دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 48

ما هو موطن الشيعة وكان قلب الطائفة يومها ـ كما هو اليوم ـ في الفرات الأوسط ، وفي كربلاء سفك في العام 680 م دم الحسين البذرة الحقيقية ـ للعقيدة الشيعية ـ (1)إضافة إلى قوة الإستمرارية التي هي طبيعة الأديان ، وخصوصاً المضطهدة ، فإن أحد العوامل الواضحة التي ضمنت ديمومة النفوذ الشيعي كان وجود المقامات الشيعية في النجف وكربلاء » (2).

(1) جاء في المصدر : « البذرة الحقيقية للشيعية الدينية » ، وارتأينا التصرف بالعبارة وجعلها للعقيدة الشيعية . لأن عبارة المصدر لا تعطي المعنى المقصود بدقة .
(2) العراق : 59 .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 49

الدور الإقتصادي للمراقد

إن وجود المشاهد المقدسة في أي بقعة من بقاع العالم سواء أكانت نسبتها حقيقية أم لا يعتبر مورداً إقتصادياً ومالياً مهماً من موارد الدولة التي تتولى إدارة شؤون تلك البقعة المباركة ، حيث تنشط المنطقة اقتصادياً وعلى مدار السنة ، ويشتد النشاط وتصعد وتيرته في المناسبات التي تخص صاحب البقعة المباركة من ذكرى ولادته ووفاته أو استشهاده أو في المناسبات العامة كالأعياد وغيرها .
إذ يتدفق مئات الألوف من الزوار إلى هذه البقاع المشرفة لقضاء فترة الذكرى فيها طلباً للبركة والدعاء والزيارة ، وبما أنها مناسبة جليلة وعظيمة في قلب ووجدان الزوار فإنهم يبذلون فيها المال بسخاء وكرم فتزدهر البقعة بالفنادق والأسواق والمطاعم والمصارف والمكاتب السياحية وكل ما من شأنه تسهيل أمور الزائرين والسياح ، ولا يخفى أن الإنسان ميال بطبعه إلى الإسراف في سفراته ورحلاته أكثر مما إعتاد عليه في بلده ومحل استقراره الدائم ، وجدير بالقول ان المسلمين عامة وشيعة اهل البيت عليهم السلام بالذات تتضاعف معهم هذه الحالة أضعافاً مضاعفة لاعتقادهم وإيمانهم بأن الكرم والعطاء وإبداء المساعدة والإشتراك في أعمال الخير والإنفاق على الشعائر الإسلامية وتعمير البقاع المقدسة وإحياء المناسبات الدينية هي اتباع عملي لسيرة أئمتهم عليهم السلام بل ويعتبرونها من أعمال البر والإنفاق في سبيل الله التي تسبب نماء أموالهم وموجبة لبركتها ، كما ورد في ذلك الأحاديث والروايات المنقولة عن أئمة اهل البيت عليهم السلام ، فينفقون من أحسن ما يملكون عملاً بالآية الكريمة « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون »(1).

(1) سورة آل عمران ، الآية : 92 .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 50

وعلى ضوء هذا المعتقد فاننا نلاحظ أن صرف الأموال في هذا المجال يجري بسخاء لامثيل له .
هذا بالإضافة إلى أمور وعوامل ثانوية أخرى من شأنها تنشيط الإقتصاد والتجارة ومبادلة السلع والبضائع بين الزائر والمقيم ، واعتبار الزيارةمناسبة جيدة وعفوية لعقد صفقات وعقود تجارية ، ويدلنا على ذلك ما أوردته بعض الصحف العالمية والمحلية عن النشاط والحركة الإقتصادية التي تحدثها فريضة الحج ومردوداتها الإيجابية على الإقتصاد في المملكة العربية السعودية ، حيث أذكر اني طالعت إحدى الصحف المحلية التي غاب عني اسمها في سفرة عام 1394 هـ إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج إذ ورد فيها ان ما تكسبه المملكة العربية السعودية من موسم الحج أضعاف ما تكسبه من بيعها للنفط ومشتقاته وذلك قبل فورة النفط وارتفاع أسعاره ، كما أن اقتصاد الجزيرة العربية كان يعتمد في السابق على هذا المورد إعتماداً شبه كلي (1).
وما نحن بصدده في هذا الموسوعة هو بيان بعض الآثار الإقتصادية للمزارات المرتبطة بالنهضة الحسينية من قريب أو بعيد وعلى رأسها مرقد الإمام الحسين عليه السلام (2)، حيث ان المناسبات الخاصة بالإمام الحسين عليه السلام تعد بحوالي عشر مناسبات (3)على مدار السنة وفي مقدمتها

(1) جاء في تاريخ كربلاء والحائر : 147 « يتراوح عدد الزائرين لكربلاء في هذه الزيارة ـ الأربعين ـ بين نصف المليون وثلاثة أرباع المليون وقد بلغ هذا المبلغ الأخير في عام 1365 هـ كما أحصتها جريدة الأخبار البغدادية بعددها 1546 المؤرخ يوم الأحد 23 صفر 1365 هـ الموافق 27 / 1/ 1946م تحت عنوان « يوم الأربعين في كربلاء وهوعدد جسيم لم يبلغ ثلثه عدد حجاج بيت الله الحرام في السنوات التي يكثر فيها الحجاج .
(2) جاء في مجلة لغة العرب البغدادية العدد : 5 ، السنة السابعة ، الصفحة : 432 ، التاريخ : آيار 1929 م نقلاً عن صحيفة إيران الطهرانية ان عدد الزائرين الإيرانيين يعد بـ ( 150 ) ألف زائر خلال سنة 1348 هـ ( 1929 م ) .
(3) زيارة أول رجب ونصفه والنصف من شعبان وليالي القدر وعيد الفطر والأضحى ويوم عرفة ويوم عاشوراء وأربعين الإمام الحسين عليه السلام ـ راجع باب الزيارات الحسينية من هذه الموسوعة ـ .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 51

زيارة الأربعين التي تتجاوز القمة في العدد ، إذ جاء في إحصاء للسنوات ما بين ( 1380 ـ 1390 هـ ) ان معدل الزائرين لمرقد الإمام الحسين عليه السلام في كل سنة وخلال موسم زيارة الأربعين فقط يتجاوز المليون زائر من داخل العراق وخارجه (1)والذي تتحول بموجبه مدينة كربلاء المقدسة بما فيها من أبنية عامة وساحات وطرق وحدائق إلى فنادق لهؤلاء الزوار بل وكانت الفنادق في المدن والنواحي القريبة تكتظ بالزوار ، وعلى ضوء هذه الحالة الإستثنائية تسقط بعض الإعتبارات والقيود المرتبطة بحياة الزائر الطبيعية وما اعتادبه من سكن ومأكل ، وتتحول الكثير من المحال والساحات العامة بصورة طارئة واستثنائية إلى مطاعم ودور استراحة لتوفر الخدمة العاجلة لهذا العدد الهائل من الزوار والوافدين ، وأخيراً نقل لي بعض الثقات الذي حضر موسم الأربعين عام 1417 هـ إلى أن الإحصاءات الرسمية ذكرت أن عدد الزائرين بلغ سبعة ملايين كما بلغ عدد الزائرين في ليالي الجمعة في أيام الموسم ثلاثة ملايين زائر ، وتأكيدا لهذا الخبر ذكر أن عدد زوار كربلاء المقدسة في النصف من شعبان لعام 1417 هـ بلغ ما يقارب الـ 8 ملايين زائر قصدوا زيارة الإمام الحسين من داخل العراق وخارجه (2).

(1) إذا كان المفروض أن الزائر الواحد يصرف ديناراً واحداً للسكن والمأكل وسائر المشتريات الأخرى لبلغ إجمالي الصرف أكثر من مليون دينار عراقي ، وإذا علمنا أن قيمة صرف الدينار العراقي في حينها كانت تعادل أكثر من ثلاثة دولارات فان المبلغ لا يستهان به وله قيمة إقتصادية كبيرة.
(2) نقل عن بعض الثقات الذين زاروا كربلاء خلال الموسم حيث اشتهر بين الأوساط الشعبية هناك ، ولاغرابة في ذلك بعد ما سبق وذكرنا بأن عدد زوار مرقد الإمام الحسين بلغ حوالي الـ 7 ملايين زائر في موسم الأربعين الذي يعد موسماً محلياً بينما يعد موسم زيارة النصف من شعبان موسماً عالمياً لزيارة الإمام الحسين عليه السلام وفي إحصاء غير رسمي ورد في صحيفة شاهد اللندنية : 3 الصادرة في محرم 1418 هـ نقلاً عن صحيفة( رضا كار ) ذكرت : ان عدد زوار مرقد الإمام الحسين عليه السلام بلغ حوالي ستة ملايين وثلثمائة ألف زائر ، وفي تاريخجه عزاداري حسيني : المطبوع عام 1399 هـ : 272 عن تعليقات على كتاب نهضة الحسين : 162 لإبن المؤلف ( يؤم كربلاء في المناسبات كل يوم أكثر من مليون زائر ) .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 52

ونتيجة لتزايد عدد الزوار الأجانب الذين يقصدون زيارة العتبات المقدسة في العراق فقد وجدت الحكومة العراقية التي تعاني من ضائقة مالية نتيجة سنوات الحصار (1) الفرصة مؤاتية لفرض رسوم عالية على الزائرين نذكر منها :
50 دولاراً قيمة رسم الدخول .
50 دولاراُ قيمة فحص الدم .
50 دولاراً رسم باسم المصرف المركزي .
بالإضافة إلى أن السلطات الحكومية فرضت على كل زائر أن يصرف يومياً كحد أدنى مبلغ 5 دولارات بالسعر الرسمي(2)(3).
وفيما يخص زيارة السيدة زينب عليها السلام ومردوداته الإقتصادية على الإقتصاد السوري يقول مقلد(4) : « إن عشرات ألوف الزوار من مختلف العالم الإسلامي القريب والبعيد تأتي إلى الشام بمناسبة شعبان وغيرها من المناسبات التاريخية لتزور مقام السيدة زينب عليها السلام ، وتستفيد العاصمة السورية بمئات ألوف الليرات التي تعزز الدخل القومي بأرقام غير بسيطة » (5)

(1) الحصار : هو الذي فرض على العراق اثر هزيمته في حرب الخليج الثانية عام 1412 هـ ، وبموجب قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 687 والذي ما زال مفروضاً عليه حتى كتابة هذه السطور .
(2) نقلاً عن عدد من مسلمي بريطانيا الذين زاروا مرقد الإمام الحسين عليه السلام في المناسبات .
(3) هذا وقد أعلنت الحكومة العراقية في شهر ربيع الأول ( آب ) أن اتفاقية أبرمت مع الحكومة الإيرانية باستقبال عدد كبير من الزوار الإيرانيين أسبوعياً وذلك من يوم 4/ 9 / 1997 م . الموافق لـ 1/ 5/ 1428 هـ ، كما استقبلت قوافل الزوار الأذربايجانيين من يوم 3/ 9 / 1997 م حسب الإذاعات والمحطات الفضائية .
(4) المقلد : هو محمد بن يوسف ، كاتب سوري كتب المقال تحت عنوان السيدة زينب عليها السلام رمز الوحدة الروحية بين الاقطار الاسلامية كتبه بمناسبة اهداء الضريح الفضي لمرقد السيدة زينب عليها السلام عام 1374 هـ ( 1954 م ) .
(5) مجلة الموسم التي تصدر في هولندا العدد : 4/ السنة : 8/ التاريخ : 1409 / الصفحة : 912 .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 53

وفي هذا المجال صرح مسؤول سوري رفيع المستوى لإحدى القنوات التلفزيونية العربية ما مضمونه ان واردات سوريا من خلال السياحة بلغت مليار دولار ، إذ زار سوريا في عام 1416 هـ ( 1996 م ) 100000 و 2 مليون سائح بينهم 00000 5و1 مليون سائح عربي (1)ومن الجدير ذكره ان أغلب السائحين العرب وآلاف الزوار المسلمين الشيعة إنما يقصدون سوريا بغرض زيارة العتبات المقدسة الموجودة فيها (2).
وخلال السنوات الأخيرة نظمت قوافل أسبوعية على مدار السنة من المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية وكذلك من باكستان ولبنان إلى جانب القوافل المتجهة في المناسبات من بريطانيا إلى زيارة العتبات المقدسة في العراق وبالذات كربلاء المقدسة بالإضافة إلى الرحلات المستمرة والمتواصلة التي يقول بها الشيعة الامامية إليها من كافة أنحاء المعمورة .
كما يقوم آلاف الإيرانيين بالسفر إلى المراقد المقدسة في سوريا في رحلات نصف شهرية منتظمة مضافاً إلى قوافل اللبنانيين المتجهة في المناسبات الدينية إلى حي السيدة زينب عليها السلام بدمشق .
وهناك عدد هائل من شيعة الخليج يتجه في صيف كل عام إلى كل من سوريا وإيران ومصر ليقضوا أيام الصيف بجوار تلك العتبات المقدسة .
ولا تتوفر لدينا إحصاءات إقتصادية شاملة ودقيقة لكل المقامات وذلك لعدم قيام جهة رسمية أو شبه رسمية بإحصاء إقتصادي تتوفر فيه الدقة والإمانة هذا إذا كان هناك إحصاء .
وهناك جانب إقتصادي آخر له أهميته خاص بالنذورات والأضاحي والهدايا التي يهبها أو ينذرها الزائر للمشاهد المقدسة ، إذ يذهب ويخصص أغلب ريعها إلى الجهة الإدارية القائمة على المشهد سواء أكانت رسمية أو أهلية ، أما الجزء الباقي فيعود مردوده إلى الفقراء والمعوزين وذوي الحاجة وباقي موظفي المشهد بصورة مباشرة أو غير مباشرة .

(1) قناة الشرق الأوسط الفضائية ( MBC ) بتاريخ 27 / 12 / 1996 م الموافق لـ 16 / 8/ 1417 هـ .
(2) مقام السيدة زينب عليها السلام ، مقام السيدة رقية عليها السلام وعشرات المراقد الأخرى .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 54

وحول أن زيارة العتبات يعد مورداً إقتصادياً يعلق العلوي على اتفاقية الدولة العثمانية والدولة الإيرانية بهذا الشأن فيقول : « كانت مشكلة الزوار الإيرانيين قد نوقشت في مفاوضات بين الدولة الإيرانية والدولة العثمانية ونصت معاهدتا ارضروم الأولى عام 1238 هـ ( 1823 م ) والثانية عام 1263 هـ ( 1847 م ) على تعهد الجانب التركي بعدم التعرض لإيذاء الزوار الإيرانيين الذين يقصدون العراق .
ومن الطريف أن مدحت باشا الذي كان يحرص على إقامة علاقة تفاهم مع الدولة الإيرانية قد وجه الدعوة إلى الملك الإيراني (1) لزيارة العتبات على حساب حكومة الوالي ، فدخل الملك العراق ومعه عشرون ألف زائر كان ستة آلاف منهم من مرافقيه الخاصين وإستمرت الزيارة ثلاثة أشهر كلفت خزينة العراق ثلاثين ألف ليرة عثمانية(2) ، لكن مدحت باشا من جانب آخر ومقابل هذه الخسائر توصل مع الملك إلى عقد اتفاقية تناولت مشكلة الزوار الإيرانيين وقضية دفن الموتى ، وأخفض أقتراح مدحت باشا مشكلة الزوار الإيرانيين وقضية دفن الموتى ، وأخفق اقتراح مدحت باشا في أن تستغل مجوهرات النجف المدفونة تحت الأرض ـ بسبب الخشية من هجوم الوهابيين عليها أسوة بما فعلوا في هجومهم على كربلاء ونهب المجوهرات النجف بثلاثمائة ألف ليرة عثمانية ـ لصالح الحجاح الايرانيين القادمين للزيارة ، بأن يمد خط حديدي بين إيران والنجف ، أو لإنشاء مستشفيات وملاجئ وخانات على طول طريق الزوار إلى العتبات المقدسة ، فلم يتم الإتفاق على هذه المقترحات وأعيدت الكنوز إلى مكانها » (3). وجدير بالاشارة أنه لولا الأثر الإقتصادي الفعال الذي ستخلفه زيارة ملك إيران إلى العتبات المقدسة إضافة إلى الأبعاد والجوانب السياسية الأخرى المتوخاة من

(1) الملك الإيراني : هو ناصر الدين أحمد بن محمد القاجاري رابع السلاطين القاجارية في إيران حكم مابين ( 1264 ـ 1313 هـ ) .
(2) الليرة العثمانية ( الليرة التركية ) بدئ بضرب الليرة التركية عام 1262 هـ وسميت مجيدي ، وتسمى أيضاً إيزليك ، وهي عملة ذهبية مقسمة إلى مائة قرش ، وتزن 37 و 111 حقة كما في الموسوعة العربية : 1594 .
(3) الشيعة والدولة القومية في العراق : 331 بتصرف .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 55

الزيارة لما قام والي العراق (مدحت باشا ) بهذا الإهتمام وهذه الحفاوة والكرم اللذين استقبل بهما الملك الإيراني ، حيث توقع الوالي جني ثمار الزيارة حينما يشرع ألوف المؤمنين الإيرانيين بزيارة الأماكن المقدسة في العراق .
وجاء في تقرير بطي (1)حول منع الحكومة الإيرانية مواطنيها عن زيارة العتبات المقدسة لأسباب سياسية وذلك عام 1347 هـ « وكان العراق يكسب من الإيرانيين (2)الذين يحجون كل سنة إلى المراقد المقدسة الموجودة في العراق فكان يبلغ عددهم في بعض السنوات مائة ألف زائر إيراني ينفقون مدة إقامتهم في البلاد العراقية أموالاً ويبتاعون من أسواقها بضاعات مختلفة فتحصل في هذه الأسواق حركة قومية في المواسم ، فقامت حكومة طهران في العهد الأخير وحظرت على الإيرانيين الحج (3)إلى الأماكن المقدسة في العراق ومنعت إعطاء جواز سفر لأي إيراني ، فانقطع بذلك مورد عظيم للعراق بل أوعزت تلك الحكومة إلى علماء الدين في إيران أن يحملوا الإيرانيين على ترك الحج المذكور وأن يكتفوا بزيارة بعض المراقد الموجودة في بلادهم نظير مشهد » (4).
وفي صدد الزائرين الذين وفدوا إلى كربلاء المقدسة خلال زيارة الأربعين عام 1331 هـ البالغ عددهم حوالي مائة وعشرين ألفاً ذكرت مجلة لغة العرب في تعليقها على ذلك : « ولو وصلت بغداد بهذين البلدين ـ كربلاء والنجف ـ بسكة حديد لكان الربح في مثل هذا الشهر أكثر من مليون

(1) بطي : هو رفائيل : المتوفى عام 1375 هـ ( 1956 م ) صحافي تولى رئاسة تحرير مجلة الحرية وانتخب نائباً في المجلس النيابي العراقي ، وعهد إليه بالوزارة ، توفي في العراق في شهر نيسان .
(2) جاء في النص الأصلي كلمة ( الفرس ) وارتأينا التصرف بالنص واستبدالها بكلمة الإيرانيين إنصافاً للحقيقة التاريخية باعتبار أن حصر الزيارة بالعنصر الفارسي ليس فيه إنصاف للتأريخ إذ ليس كل من يسكن إيران بفارسي حيث هناك قوميات مختلفة . كالترك والأكراد والعرب والبلوش إلى جانب القوميات الأخرى .
(3) الحج : في اللغة هو القصد والزيارة .
(4) مجلة الرابطة الشرقية القاهرية : العدد / 3 ، السنة / 1، الصفحة : 52 ، التاريخ : رمضان 1347 هـ .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 56

مجيدي (1)و لأستفاد فائدة تذكر لأن نفقاتهم تقل فيدخرون ما وفروه لأنفسهم لشؤون البيت وراحة أهله (2).
ومن ناحية أخرى فإن المناطق المقدسة إضافة إلى كونها مناطق جذب سياحية يختارها ويقصدها الزائرون في حياتهم فإنها أيضاً محل رقادهم الأخير وأفضل مكان يرجون الدفن فيه لاعتبارات عقائدية عدة (3)، ولذلك فان عدداً هائلاً من الموتى وعلى مر العصور كانوا وما زالوا يردون العتبات المقدسة ومن شتى البلاد (4).
ولما كانت قضية دفن الموتى ونقلهم إلى البقاع المقدسة مورداً إقتصادياً معتنى به ، فقد فرضت الحكومة العثمانية وحتى عام 1330 هـ ( 1911 م ) رسوماً بلغت قيمتها خمسين فرنكاً فرنسياً (5)على كل ميت(6)، وعن كثرة نقل الموتى إلى المدن المقدسة يحدثنا الرحالة لوفتس (7)قائلاً : « إن الجثث لاينقطع ورودها إلى كربلاء للدفن لأن الرغبة في الدفن هنا في

(1) مجيدي : عملة فضية كان يستخدمها أهل العراق في العهد العثماني ، تنسب إلى السلطان عبد المجيد الأول الذي حكم ما بين ( 1256 ـ 1277 هـ)وتعادل 20 قرشاً .
(2) مجلة لغة العرب البغدادية العدد : 7/ السنة : 2/ الصفحة : 319 / التاريخ : صفر 1331 هـ .
(3) راجع بحار الأنوار : 79 / 66 ـ 70 .
(4) جاء في كتاب عذاب بلا نهاية : 112 « لقد قام المقرر الخاص للأمم المتحدة بزيارة مدينة النجف في يناير كانون الثاني 1992 م ( رجب 1412 هـ ) ولاحظ مقبرة السلام ، والتي يدفن فيها الشيعة موتاهم ويجلبونهم من أماكن بعيدة كالهند وأفغانستان ... منذ ألف عام » وتعد المقبرة هذه من أكبر مقابر العالم .
(5) الفرنك الفرنسي : عملة فرنسية جرى التعامل بها في عصور مختلفة ولازال ، بقيم مختلفة ، ضرب لأول مرة من الذهب في عهد جون الثاني عام 762 هـ ، وفي عام هـ1210 هـ ظهر الفرنك الفضي الذي يزن خمسة غرامات ، وفي عام 1218 هـ ظهر قانون ينظم العملة الفرنسية فأصبح الفرنك وحدة العملة الفرنسية ويساوي مائة سنتيم .
(6) مجلة لغة العرب البغدادية العدد : 6/ السنة : 2/الصفحة : 243 : التاريخ : محرم 1330 هـ ( كانون الأول 1911م ) .
(7) لوفتس : عالم آثاري إنكليزي زار العراق أكثر من مرة وذلك في عامي 1266 هـ و 1270 هـ الموافق لعامي 1849 م ، 1853 م .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 57

التربة التي امتزج بها دم الإمام الشهيد تعد أمنية غالية من أمنيات المسلمين » (1)، وأما الرحالة جون أشر (2)فيقول : » إن جنائز المتنفذين من الشيعة والموسرين الذين كان بوسعهم دفع الرسوم والمصاريف المطلوبة كانت تدفن فيه ـ الصحن الحسيني ـ فإن ثمن هذا الإمتياز يمكن أن يكلف مبلغاً كبيراً من المال في بعض الأحيان » ، ويضيف قائلاً : » قد تصل في قافلة واحدة ألف جنازة في وقت واحد وكل واحدة منها يكون في صحبتها شخص أو أكثر من أقارب المتوفى » (3).
لقد أدرك الإنكليز مدى أهمية زيارة العتبات المقدسة ونقل الموتى إليها في إنعاش الحالة الإقتصادية لتلك المدن فاتخذوا منها ورقة ضغط في احتلال العراق وفرض نفوذهم عليه . كما وردت في بنود الهدنة التي أعلنها مارشال (4) في حشد من أهالي بغداد بتاريخ 6/ 2/ 1337 هـ (5) للتأكيد على ما قطعه الجنرال مود (6) من الوعود بعد سقوط بغداد وذلك بتاريخ 24 / 5/ 1335 هـ(7) للشعب العراقي بالإستقلال ، وكان من تلك البنود : رفع القيود عن التجارة وتخفيف الحصار والتشدد في تنقل الأشخاص ، والسماح بنقل الموتى إلى النجف وكربلاء وزيارة العتبات المقدسة (8).

(1) موسوعة العتبات المقدسة قسم كربلاء:295 عن Travels & Rescarchesin chaldeae & susians: p59
(2) جون أشر : عضو الجمعية الجغرافية الملكية في لندن زار العراق وإيران وكانت زيارته للعراق عام 1280 هـ الموافق لعام 1864 م .
(3) موسوعة العتبات المقدسة قسم كربلاء : 298 ـ 299 ، عن رحلة جون أشر (John Ussher)
(4) مارشال : هو وليم مارشال القائد العام للقوات البريطانية في العراق قبيل ثورة العشرين والذي خلف الجنرال مود .
(5) الموافق لـ 11/11/ 1918 م .
(6) الجنرال مود : وهم السير فردرك ستانلي ( 1281 ـ 1336 هـ ) الموافق ( 1864 ـ 1917 م ) القائد العام للقوات البريطانية في العراق ، إستولى على كوت ، العمارة وعلى بغداد بعد ان كانت تحت سيطرة العثمانيين .
(7) الموافق لـ 19 / 3/ 1917 م .
(8) ثورة الخامس عشر من شعبان : 188 ، راجع تفاصيل ذلك في فصل ثورة العشرين الحركة السياسية من باب أضواء على مدينة الحسين من هذه الموسوعة .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 58

ولا زالت هذه المشاهد المشرفة تتقاطر عليها قوافل الجنائز بينما الرسوم المفروضة على ذلك قائمة إلى يومنا هذا ، ففي عام 1418 هـ بلغ رسم الدفن عند مشهد الإمام الرضا عليه السلام ملايين التومانات الإيرانية (1)، بينما يكلف الدفن في مقبرة حي السيدة زينب عليها السلام في السنوات الأخيرة ألوف الليرات (2)وأما في كربلاء والنجف فقد بلغت كلفة النقل والدفن مئات الألوف من الدنانير (3).
وتعتبر مقبرة وادي السلام في النجف الأشرف من أكبر مقابر العالم في استيعابها للموتى الموفدين إليها من كافة بقاع العالم الإسلامي (4) وجدير بالإشارة إلى أن عملية النقل ومراسم الدفن ترافقها جملة من الخدمات التي تعتبر مورداً للرزق لكثير من أبناء هذه المدن (5).
وقد امتازت مدينة الحسين عليه السلام بتربتها المقدسة والتي تعد من أهم الموارد المالية لهذه المدينة ، حيث يقول شهري (6) : « إن التربة الحسينية كانت تباع في أسواق طهران بالمثاقيل بأغلى من الذهب » (7) . وهنالك مصانع

(1) لقد بلغت تكاليف دفن الميت في مشهد الإمام الرضا عليه السلام عام 1418 هـ حوالي سبعة ملايين تومان إيراني مع العلم ان الدخل المتوسط اليومي للعائلة في إيران في هذا التاريخ يبلغ حسب الإحصاءات الرسمية حوالي خمسمائة تومان .
(2) في سؤال وجهته بتاريخ 1/3/ 1418 هـ عبر أحد الأصدقاء إلى المسؤول عن دفن الموتى عن الرسوم التي تتقاضاها الدائرة الخاصة للدفن في مقبرة السيدة زينب عليها السلام الواقعة على شمال مرقدها الشريف فكان الجواب أربعين ألف ليرة سورية ، مع العلم أن الدخل المتوسط للعائلة الواحدة في سوريا شهرياً حوالي خمسة الآف ليرة سورية .
(3) لقد بلغت تكاليف دفن الميت في مقبرة السلام في النجف عام 1418 هـ حوالي ثلاثة ملايين دينار عراقي مع العلم ان الدخل الشهري المتوسط لكل عائلة حوالي ألفي دينار .
(4) في تقرير خاص لقناة الجزيرة الفضائية يوم الأحد 31 / 8/ 1997 م ( 26 / 4 / 1418 هـ ) ان الموتى في هذه المقبرة يعدون بعشرات الملايين .
(5) راجع فصل الإقتصاد من باب أضواء على مدينة الحسين من هذه الموسوعة .
(6) شهري : هو جعفر شهري باف ، كاتب إيراني معاصر يسكن طهران ، له العديد من الكتب منها ( طهران قديم ) في خمسة مجلدات .
(7) تاريخ إجتماعي تهران در قرن سيزدهم : 5/ 131 .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 59

لصناعة ترب ( أقراص ) للصلاة (1)وللأموات (2)إلى جانب السبح وما شابهها والتي يقول عنها الرحالة نيبور (3) :إن الترب كانت تصنع في معمل خاص ، أصحابها تدفع مبلغاً كبيراً من المال في كل سنة إلى والي بغداد لقاء هذا الإمتياز(4).
وهنالك العديد من الجوانب الإقتصادية الأخرى أعرضنا عنها وأوكلنا بحثها إلى مكان آخر من الموسوعة .

(1) تصنع الأقراص لأجل الصلاة عليها باعتبارين : الأول : لسهولة السجود على الأرض الطاهرة في مثل الأماكن المفروشة أرضها بالسجاد وما إلى ذلك ، الثاني : لأجل استحباب السجود على تربة الإمام الحسين عليه السلام عند الإمامية كتكريم له لأستشهاده في سبيل الله على تفصيل ذكرناه في باب المسائل الشرعية ، وباب الأحاديث من هذه الموسوعة .
(2) توضع مع الميت بعض الأقراص لما ورد في بعض الأحاديث ان تربة الحسين عليه السلام أمان من كل خوف ، راجع باب الأحاديث من هذه الموسوعة .
(3) نيبور : هو كارستين نيبور رحالة الماني جاء إلى العراق عن طريق الخليج ، زار كربلاء في شهر رجب عام 1179 هـ الموافق 27 كانون الأول 1765 م .
(4) موسوعة العتبات المقدسة قسم كربلاء : 89 ، عن رحلة نيبور .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 60

دور السياحي للمراقد

إن المعالم السياحية لكل بلدة قائمة على الآثار التاريخية المجسدة تجسيداً حياً ينطق بمعاني ودلالات الحوادث والوقائع التي شهدتها تلك البقاع الأثرية سواء أكانت آثاراً سلبية أو إيجابية ، لها قيمتها السياحية والأثرية التي لا تقدر بثمن ، وإذا ما أضيفت إليها روعة البناء الهندسي والعمارة والفن والإبداع زادتها أهمية وقيمة ناهيك عن الآثار والمعاني الروحية التي تنساب بعمق في روح ووجدان الزائر ، فكيف إذا ما أجتمعت كل تلك الصفات والمعاني في أثر بعينه ، لا شك سيكون في منتهى البهاء والجلال والعظمة والخلود .
ومرقد الإمام الحسين عليه السلام حوى كل معانى الروعة والبهاء تلك ، فكل قطعة فيه بل كل حجر فيه سفر يّدلك على التاريخ ويرشدك إلى الفن الباهر والذوق الرفيع ويحتاج إلى وصف ودراسة دقيقة متأنية لا تستوفيها هذه الوريقات ، ومن المؤسف ورغم عظم الأثر وقيمته التاريخية فإن الوضع السياسي لكل حاكم ترك ظلاله القاتمة على المرقد الشريف فأصيب بالتخريب أو الإهمال في أحسن الأحوال ، ولم تسلم الأضرحة والمراقد في كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء والبقيع من العبث والإنتهاك والسرقة .
أن الإهمال الذي مارسته الحكومات التي توالت على حكم العراق واضح للعيان ولا سبيل لتجاهله، فرغم إدعاء الحكومات بالحرص على تعمير العتبات المقدسة وصيانتها وتطويرها فهي لم تكلف نفسها عناء إنشاء قسم خاص يهتم بدراسة هذه الأضرحة من الناحية الهندسية والمعمارية والأثرية ناهيك عن الجوانب الأخرى ، ولم تقم مؤسساتها ودوائرها صاحبة الشأن والإختصاص كمديرية الآثار والسياحة بمساع جادة وحقيقية لتطويرهذه المدن المقدسة باعتبارها ثروة وطنية وإسلامية ، ومرجع ذلك في أغلب الأحيان يعود إلى الحقد والتخلف الملازمين لأغلبية الحكومات التي لا تنظر

دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 61

إلى الأمور إلا من زاوية عنصريه وطائفية بغيضة .
إن الجمال وروعة البناء الهندسي اللذان تتمتع بهما أضرحة أئمة أهل البيت عليهم السلام جعلاً منها لا يفوقها شيء في العراق على الأقل ، وعلى أثرها وزعت الشوارع المحيطة بها وهندست الجوامع والحسينيات وسائر الأبنية ، ومن تلك مدينة الحسين عليه السلام التي هي بحق لوحة فنية قل نظيرها (1) ، ولقد أشار العلوي لدى تطرقه للحديث عن العتبات المقدسة في العراق إلى القيمة السياحية لها بقوله : « إن العتبات المقدسة وبغض النظر عن قيمتها الدينية يمكن أن تستخدم في الجذب السياحي حيث صارت السياحة صناعة العصر ، وإنعاش إقتصاد البلد دون وقوع المجتمع العراقي بمشكلات المدن السياحية ، ودون الحاجة إلى سباق للخيل أو دور للبغاء أو نواد للقمار أو حانات للمخمورين ، فالسائح إلى المدن الإسلامية المقدسة ناسك متعبد يأتيها خاشعاً ويغادرها باكياً ، وإذا كان معروفاً أن ما لا يقل عن مليوني (2) زائر كان يمكن أن يتوجه سنوياً إلى هذه المدن ، لو أفسح في المجال لكان عائد العراق في الحد الأدنى يزيد على مليار دولار سنوياً ، وكان المفترض بالدولة أن تنهض ببناء مطار على الأقل في مدينة كربلاء للنقل المباشر بين هذه المدينة ومدن العالم ، وأن تعطي سمات الدخول لهذه الزيارة دون تعقيد أو روتين (3)، ولو حدث ذلك لكانت المدن العراقية المقدسة في وضع

(1) من الجدير ذكره أننا قد وضعنا مخططاً هندسياً شاملا روعيت فيه الجوانب الأثرية والدينية والهندسية كافة ، وصمم بما يناسب ووضع وقدسية المدينة ، يمكن الإطلاع عليه في باب أضواء على مدينة الحسين عليه السلام من هذه الموسوعة ، ولعلها تكون نواة لدراسة دقيقة من قبل الأخصائيين تأخذ مجراها إلى التنفيذ على أرض الواقع في المستقبل القريب .
(2) ذكر في إحصائية غير رسمية أن عدد الزائرين لمرقد الإمام الحسين عليه السلام في نصف شعبان من عام 1410 هـ بلغ مليوني زائر ، وقد أكد لي السيد محمد تقي نجل المرجع الراحل السيد أبو القاسم الخوئي هذه الاحصائية بنفسه لدى زيارته للندن بعد عدة شهور من المناسبة ، بينما ذكرت الإحصاءات شبة الرسمية أن عدد الزائرين بلغ في نصف شعبان من عام 1417 هـ ثمانية ملايين زائر كا سبقت الاشارة الى ذلك .
(3) روتين : كلمة إنكليزية ( routine ) تعني على وتيرة واحدة في عمل الأشياء .

السابق السابق الفهرس التالي التالي