العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 97

واحدة عن ذكر الله ، وقراءة كتابه ، وقد حفّ به أبناؤه وهم يذرفون أحرّ الدموع قد مزّق المصاب قلوبهم ، وقد استقبل القبلة حامداً لله حتى ارتفعت روحه العظيمة إلى بارئها تحفّها ملائكة الرحمن ، وأرواح الاَنبياء والاَوصياء وقد ازدهرت به جنان الخلد.
لقد توفّي عملاق الفكر الاِنساني ، ورائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، لقد عاش هذا الامام العظيم غريباً في مجتمع لم يعرف مكانته ، ولم يع قيمه وأهدافه التي كان منها أن ينفي البؤس والشقاء من الاَرض ، وينفي الحاجة والحرمان عن بني الاِنسان ، فيوزع عليهم خيرات الله ، فثارت في وجهه العصابة المجرمة من الرأسمالية القرشية ، وأوغاد الاَمويين الذين اتخذوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وقد صمد الاِمام في وجوههم ، ولم ينثن عن عزمه الجبّار حتى استشهد مناضلاً عن قيمه وأهدافه.

تجهيزه:

وانبرى الاِمام الحسن ( عليه السلام ) ، ومعه السادة الكرام من إخوانه ومن بينهم أبوالفضل العبّاس ( عليه السلام ) إلى تجهيز الجثمان العظيم ، فغسّلوا الجسد الطاهر ، ثم أدرجوه في أكفانه ، وهم يذرفون أحرّ الدموع وبعد ذلك حملوه إلى مقرّه الاَخير ، فدفنوه في مرقده المطّهر في النجف الاَشرف ، وقد أعزّه الله ، ورفع من شأنه فجعله كعبةً للوافدين ، ولم يحظ مرقد من مراقد أولياء الله كما حظي مرقده الشريف فقد أحيط بهالة من التعظيم والتقديس عند كافة المسلمين.
لقد شاهد سيّدنا أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) خلافة أبيه ، وما رافقها من الاَحداث الجسام ، وما قاساه أبوه من المصاعب والمشاكل في سبيل تطبيق

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 98

العدالة الاجتماعية على واقع الحياة العامة بين المسلمين وقد تنكّرت له وحاربته القوى الباغية على الاِسلام ، والحاقدة على الاِصلاح الاجتماعي.
لقد وعى العبّاس الاَهداف المشرقة التي كان ينشدها أبوه فآمن بها ، وجاهد في سبيلها ، وقد انطلق مع أخيه سيّد الشهداء إلى ساحات الشرف والجهاد من أجل أن يعيدا للمسلمين سيرة أبيهما الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومنهجه المشرق في عالم السياسة والحكم.

خلافة الاِمام الحسن:

وتسلّم الاِمام الحسن ( عليه السلام ) قيادة الدولة الاسلامية بعد وفاة أبيه ، وكانت الاَوضاع الاجتماعية والسياسية ، كلها في غير صالحه ، فالاَكثرية الساحقة من الرؤساء والقادة العسكريين كانت اتجاهاتهم وميولهم سرّاً وعلانية مع معاوية ، فقد غزاهم بذهبه ، واسترقهم بأمواله ، كما انتشرت بين كتائب جيشه فكرة الخوارج التي كانت سوسة تنخر في معسكره ، وتعلن عدم شرعية خلافته ، وخلافة أبيه من قبل ، ومن ثمّ كان إقبال الجماهير على مبايعته فاتراً جدّاً ، وكذلك لم تندفع القوات المسلّحة بحماس إلى بيعته ، وإنّما كانت مرغمة على ذلك ، الاَمر الذي أوجب تريّب الاِمام الحسن منهم ، ويرى المراقبون للاَوضاع السياسية في جيش الاِمام انّه قد ماج في الفتنة وارتطم في الشقاء ، وان خطره على الاِمام كان أعظم من خطر معاوية وانّه لا يصلح بأي حال من الاَحوال لاَن يخوض الامام به أي ميدان من ميادين الحرب.
وعلى أي حال فان الاِمام قد تسلّم قيادة الدولة ، وقد منيت بالانحلال والضعف ، وشيوع الفتن والاضطراب فيها ، وان من العسير جدّاً السيطرة

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 99

على الاَوضاع الاجتماعية ، وإخضاع البلاد إلى عسكره. اللهم إلاّ بسلوك أمرين:
الاَوّل: ـ إشاعة الاَحكام العرفيّة في البلاد ، ومصادرة الحريات العامة ، ونشر الخوف والارهاب ، وأخذ الناس بالظنّة والتهمة ، وهذا ما يسلكه عشّاق الملك والسلطان حينما يمنون بمثل هذه الاَزمات في شِعوبهم.
أمّا أئمّه أهل البيت : فانهم لا يرون مشروعية هذه السياسة ، وان أدّت إلى الانتصار ، ويرون ضرورة توفير الحياة الحرّة الكريمة للشعب ، واقصاء الوسائل الملتوية عنه.
الثاني: ـ تقديم الطبقة الرأسمالية وذوي النفوذ على فئات الشعب ، ومنحهم الاَموال والامتيازات الخاصة ، والوظائف المهمة ولو فعل ذلك الاِمام الحسن لاستقرّت له الاَمور ، وما مُني جيشه بالتمرّد والانحلال ، إلاّ أنّه ابتعد عن ذلك ابتعاداً مطلقاً لاَنّه لا تبيحه شريعة الله.
لقد كان منهج الاِمام الحسن في سياسته واضحاً لا لبس فيه ولا غموض وهو التمسّك بالحقّ ، وعدم السلوك في المنعطفات ، واجتناب الطرق الملتوية ، وان أدّت إلى الظفر والنصر.

إعلان معاوية للحرب:

وبادر معاوية إلى إعلان الحرب على سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لاَنّه على علم بما مُني به جيش الاِمام من الانحلال والخيانة فأغلب قادة الفرق ، وضبّاط الجيش ، وسائر المراتب قد رشاهم معاوية بذهبه وأمواله ، ومنّاهم بالوظائف العالية ، كما كاتب بعضهم بأن يزوجه بإحدى بناته ، فقد استعمل

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 100

الرشوة معهم على نطاق واسع ، وقد استجابوا له ، وضمنوا له تسليم الاِمام أسيراً متى شاء وأراد ، أو اغتياله ، وقد حفزته هذه العوامل لاستعجال الحرب وحسم الموقف من صالحه.
وزحف معاوية بجيوشه المتماسكة والمطيعة صوب العراق ، ولما علم الامام الحسن بذلك جمع قوّاته المسلّحة ، وأعلمهم بالاَمر ودعاهم إلى الجهاد وردّ العدوان فوجموا وساد عليهم الذعر والخوف فلم يجبه أحد منهم فقد آثروا العافية ، وسئموا من الحرب ، ولما رأى تخاذلهم الزعيم الكبير عَديّ بن حاتم تميّز غيظاً وغضباً ، واندفع بحماس بالغ نحوهم فجعل يؤنّبهم على هذا التخاذل ، وأعلن استجابته المطلقة لدعوة الاِمام ، ودعم موقفه كلّ من الزعيم الشريف قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي ، وزياد بن صعصعة التميمي فأخذوا يلومونهم على هذا الموقف الذي ليس فيه شرف ولا إنصاف ، ويبعثونهم إلى ساحات الجهاد.
وخرج الاِمام الحسن ( عليه السلام ) من فوره لمقابلة معاوية ، وسار معه أخلاط من الناس حتى انتهى إلى النخيلة فاستقام فيها حتى التحمت به فصائل من جيشه المتخاذل ، ثم ارتحل حتى إنتهى إلى دير عبد الرحمن فأقام به ثلاثة أيام ، ثم واصل سيره لا يلوي على شيء.

في المدائن:

وانتهى الاِمام ، ومعه بعض الفرق من جيشه إلى المدائن ، فأقام بها ، وقد أحاطت به المصاعب والاَزمات فقد عانى من جيشه الممزّق والخائن ألواناً شاقّة وعسيرة من المحن والمشاكل ، وابتلي بما لم يبتل به أحد من

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 101

قادة المسلمين وخلفائهم ، وكان من بين ما امتحن به:

1 ـ خيانة القائد العام:

وكان من أقسى ما ابتلي به الاِمام في تلك المرحلة الحسّاسة خيانة ابن عمّه عبيد الله بن العبّاس القائد العام لقوّاته المسلّحة ، فقد أرشاه معاوية بما يقارب المليون درهم ، فولّى الخائن الجبان منهزماً تحت جنح الليل البهيم يصحب معه العار والخزي ، فالتحق بمعسكر معاوية ، ولما علم الجيش بذلك اضطرب اضطراباً هائلاً ، وماج في الفتنة والشقاء ، ودبّت روح الخيانة في جميع قطعات الجيش كما خان جماعة من ذوي الرتب العليا في الجيش فالتحقوا بمعسكر معاوية بعد أن أرشاهم بأمواله.
ان خيانة عبيد الله من أقسى الضربات التي حلّت بجيش الاِمام ، فقد فتحت أبواب الخيانة على مصراعيها لذوي الضمائر القلقة لبيع ضمائرهم على معاوية ، كما أدّت إلى انهيار معنويات جيش الاِمام ، وفي نفس الوقت كانت من أقسى الصدمات التي واجهها الاِمام في تلك الفترة العصيبة فقد ألقت له الاَضواء على نفوس أغلب قادة جيشه ، وانّهم مجموعة من الخونة الذين لا يملكون أي رصيد ديني أو وطني.

2 ـ محاولات لاغتيال الاِمام:

ولم تقتصر محنة الاِمام وبلواه من جيشه إلى هذا الحدّ ، وانّما امتدّت إلى ما هو أعظم من ذلك فقد قام عملاء الامويين وبهائم الخوراج بعدة عمليات لاغتيال الاِمام ، وقد فشلت جميعها وهي:

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 102

أ ـ رمي الاِمام بسهم وهو في أثناء الصلاة ، ولم يؤثّر فيه شيئاً.
ب ـ طعنه بخنجر في أثناء الصلاة.
ج ـ طعنه في فخذه.
وضاقت الدنيا على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وطافت به المحن والاَزمات وأيقن أنّه لا محالة امّا أن يُغتال ، ويضاع دمه هدراً أو يلقى عليه القبض ويبعث أسيراً إلى معاوية ، وأجال النظر في هذه الاَمور فأفزعته إلى حدّ بعيد.

3 ـ الحكم عليه بالكفر:

وتمادى الخونة والعملاء في جيش الاِمام في الجريمة والشرّ ، فقد قابلوا الاِمام بكلمات كانت أشدّ عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح ، فقد أقبل عليه الجرّاح بن سنان يشتدّ كأنّه الكلب وهو رافع عقيرته قائلاً:
« لقد أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل.. ».
ولم ينبر أحد من جيش الاِمام إلى معاقبة هذا الاَثيم ، لقد انحرف هؤلاء الخونة عن الحق ، ومالوا عن الطريق القويم ، فقد حكموا على ابن بنت نبيّهم وابن وصيّه بالكفر والمروق من الدين ، فأي ضلال مثل هذا الضلال؟.

4 ـ نهب أمتعة الاِمام:

وعمد أُولئك الاَجلاف إلى نهب أمتعة الاِمام فنزعوا منه بساطاً كان جالساً عليه ، وسلبوا منه رداءه ، ولم تكن هناك أيّة حماية للاِمام من جيشه ، فقد جرت هذه العملية بمرأى ومسمع منهم.

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 103

هذه بعض الاَحداث المروعة التي عاناها الاِمام ( عليه السلام ) في المدائن وهي تلزمه بالصلح والتخلّي عن ذلك المجتمع المصاب بأخلاقه وعقيدته.

ضرورة الصلح:

أمّا صلح الاِمام الحسن ( عليه السلام ) مع معاوية فقد كان ضرورياً حسب الاَعراف السياسية ، كما كان واجباً شرعياً مسؤول عن تنفيذه أمام الله والاَمة ، فانه لو فتح باب الحرب بجيشه المنهزم نفسياً لتغلب عليه معاوية بأول حملة ، ولما أمكنه أن يحقق أي نصر ، وفي تلك الحالة لا يخلو أمره من إحدى حالتين: إمّا القتل أو الاَسر ، فان قتل فلا تستفيد منه القضية الاِسلامية لاَنّ معاوية بما يملك من دبلوماسية مبطّنة بالخداع والمكر والنفاق ، سوف يلقي التبعة على الاِمام في قتله ، ويبرّئ نفسه من أيّة مسؤولية ، وأما إذا لم يقتل الامام ، وحمل إلى معاوية أسيراً ، فانه من دون شكّ سوف يعفو عنه ، وبذلك يسجّل له يداً بيضاء على الاَسرة النبوية ، ويمحو عنه وعن أسرته وصمة الطليق التي وصمهم بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وعلي أيّ حال فان الاِمام الحسن ( عليه السلام ) قد اضطّر إلى الصلح وأُرغم عليه ، ولم تكن هناك أيّة مندوحة للعدول عنه ، وقد جرى الصلح حسب شروط ذكرناها بالتفصيل مع تحليلها في كتابنا (حياة الاِمام الحسن ( عليه السلام ) ) وممّا لا شكّ فيه حسب المقاييس العلمية والسياسية ان الاِمام أبا محمد قد انتصر في هذا الصلح ، فقد أبرز حقيقة معاوية الجاهلية ، وقد ظهرت خفايا نفسه ، وما يكّنه من حقد وعداء للاِسلام وللمسلمين ، فانه حينما استتبّ له الاَمر عمد بشكل سافر إلى محاربة الاِسلام والانتقام من أعلامه أمثال الصحابي العظيم حجر بن عدي ، وأخلد بجرائمه للمسلمين المصاعب

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 104

والكوارث ، وألقاهم في شرّ عظيم ، وسوف نتحدّث عن ذلك في البحوث الآتية.
وبعدما انتهى الاِمام أبو محمد من الصلح غادر الكوفة التي غدرت به وبأبيه لتستقبل جور معاوية وظلمه ، وكان معه أهل بيته واخوته ، ومن بينهم أخوه وعضده أبو الفضل العبّاس ، وأخذوا يجدون السير لا يلوون على شيء حتى انتهوا إلى يثرب ، وقد استقبلتهم بحفاوة بالغة البقيّة الباقية من الصحابة وأبنائهم ، واستقرّ الاِمام في يثرب ، وقد التف حوله الفقهاء والعلماء فأخذ يغذّيهم بعلومه ومعارفه ، ويغدق على البؤساء والمحرومين من فيض جوده وكرمه ، وقد استعادت يثرب بوجوده ما فقدته من القيادة الروحية للمسلمين حينما غادرها وصيّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وباب مدينة علمه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
وعلى أيّ حال فقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) ما جرى على أخيه الزكيّ أبي محمد ( عليه السلام ) من المحن الشاقة والعسيرة ، ورأى غدر أهل الكوفة ، وخيانتهم له ، ونكثهم لبيعتهم له ، وقد عرفته هذه الاَوضاع السياسية والاجتماعيه حقيقة المجتمع ، وان الغالبية الساحقة منه ينسابون وراء مصالحهم وليس للقيم الدينية أي أثر في نفوسهم ، وبهذا نطوي الحديث عن بعض الاَحدث المروعة التي شاهدها أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) .
* * *


العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 105


كابوس رهيب


العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 106




العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 107

وتسلّم معاوية قيادة الدولة الاِسلامية بعد صلحه مع الاِمام الحسن ( عليه السلام ) ، وقد تحقّقت آماله الشريرة في القضاء على الدولة العلوية التي هي دولة المحرومين والمضطهدين ، والتي كانت امتداداً ذاتياً لحكومة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وتجسيداً حيّاً لاَهدافه ومتطلّباته الرامية لرفع مستوى الاِنسان وتطوير حياته ، وقد انهارت هذه القيم حينما سقطت الدولة الاِسلامية صريعة بيده ، فقد تبدّلت المبادئ والقيم والاَخلاق التي ينشدها الاِسلام إلى عكسها ، وخرج العالم الاِسلامي من عالم الدعة والرخاء والاستقرار إلى كابوس مرعب تحفّه المحن والكوارث ، وتخيّم عليه العبودية والذل.
لقد تنكّر معاوية لجميع القيم والاَعراف ، وساس المسلمين سياسة لم يألفوها من قبل ، ويرى المراقبون لسياسته ان انتصاره انّما هو انتصاراً للوثنية بجميع مساوئها يقول السيّد مير علي الهندي:
« ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم الثوليغارشية الوثنية السابقة ، فاحتلّ موقع ديمقراطية الاِسلام ، وانتعشت الوثنية بكل ما يرافقها من خلاعات ، وكأنّها بعثت من جديد ، كما وجدت الرذيلة والتبذل الخلقي لنفسها متّسعاً في كل مكان ارتادته رايات حكّام الاَمويين من قادة جند

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 108

الشام.. »(1).
لقد تعرّض المسلمون في ذلك العهد الاَسود إلى أزمات شاقة وعسيرة وامتحنوا كأشدّ ما يكون الامتحان ، ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض ما عانوه من الكوارث.

إبادة القوى الواعية:

وعمد ابن هند إلى إبادة القوى الواعية في الاِسلام ، وتصفيتها جسدياً فقد ساق كوكبة منهم إلى ساحات الاعدام ، وفيما يلي بعضهم:

1 ـ حجر بن عديّ :

حجر بن عدي الكندي علم من أعلام الاِسلام ، وبطل من أبطال الجهاد ومن أبرز طلائع المجد والفخر للاَمّة العربية والاِسلامية ، ومن النماذج المشرقة الذين تخرّجوا من مدرسة الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ووعوا قيمه وأهدافه ، وقد وهب هذا العملاق العظيم حياته لله فثار في وجه الاِرهابي المجرم زياد بن أبيه حينما أعلن رسمياً سبّ الاِمام أمير المؤمنين مفجّر الفكر والنور في دنيا الاِسلام ، والمؤسس الثاني في بناء العقيدة الاِسلامية بعد ابن عمّه وسيّده الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) .
لقد استحلّ الطاغية المجرم زياد دم المجاهد الكبير حجر بن عديّ حينما جابهه بالانكار على سبّه للاِمام ، فألقى عليه القبض ، وبعثه مخفوراً مع كوكبة من أعلام المجاهدين في الاِسلام إلى أخيه في الجريمة معاوية بن

(1) روح الاسلام : 296.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 109

هند ، فصدرت الاَوامر منه بإعدامهم في (مرج عذراء) ونفّذ الجلاّدون فيهم حكم الاِعدام فخرّت جثثهم الزواكي على الاَرض وهي معطّرة بدم الشهادة والكرامة ، تضيء للناس معالم الطريق نحو حياة حرّة كريمة لا سيادة فيها للظالمين والمستبدّين.

2 ـ عمرو بن الحمق:

ومن شهداء الاِسلام الخالدين عمرو بن الحمق الخزاعي الصحابي الجليل ، كان أثيراً عند النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وقد دعا له بأن يمتّعه الله بشبابه ، فاستجاب الله دعاءه فقد أخذ عمرو بعنق الثمانين عاماً ولم ترَ في كريمته شعرة بيضاء(1).
وقد وعى عمرو القيم الاِسلامية وآمن بها إيماناً عميقاً ، وجاهد في سبيلها كأعظم ما يكون الجهاد ، ولما ولي الجلاّد زياد بن أبيه على الكوفة من قبل أخيه اللاشرعي معاوية أوعز إلى مباحثه وجلاوزته بملاحقة عمرو ومطاردته لاَنّه من أعلام شيعة الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وفرّ عمرو مع زميله رفاعة بن شداد إلى الموصل ، وقبل أن ينتهيا إليها كمنا في جبل ليستجمّا فيه ، فشعرت بهما الشرطة المقيمة هناك ، فارتابت منهما ، فألقت القبض على عمرو ، وفرّ صاحبه ، وجاءت الشرطة بعمرو مخفوراً إلى عبد الرحمن الثقفي حاكم الموصل ، فرفع أمره إلى معاوية ، فأمر بطعنه تسع طعنات بمشاقص(2) فبادرت الجلاوزة إلى طعنه ، فمات في الطعنة الاُولى ، واحتزّوا رأسه فأمر أن يطاف به في دمشق وهو أول رأس طيف به في الاِسلام ، ثم

(1) الاصابة 2: 526.
(2) المشاقص: جمع مفرده مشقص ، النصل العريفي أو سهم فيه نصل عريض.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 110

أمر به ابن هند أن يحمل إلى زوجته السيّدة آمنة بنت شريد ، وكانت في سجنه ، فلم تشعر إلاّ ورأس زوجها في حجرها فذعرت ، وكادت أن تموت ، ثم حملت إلى معاوية ، وجرت بينها وبينه محاورة شديدة دلّت على مسخ معاوية وتجرّده من جميع القيم الاِنسانية ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا (حياة الاِمام الحسن ( عليه السلام ).

3 ـ رشيد الهجري:

رشيد الهجري علم من أعلام الاِسلام ، وقطب من أقطاب الاِيمان وقد أخلص كأشدّ ما يكون الاِخلاص إلى وصيّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وباب مدينة علمه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد اعتقلته جلاوزة ابن زياد ، وجاءت به مخفوراً إليه ، فلما مثل عنده صاح به الباغي الاَثيم:
« ما قال لك خليلك ـ يعني الامام عليّاً ـ إنّا فاعلون بك؟.. »
فأجابه بصدق وإيمان غير حافل به:
« تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني.. ».
فأراد الخبيث الدنس أن يكذّب الاِمام فقال:
« أمّا والله لاَكذبنّ حديثه خلّوا سبيله.. ».
فخلّت الجلاوزة سبيله لكنّه لم يلبث إلاّ قليلاً حتى ندم على ذلك فأمر بإحضاره فلمّا مثل عنده صاح به:
لا نجد شيئاً أصلح مما قال صاحبك: « إنّك لا تزال تبغي لنا سوءاً إن بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه.. ».
وبادرت الجلاوزة فقطعت يديه ورجليه ، ولم يحفل هذا العملاق العظيم بما كان يعانيه من الآلام ، وراح يذكر مساوىَ بني أميّة وجورهم

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 111

ويحفز الجماهير على الثورة عليهم ، وأسرعت الجلاوزة إلى زياد فأخبروه بالاَمر فأمرهم بقطع لسانه ، فقطع وتوفي في الحال هذا المجاهد العظيم(1) الذي نافح عن عقيدته وولائه لاَهل البيت حتى النفس الاَخير من حياته.
هؤلاء بعض أعلام الاِسلام الذين صفّاهم ابن هند جسدياً لاَنّهم كانوا ينشرون القيم الاِسلامية ، ويذيعون بين الناس فضائل أهل البيت : الذين هم مصدر الوعي والفكر في الاِسلام.

مناهضة أهل البيت:

ولمّا استتبّ الاَمر إلى معاوية سخر جميع أجهزة دولته ووسائل إعلامه لمناهضة أهل البيت الذين هم وديعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أمّته ، والعصب الحسّاس في هذه الاَمّة ، وقد استخدم هذا الذئب الجاهلي أخطر الوسائل في مناهضتهم ، ومن بين ما قام به:

1 ـ افتعال الاَخبار ضدّهم:

وأقام معاوية شبكة من عملائه لوضع الاَخبار وافتعالها على لسان النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) للحطّ من شأن أهل بيته ، والتقليل من أهمّيتهم ، وقد عمد الوضّاعون لافتعال الاَخبار تارة في فضل الصحابة ، لجعلهم قبال العترة الطاهرة ، وقد عدّ الامام الاَعظم محمد الباقر ( عليه السلام ) أكثر من مائة حديث افتعلت لهذا الغرض كما افتعلوا طائفة من الاَخبار في ذمّ أهل البيت عليهم السلام ، كما وضعوا أحاديث أخرى في مدح الاَمويين ، وخلق الفضائل

(1) سفينة البحار 1: 522.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 112

لهم ، وهم الذين ناجزوا الاِسلام في جميع مراحل تأريخهم ، ولم تقتصر الشبكة التخريبية على ذلك ، وانّما عمدت لافتعال الاَخبار فيما يتعلّق بأحكام الشريعة الاِسلامية ، ومن المؤسف جدّاً انّها دوّنت في الصحاح والسنن ، وجعلت جزءاً من الشريعة الاِسلامية ، ولم يلتفت المؤلّفون إلى وضعها ، وقد تصدّى بعض المحقّقين إلى تأليف بعض الكتب ، ذكروا فيها بعض الاَخبار الموضوعة ، فقد ألّف المحقّق السيوطي كتابه الشهير (اللئالي المصنوعة في الاَخبار الموضوعة) ذكر فيه طائفة كبيرة من تلك الموضوعات ، وقد سجّل المحقق الاَميني في (الغدير) أرقاماً لبعض الاَخبار الموضوعة بلغت زهاء نصف مليون حديث ، وعلى أي حال فان من أعظم ما مُني به الاِسلام من الكوارث هي الاَخبار الموضوعة التي شوّهت الواقع المشرق للاِسلام ، وألقت المسلمين في شرّ عظيم ، فقد حجبتهم عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام وما أثر عنهم من الاَخبار الصحيحة التي هي من ذخائر الاِسلام.

2 ـ سبّ الاِمام أمير المؤمنين:

وأعلن معاوية رسمياً سبّ الاِمام أمير المؤمنين ، وأوعز إلى ولاته وعمّاله أن يذيعوا ذلك بين المسلمين ، واعتبره عنصراً أساسياً في بناء دولته ، وإقامة حكومته ، وأخذ الاَذناب والعملاء ووعاظ السلاطين يصعّدون سبّ الاِمام وينتقصونه لا في نواديهم الخاصة والعامة فحسب ، وانّما في خطب صلاة الجمعة ، وسائر المناسبات الدينية ، معتقدين أن ذلك مما يوجب القضاء على شخصية الاِمام ، واندثار ذكره ، وقد خابت ظنونهم ، وتبت أيديهم ، فقد عادت اللعنات عليهم وعلى من ولاهم ومكنهم من

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 113

رقاب المسلمين ، فقد برز الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على مسرح التأريخ البشري كألمع قائد إنساني أسّس معالم العدالة الاجتماعية ، وأقام أركان الحقّ في الاَرض.
لقد عاد الاِمام في جميع الاَعراف الدولية والسياسية أعظم حاكم ظهر في الشرق ، وأول حاكم قد تبنّى حقوق المظلومين والمضطهدين ، وأعلن حقوق الانسان ، وأما خصومه الحقراء فهم أقزام البشرية ، وأشرار خلق الله ، فقد جنوا على الاِنسانية جناية لا تعدلها أية جناية ، فقد حجبوا هذا العملاق العظيم أن يقوم بدوره في بناء الحضارة الاِنسانية ، وتطوير الحياة العامة في جميع مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

3 ـ استخدام معاهد التعليم:

واستخدم معاوية معاهد التعليم ، وأجهزة الكتاتيب لتغذية النشء ببغض أهل البيت عليهم السلام الذين هم المركز الحسّاس في الاِسلام ، وغذّت هذه الاَجهزة الناشئة المسلمة ببغض عترة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وذريته ، ولم يكن ذلك إلاّ إجراءاً مؤقّتاً ، فقد عكس الله إرادته ، وخيّب آماله ، فها هو الاِمام أمير المؤمنين ملء فم الدنيا ، قد استوعب ذكره المعطر جميع لغات الاَرض ، وهو أنشودة الاَحرار في كل زمان ومكان والكوكب اللامع في سماء الشرق يهتدي بضوئه المصلحون ، ويسير على منهجه المتّقون ، وها هو معاوية وبنو أميّة قد صاروا جرثومة الفساد في الاَرض ، ولا يذكرون إلاّ مع الخسران وسوء المصير.
لقد هزم معاوية في الميدان السياسي والاجتماعي ، وأبرزت مخططاته السياسية المناهضة لاَهل البيت عليهم السلام واقعه النفسي الملّوث بالجرائم والآثام

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 114

واستبان للجميع أنّه أحطّ حاكم ظهر في الشرق العربي والاِسلامي.

إشاعة الظلم:

وأشاع معاوية الظلم والجور في جميع أنحاء العالم الاِسلامي ، فقد سلّط على المسلمين ولاة إرهابيين ، قد نزعت الرحمة من قلوبهم فأسرفوا باقتراف الجرائم والاِساءة إلى الناس ، وكان من أشدّهم قسوة ، وأكثرهم جرماً الاِرهابي زياد بن أبيه فقد صبّ على العراق وابلاً من العذاب الاَليم ، فكان يسوق المتّهمين إلى ساحات الموت والاِعدام من دون اجراء أي تحقيق معهم ، فقد كان يحكم بالظنّة والتهمة ، ـ كما أعلن ذلك في بعض خطبه ـ ولم يتحرّج من سفك الدماء بغير حقّ ، ولم يتأثّم في نشر الرعب والخوف بين الناس ، فكان كأخيه اللاشرعي معاوية قد انتهك جميع حرمات الله.
لقد عجّت البلاد الاِسلامية من الظلم والجور ، حتى قال القائل: ان نجا سعد فقد هلك سعيد ، وكان من أشدّ الناس بلاءً وأعظمهم محنة شيعة أهل البيت عليهم السلام فقد أمعنت السلطة في ظلمهم ، والاعتداء عليهم فزجّت الكثير منهم في ظلمات السجون وزنزانات التعذيب ، وسلمت منهم الاَعين ، وأذاقتهم جميع صنوف التعذيب ، لا لذنب اقترفوه وانّما لولائهم لاَهل البيت عليهم السلام .
وقد شاهد أبوالفضل ( عليه السلام ) الصور المفجعة من الاضطهاد والتنكيل التي حلّت بشيعة أهل البيت ، مما زاده ذلك إيماناً بضرورة الجهاد ، والقيام بثورة ضدّ السلطة الاَموية ، لاِنقاذ الاَمة من محنتها ، وإعادة الحياة الاِسلامية بين المسلمين.

السابق السابق الفهرس التالي التالي