهم الزائل على جماجم شيعة علي عليه السلام وأصحابه ، ولاننسى ما بذله عبدالله بن الزبير وآله من محاربة العلويين وملاحقتهم ، كنفي محمد بن الحنيفة ، أو إخراج عبدالله بن عباس ، ومثلهم من بني هاشم عن مكة ، وإعلان العداء لهم منذ قيام دولتهم يومذاك . بمعنى أن الزبيريين عرفوا بمنافستهم الشديدة لآل علي عليه السلام ، وكانوا يحسدون ما يحرزه العلويون من تقدم في كل المجالات ، والأمة تتعامل مع العلويين بأنهم يمثلون الشرعية التي لا يمكن لأحد إغفالها أو تجاوزها ، وإذا لم تدم الجهود الزبيرية في تأسيس دولتهم يومذاك ، فلا بد أن يبحثوا عن مجد يحيلهم إلى أسياد الشرعية ، وقادة الأمة . حينئذ كيف يتم ذلك وملاحم العبث تملأ الأخبار ؟ وقصص عمر بن أبي ربيعة وسكينة بنت خالد بن مصعب يتداولها الناس ، ويتغنى بها أهل المجون والغناء ، وهذه مشكلة يستشعر منها الزبيريون إحدى المعضلات التي تعرقل دعاواهم في شرعيتهم المدعاة . إلى جانب ذلك ترى الأمة قداسة آل علي عليهم السلام ، وطهارة

آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 46

بيتهم النبوي الذي لم تدنسه محاولات الأعداء ، فبقي مشعا بعطائه ، شاهدة الأمة لهم بالقداسة والإيمان ، وهذا يعني أن جهود منافسيهم سوف تعرقلها هذه النظرة المقدسة الزكية لآل علي عليهم السلام .
فالأمويون عرفوا بعبث خلفائهم ، حتى صار ذلك من تشريفات البلاط الأموي ، وآل الزبير يقرأون ويشاهدون أمامهم ملاحم بطلة الغرام سكينة بنت خالد الزبيرية ، فيحالون إلى بيت عبث وغناء ، لا كما يدعون من أنهم أهل خلافة وإمرة وقيادة ، وفي مثل هذا الحال سيتاح لآل علي عليهم السلام المنافس الأقوى لآل أمية وآل الزبير من التحرك بشكل طبيعي ؛ من أجل تمثيل شرعيتهم الإلهية المتمثلة بأئمة آل البيت عليهم السلام .
إذن فعلى الأمويين والزبيريين أن يختلقوا قضية يرمون بها منافسيهم الأقوياء ، وقلنا من قبل : إن شخصية الإمام زين العابدين عليه السلام لا يمكن أن تنالها دعايات الأعداء ، وقداسة بنات علي عليهم السلام لا تدنسها محاولات الأقلام الجائرة والأهواء العابثة ، فلم يجدوا إذن إلا شخصية « آمنة » سكينة بنت الحسين عليهما السلام ، التي لم تساهم ـ كما ذكرنا ـ في الإعلام العلوي يوم كان آل البيت يتولون مهمة التبليغ وبيان الحقائق ، وكان لصغر سنها أثر في تحجيم دورها يومذاك ، هذا من جهة .
ومن جهة أخرى وجدت الدعايات الزبيرية ، والإعلام الأموي ، أن لتشابه اسمي سكينة بنت خالد بن مصعب صاحبة ملاحم عمر بن أبي ربيعة واسم سكينة بنت الحسين عليهما السلام ، محاولة ناجحة في الخلط والتدليس ، واختراع القصص الماجنة ، ورمي شخص « آمنة » سكينة بنت الحسين عليهما السلام ، ووجدت هذه المحاولة نجاحها على أيدي رواة متخصصين في صياغة

آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 47

الحدث ، ووضع القضية موضعا يستسيغ تناقله العامة ، ويلهج به البسطاء ، ويتعامل معه السذج تعامل المسلمات .
وبهذا احتلت روايات « آمنة » سكينة بنت الحسين عليهما السلام مساحة واسعة من كتب الحكايات ، وملاحم الغزل ، ووسائل القصاصين ؛ ليحيلوا قداسة البيت العلوي إلى دناسة أموية وعبث زبيري ، ويأبى الله إلا ظهور الحقائق والإطاحة بمحاولات الشرذمة من أهل الأهواء السياسية فيحيلها ، إلى ملاحم تحكي حقيقة هؤلاء الوضاعين من الأمويين والزبيريين .

آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 48


أكـذوبتان


آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 49

الأكذوبة الأولى


سكينة ومجالسة الشعراء واستماع الغناء

النموذج الأول :


قال أبو الفرج : أخبرني علي بن صالح قال : حدثنا أبو هفان ، عن إسحاق ، عن أبي عبدالله الزبيري قال : اجتمع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف ، فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن حديثه ، فتشوقن إليه وتمنينه ، فقالت سكينة بنت الحسين : أنا لكن به ، فأرسلت إليه رسولا وواعدته الصورين ، وسمت له الليلة والوقت ، وواعدت صواحباتها. فوافاهن عمر على راحلته ، فحدثهن حتى أضاء الفجر وحان انصرافهن ، فقال لهن : والله إني لمحتاج إلى زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة في مسجده ، ولكني لا أخلط بزيارتكن شيئا ، ثم انصرف إلى مكة من مكانه ، وقال في ذلك :
قالت سكينة والدمـوع ذوارف منها على الخـدين والجلباب
ليت المغيـري الذي لم أجزه فيما أطال تصيدي وطلابي


آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 50

كـانت ترد لنا المنـى أيامنا إذ لا تُلام على هوى وتصابي(1)

رجال الخبر :


علي بن صالح :
قال الذهبي : قال ابن الجوزي ضعفوه.
قلت [أي الذهبي] : لا أدري من هو (2) .
أبوهفان :
قال الذهبي : أبو هفان الشاعر حدث عن الأصمعي بخبر منكر.
قال ابن الجوزي : لا يعول عليه (3) .
إذن فالخبر ساقط عن الاعتبار لضعف رواته ومجهوليتهم.
يعد هذا الخبر في صدارة أخبار سكينة المنسوب لها في مجالسة الشعراء خصوصا عمر بن أبي ربيعة ، والخبر مع غض النظر عن سقوط سنده عن الاعتبار ، فأن محاولة الوضع بادية عليه ؛ إذ افتتح الخبر بأن« نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف اجتمعن » ، ولم يتعرض الخبر إلى ذكر واحدة منهن ، واختص بذكر سكينة بنت الحسين ، وذلك دليل على أن صياغة الخبر بهذه الطريقة قصد منها التعرض للسيدة « آمنة » سكينة بنت الحسين ، ورتبت أحداثه لهذا الغرض ، والخبر في صدد ذكر ظرافة عمر بن أبي ربيعة ومحاولاته العبثية ، وهو ليس في صدد التعرض لسيرة أحد ، هكذا يعطي الخبر مسحة« البراءة » على ما يفتعله الوضاعون ، محاولين من خلاله الترسل لذكر وقائع أدبية صرفة ، وليس الغرض التعرض لسيرة أحد أو

(1) الأغاني171 : 1.
(2) ميزان الاعتدال 130 : 3.
(3) المصدر السابق 540 : 4.
آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 51

الإساءة للبيت العلوي الطاهر. وبهذا يحاول الوضاعون بعد أن أعيتهم الحيل في النيل من الشرف العلوي ، إلى ارتكاب هذه المجازفات الروائية ، التي وقع الكثير من المغفلين في التصديق بكل ما تدسه مشاريع الوضع ، واختلاق روايات من هذا القبيل ، تستهدف خصومهم وتوهم البسطاء بذلك.
على أن اجتماع هذه النسوة من الليل حتى طلوع الفجر يتنافى والحالة الاجتماعية التي تعيشها المدينة ، فالالتزامات التي تعيشها المرأة المدنية فضلا عن تعففها عما يشين سمعتها لدى الآخرين ، تختلف كثيرا عن غيرها من الأنحاء الإسلامية. فالمدينة تجد من نفسها مصدر إشعاع إسلامي للسيرة النبوية ، التي يمثلها أهلها القاطنون وقتذاك ، وهم لايزالون يعتزون بانتمائهم الإسلامي والتزامهم الديني ، كما أنها لا تزال تحتفظ بقداستها النبوية ، فضلا عما عرفته المدينة من أن القاطنين فيها بين مهاجر أو أنصاري ، والخبر لا يعد إساءة لخصوص البيت العلوي بقدر ما هو إساءة لأهل الهجرة من المهاجرين ، وأهل النصرة من الأنصار ، مما يعني أن الخبر قد سطرته أيد يهودية ، تتربص بالدين الإسلامي الذي يعيش تحت مطرقة نظام أموي مهزوز ؛ ليظهر بذلك انحلال المجتمع الإسلامي وهو قريب عهد بالنبوة ، فكيف بمجتمع ابتعد عن العهد النبوي وتطاولت عليه الدهور ، مما يعني أن لهذا المجتمع الإسلامي الذي يدعي الالتزام حياته العبثية الخاصة ، وتوجهات ترفه كذلك ، خلاف ما يدعيه المسلمون ليتقدموا بذلك على المجتمعات الأخر ، وبذلك استهدف الخبر قداسة الالتزام الإسلامي وطهارة مجتمعه.
واختيار عمر بن أبي ربيعة ليكون بطل هذه القصة له مغزاه ؛ إذ أن عمر

آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 52

ابن أبي ربيعة معروف بمجونه وخلعه ، حتى نقل ابن عبد ربه في العقد الفريد قولهم : ما عصي الله بشعر ما عصي بشعر عمر بن أبي ربيعة (1) .
ويصف ابن جريج خطورة مجونه وعبثه حتى قال : ما دخل العواتق في حجالهن شيء أضر من شعر ابن أبي ربيعة (2) .
ويصف هشام بن عروة عواقب أشعار ابن أبي ربيعة وفحشها بقوله : لاترووا فتيانكم شعر عمر بن أبي ربيعة لئلا يتورطوا في الزنا تورطا (3) . فكيف يستقيم هذا مع ما عرف من عفة البيت العلوي وطهارته وترفعه عن أدناس الجاهلية ؟! فتخصيص عمر بن أبي ربيعة إذن في هذه القصة يستهدف قداسة البيت العلوي وكرامته وليس غير ذلك.


تهافت الوضاع :

على أنا لو أردنا الإعراض عن مناقشة سند ودلالة هذه القصة ، فإننا نقطع بكونها موضوعة من قبل القصاصين ، الذين يستملحون كل شاذ ، ويروون كل غريب.
فالتهافت في نقل القصة إذا استقصينا مواردها ، وجدنا أنها في مصدر واحد يتهافت الكاتب في نقولاته ، مما يدل على أن القصة موضوعة ، فضلا عن كونها مكذوبة في نسبتها للسيدة سكينة بنت الحسين عليهما السلام ، وإليك تعدد القصة في كتاب « الأغاني » :
أولا : نقل أبو الفرج الإصفهاني حديث اجتماع عمر بن أبي ربيعة

(1) العقد الفريد 6 : 199 .
(2) تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان 1 : 281 .
(3) المصدر السابق.
آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 53

بالنسوة ، وكانت سكينة بنت الحسين هي التي واعدته ، فقصدهن واجتمع بهن ، كما ذكرنا ذلك فيما سبق.
ثانيا : نقل أبو الفرج الإصفهاني القصة في مورد آخر قبيل القصة الأولى بـ(58) صفحة بعنوان سكينة ، وليس سكينة بنت الحسين.
فأي سكينة قصدها الراوي في قصته!
وكيف جزم أبو الفرج أن المقصود من سكينة في القصة الأولى ، هي سكينة بنت الحسين ؟!
وقد أورد الخبر هكذا :
اجتمع نسوة فذكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن مجلسه وحديثه ، وتشوقن إليه وتمنينه ، فقالت سكينة : أنا لكن به... إلى آخر الخبر (1) .
ثم أكد أبو الفرج القصة باسم « سكينة » دون نسبتها إلى الحسين عليه السلام في موضع ثالث من كتابه (2) .
وهذا التعدد في تكرار الرواية يزيدنا اطمئنانا أن « سكينة » دون أن ينسبها الراوي ، هي بطلة القصة التي رواها مصعب الزبيري ، ونسبها أبو هفان الشاعر إلى سكينة بنت الحسين ، وقد ذكرنا أبو هفان وترجمة الذهبي له برواية الحديث المنكر .
ثالثا : ذكر أبو الفرج الإصفهاني في مورد آخر الأبيات هكذا :
يا أم طلحة أن البيـن قد أفدا قل الثواء لئن كان الرحيل غدا


(1) الأغاني 1 : 113.
(2) الأغاني 2 : 369 .
(3) راجع صفحة : 50 من كتابنا هذا.
آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 54

أمسى العراقي لا يدري إذا برزت من ذا تطوف بالأركان أو سجدا

ثم ذكر القصة هكذا :
ولم يزل عمر ينسب بعائشة (1) أيام الحج ويطوف حولها ويتعرض لها (2) .
رابعا : على أن الأبيات التي ذكرتها القصة هي إحدى قصائد عمر بن أبي ربيعة متغزلا بزينب الجمحية ، إحدى شخصيات ملاحمه الغزلية ، وقد تكرر ذكرها مرارا في قصائده منها :
طـال من آل زينب الإعـراض للتـعدي وما بـها الإبغـاض(3)

وله كذلك :
أيهـا الكـاشح المعبر بالصـر م تزحـزح فمـا لهـا الهجران
لا مطــاع في آل زينب فارجع أو تكلـم حتـى يمل اللسـان(4)

من هنا فإن التهافت في رواية القصة والاضطراب في أبياتها يوقفنا على أمر مهم وهو :
وضع الرواية ونسبتها إلى السيدة سكينة بنت الحسين عليهما السلام لدواع لا تخفي على القارئ اللبيب.
خامسا : والجدير ذكره أن أبا الفرج الإصفهاني حين ذكره لقصة اجتماع عمر بن أبي ربيعة بسكينة ، ذكر أبيات القصة في موضع آخر هكذا :

(1) عائشة بنت طلحة بن عبيد الله ، وأبو الفرج الإصفهاني هنا في صدد أخبار عمر بن أبي ربيعة مع عائشة بنت طلحة.
(2) الأغاني 205 : 1 .
(3) المصدر السابق : 108.
(4) المصدر السابق : 109.
آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 55

قالت سكـيـنـة والدموع ذوارف مـنـهـا على الخدين والجلباب
لـيـت المغـيـري الذي لم أجزه فـيـمـا أطال تصيدي وطلابي
كانـت تـرد لـنـا المنى أيامـنا إذ لا نلـام على هــوى وتصابي
خبـرت ما قالـت فبـت كـأنما ترمـي الحشا بنوافـذ النشـاب
أسكيـن ما ماء الفـرات وطيبـه مني علـى ظمأ وفقـد شـراب
بألـذ منـك وان نـأيت وقـلمـا ترعـى النساء أمانة الغياب(1)

إلا أنه ذكر نص الأبيات بعينها في موضع آخر هكذا :
قالت سعيـدة والدمـوع ذوارف منها علـى الخديــن والجلبـاب

إلى أن قال :
أسعيدَ ما ماءُ الفـراتِ وطيبُه مني على ظمأ وحب شرابِ(2)

وذكره للأبيات هنا في صدد ذكر سعدى بنت عبدالرحمن بن عوف ، والقصيدة منسوبة لهذه القصة(3) ، فكيف ركب الخبر من قصة سكينة وأبيات سعدى بنت عبدالرحمن بن عوف ؟!
وماذا يعني هذا الاضطراب والتهافت ؟
والطريف أن أبا الفرج نفسه يعترف بعد ذكره خبر التشبيب بسعدى ، أن المغنين غيروا لفظ سعدى إلى سكينة ، وسوف نأتي على بيانه بعيد هذا (4) .
وإذا أردنا أن نحسن الظن بأبي الفرج الاصفهاني ، فترجع المشكلة إلى

(1) الأغاني 1 : 172.
(2) الأغاني 17 : 162 .
(3) يأتي في صفحة 74 و 75 ذكر أبيات تشبيبه بسعدى ، فراجع.
(4) راجع صفحة 92 من هذا الكتاب.
آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 56

يد التحريف والتصحيف ، التي تدور في فلك الأنظمة والحكام ، الذين حاولوا فرض حالات العبث والتزييف في التراث الإسلامي ، فضلا عن التراث الأدبي ، الذي حاولوا تسخيره لتوجهاتهم ، دون أن تسلم مجالات الترويح الأدبي البريء ، الذي يستثمره القارئ دون أن تدخله القراءات الحاكمة ضمن دوائرها السياسية المقيتة.
النموذج الثاني :


أبو الفرج الاصفهاني ، أخبرني الحسن بن علي قال : حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال : أخبرني عيسى بن إسماعيل ، عن محمد بن سلام ، عن جرير المديني ، عن المدائني.
وأخبرني به محمد بن أبي الأزهر قال : حدثنا حماد بن إسحاق ، عن أبيه ، عن محمد بن سلام.
وأخبرني به أحمد بن عبدالعزيز الجوهري ، عن عمر بن شبة موقوفا عليه ، قالوا :
اجتمع في ضيافة سكينة بنت الحسين عليهما السلام ، جرير والفرزدق وكثير وجميل ونصيب ، فمكثوا أياما ، ثم أذنت لهم فدخلوا عليها ، فقعدت حيث تراهم ولا يرونها وتسمع كلامهم ، ثم أخرجت وصيفة لها وضيئة وقد روت الأشعار والأحاديث ، فقالت : أيكم الفرزدق ؟ فقال لها : ها أنذا ، فقالت : أنت القائل :
همـا دلتانـي مـن ثمانيـن قامـة كما انحط باز أقثم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا أحـي فيرجى أم قتيل نحـاذره
فقلت ارفعوا الأمـراس لا يشعروا بنا وأقبلت فـي اعجـاز ليل أبادره


آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 57

أبـادر بـوابيـن قـد وكـلا بنـا وأحمر من ساج تبص مسامره

فقال : نعم ، فقالت : فما دعاك إلى إفشاء سرها وسرك ؟ هلا سترتها وسترت نفسك ؟ خذ هذه الألف ، والحق بأهلك (1) .
وفي رواية أخرى لأبي الفرج عن أبي الزناد : أن الفرزدق لما قال ها أنذا ، قالت : أنت الذي تقول :
أبيت أمني النفس أن سوف نلتقـي وهـل هو مقدور لنفسي لقاؤها
فـإن ألقها أو يجمع الدهـر بيننا ففيها شفاء النفس منها وداؤها

فقال : نعم ، قالت : قولك أحسن من منظرك ، وأنت القائل :
ودعتنـي بـإشـارة وتـحيـة وتركتنـي بين الديـار قتيـلا
لم أستطـع رد الجواب عليـهم عنـد الوداع وما شفين غليـلا
لـو كنت أملكهم إذا لم يبرحـوا حتـى أودع قلبـي المخبـول

قال : نعم ، قالت : أحسنت أحسن الله إليك ، وأنت القائل :
همـا دلتاني مـن ثمانين قامـة كما انقض باز أقثم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا أحـي فيـرجـى أم قتيـل نحـاذره
فقلت ارفعوا الأسباب لا يشعروا بنا ووليـت فـي أعجاز ليـل أبـادره
أحـاذر بوابـين قد وكـلا بها وأحمر من ساج تبص مسامره
فأصبحت في القوم العقود وأصبحت مغلـقة دونـي علـيـها دسـاكره

قال : نعم ، قالت : سوأة لك فشيت السر ، فضرب بيده على جبهته وقال : نعم ، فسوأة لي.
ثم دخلت الجارية على مولاتها وخرجت وقالت : أيكم جرير ؟ فقال :

(1) الأغاني 16 : 169 و170.
آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 58

ها أنذا ، قالت : أنت القائل :
رزقنا به الصيد الغزير ولم تكن كمن نبله محرومة وحبائله(1)
فهيهات هيهات العقـيق ومن به وهيهات حي بالعقيق نواصله

قال : نعم ، قالت : أحسن الله إليك ، وأنت القائل :
كأن عيون المجلتـين تعرضت وشمسا تجلى يوم دحين سحابها
إذا ذكرت للقلب كاد لذكرها يطير إليها واعتراه عذابها

قال : نعم ، قالت : أحسنت ، وأنت القائل :
سرت الهموم فبتن غير نيام وأخو الهموم يروم كل مرام
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا وقت الزيـارة فارجعي بسـلام
لو كان عهدك كالذي حدثتـني لوصلت ذاك فكـان غير لمام
تجري السواك على أغر كأنه برد تحدر من متـون غمـام

قال : نعم ، قالت : سوأة لك جعلتها صائدة القلوب حتى إذا أناخت ببابك جعلت دونها حجابها ، ألا قلت :
طرقت صائدة القلوب فمرحبا نفسي فداؤك فادخـلي بسلام

قال : نعم ، فسوأة لي ، قالت : فخذ هذه الألف دينار والحق بأهلك.
ودخلت الجارية وخرجت وقالت : أيكم كثير عزة ؟ فقال : هاأنذا ، فقالت : أنت القائل :
وأعـجـبـني يا عز منك خلائق حـسـان إذ عـد الـخـلائق أربع
دنوك حتى يطمع الصب في الصبا وقطعك أسباب الصـبـا حيث تقطع
فوالله ما يـدري كـريـم مطلته أيـشـتر إن قـاضـاك أم يتضرع


(1) الأبيات وما بعدها أوردها عن الأغاني السيد محسن الأمين العاملي في أعيان الشيعة 5 : 345 .
آمنة بنت الحسين (ع) الملقبة بــ سكينة 59

قال : نعم ، قالت : أعطاك الله مناك ، وأنت القائل :
هنـيـئا مريئا غيـر داء مخامر لـعـزة من أعراضنا ما استحلت
فما أنـا بالداعي لعزة في الورى ولا شـامـت إن فعل عزة زلتِ
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة و رجل رمى فيها الـزمان فشلتِ

قال : نعم ، قالت : أحسن الله إليك ، وفي رواية قالت : كثير أنت القائل :
يـقر بعيني مـا يـقر بعينهـا وأحسن شيء ما به العين قرت

قال : نعم ، قالت : أفسدت الحب بهذا التعريض ، خذ ألف دينار وانصرف.
ثم دخلت الجارية وخرجت وقالت : أيكم نصيب ؟ فقال : هاأنذا ، قالت : أنت القائل :
ولـولا أن يقـال صبا نصيب لقلت بنفسـي النشأ الصـغار
ألا ياليــتـني قامـرت عنها وكان يحل للـناس القـمـار
فصارت في يدي وقمرت مالي وذاك الربـح لو عـلم التجار
على الاعـراض منها والتواني فإن وعدت فموعـدها ضمار

قال : نعم ، قالت : والله إن إحداهن لتقوم من نومتها فما تحسن أن تتوضأ فلا حاجة لنا في شعرك.
وفي رواية تذكرة الخواص (1) أنها قالت لنصيل : أنت القائل :
من عاشقين تواعدا وتراسلا حتى إذا نجـم الثـريا حلقا
بـاتا بأنـعم ليـلة وألذهـا حتى إذا وضح الصباح تفرقا

قال : نعم ، قالت : وهل في الحب تدانٍ ، خذ هذه ألف دينار وانصرف.
ثم دخلت الجارية وخرجت وقالت : أيكم جميل ؟ قال : هاأنذا ،

(1) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي : 279.

السابق السابق الفهرس التالي التالي