لقد شيعني الحسين (ع) 81

للعقوبة في زمن عثمان ومعاوية . بل ما أكدته أخبارهم ، أنه قتل في عهد علي .
وما زلت أتسأل فيما إذا كان هذا زهدا في الجهاز الأموي تجاه أخطر شخصية وهمية تهدد مواقع الأمويين ، وخلافة عثمان . لم أقو على استساغة أن (شبق) السلطة الذي أعماهم إلى درجة النيل من كبار الصحابة وقتل آل البيت النبوي ، كيف زهدهم في النيل من شخصية مثل ابن سبأ لا وزن له في الوجدان الإسلامي يومئذ . أو إذا رفضنا هذا التصور ، يمكن افتراض إن الجهاز الأموي كان مقرا بهذه المؤامرة ، التي يتزعمها هذا اليهودي ، أو ربما كانت لهم يد فيها .
وعلى أي حال فإن الوقائع التاريخية ، تؤكد ، بأن العنصر (الفتان) الذي أطلقوا عليه اسم عبد الله بن سبأ لم يكن إلا معارضا قويا ، له وزنه في المجتمع الإسلامي . وما دام عبد الله بن سبأ الشخص الأسطوري لم نعثر عليه ضمن لائحة المحكوم عليهم بالعقوبة والتعزير في زمن عثمان . كان من المنطق الذي يدخل في الاعتبار عامل (اللعبة السياسية) الأموية ، أن نبحث عنه حقيقة بين أشخاص المعارضة الرئيسيين ، الذين طالتهم يد عثمان بالانتقام . فمن هم هؤلاء الذين شكلوا جبهة معارضة في زمن عثمان ، ونالوا حقهم من القمع الأموي؟ .
لقد ثبت عند المؤرخين إن الذين تزعموا حركة المعارضة في عهد عثمان هم رجال الصحابة ، ومنهم أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر ، وابن مسعود . . وعدد آخر من الصحابة سنتطرق إليهم أثناء الحديث عن خلافة عثمان . وكان عمار بن ياسر (رض) رجلا نشيطا ، ومزعجا للأمويين ، وعثمان . . مما حدى بهم إلى وضعه في منطقة الضوء ، والتفكير في التخلص منه . وكان المانع لهم من قتله جهارا أو فرض العقوبة عليه ، هو كونه غدا مقياسا في وجدان المسلمين للهدى والضلالة ، منذ رسخ في ذلك الوجدان أن بن سمية ، تقتله الفئة الباغية . وأنه ليس من مصلحة الطغمة الأموية يومئذ أن تتخذ ضده الإجراءات الحاسمة وتدخل معه في نزاع مباشر ، إذا لسقطت إعلاميا ، وخسرت باقي الجولات وكان مما حفظه المسلمون يومها من الرسول صلى الله عليه وآله ابن سمية عمار تقتله الفئة الباغية . ويدلنا على هذه (المعيارية) ما ذكره ابن الأثير في (أسد

لقد شيعني الحسين (ع) 82

الغابة) (19) عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال :
شهد خزيمة بن ثابت الجمل وهو لا يسل سيفا . وشهد صفين ولم يقاتل ، وقال : لا أقاتل حتى يقتل عمار ، فانظر من يقتله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (تقتله الفئة الباغية) فلما قتل عمار قال خزيمة (ظهرت لي الضلالة) ثم تقدم حتى قتل . وكان الجهاز الأموي السري يدرك مدى الخطورة التي ستواجهه فيما لو أتخذ تدابير قمعية مباشرة ضد عمار بن ياسر (رض) والحديث الذي اشتهر عندهم ، كان أحد رواته (أبو هريرة) وهو أحد أنصارهم . لذلك سيحاولون عدم الوقوع في التناقض ، فيما إذا أقدموا على مواجهة عمار .
وعمار بن ياسر (رض) كان أكثر استفزازا لعثمان وحاشيته . ومؤلبا عليه لا يفتر عن كشف مساوئه للناس .
وفي سنة خمس وثلاثين على حد تعبير المسعودي كثر الطعن على عثمان (رضي الله عنه) وظهر عليه النكير لأشياء ذكروها من (فعله) ثم ومن ذلك ذكر المسعودي(20) ما نال عمار بن ياسر من الفتن والضرب ، وانحراف بني مخزوم عن عثمان من أجله . واستمرت تحركات عمار بن ياسر ، في صفوف الناس ، لا تثنيه عن مسؤوليته ، هيبة الأمويين ، ولا صولجان سلطانهم . وقد تلقى غير مرة تهديدا مباشرا من قبلهم . فما منعه ذلك من مواصلة نشاطاته المعارضة لعثمان ومن حوله من أزلام أموية . لقد قدم معاوية بن أبي سفيان من الشام بعد أن أحس بمن يعارض عثمان فأتى مجلسا فيه علي بن أبي طالب ، وطلحة بن عبد الله ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعمار بن ياسر ، فقال لهم : يا معشر الصحابة : أوصيكم بشيخي هذا خيرا (عثمان) ، فوالله لئن قتل بين أظهركم لأملأنها عليكم خيلا ورجالا ، ثم أقبل على عمار بن ياسر وهذا التخصيص له أسبابه التي ذكرناها سابقا فقال : يا عمار ، إن بالشام مئة ألف

(19) أسد الغابة في معرفة الصحابة ، عز الدين بن الأثير أبي الحسن علي بن محمد الجزري (555 563) (ج 3 ص 632) دار الفكر .
(20) مروج الذهب ومعادن الجوهر (ج 2 ص 347) دار المعرفة : بيروت لبنان .
لقد شيعني الحسين (ع) 83

فارس ، كل يأخذ العطاء ، مع مثلهم من أبنائهم وعبدانهم ، لا يعرفون عليا ولا قرابته ، ولا عمارا ولا سابقته ، ولا الزبير ولا صحابته . فإياك يا عمار أن تقعد غدا في فتنة تنجلي ، فيقال هذا قاتل عثمان ، وهذا قاتل علي) (21) .
وهذا التحذير لم يجد من تحرك عمار ، في الكشف عن عورات الجهاز الأموي في خلافة عثمان . لقد جاء معاوية ووجه خطابه لجماعة من الصحابة . ثم خص عمارا بخطاب تقريعي ، يحذره فيه من مغبة الاستمرار على (تحريضه) (فإياك يا عمار أن تقعد غدا في فتنة تنجلي) وكان على معاوية ، أن يركز على رأس الحربة عبد الله بن سبأ فيما لو كان هو المحرض الحقيقي ضد عثمان . غير أنه ركز على عمار . . وفي ذلك لغز واضح! .
ومن ذلك ما ذكر بن قتيبة (في الإمامة والسياسة) : (ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب في يد عثمان ، وكان ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وكانوا عشرة : فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان ، والكتاب في يد عمارجعلوا يتسللون عن عمار ، حتى بقي وحده ، فمضى حتى جاء دار عثمان ، فاستأذن عليه ، فأذن له في يوم شات ، فدخل عليه وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أمية ، فدفع إليه الكتاب فقرأه . فقال له : أنت كتبت هذا الكتاب؟
قال : نعم قال : ومن كان معك؟ قال كان معي نفر تفرقوا فرقا منك ، قال :
من هم؟ قال : لا أخبرك بهم . قال : فلم اجترأت علي من بينهم؟ فقال مروان : يا أمير المؤمنين إن هذا العبد الأسود (يعني عمار) قد جرأ عليك الناس .
وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه ، قال عثمان اضربوه ، فضربوه وضربه عثمان معهم . حتى فتقوا بطنه ، فغشي عليه ، فجروه حتى طرحوه على باب الدار ، فأمرت به أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله فأدخل منزلها ، وغضب فيه بنو المغيرة وكان حليفهم ، فلما خرج عثمان لصلاة الظهر ، عرض له هشام بن الوليد بن المغيرة ، فقال : أما والله لئن مات عمار من ضربة هذا لأقتلن به رجلا عظيما من بني أمية ،

(21) تاريخ الخلفاء (لابن قتيبة) (ج 1 2 ص 38) مؤسسة الوفاء بيروت لبنان .
لقد شيعني الحسين (ع) 84

فقال عثمان : لست هناك) (22) .
وكان هذا إشارة إلى ما قام به عمار من تشويش على الجهاز الأموي . كما كشف عن الجرأة التي كان يمارسها عمار تجاه أقطاب السلطة في عصر عثمان . وبقي عمار مناوئا للأمويين ، لا يخشى في الحق لومتهم .
وكان عثمان قد أمر بجمع القرآن وحرقه ، والإبقاء على مصحف رسمي موحد . وكانت في مصاحف الصحابة ، حواش تتخللها ، هي بعض ما تلقوه من تأويل عن الرسول صلى الله عليه وآله من أولئك ابن مسعود الذي اشتهر بمصحفه وأبى ابن مسعود أن يسلم مصحفه إلى عبد الله بن عامر وكان بالكوفة .
وفي تاريخ اليعقوبي : (فدخل ابن مسعود وعثمان يخطب) فقال عثمان :
إنه قد قدمت عليكم دابة سوداء ، فكلمه ابن مسعود بكلام غليظ فأمر به عثمان ، فجر برجله حتى كسر له ضلعان . فتكلمت عائشة . وقالت قولا كثيرا . الخ) (23) .
وظل ابن مسعود مستاء من سياسة عثمان ، حتى وافته المنية . وفي ذلك يورد اليعقوبي : (فأقام بن مسعود مغاضبا لعثمان حتى توفي ، وصلى عليه عمار بن ياسر . وكان عثمان غائبا فستر أمره . فلما انصرف رأى عثمان القبر ، فقال : قبر من هذا؟ فقيل : قبر عبد الله بن مسعود . قال : فكيف دفن قبل أن أعلم؟
فقالوا : ولي أمره عمار بن ياسر ، وذكر أنه أوصى ألا يخبر به ، ولم يلبث إلا يسيرا حتى مات المقداد . فصلى عليه عمار ، وكان أوصى إليه ، ولم يؤذن عثمان به ، فاشتد غضب عثمان على عمار ، وقال : ويلي على ابن السوداء! أما لقد كنت به عليا) (24) .
فهذا الازعاج المستمر للسياسة الأموية ، وهذا التحدي الدائب الذي كان

(22) الإمامة والسياسة (بن قتيبة) .
(23) تاريخ اليعقوبي (المجلد الثاني (ص 170) دار صادر بيروت .
(24) نفس المصدر السابق .
لقد شيعني الحسين (ع) 85

يسجله (عمار) كان لا بد له من حل . على أن يكون حلا سياسيا ، يجنب الأزلام الأموية ، مخاطر التصفية الجسدية . وكان عثمان أول من استخدم في سبابه لعمار لقب بن السوداء . وهذا التعبير ، أوقع الخليفة في مطبات جسام . فأولا ، هذا اللمز لأم عمار ، وهي أول شهيدة في الإسلام . ثانيا إطلاقه هذا الاسم كانت له امتدادات سيئة ، بحيث أضحى هذا اللقب اسما رسميا ، لعمار ، تتداوله العناصر الأموية . وكان أن تطورت الحالة إلى أن تم تصحيف (ابن السوداء) عمار إلى (ابن السوداء) السبئي الأسطورة الذي صاغوا له قصصا في نوادرهم الغريبة .
فابن سبأ هذا الذي يقال ، أنه أول محرض ضد عثمان ، لم يثبته التاريخ ، والظاهر من السير والتواريخ ، إن المعارض الأول و (المشاغب) والمحرض السياسي الرئيسي ضد خلافة عثمان ، كان هو عمار بن ياسر . وهو البادي للناس سوءات الحكم ، والذي تلقى التهديدات ، لأنه من الصعوبة أن يتعرضوا له بالقتل المباشر للأسباب التي ذكرناها وهو المكنى عند عثمان وحاشيته الأموية ، بابن السوداء ، وهو الذي كانت له رابطة خاصة بالإمام علي (ع) وآل البيت (ع) وعلى هذا الأساس تنقشع غيوم (البؤس) التاريخي المتلبس بأيديولوجيا البلاط الأموي . وهكذا تنكمش (تلفيقة) السبئية ، لتلقي على كاهل محرف وضاع ، مرفوض الرواية ، وهو سيف ابن عمر (وتتوضح بعدها الأسباب التاريخية لنشوء (فكرة السبئية) وتنقشع الغيوم ولا تنقشع على الذين ما زالوا ممسكين بالعظام التاريخية . لقد تبين لي أن في تاريخنا مبدعين ، لا يعجزون عن حبك الأساطير في أرقى خيالاتها . لقد كان للساسة في تاريخنا خيال ، يظللها من الشموس الكاشفة .
وليس هذه أول خرافة ، تلقى بهذا الشكل (التهريجي على التشيع) بل أخريات من تلكم الشبهات المحبوكة بالأصابع المأجورة والمسيئة ، بالترغيب والترهيب الأموي ، لا بد من الوقوف على هزالها! .

لقد شيعني الحسين (ع) 86




لقد شيعني الحسين (ع) 87

الزرادشتية الإيرانية والتشيع

لم يكتف خصوم الشيعة بشبهة السبئية فحسب بل أوردوا شبهات أخرى دعموا بها مسلمتهم الايديولوجية . ومن تلك الشبهات الكثيرة والمتناقضة تهمة (التأثير الفارسي في التشيع)! .
يقولون بأن الفرس ما زالوا يحتفظون بالعداوة للعرب ، ولذلك تبنوا نظرية المعارضة . وجهدوا من أجل بلورتها وإعادة صيوغها . فكان أن أدخلوا في التشيع أفكارا زرادشتية ، كتلك التي تضفي على الأئمة طابعا خاصا كالعصمة ، والوصية .
وقالوا بأن ذلك منسجم مع ديانتهم ، التي تعتبر (الملوك) ذوي خصائص تفوق عامة الناس .
وكان تمسكهم بخط أهل البيت (ع) وميلهم إليهم . يعود إلى القرابة التي تجسدت في تزاوج الأئمة بالفرس (كشهر بانويه) الفارسية الساسانية ، بنت الملك (يازدجرد) آخر ملوك الساسانيين . والتي أنجب منها الإمام الحسين (ع) الإمام زين العابدين (ع) وهذه الشبهة ، كشبهة (السبئية) يمكن أن تؤثر على عقول مفلسة في المعرفة التاريخية . وليس ثمة عاقل يستطيع ادعاء هذه (الشبهة) من دون (رطانة)! .
فلا بد أن يفتشوا لنا في التشيع عن مواطن تجلي الفكر (الثنوي) الفارسي ،

لقد شيعني الحسين (ع) 88

وأين مقولتا النور والظلمة اللتان تعتبران ركنا في العقيدة الثنوية الفارسية ، وأساسا للمذهب الزرادشتي!؟ .
وربما قالوا ، إن هذا الفكر ، تسرب بفعل التأثير الغنوصي على التشيع .
والذين لفقوا فكرة (الغنوصية) والقوها على (التشيع) هم بلا شك قوم سطحيون . أو كسالى لا يتعبون أنفسهم ، لإقناع أتباعهم . ولعل وجود بعض نقاط التشابه والتجانس في بعض مفردات الأديان والفلسفات ، تجعل بعض قصار النظر يتهمون التشيع بالغنوصية أو الزرادشتية .
والظاهر أن الذين نسبوا التشيع إلى الحركة الغنوصية هم الذين اطلعوا على الجانب (العرفاني) من التشيع ، كما تجلى في أسفار صدر المتألهين ، وكذلك عند السهروردي . وليست الغنوصية في اصطلاحها الأول سوى جنوسيس العرفان ، وهو الاسم الذي أطلقه الغنوص على أنفسهم في القرن الثاني للميلاد .
وهو مذهب منتقى من كثير من الاتجاهات الفلسفية والدينية ، كالزرادشتية والأفلاطونية المحدثة والفيثاغورية ووجود أشكال من الاعتقادات كوحدة الوجود ، وهي أساس الاعتقاد الثنوي الزرادشتي ، وهذا لا يعني أن التشيع هو صنيعة لهكذا مذاهب . إذ أن العرفان الشيعي كالتصوف السني ، لا يمثل أساس المذهبين ، وأن العرفان الشيعي لا يختلف عن التصوف السني ، فهذا الأخير ، منه تأثر العرفانيون الشيعة . وابن عربي ، المالكي ، السني ، أكثر الذين قالوا بوحدة الوجود ، وكذا بن سبعين .
أما باقي الأفكار الغنوصية ، كالهلانية ، والفيثاغورية . فليس لها أثر على التشيع إطلاقا . بقدر ما توجد بعض مفرداتها في المذاهب الأخرى ، ولم أكن أتصور كيف ربط بعض (مهرجي) التأريخ ، بين التيار الفارسي والشيعي ، معتبرين الأول أساسا وروحا للثاني . ولم نفهم بعد ذلك أين كان الفرس يوم

(25) ذلك لأنهم استبعدوا أن يوجد إله واحد خالق للخير والشر معا . فابتدعوا إلها للخير (النور) وآخر للشر (آله الظلمة) ومنهما يفيض باقي الخيرات أو الشرور . ومن ثم يرى البعض أن وحدة الصدور أو الخلف لها أثارها في الفكر الثنوي ، راجع (العدل الإلهي) لمرتضى المطهري .
لقد شيعني الحسين (ع) 89

(الجمل) وصفين ، والنهروان وكربلاء . وهي حروب إسلامية بين الشيعة ومعارضيهم من العرب .
ويرى أصحاب هذه الرؤية ، إن سبب ذلك راجع ، لضعف الفرس أمام العرب ، وعجزهم عن الاستقلال الذاتي . فكانوا يعملون على دعم تيار أهل البيت (ع) من أجل القضاء على دولة الخلافة ، كتمهيد لاستقلالهم بينما التاريخ يثبت أن الفرس استطاعوا بعد مئة سنة من فتح (فارس) بناء قوة عسكرية . هذه القوة هي التي أسقطت الدولة الأموية وسلمتها للعباسيين . وكانوا حريين بأن يستبدوا بها ، أو لا أقل ، يلتمسوا من خلالها استقلالهم الذاتي . ولم يكن الفرس يخططون للاستقلال عن الخلافة إلا في العصور المتأخرة ، حيث بات وضع الخلافة نزاعا إلى العروبة أكثر من التزامه الإسلامي! وبعد ما واجهه الأعاجم من مضايقات وانتهاكات لحقوقهم في ظل الخلافة العثمانية المتأخرة! .
وبقي أغلبية المجوس على دينهم طوال الخلافة ، حتى إذا استقلوا دخل أغلبهم إلى الإسلام ، وحسن إيمانهم . . فقد بدأ الاستقلال السياسي منذ أوائل القرن الثالث الهجري ، وكان كثير من الفرس باقين إلى ذلك الحين على ما لهم من دين من المجوسية والمسيحية والصابئية وحتى البوذية) (26) بينما إيران في زمن استقلالها ، وبالضبط في العهد الصفوي ، دخل أغلبها الإسلام (27) .
وبقي الفرس المسلمون ، متشددين ضد الأفكار الثنوية والمجوسية إلى أن أسقطوا آخر قلاع الإمبراطورية الإيرانية ليعيدوا للإسلام مجده ويحرروا (اللغة) و(التاريخ) العربيين من الأسر (الشاهنشاهي) ولم تكن لدى الفرس مواقف غيرمتوازية في تعاطفهم مع الأئمة . وأمهاتهم . ولم تكن (شهربانويه) بأفضل من(نرجس الرومية) أم الإمام المهدي ، في التصور الفارسي الإسلامي (28) .

(26) إيران والإسلام مرتضى المطهري (ص 93) .
(27) الذين اعتمد عليهم الأمويين في قتل آل البيت كانوا عناصر أعجمية ومنها بعض الفارسين وشمر بن ذي الجوشن ، الذي قطع رأس الحسين (ع) كان فارسيا .
(28) المصدر السابق .
لقد شيعني الحسين (ع) 90

لقد بدأ الانحراف يبدد التصور الأموي والعباسي ، للعنصر الأعجمي . وظنا أنهما ملكا الشعوب والأعراف الأخرى ، بعروبتهما وإسلامهم . فراحا ، يكبران أمر العروبة ، فارضين أعرافهما على الشعوب الأخرى . والعنصر الفارسي العريق في الحضارة والتمدن ، لم يكن ليسمح للعربي بأن يستذله ويستعبده . لذلك اشرأبت الفتنة بعنقها ، وطلت . فانبعث الصراع بين النزوع الأموي وبعده العثماني القومي وبين النزوع الفارسي ، الذي كان مستاء من الانحراف في الخلافة ، منحازا بذلك إلى محور آل البيت (ع)! يقول الأستاذ مرتضى المطهري (29) .
(وإن أكثر أهالي طبرستان وشمال إيران كانوا لم يتعرفوا على الإسلام إلى ما بعد القرن الثالث ولذلك فهم كانوا يحاربون عساكر الخلفاء . وبقي أكثر أهالي كرمان إلى ما بعد عهد الأمويين على المجوسية . وكان أكثر أهل فارس وشيراز على عهد الاصطفري (صاحب كتاب المسالك والممالك) من المجوس) .
ولم يكن التشيع من إبداع الفرس إلا عند مهرجي التاريخ ، والعرب سباقون إلى التشيع . وهم الذين ادخلوه إلى فارس . والدليل على ذلك ، إن معظم علماء السنة الكبار في التفسير والحديث والأدب ، واللغة . هم من فارس . وبقيت إيران على السنة الأموية في سب علي (ع) ولعنه في المساجد وعلى المنابر . بل إن بعض المدن الإيرانية رفضت أن تحيد عن لعن الإمام علي (ع) في عهد عمر بن عبد العزيز . وأبت الاستجابة لقراره كأصفهان! .
وارتبط الفرس بعدها بالأئمة ، وقدموا كل من ينتسب إليهم من (السادة) العرب . وأحيوا اللغة العربية أكثر من العرب . ومنهم روادها الكبار مثل سيبويه النحوي ، وصاحب القاموس المحيط الفيروز آبادي ، والزمخشري رائد البلاغة وخصتهم النبوءة الرسولية ، بمديح خاص وربطت مصير الإسلام بهم . ومما ورد فيهم من القرآن ، إنهم القوم الذين قال فيهم الله تعالى : « وإن تتولوا يستبدل

(29) (الإسلام وإيران) (ج 1 ص 92) ترجمة محمد هادي اليوسفي الغروي قسم العلاقات الدولية منظمة الإعلام الإسلامي .
لقد شيعني الحسين (ع) 91

قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم » (سورة محمد آية 38) ذكر الزمخشري في تفسيره إنه سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن القوم ، وكان سلمان الفارسي إلى جنبه ، فضرب على فخذه ، وقال : (هذا وقومه والذي نفسي بيده ، لو كان الإيمان منوطا بالثريا ، لتناوله رجال من فارس) (30) .
وذكر الرازي في تفسيره ، روى أن الرسول صلى الله عليه وآله سئل عمن يستبدل بهم إن تولوا ، وسلمان إلى جنبه فقال (هذا وقومه) ثم قال (لو كان الإيمان منوطا بالثريا لناله رجال من فارس) (31) .
ومثل ذلك ذكر ابن كثير في تفسيره ، إذ قال ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني مسلم بن خالد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة : قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله تلا هذه الآية « وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم » قال يا رسول الله من هؤلاء قال فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي (رض) ثم قال (هذا وقومه ، ولو كان الدين عند الثريا ، لتناوله رجال من الفرس) (32) .
وذكر صاحب التبيان وقيل : مثل سلمان وأشباهه من أبناء فارس ، ولم يجز الزجاج أن يستبدل الملائكة ، لأنه لا يعبر بالقوم عن الملائكة ، لا يكونون أمثالكم ، لأنهم يكونون مؤمنين مطيعين ، وأنتم كفار عاصون) (33) وكذلك أخرجه الترمذي والحاكم والطبري وابن حبان .
وإخلاص الفرس للإسلام ، ما زلنا نراه في وضح النهار ، في إيران وأفغانستان وسبق الفرس العرب اليوم في تشكيل دولتهم الإسلامية وفكروا في تصدير الثورة

(30) الزمخشري تفسير الكشاف (ص 330) (تفسير سورة محمد (الآية 36 - 38) الجزء الرابع الناشر دار الكتاب العربي بيروت .
(31) التفسير الكبير الرازي (ص 76 27 - 28) الناشر دار الكتب العلمية ، طهران .
(32) تفسير ابن كثير (سورة محمد الجزء الرابع) دار القلم بيروت .
(33) التبيان الطوسي (ص 311) المجلد التاسع ، دار إحياء التراث العربي .
لقد شيعني الحسين (ع) 92

والوعي الإسلامي إلى باقي الشعوب العربية ، وهذا هو عين الإعجاز في نبوءة القرآن .
وبالنتيجة ، تتلاشى النظرة التعسفية للتاريخ الإسلامي ، تلك التي تصور الفرس على أساس إنهم هم الذين اختلقوا (التشيع) بحكم عدائهم للإسلام والعرب . وهاهم دون الرجوع إلى التاريخ بإمكانهم الرجوع إلى مجوسيتهم ، وهم في موقع قوة . ولو فعلوا ذلك ، لأراحوا أطرافا عربية ، ولكنهم لا يفعلون!
فالتشيع في النهاية ، هو الصيغة التي احتوت المسلمين الطلائع ، المعارضين للخلافة المنحرفة . وهو وليد (المدينة) والمناطق العربية ، ولم يدخل إلى إيران سوى في العهود المتأخرة ولم يزدهر التشيع في إيران سوى مع تكوين الدولة الصفوية (1502 م) وسوف يتبين لنا ، إن التشيع له جذوره في عمق الرسالة الإسلامية المحمدية . وإن ما أورده الخصوم ، إن هي إلا أساطير الأولين ، أعادوا لوكها على ألسنتهم ، والله متم نوره ولو كره الحاقدون! .

لقد شيعني الحسين (ع) 93

وأثرت السؤال !

إنني ما زلت أنزع الأشواك من أقدام التاريخ الإسلامي ، لأكون لنفسي رؤية موضوعية حوله . ولست ببعيد عما عاناه ابن الهيثم في إحدى أطوار تجربته . وقد رأى أن ابن اليهودي يصير يهوديا ، وابن النصراني يصير نصرانيا . وبأنه سمع حديثا يقول : (كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ثم إن الأمة الإسلامية هي نفسها انشطرت إلى مذاهب شتى ، وطرائق قددا .
وقد جاء في الحديث النبوي الشريف : (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) (34) والغريب ، أن الناجية واحدة والباقي في النار! .
ثم رحت أطرح على نفسي السؤال تلو السؤال .
ما أدراني أنني على حق؟ .
ترى لو أنني ولدت في إيران أو العراق أو لبنان . ماذا سأكون يا ترى؟ ما ذنبي ، إن كنت أجهل الفئة الناجية؟ ما ذنبي ، ما ذنبي؟ وكنت مقتنعا أن الله منح الإنسان (العقل) حتى يستنير بنوره . وأن العقل رسول باطن ، يرشد إلى أسلم السبل وأهداها .

(34) أبو هريرة رواه ابن ماجة ورواه بن مالك عن عوف بصيغة أخرى .
لقد شيعني الحسين (ع) 94

وليكن ما يكون . ولكن لا بد لي أن أفكر ، وأمارس كينونتي في الوجود ، لا برئ ذمتي ، طلبا للحق والتماسا للنجاة ، وبعدها أطلب العذر على تقصيري .
المهم هو الوصول إلى (القطع) الذي تثبت به المعذرية . وهذا القطع لا بد أن يحصل بالاجتهاد والبحث الحثيث .
كان أثقل شئ علي يومئذ ، أن أقرأ تأريخ (الفتنة الكبرى) والغريب أنني أقرأ صفحة ثم أتوقف متعوذا بالله ، وكأنني أنا المسؤول عن كل ما وقع .
أقرأ التاريخ خلسة ، وخفية ، وكأنني أمارس الفحشاء والمنكر . وما زلت أتذكر الأصحاب ، وقد بدأوا يوجهون لي النقد . لأنني بدأت أخرج عن الإيمان ، وأهتم بالفتن . إنني كنت أدرك إنهم لا يقولون إلا ما لقنوه . وبرمجوا عليه في تعاملهم مع (الفتنة الكبرى) حيث البؤرة الوحيدة التي تعكس حقيقة الانحراف الذي طرأ على نفوس الكثير من الذين أكبرهم التاريخ في أذهاننا إكبارا زائدا .
كان همي أن أعرف قدر الامكان ، الفئة الناجية . ولم أكن أتصور أن الرسول صلى الله عليه وآله يتحدث عن خلاف الأمة ، ثم لا يعطيها ، مفتاح النجاة ، إذن ، لما كان نبيا هاديا! فما ذنب مسلمي القرون اللاحقة إن كانت ستأتي بعد وجود الخلاف ، فترثه إرثا! .
ثم عدت للحديث لأرى هل في أحشائه ما يرشدني إلى الهدى ويجنبني الضلال . وما أثارني هو تعامل مختلف الفرق ، لهذا الحديث . إذ كل فرقة تتبناه لصالحها . فقد قرأت مرة ، لسعيد حوى كلاما قال فيه ، بأنه إجماع الجمهور ، إن الفئة الناجية هي أهل السنة والجماعة . وتساءلت يومئذ عن الحل في هذه الكلمات . هل الجمهور يتفق على نفسه! وليس هو أول من قالها ، بل كثرت في كتابات المتقدمين أيضا . لقد روي عن معاوية بن أبي سفيان ، فقال ألا إن رسول الله صلى الله عليه وآله قام فينا فقال : ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين : اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة) (35) .

(35) سنن أبي داوود (ج 4 ص 198) كتاب السنة .
لقد شيعني الحسين (ع) 95

والجماعة التي وطد أركانها معاوية ، كانت تعني العداء المطلق لآل البيت (ع) الجماعة التي بقيت وفية لمعاوية ، حيث تجتمع جميعها على سب ولعن علي (ع) من على المنابر .
وروى عبد الله بن عمر عن الرسول صلى الله عليه وآله ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى أن كان منهم من أتى أمة علانية ، لكان في أمتي من يصنع ذلك ، وأن بني إسرائيل تفرقت ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة ، قالوا : ومن هي يا رسول الله قال : ما أنا عليه وأصحابي) (36) .
وعلى كل حال ، فأنني لم أفهم من كلمة (الجماعة) حلا يشفي غليل عقلي علما ن الجماعة التي تحدث عنها معاوية ، هي الجماعة التي استجابت له ، في حكم لجاهلية . وبها قاتل الإسلام في شخص علي (ع) وبمثله قتل ابنه (يزيد) الإمام لحسين (ع) وباقي عترته الطاهرة .
والحق كما أفهمه ، ليس مسألة كمية ، عددية . والجماعة هي أن تكون على ق ولو كنت وحدك كما قالها ابن مسعود وليتني أعرف أي الصحابة الذين كرهم حديث ابن عمر الجديرين بالاتباع . وأيهم اتبع وقد تفرقوا فرقا ونحلا سمعتهم مرة يقولون (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهديتم) ، ولست أعلم ن هذا الحديث المشكوك فيه عند أهل الرواية (37) هل يحتوي على أقل قدر من لمنطق . وكيف اهتدي سواء اتبعت عليا أو معاوية ، أبا ذر أو عثمان . أبا هريرة و عمار . ولعمري كيف يجتمع النقيضان؟! .
وهبني سلمت بهذا الحديث على علته ، أفلست على السنة والهداية ، إذا لكت طريق علي (ع)؟ أو ليس هو على الأقل من الصحابة وإذا قالوا إنه برئ نزيه ، وأنه لم يخالف الجماعة ، قلنا عن بعض الأصحاب لماذا قتلوا حسينا ، لماذا ،

(36) سنن الترمذي (ج 5 ص 26) كتاب الإيمان : الحديث 2641 .
(37) طعن فيه ابن حزم ، وابن حنبل ، بل واعتبره الأول موضوعا .
لقد شيعني الحسين (ع) 96

نفوا أبا ذر ، لماذا قتلوا عمارا لماذا مثلوا بمحمد بن أبي بكر و . . . و . . وإذا قالوا نها السياسة قلنا ، ولماذا لم يتقوا الله في السياسة؟! (38) .
إنني ورثت مجموعة تقديسات متناقضة ، تجرعتها على حين غفلة من نضجي وعي التاريخي . ورثت حب أبي ذر وعثمان ، علي ومعاوية ، وخالد بن الوليد ، فاطمة الزهراء . . سواء بسواء . لا ميزات ولا درجات . ولكن التاريخ ، لمني ألا أكون مناقضا للحقيقة . وإلا كيف يتسع القلب لحب الشئ ونقيضه .
كيف أحب أبا ذر (رض) وعثمان الذي نفاه إلى (الربذة) حتى يرضى بني شيرته ، وواحدا من الطلقاء ، (معاوية) إذ كان من المؤلفة قلوبهم .
وكيف أجمع بين حب معاوية ويزيد السفاكين ، وبين حب علي وبنيه تركةالنبوة ومشكاة النور الإسلامي؟! لم تتمكن مني مراوغات التاريخ ، وحيل القصاصين) .
والسؤال الذي يجب أن يطرحه كل مسلم على نفسه : لماذا أنا مع هذه الفرقة لست مع تلك؟ .
هل الوراثة هي السبب أم الاجتهاد والقناعة؟؟ .
إذا كانت القناعة كما يدعي البعض ، فهي ، تعني الانسحاب من المذهب البدء في مسيرة البحث محايدة ، ومتكافأة . أو قراءة التاريخ من أجل البحث عن لصواب ، والاستعداد النفسي لخسران الكثير من المسلمات . والقراءة عن هذه لفرقة وكأنها فرقة القارئ . ثم تحكيم العقل ، والقرآن ، والوجدان .
وجدير بنا القول آنئذ : (اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه وما قصرنا عنه بلغناه) (39) .
أما أن نصم الآذان ، ونعمي الأبصار ، بحجة الإيمان والتقوى هو خداع

(38) إنني أحكي ما دار بيني ونفسي في مسيرة البحث عن الحل العقيدي . وأنا لا أهدف أن أحول لكتاب كما سبق ذكره إلى معركة (إن قالوا قلنا) .
(39) دعاء الإمام زين العابدين (الصحيفة السجادية) .
لقد شيعني الحسين (ع) 97

نفسي ، وهروب من ضغوط الحق ، ودفن للرأس في الرمال .
كان قصدي هو بلوغ الحقيقة ، والوصول إلى القافلة الناجية . . ولذلك كان ن الضروري أن أخرج نفسي من ضيق التهذيب والفرقية ، لأنظر من بعيد تحررا من ذلك الضباب الكثيف الذي يمكن أن يحجب عني الرؤية . كان شكي نهجيا . في البحث عن المعرفة التاريخية ، فانطلقت . وبأدوات محايدة وبعقلية شتاقة إلى سبر أغوار الحقيقة .

لقد شيعني الحسين (ع) 98




السابق السابق الفهرس التالي التالي