العباس عليه السلام192

الأمان

لم تزل هذه الفضيلة نفسية أبي الفضل في جميع مواقفه عند ذلك المشهد الرهيب لا سيما حين بلغه كتاب عبيد الله بن زياد بالامان له ولاخوته الذي أخذه عبد الله بن أبي المحل بن حزام وكانت أم البنين عمتعه وبعثه مع مولاه كزمان فلما قدم كربلا قال للعباس واخوته هذا أمان من ابن زياد بعثه إليكم خالكم عبد الله فقالوا له ابلغ خالنا السلام وقل له لا حاجة لنا في أمانكم أمان الله خير من أمان ابن سميّة(1) .
كيف يتنازل أبو الفضل الدنية وهـو ينتظر بعين غير أعين الناس ويسمع بأذنه الواعية غير ما يسمعونه يشاهد نصب عينه الرضوان الأكبر مع «خلف النبي المرسل» ويسمع هتاف

(1) الطبري ج 6 ص 239 وابن الاثير ج 4 ص 23 .
العباس عليه السلام193

الملكوت من شتى جوانبه بالبشرى له بذلك كله عند استمراره مع أخيه الامام .
نعم وجد «عباس المعرفة» نفسه المكهربة بعالم الغيب المجذوبة بجاذب مركز القداسة الى التضحية دون حجة الوقت لا محالة فرفض ذلك الامان الخائب الى أمان الرسول الأعظم .
وهنالك طمع الشمر فيه وفي اخوته ان يفصلهم عن مستوى الفضيلة فناداهم أين بنو اختنا اين العباس واخوته فاعرضوا عنه فقال الحسين اجيبوه ولو كان فاسقاً قالوا ما شأنك وما تريد قال يا بني أختي أنتم آمنون لا تقتلوا انفسكم مع الحسين والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد فقال له العباس لعنك الله ولعن أمانك تؤمننا وابن رسول الله لا أمان له(1) وتأمرنا ان نـدخل في طاعـة اللعناء وأولاد اللعناء فرجع الشمـر مغضباً(2) .
ان هذا الجلف الجافي قد أساء الظن بهؤلاء الفتية نجوم الارض من آل عبد المطلب فحسب انهم ممن يستوهيهم الأمن والدعة أو تروقهم الحياة مع ابناء البغايا

(1) تذكرة الخواص ص 142 واعلام الورى ص 120 .
(2) أسرار الشهادة ص 318 .
العباس عليه السلام194

هيهات خاب الرجس ففشل واخفق ظنه واكدى أمله ولم يسمع في الجواب منهم الا لعنك الله وتبت يداك ولعن ما جئت به .
وحيث ان ابن ذي الجوشن يفقد البصيرة التي وجدها أبو الفضل والنفسية التي يحملها والسؤدد المتحلي به والحفاظ اللائح على وجناته ، طمع ان يستهوي رجل الغيرة ويجره الى الخسف والهوان والحياة مع الظالمين .
أيظنّ أن ابا الفضل ممن يستبدل النور بالظلمة ويستعيض عن الحق بالباطل ويدع علم النبوة وينضوي الى راية ابن مرجانة ؟
ـ كلا ـ
ولما رجع العباس واخوته الى الحسين واعلموه بما أراده الماجن منهم قام زهير بن القين الى العباس حدثه بحديث قال فيه ان اباك أمير المؤمنين عليه السلام طلب من أخيه عقيل وكان عارفاً بأنساب العرب واخبارها ان يختار له امرأة ولدتها الفحولة من العرب وذوو الشجاعة منهم ليتزوجها فتلد غلاماً فارساً شجاعاً ينصر الحسين بطف كربلا وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم فلا تقصّر عن نصرة أخيك وحماية اخواتك فغضب العباس وقال يا زهير تشجعني هذا اليوم

العباس عليه السلام195

فوالله لارينّك شيئاً ما رأيته(1) .
فجدل أبطالاً ونكس رايات في حالة لم يكن همه من القتال ولا منازلة الابطال بل كان همّه إيصال الماء الى أطفال اخيه ولكن لا مرد للقضاء ولا دافع للأجل المحتوم .
ولا يهمه السهام حاشا من همه سقاية العطـاشا
فجاد باليمين والشمال لنصرة الدين وحفظ الآل


(1) الكبريت الاحمر ج 3 ص 144 واسرار الشهادة ص 387 .
العباس عليه السلام196

المواساة

لا يسع الباحث في حديث مشهد الطف المقدر فيه (قمر بني هاشم) حق قدره الا البخوع له بتحقيق هذه الغريزة الكريمة اعني المواساة بأجلى مظاهرها وانت إذا اعرت لما افضنا القول في البصيرة اذناً واعية عرفت كيف كان مقامه مع أخيه سيد شباب أهل الجنة وإيثاره التفاني معه على الحياة الرغيدة وتهالكه في المفادات منذ مغادرته الحجاز الى هبوطه أرض كربلا وحتى لفظ نفسه الاخير تحت مشتبك النصول فلا تجد مناصاً عن الاذعان بأنه عليه السلام كان على اعلا ذروة من المواساة لاخيه الامام يربوا على المواسين معه جميعاً لان مواساته كانت عن بصيرة هي انفذ البصائر يومئذ بشهادة الامام الصادق عليه السلام (كان عمّنا العباس نافذ البصيرة صلب الايمان) .
وقد شهد له بهذه المواساة إمامان معصومان واقفان

العباس عليه السلام197

على الضمائر ويعرفان مقادير الرجال فيقول الحجّة عجّل الله فرجه في زيارة الناحية : «السلام على أبي الفضل العباس المواسي اخاه بنفسه الآخذ لغده من امسه الواقي له الساعي إليه بمائه المقطوعة يداه لعن الله قاتله يزيد بن الرقاد الجهني وحكيم بن الطفيل السنبسي الطائي» .
ويقول الصادق عليه السلام في الزيارة المتلوة عند ضريحة الاقدس «اشهد لقد نصحت لله ولرسوله ولاخيك فنعم الاخ المواسي» .
فجعل عليه السلام الشهادة له بالمواساة المنعم بها نتيجة نصحه لله الذي هو مقتضى دينه ويقينه ونصحه لرسول الله الذي هو تمام التوحيد والنصح لأخيه الإمام الذي هو الجزء الاخير للعلة وبه كمال الدين وتمام النعمة «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي»(1) وبه قبول الاعمال .
«لو ان عبداً صام وصلى وزكى ولم يأت بالولاية ما قبل الله له عملاً أبداً» فرضى الرب والرسول وطاعتهما منوطان بطاعة ولي الأمر« انّما وليّكم الله ورسوله والذين

(1) سورة المائدة الآية : 3 .
العباس عليه السلام198

آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم راكعون»(1) .
فاراد الامام الصادق بذلك الخطاب أن نصح «عباس الهداية» لاخيه المظلوم على حد نصحه لله ولرسوله مع حفظ المرتبة في كل منهما فالطاعة شرع سواء في الثلاثة تحت جامع واحد هو وجوب الخضوع لهم والتسليم لأمرهم غاية الأمر تختلف المراتب فانه تجب الطاعة أولاً وبالذات بالنسبة إليه سبحانه وتعالى وبما ان الرسول مبعوث من قبله وجبت بالنسبة الى الرسول وبما ان الامام خليفة لهذا المبعوث المرسل لعدم بقائه الى الابد وعدم اهمال العباد كالبهائم وعدم وضوح الكتاب المجيد لوجود المخصص والمقيد والناسخ والمتشابه وعدم وفائه بالاحكام الشرعية بالبداهة وجب على الامة اطاعة هذا الامام فالمراد من المؤمنين في هذه الآية ومن اولي الأمر في قوله تعالى : «يا أيّها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الأمر منكم»(2) .
شيء واحد وقد انحصر مصداقه في سيد الوصيين وابنائه المعصومين الاحد عشر بالتواتر عن الرسول صلى الله

(1) سورة المائدة آية 55 .
(2) سورة النساء آية 59 .
العباس عليه السلام199

عليه وآله وسلم .
فالنصح الذي أشار إليه الامام في الزيارة هو لازم تلك الطاعة ومقتضى الولاية تحت جامع واحد وهو لزوم مناصرة الدين والصادع به المنبسط على ذات الباري تعالى والرسول والامام كل في مرتبته .
وقد أفادنا هذا الخطاب ان مفادات أبي الفضل ومواساته لم تكن لمحض الرحم الماسة والاخاء الواشج ولا لأن الحسين عليه السلام سيد أسرته وكبير قومه وان كان في كل منها يمدح عليه هذا الناهض لكنها جمعاء كانت مندكة في جنب ما أثاره «عباس البصيرة» من لزوم مواساة صاحب الدين والتهالك دون دعوته سواء كانت المفادات بعين المشرع سبحانه أو تحت راية الرسول صلى الله عليه وعلى آله أو امام الوقت وكل بعين الله وعن مرضاته جل شأنه وقد اجتمعت في مشهد الطف تحت راية الحسين عليه السلام .
ان من الواجب امعان النظر في عمله الناصع حين ملك الشريعة فاغترف غرفة من الماء ليشرب ولكن الزمه حق اليقين وقوة الايمان ان ينفض الماء من يده حيث لم ير له مساغاً في التأخير عن سقاية حجّة الوقت الامام المعصوم وحرم النبوة ولو بمقدار التروي من الماء هنيئة بل عرف ان

العباس عليه السلام200

الواجب عليه الابقاء على مهجة خليفة الرسول بسقايته ولو في ان يسير اذ الحالة شرع سواء بين قليل الزمان وكثيره ولذلك نسب فعله هذا الى الدين حيث يقول «تالله ما هذا فعال ديني» .
على ان شيخنا العلامة الشيخ عبد الحسين الحلي يحدث في النقد النزيه ج 1 ص 100 عن فخر الذاكرين الثقة الثبت الشيخ ميرزا هادي الخراساني النجفي نقلاً عن «عدة الشهور» ان أمير المؤمنين عليه السلام دعا العباس وضمه إليه وقبل عينيه وأخذ عليه العهد إذا ملك الماء يوم الطف ان لا يذوق منه قطرة واخوه الحسين عطشان فقول أرباب المقاتل نفض الماء من يده ولم يشرب انما هو لأجل الوصية من أبيه المرتضى .
لم يـذق الـفـرات اسـوة به ميمما بمـائـه نحـو الخبا
لم ير فـي الـديـن يبـل غلة وصنوه فيه الظمـا قد الهبا
والمرتضى أوصى إليه في ابنه وصية صدته عن ان يشربا


العباس عليه السلام201

لذاك قد اسنـده : لـديـنـه و عن يقيـن فيه لـن يضطربا
هذا من الشرع يـرى فعلتـه ومن صراط أحمد مـا ارتكبـا
ومثله الحسين لمـا ملك الماء فقـيــل رحـلـه قـد نهبـا
ام الخـيـام نـافضـاً لمائه اذ عظم الامر به واعصـوصبا
فكـان للعباس فيـه اسـوة اذ فاض شهماً غير مفلول الشبا


العباس عليه السلام202

عثرة التأريخ

لقد كان من نفوذ بصيرة العباس انه لم تقنعه هاتيك التضحية المشهودة منه والجهاد البالغ حده حتى راقه أن يفوز بتجهيز المجاهدين في ذلك المأزق الحرج والدعوة الى السعادة الخالدة في رضوان الله الأكبر وان يحظى بأجور الصابرين على ما يلم به من المصائب بفقد الاحبة فدعا اخوته من امه وأبيه وهم «عبد الله وجعفر وعثمان» وقال لهم تقدموا حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله فانه ولا ولد لكم(1) .
فانه أراد بذلك تعريف اخوته حق المقام وان مثولهم بهذا الموقف لم يكن مصروفاً الا الى جهة واحدة وهي المفادات والتضحية في سبيل الدين اذ لم يكن لهم أي شائبة أو شاغلة تلهيهم عن القصد الاسنى من عوارض الدنيا من

(1) ارشاد الشيخ المفيد ص 240 واعلام الورى ومثير الاحزان لابن نما .
العباس عليه السلام203

مراقبة أمر الأولاد بعدهم ومن يرأف بهم ويربيهم فاللازم حينئذ السير الى الغاية الوحيدة وهي الموت دون حياة الشريعة المقدسة فكانوا كما شاء ظنه الحسن بهم حيث لم يألوا جهداً في الذب عن قدس الدين حتى قضوا كراماً متلفعين بدم الشهادة .
لكن هلم واقرأ العجيب الغريب فيما ذكر ابن جرير الطبري في التأريخ ج 6 ص 257 قال وزعموا ان العباس بن علي قال لاخوته من امه وأبيه عبد الله وجعفر وعثمان يا بني امي تقدموا حتى أرثكم فانه لا ولد لكم ففعلوا وقتلوا .
وقال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين قدم اخاه جعفر بين يديه لأنه لم يكن له ولد ليحوز ميراثه العباس فشد عليه هاني بن ثبيت فقتله .
وفي مقتل العباس قال قدم اخوته لامه وابيه فقتلوا جميعاً فحاز مواريثهم ثم تقدم وقتل فورثهم وإياه عبيد الله ونازعه في ذلك عمّه عمر بن علي فصولح على شيء رضي به .
هذا غاية ما عندهما وقد تفردا به من بين المؤرخين وأرباب المقاتل ولا يخفى على من له بصيرة وتأمل بعده عن الصواب وما أدري كيف خفي عليهما حيازة العباس ميراث

العباس عليه السلام204

اخوته مع وجود امهم ام البنين وهي من الطبقة المتقدمة على الاخ ولم يجهل العباس شريعة تربى في خلالها .
على ان هذه الكلمة لا تصدر من أدنى الناس سيما في ذلك الموقف الذي يذهل الواقف عن نفسه وماله فأي شخص كان يدور في خلده ذلك اليوم حيازة المواريث بتعريض ذويه واخوته للقتل وعلى الاخص يصدر ذلك من رجل يعلم انه لا يبقى بعدهم ولا يتهنأ بمالهم بل يكون فعله لمحض أن تتمتع به أولاده .
بئست الكلمة القبيحة التي راموا أن يلوثوا بها ساحة ذلك السيد الكريم .
فهل ترغب انت ان يقال لك عرضت اخوتك وبني امك لحومة الوغى لتحوز مواريثهم ام ان هذا من الدناءة والخسة فلا ترضاه لنفسك كما لا يرغب به سوقة الناس وادناهم فكيف ترضى أيها المنصف ذلك لمن علم الناس الشهامة والكرم الاخلاق وواسى حجة وقته بنفسه الزاكية وكيف ينسب هذا لخريج تلك الجامعة العظمى والمدرسة الكبرى جامعة النبوة ومدرسة الامامة وتربّى بحجر أبيه واخذ المعارف منه ومن اخويه الامامين .
ولو تأملنا جيداً في تقديمه إياهم للقتل لعرفنا كبر نفسه

العباس عليه السلام205

وغاية مفاداته عن أخيه السبط فلذة كبد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومهجة البتول فان من الواضح البين ان غرضه من تقديمهم للقتل :
1 ـ إما لأجل أن يشتد حزنه ويعظم صبره ويرزأ بهم ويكون هو المطالب بهم يوم القيامة اذ لا ولد لهم يطالبون بهم .
2 ـ واما لأجل حصول الاطمئنان والثقة من المفادات دون الدين أمام سيد الشهداء ويشهد له ما ذكره الشيخ المفيد في الارشاد وابن نما في مثير الاحزان من قوله لهم (تقدموا حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله فانه لا ولد لكم) ولم يقصد بهم المخايل وانما رام أبو الفضل أن يتعرف مقدار ولائهم لقتيل العبرة وهذا منه عليه السلام ارفاق بهم وحنان عليهم واداء لحق الاخوة بارشادهم الى ما هو الأصلح لهم .
3 ـ وأما لأجل أن يكون غرضه الفوز بأجر الشهادة بنفسه والتجهيز للجهاد بتقديم اخوته ليثاب أيضاً بأجر الصابرين ويحوز كلتا السعادتين وربما يدل عليه ما ذكره أبو الفرج في مقتل عبد الله من قول العباس له تقدم بين يدي حتى أراك قتيلاً واحتسبك فكان أول من قتل من اخوته .
وذكر أبو حنيفة الدينوري ان العباس قال لاخوته :

العباس عليه السلام206

تقدموا بنفسي انتم وحاموا عن سيدكم حتى تموتوا دونه فتقدموا جميعاً وقتلوا .
ولو أراد أبو الفضل من تقديمهم للقتل حيازة مواريثهم (وحاشاه) لم يكن لاحتساب أخيه عبد الله معنى كما لا معنى لتفديتهم بنفسه الكريمة كما في الاخبار الطوال .
وهناك مانع آخر من ميراث العباس لهم وحده حتى لو قلنا على بعد ومنع بوفاة ام البنين يوم الطف فان ولد العباس لم يكن هو الحائز لمواريثهم لوجود الاطراف وعبيد الله بن النهشلية فانهما يشتركان مع العباس في الميراث كما يشاركهم سيد شباب أهل الجنة وزينب العقيلة وام كلثوم ورقية وغيرهن من بنات أمير المؤمنين .
فكيف والحال هذا يختص العباس بالميراث وحده هذا كله ان قلنا بوفاة أم البنين يوم الطف ولكن التاريخ يثبت حياتها يومئذ وانها بقيت بالمدينة وهي التي كانت ترثي أولادها الاربعة .
والذي أظنه ان منشأ ذلك التقول على العباس انه أوقفهم السير على قوله لاخوته (لا ولد لكم) من غير روية وتفكير في غرضه ومراده فحسبوه انه يريد الميراث فنوه به واحد باجتهاده او احتماله وحسبه الآخرون رواية فشوهوا به

العباس عليه السلام207

وجه التاريخ ولم يفهموا المراد ولا أصابوا شاكلة الغرض فان غرضه من قوله : لا ولد لكم تراقبون حاله بعدكم فاسرعوا في نيل الشهادة والفوز بنعيم الجنان .
على ان شيخنا العلامة الشيخ عبد الحسين الحلي في النقد النزيه ج 1 ص 99 احتمل تصحيف ارثكم من ارزأ بكم أو ارزأكم وليس هذا ببعيد واقرب منه احتمال شيخنا الحجة الشيخ آغا بزرك مؤلف كتاب (الذريعة الى تصانيف الشيعة) تصحيف ارثكم من (ارثيكم) فكأنه عليه السلام أراد أولاً ان يفوز بالارشاد الى ناحية الحق وثانياً تجهيز المجاهدين وثالثاً البكاء عليهم ورثائهم فانه محبوب للمولى تعالى .
ويشبه قول العباس لاخوته قول عابس بن ابي شبيب الشاكري لشوذب مولى شاكر يا شوذب ما في نفسك ان تصنع ؟ قال اقاتل معك دون ابن بنت رسول الله حتى اقتل فقال ذلك الظن بك فتقدم بين يدي أبي عبد الله حتى يحتسبك كما احتسب غيرك من اصحابه وحتى احتسبك انا فانه لو كان معي الساعة احد انا أولى به منك لسرني ان يتقدم بين يدي حتى احتسبه فان هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الاجر فيه بكل ما قدرنا عليه فانه لا عمل بعد اليوم وانما هو الحساب (الطبري ج 6 ص 254) .

العباس عليه السلام208

حديث الصادق

ان ما يتعرف منه منزلة أبي الفضل العالية واثبات الخصال الحميدة له اخبار أئمة الدين العارفين بضمائر العباد وسرائرهم الواقفين على نفسيات الامة على كثب بتحققها فيه وقد عبثت أيدي التلف في أكثرها فان الصدوق يحدث في الخصال ج 1 ص 35 بعد ذكره حديث السجاد في فضل العباس انه اخرج الخبر بتمامه مع اخبار في فضائل العباس في كتاب مقتل الحسين عليه السلام .
وظاهره ان هناك اخبار كثيرة في فضل أبي الفضل رويت عنا ككتابة المقتل ولا غرو فلقد اندثر بتعاقب الحوادث الكثير من المؤلفات .
وكيف كان فلعل من تلك الاخبار ما رواه في عمدة الطالب عن الشيخ الجليل أبي نصر البخاري النسابة عن

العباس عليه السلام209

المفضل بن عمر انه قال : قال الصادق جعفر بن محمد عليه السلام : كان عمّنا العباس بن علي نافذ البصيرة صلب الايمان جاهد مع أبي عبد الله وابلى بلاءاً حسناً ومضى شهيداً .
وكذلك قوله عليه السلام فيما علم شيعته ان يخاطبوه به من لفظ الزيارة المروية بسند صحيح متفق عليه فانه عند التأمل فيما خاطبه به الامام العارف بأساليب الكلام ومقتضيات الاحوال تظهر لنا الحقيقة ونعرف منزلة للعباس سامية لا تعد ومنزلة المعصومين .
فقال عليه السلام في صدر سلام الاذن :
«سلام الله وسلام ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين وعباده الصالحين وجميع الشهداء والصدّيقين والزاكيات الطيبات فيما تغتدي وتروح عليك يا ابن أمير المؤمنين» .
فانه أشار بهذا الى مصب سلام الله الذي هو رحمته المتواصلة والعطف الغير محدود الذين لا انقطاع لهما وسلام الملائكة المشاهدين لمقادير الرجال في ملأ القدس وحظيرة الجلال وسلام الأنبياء الذين لا يعدون مرضات الله ووحيه في أفعالهم وتروكهم وسلام الصالحين والشهداء الذين ادركوا بفضل الاتصال بالرسل وأوصيائهم أو بالتجرد ومشاهدة

العباس عليه السلام210

الحقائق الثابتة في عالم الغيوب زيادة على ما عرفوه من مقام أبي الفضل وفضله فكل هؤلاء يتقربون الى الله تعالى بالدعاء له واستنزال الرحمة منه سبحانه واهداء التسليمات إليه لما عرفوا انه من أقرب الوسائل إليه وحيث كانت خالصة للزلفة ماحضة في التقرب إليه جل ذكره عادت زاكية طيبة بنص الزيارة (الزاكيات الطيبات) وأما على رواية ابن قولويه في كامل الزيارة من زيادة (واو العطف) قبل الزاكيات الطيبات فيراد بهما العنايات الخاصة التي ليست بدعاء من احد ولا بأسباب عادية ولا يعدم هذه الأنبياء والأوصياء والاقلون ممن اقتفوا اثرهم وليست هي شرعة لكل وارد وانما يحظى بها الافذاذ ممن كهربتهم القداسة الالهية وجذبتهم جاذبة الصقع الربوبي وهكذا المقربون والافذاذ عند صعودهم .
وإذا قرأنا زيارة الصادق عليه السلام لجدّه الحسين سلام الله وسلام ملائكته فيما تروح وتغدو والزاكيات الطاهرات لك وعليك سلام الملائكة المقربين والمسلمين لك بقلوبهم والناطقين بفضلك . الخ(1) وضح لنا ان منزلة أبي الفضل تضاهي منزلة الحسين حيث اثبت له مثل هذا السلام .

(1) مزار البحار ص 148 عن الكامل .

السابق السابق الفهرس التالي التالي