لقد شيعني الحسين (ع) 45

يقتضي الطاعة من باقي المسلمين ، لأن في رأيه السداد المطلق ، ولأنه توخى مصلحة الإسلام من وراء اختياره هذا ، ولأن أمره سنة تقتضي الطاعة الشرعية ، طبقا للحديث (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)! .
وجاء عمر ، وبقي خليفة عادلا ضرب أروع مثال عن الزهد والشهامة والعدل . ثم استشهد من قبل (أبو لؤلؤة) المجوسي . وترك الأمر في ستة أشخاص ، منهم عثمان وعلي بن أبي طالب . وكان أن سلمت الخلافة لعثمان بن عفان ، بعد أن رفض علي (ع) الأخذ بسنة الشيخين أي سنة أبي بكر وعمر واقتصر على القول :
(بسنة الله ورسوله)! .
وبقي عثمان ذو النورين سائرا على طريق الإيمان والعدالة وفي عهده كثرت الخيرات . وما قيل عنه وأثير من دعايات مغرضة ، كان مصدره دس المنافقين .
والغاية منه الإساءة إلى صحابي جليل ، كانت تستحي منه الملائكة . وإن ما فعله من تقريب (طريد الرسول صلى الله عليه وآله) (الحكم ابن العاص) ونفيه لأبي ذر الغفاري (رض) كان اجتهادا . نعم يجب الثورة على الطغاة الذين لا يعدلون .
أما عثمان فإنه صحابي يحرم التعرض لسياسته بالنقد . وفي النهاية مني هذا الأخير بأعداء من الخوارج ، اقتحموا عليه الدار ، وقتلوه . وبعد ذلك بويع علي بن أبي طالب ، ومن ثم بدأت الفتنة .
وكل ما وقع بعد ذلك كان له مبررات يحرم علينا التفصيل فيها والامعان في الاستفسار عنها . وخير الناس عندها يومئذ ، من التزم الصمت أو قال : تلك فتنة طهرنا الله منها ، فلنطهر منها ألسنتنا (2)؟ .
تمر هذه الفتنة التي كشف فيها الغطاء عن أشياء ساءت المسلمين . لأن فيها

(2) إن إخواننا المسلمين لا يتورعون عن الحديث في سلوك السياسيين السوفيات قبل سقوط المعسكر الاشتراكي ، وينعون على الاشتراكيين أن يعرضوا عن سيرة زعمائهم في معرض طرح أفكارهم . ما هذا التناقض؟؟ .
لقد شيعني الحسين (ع) 46

تظهر حقيقة معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، وعائشة بنت أبي بكر ، وطلحة والزبير . . وكل هؤلاء قاموا بأشياء ، تناقض الصورة التي نقلت لنا عنهم ، وحن نقرأ في تراجمهم وتسير السفينة ، حتى كربلاء ، حيث يجب أن تغلق المنافذ أو تكتم الأنفاس ، وتعمي الأبصار ، لتجاوز هذا النفق المظلم . لأن الذي قتل الحسين بن علي ، وسبى نساءه ، هو (أمير المؤمنين) يزيد بن معاوية . وفي زمن لا يزال فيه أثار متبقية للصحابة .
نغمض أعيننا ونفتحها على تاريخ إيديولوجي جاهز . كتبته أقلام التزلف .
على دف القيان ورقصات جواري البلاط . حيث تغدوا عندنا الدولة الأموية ، دولة الإسلام المقبولة ، بغض النظر عن الدماء التي سفكت ، والأعراض التي هتكت ، والمفاهيم التي نسخت! فمعاوية بن أبي سفيان (أمير المؤمنين) يروى له التاريخ عندنا أروع المناقب وأسمى الفضائل (3) .
لقد وقع ما وقع بين علي : ومعاوية بن أبي سفيان . وكل ذلك كان اجتهادا . وكانت فتنة ، سقط فيها علي ومعاوية معا . وكلاهما مسؤول عن الذي وقع . وإن الصراع كان على الخلافة والسلطة . وإن الفئة الصائبة يومها هي تلك التي اعتزلت الفتنة وغلقت عليها أبواب المساجد ، ولبثت في البيوت . وليعطي لها ألقاب نظير (حمامة المسجد) لأنها انزوت فيه في وقت كانت مصلحة الدين تقتضي تقديم التضحية والدخول في الجهاد .
جاءني يوما أحد أصدقائي الطلبة ، يسألني عن معاوية وقتاله لعلي (ع) في صفين ، وقبل أن أباشر في الجواب ، نطق أحد الحاضرين قائلا : اللعنة عليه!
فخزرت فيه ، ثم قلت : أعوذ بالله ، لماذا تلعنه؟ قال : لأنه قاتل عليا . قلت له : ومع ذلك ، فإن الرسول صلى الله عليه وآله يقول (لا تسبوا أصحابي) .

(3) أقول ، ولعل الدليل الواقعي ، الملموس على أن أهل السنة والجماعة نزعوا منذ البداية منزعا ضد آل البيت (ع) ومع خط الأمويين . إن واقع الثقافة السنية يؤكد ذلك . فالسني على امتداد العالم الإسلامي ، لا يعرف عن أئمة آل البيت (ع) أكثر مما يعرف عن مناقب أعدائهم . لنكن إذا صرحاء! .
لقد شيعني الحسين (ع) 47

وبهذه الكلمة البائسة الغبية ، المصحوبة بتماوج (كاريكاتوري) يختزل وقارا مصطنعا . استطعت أن أسكت صديقنا! .
فمعاوية رجل مؤمن . كان شديد البكاء في دين الله . وكريما يعطي بلا حساب . يقول محمد بن عبد الوهاب (4) (وبالجملة فلم يكن ملك من ملوك الإسلام خير من معاوية ولا كان الناس في زمن ملك من ملوك المسلمين خيرا منهم في زمن معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام بعده) .
بل وإن الإمام علي : لم يكن يتحرك بدافع الشرع في حربه مع معاوية ، ولم يكن واجبا ، قتال أهل الشام . وأنه لم يكن يعرف أنه سيقع في هذا المأزق ، ولود لو يتجنبه بكل ثمن ، وفي ذلك يقول محمد عبد الوهاب : (قال العلماء رحمة الله عليهم (5) إن قتال أهل الشام ليس بواجب ، قد أوجبه الله ورسوله . ولو كان واجبا لم يمدح النبي صلى الله عليه وآله الحسن بتركه (6) . فدل الحديث على أن ما فعله الحسن بن علي مما يحبه الله ورسوله وتواترت الأخبار عن علي (رض) بكراهة هذا القتال في آخر الأمر . لما رأى اختلاف الناس واختلاف شيعته عليه وتفرقهم وكثرة الشر الذي أوجب إنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما فعل ما فعل) .
والإمام علي كان لا يرى في معاوية رجلا فاسقا . بل إنه رآه خير الرجال الذين يمكنهم رد الفتنة .
يقول ابن عبد الوهاب (7) : (من ذلك ما أخرجه غير واحد من أهل العلم (8)« إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية »

(4) في عقائد الإسلام (ص 220 عبد الوهاب) .
(5) نفس المصدر ، أقول هذه العبارة (قال العلماء)؟ من هم هؤلاء العلماء . هل هم علماء السنة ، أم علماء الحنابلة أم الوهابيين . أفصح عنها وحررها من ظلاميتها يا عبد الوهاب! .
(6) ولو كان عبد الوهاب يحمل شيئا ما من الذكاء ، لتذكر إن الرسول صلى الله عليه وآله مدح شيعة علي (ع) لنصرتهم إياه .
(7) نفس المصدر السابق .
(8) ما زلت أناقش عبد الوهاب في هذا التلبيس ، من هم هؤلاء الذين ذكروا هذا الحديث ولماذا يخفي أسماءهم ، وما أدرانا لعلهم عنده أهل علم وعندنا ليسوا كذلك!! .
لقد شيعني الحسين (ع) 48

إن عليا (رض) قال (لا تكرهوا إمارة معاوية ، فإنكم لو فقدتموه لرأيتم الرؤوس تنذر على كواهلها)(9) .
بل إن معاوية كان يشهد بعلمه وفقهه . وثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس (رض) أن رجلا قال له : هل لك في أمير المؤمنين معاوية إنه أوتر بركعة فقال : أصاب إنه فقيه (فهذه شهادة ابن عباس وهو من أكابر علماء الإسلام )(10) .
أما الحسن فلم يكن فتانا مثل الآخرين . إنه رجل مؤمن كباقي المسلمين ليست له ميزة دونهم إلا أنه بن فاطمة بنت رسول الله بل فيه عيب ، أنه كان مزواجا مطلاقا . ولكنه حسنا صنع ، لما تخلى عن الخلافة لصالح معاوية ، ابتغاء حقن الدماء . وهو بذلك يكون أفضل من أبيه . يقول بن عبد الوهاب :
(ومن ذلك انسلاخ الحسن (رض) عن الخلافة لمعاوية . قال أبو عمر بن عبد البر في الإستيعاب في ترجمة الحسن بن علي (رض) كان رحمه الله حليما ورعا ، دعاه ورعه (الذي لم يوجد ربما في أبيه) وفضله إلى أن ترك الملك والدنيا رغبة فيما عند الله . وقال : والله ما أحب منذ عرفت ما ينفعني وما يضرني أن آتي أمر أمة محمد صلى الله عليه وآله على أن يهراق في ذلك محجة دم . وكان من المبادرين إلى نصرة عثمان (رض) والذابين عنه . ولما قتل أبوه علي (رض) بايعه أكثر من أربعين ألفا كلهم قد بايعوا أباه عليا قبل موته على الموت . وكانوا أطوع للحسن وأحب فيه منهم في أبيه (11) . فبقي نحو سبعة أشهر خليفة في العراق وما وراءها من خراسان .
ثم سار إلى معاوية وسار معاوية إليه .
ولعل بذلك كان هذا العام . هو عام الجماعة ، حيث سكت الضمير ، وبقي

(9) أقول ، ولذلك ما ترك علي (ع) جهدا إلا واستخدمه في قتال معاوية! .
(10) ولما كان معاوية كثير العلم والفقه والفضل ، سئل الإمام النسائي عن سبب عزوفه عن تخريج كتاب حول معاوية نظير (الخصائص) فقال : ماذا أقول فيه ، (لا أشبع الله بطنك)؟! إنه الشئ الوحيد الذي حصل عليه من فضل من قبل الرسول صلى الله عليه وآله! .
(11) إنها النزعة الناصبية التي لم تفارق الوهابية منذ نشوئها وإلى اليوم .
لقد شيعني الحسين (ع) 49

حكم الأمة بين أصابع أحفاد بني عبد الدار .
أما الذين ناصروا معاوية ، وأججوا الفتنة ، مثل عمرو بن العاص ، وأبي هريرة وأشباههم ، فقد كانوا مؤمنين بالنص (12) . قال آدم ، عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة (رض) قال ، قال النبي صلى الله عليه وآله (أبناء العاص مؤمنان عمرو وهشام) وأما معاوية ، فقد ورد عنه أنه من أهل الجنة .
ولم يكن الحجاج سوى تلك الشخصية المؤمنة في التاريخ الإسلامي الذي تنتقل عنه الحكم والعبر والمواعظ .
وذات مرة قلت لأحد المشايخ الكبار :
عجبا ، لست أدري كيف يقبل المسلمون بأمثال الحجاج بن يوسف الثقفي ، ذلك السفاح ، ما وقر عالما ولا عاميا! .
فقال شيخنا الموقر : أعوذ بالله ، نحن أهل السنة والجماعة ، نعتقد في إيمانه وإسلامه ، وقد قال فيه العلماء خيرا رغم كل ذلك ، فهو من الصالحين ، لأنه (شكل القرآن)؟!! (13) .
كذلك سارت الأمور . وسقط ملك بني أمية ، وجاء بنو العباس وكان الرشيد ، وكان المأمون . . (وكان يا ما كان) وكان الإيمان بعد الإيمان . وكان ربك غفورا رحيما! .
والخلافة كما عرفتها لم تكن ذات مفهوم خاص . ولكنني تجوزا اعتبرتها (شورى) ودليلي على ذلك ، السقيفة . لا كما هي في التاريخ . بل كما تخيلتها ،

(12) أقول ، من الغريب ، المضحك ، أن يكون الإيمان وهو حالة مع الله تكتسب بالجهد والرياضة والتربية ، تثبت بالنص للواحد دون الآخر . فتلك روائع العدل الإلهي عند الوهابيين .
(13) إن الحجاج هذا ، قتل العلماء والمسلمين عامة وسفك دمائهم ، ويعز على أهل السنة تكفيره . أما ورعهم عن تكفير الشيعة ، فزهيد ، لأنهم يسبون الصحابة . وهذا هو الجهل المبين؟ .
لقد شيعني الحسين (ع) 50

ورسمتها في ذهني بالشكل الذي تتناغم فيه مع الشخصيات التي أقدسها في ذهني جهلا .
وما فعله أبو بكر تجاه عمر بن الخطاب ، هو مجرد استثناء . لأنه ما وجد البديل الكفء .
والخلافة كما تعلمتها من السنة ، ليست منصبا إلهيا . وإنما هي شأن من شؤون الدنيا ، تتم بالاتفاق . وأن الاتفاق الذي جرى في السقيفة صحيح وتام . وأن يفرض عمر بن الخطاب رأيه ، أمر طبيعي لأن الحق نزل على لسان عمر كما في الروايات . وأن الرسول قد أخطأ وأصاب عمر أكثر من مرة . وأن محمدا صلى الله عليه وآله يقول (كلما تأخر عني الوحي ، كلما ظننت أنه نزل عليك يا عمر) .
فليس عيبا أن يفرض عمر بن الخطاب رأيه في السقيفة ، لأنه أكثر شدة في دين الله ، ومهاب الجناب . يفر منه الشيطان أما عن أئمة أهل البيت (ع) فإنهم مجاهيل . لا نعرفهم ، وإذا اتفق أن سمعنا بواحد منهم ، فليس له خاصية . تميزه عن الآخرين .
لا أقول إن الإمام علي (ع) وفاطمة الزهراء والحسن والحسين . كانوا صغارا في أعيننا . . كلا! ، والسبب في ذلك إن هؤلاء كانوا عظماء في نفوسنا منذ البداية لقد ورثنا حبهم وتفضيلهم (14) .
وما زالوا كذلك حتى ورد علينا التيار السلفي وسمومه النجدية التي لم تفلح في اقتحام مجتمع أصيل في حبه للبيت النبوي .
ولا أقول عني شخصيا أنني يوما ما كنت أفضل أحدا على آل البيت (ع) لقد أدركت منذ البداية أن العقيدة الوهابية (أخشن) من أن (تحتضن) روحي وقلبي . ولعلي تصوفت يوما ما . وما كان لي أبدا أن أنفتح على عالم الحضرة ، أو أجد شمة الأنفاس الرحمانية ، في عقيدة بدوية جافة ، لا يتجاوز فيها القلب

(14) أقصد الإسلام في بلاد المغرب لم يكن يتفق مع التراث الناصبي . لقد تأصل حب البيت النبوي في عقيدة المغاربة منذ تأسيس الدولة الإسلامية في المغرب .
لقد شيعني الحسين (ع) 51

والروح حدود اللحية ، أو عود الأراك ، أو المسك . ولم أكن أجد (عمر) في التصرف إلا (تجملا) من بعض المتصوفة العليلين (15) .
ومن هذه النافذة ، استطعت اكتشاف التراث الروحي لآل البيت النبوي (ع) الذي لم يستطع (16) ، رغم شفافيته الخارقة ، احتضانهم . وحالات الأئمة من آل البيت (ع) مع الله ، مما لا يبلغه أهل المقامات العليا في العرفان الإلهي . . ولقد خر المتصوفة أمام الإمام زين العابدين (علي بن الحسين (ع) عاجزين ، وأعلنوا إنه من أهل الأسرار! لقد جاء التيار السلفي ، ليوقف عليا ومعاوية على قدم المساواة .
ويكون أولئك الرموز من العترة الطاهرة ، مجرد أفراد من المسلمين ليس إلا .
أما باقي الأئمة من آل البيت (ع) فليسوا شيئا ، ولم نعرف عنهم ما يميزهم .
وإننا لنعرف سفيان الثوري ، والعسيب ، والزهري ، وسعيد بن جبير ، وأبا يزيد البسطامي و . . و . . ولا نعرف شيئا عن الإمام الصادق ، والباقر أو لهادي . . وقليل منا من يعرف أسماءهم ولا أحد يعرف عن تفاصيل سيرتهم!
ليس ذلك لخلو آثارهم . وإنما بسبب التعتيم المفروض على فضائلهم منذ بداية لأئمة . وإلا فإنها راسخة في عمق التاريخ .
وكانت الفضائل المزيفة لرجالات العامة بلغت من المبالغة جدا ، تحجب فيه ضبابها الكثيف ، عظمة آل البيت (ع) . فعمر بن الخطاب . كان في كل فضائله على قدر من الكمال لا يسمح لشخصية مثل الإمام علي (ع) بالظهور في ثقافة السنة والجماعة . فهو الذي يحق يوم يخطئ النبي صلى الله عليه وآله وهو الذي لو تدخل الأمة جميعها إلى النار لنجى منها . وإن الله نصر الإسلام به (17) وإنه هو الذي

(15) أو أحيانا يجدون في سيرة عمر ما يدعمون به آراءه الشاذة ، واعتمادا على مرويات غير صحيحة وفي كل الأحوال لم تكن شفافية التصوف تنسجم مع ما وصلنا من سيرة عمر .
(16) يعني التصوف .
(17) إن الجهل والعمى هو الذي يجعل الإنسان يصدق هذه الحكايات الجوفاء . وأتحدى من الشرق إلى الغرب كل العالم السني ، أن يثبت لي دور عمر بن الخطاب في معركتين مصيريتن للأمة هما : (بدر) =
لقد شيعني الحسين (ع) 52

نفرت منه الشياطين . وهو في عبقرية العقاد ، أعظم من الواقع بكثير بحيث من عبقرياته التي أحصاها عليه العقاد أنه كان يحلق شعره عند أحد الحلاقين .
فحنحن عمر ، وإذا بالحلاق يسقط مغميا عليه ، من الفزع . وتتحول (الدرة) العمرية إلى إحدى مكونات عبقريته عند العقاد ، وهلم جرا .
أما أبو بكر من قبله فهو كل شئ . فلقد وضع إيمان الأمة في كفة ووضع إيمان أبي بكر في كفة ، فرجحت كفة أبي بكر ، وأنه الصديق الأكبر . وإن الله بعث جبريل إلى محمد صلى الله عليه وآله ليبلغه السلام ، ويبلغ أبا بكر من ربه السلام ، ويقول له إن الله راض عنك فهل أنت راض عنه! ويكفي هذا! يكفي أن يكون رب السماوات والأرض يلتمس من أبي بكر الرضى!!! .
وأما عثمان ، فهو ذو النورين ، الذي تستحيي منه الملائكة . ولا تستحي من الآخرين . وأنه الرجل الذي صرف كل أمواله في نصرة الإسلام . وأنه من المهاجرين السابقين للإيمان .
وأما عائشة بنت أبي بكر ، فهي كل شئ ، وكأن الرسول صلى الله عليه وآله ترك النبوة لديها . فهي أم المؤمنين الوحيدة - دون غيرها - التي يجب أخذ نصف الدين عنها .
وهكذا ظلت صورتهم في ذهني . وسأتطرق إلى ما ورد فيهم من فضائل ، حملتها روايات أهل الحديث لنعالج بعد ذلك مدى صدقها ونقف عند أهدافها .
وكنت بين الفينة والأخرى أسمع أن الشيعة غنوص ، وسبئيون . ولم أكن أعرف القصة بالضبط . لكن بعد ذلك قرأت في كتب السنة إن بعض الغلاة قد ألهوا عليا ، وهم السبئيون . وهم الذين شكلوا مصدرا فكريا للشيعة بعدها .
والسبئيون ، نسبة إلى عبد الله بن سبأ ، أحد اليهود المندسين ، يقول محمد رشيد رضا (18) : وكان مبتدع أصوله يهودية اسمه (عبد الله بن سبأ) أظهر الإسلام خداعا . ودعا إلى الغلو في علي (كرم الله وجهه) لأجل تحريف هذه الأمة وإفساد

= (وأحد) ، هذا دون أن أضيف (الخندق) والباقي الكثير .
(18) (السنة والشيعة) (ص 4 - 6) .
لقد شيعني الحسين (ع) 53

دينها ودنياها عليها) .
وحتى ذلك الوقت ، لم أكن أعرف كيف استطاع (عبد الله بن سبأ) أن يمرر هذا التراث الشيعي الهائل ، إلى أصحاب علي (ع) ولست أعرف من هو هذا الشخص الذي أنعم الله عليه ، بهذه المقدرة على الابداع .
وهذه الخبرة في قلب المعادلات التاريخية من دون أن تضبطه عدسة المؤرخين ، وأن يتمكن من خلط الأوراق ، وكأنه قفز أكثر من ألف سنة إلى الإمام ليتلقى فنون التسلل والدعاية في مراكز (المخابرات الأمريكية والسوفياتية)! .
من هو ابن سبأ؟ .
من هم الغنوص؟ .
هذا ما بقيت أتسأل عن معرفته ، ولم أجد له جوابا عند علماء السنة . سوى تكرار لتلك الروايات المغرضة! وفجأة رأيت نفسي ، أتمثل - كوجيطو - ديكارتي جديد . منهجا شكيا ، ابتغاء الحق فكانت الأزمة يومها ، أزمة يقين ، وما أثقلها من أزمة على طلاب الحقيقة . ولكن كيف يتسنى لي الخروج من هذا المأزق الاعتقادي؟ .

لقد شيعني الحسين (ع) 54




لقد شيعني الحسين (ع) 55


الفصل الثاني

مرحلة التحول والانتقال


لقد شيعني الحسين (ع) 56




لقد شيعني الحسين (ع) 57

دوت المدافع في آفاق الخليج ، وحمي الوطيس ، واهتزت الأوضاع الأرضية والسياسية في المنطقة . انتشر الغضب الشيعي في كل مكان من الدنيا . وفي كل الأصقاع سجلت عمليات كفاحية تبعث بأريج الدم الحسيني . خلدت وراءها الدمار ، والكوارث السياسية والاجتماعية . التاريخ الآن يضحك بقوة . ويرفع صوته عاليا ليهوى به على الهامات الذليلة . فيدع عليها الأخاديد الحمراء ، عارا ظل يرفس في رحاب الجبروت ، ليعلن حقه في عصر الكفاح .
اختلف الناس مشارب عديدة . إزاء ما جرى في هذه المنطقة . البعض ضاقت في عينيه الرؤية فأولها بمحدودية ذهنية . والبعض الآخر رأى فيها نارا على علم الرذيلة قد اشتعل . وكشفا مباغتا عن وضع بات منوما حينا من الدهر لم يكن فيه للحق سلطان .
أعادت النهضة الشيعية شرف قضيتها ، وأبرزت على العالم ، كل العالم ، سؤالا كنا نظن أنه انتهى وأقبر مع الغابرين . وأن العصر لا يتسع لمثل هذا من التساؤلات (الظلامية) المسبوكة بخيوط العنكبوت العتيقة .
قالوا : إنه صراع قديم .
قلنا : وهل حسمتموه ، حتى ننهيه؟! .
قالوا : تلك فتنة طهرنا الله منها . وليس لنا مصلحة في استحضارها والخوض فيها

لقد شيعني الحسين (ع) 58

قلنا : حسنا وهلا أنصفتم التاريخ ، وهلا تبرأتم من الظالمين وهلا اخترتم طريقا غير طريق الأقدمين ، الفتانين . حتى لا ترو في أنفسكم الحاجة إلى الرجوع . ثم كيف طهرنا الله منها ، وهي ما زالت حاضرة فينا ، بعيوبها ومسوخاتها . وتسأل الناس ، وتساءلنا معهم . وانتصر السؤال الحقيقي مع انتصار النهضة الشيعية الكبرى . مع بروز عاشوراء بكل مراسيمها الدامية . تطرح قضيتنا من جديد وبلغة البكاء . على عالم يدعي أنه أستدرك أخطاء الماضين وشرع القانون! عادت القضية ، يوم عادت (الدمعة الشيعية الرقيقة) يوم تداخل السياسي بالاعتقادي ، في محراب النضال المقدس . وقالت السماء يومها . كلمتها ، وتحققت النبوءات الرسولية (لو كان الإسلام في الثريا ، لناله رجال من فارس) .
في هذه الأجواء المتوترة . وعلى بساط الأحداث السياسية ، وحفيف الفتن العاصفة . طرحت سؤال على نفسي :
لماذا هؤلاء شيعة ونحن سنة؟ .
تحول هذا السؤال في ذهني إلى شبح ، يطاردني في كل مكان . يسلبني في كل اللحظات مصداقيته . نعم! فلا حق لي أن أزود فكري بالجديد ، حتى أحسم مسلماتي الموروثة . وأسسي الاعتقادية الجاهزة . وما قيمة أفكار تتراكم على ذهني .
من دون أن يكون لها أساس اعتقادي متين؟ .
تجاهلت الأمر - في البداية - وتناسيته حتى أخفف عن نفسي مضاضة البحث .
بيد أن ثقل البحث كان أخف علي من ثقل (السؤال) وأقل ضغطا من ضمة الحيرة ، والشك المريب .
وقع بين يدي كتابين يتحدثان عن فاجعة كربلاء وسيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الأمر هنا أشد مرارة من ذي قبل . إنني ولأول مرة أجد كتابا يحمل لهجة من نوع خاص . مناقضة تماما لتلك الكتب التي عكفت على قراءتها . لم أكن أعرف أن صاحب الكتاب رجل شيعي . لأنني ما كنت أتصور أن الشيعة مسلمون! فكانت تختلط عندي المسألة الشيعية بالمسألة البوذية أو السيخية .
والوضع (السني) لا يجد حرجا في أن يملي علينا ذلك . ولا يستحي من الله ولا

لقد شيعني الحسين (ع) 59

من التاريخ ليغذي نزعة التجهيل والتمويه . إنه كان يكرس هذه النظرة لدى الأفراد . ولا يصحح مغالطاتهم . وفجأة وجدت نفسي مخدوعا . لماذا هؤلاء لا يكشفون الحقائق للناس ، كما هي في الواقع؟ لماذا يتعمدون إبقاءنا على وعينا السخيف ، تجاه أكبر وأخطر مسألة وجدت في تاريخ المسلمين؟ ثم لماذا لا يتأثرون بفاجعة الطف العظمى ، تلك التي ماجت في دمي الحار بالأنصاف . والتوق إلى العدالة . فتدفقت بالحسرة والرفض والمطالبة بالحق الضائع في منعطفات التاريخ الإسلامي .
وطبعي الذي لا أنكره ، ولن أنكره ، إنني لا أحب الخادعين والجاهلين ، ثم وإني لناقم على هؤلاء ، وأرافعهم إلى الله والتاريخ! .
كنت في تلك الفترة صاحب بساطة عقائدية كباقي الناس . وببساطتي هذه كنت أبدو أوعاهم عقيدة . وكنت ذا ثقافة أحادية ، هي ثقافة أهل السنة والجماعة . فالجو الذي أحاط بي ، هو جو الصحوة البتراء النائمة ، التي انحرفت بوعيي إلى مواقع تافهة . وفجأة وجدتني ملتزما بخط لا أعرف له أساسا تاريخيا .
وصرت واحدا من (الإخوان) المناضلين الذين ضاقوا بظلم الواقع ، وأرادوا أن يعيدوا سيناريو العذاب الذي جرت وقائعها في السجن الحربي (وليمان طرة) في مصر . كانت خيالاتي قليلة الخصوبة لا تتجاوز (المذابح) و (لماذا أعدموني) كنت أهوى التمثيل والمسرح ، لذلك انطلقت كالسهم إلى مغامرات سخيفة! .
في تلك اللحظة ، غمرتني أدبيات الحركة الإسلامية . وأخذت مني مأخذها وتملكني فكر (المحنة) لدى سيد قطب ، بكلماته المشعة أدبا ، والتي حملت في أحشائها تلك الظلال الوارفة بيانا وبديعا . فأبيت إلا أن أغزو الظلم قبل أن يغزوني . ولعلي تعثرت كثيرا بسبب الأدبيات التي عبثت بوعيي الصغير يومئذ .
ولا أنكر . أنني كنت من أنصار (الهجرة والتكفير) وإنني ما أزال أحفظ عن ظهر قلب تراتيل الفريضة الغائبة! .
وفي لحظة من عمري ذهبية . طرحت على نفسي سؤالا :
(ترى ، ما هو هذا الظلم الذي ما زلت كل حياتي أشكتي منه وأفرض ما

لقد شيعني الحسين (ع) 60

خلاله كل الأوهام على نفسي؟ .
لم أجد جوابا شافيا في ذهني . سوى ما ركز في نفسي من أدبيات حركية استلهمتها من كتابات معينة . وكلمات جميلة لم أجد لها في ثقافتي الجمهورية (1) بديلا! .
سارت هذه الكلمات الفضفاضة الفارغة من مضامينها العلمية والواقعية ، تدق الطبول في ذهني . حتى صرت كالمهووس ، لا قرار لي .

(فاجعة الطف)!

هذه وحدها الحدث الذي أعاد رسم الخريطة الفكرية والنقية في ذهني . إن هذا الظلم الذي أشكو منه اليوم ليس جديدا على الأمة . فلقد سبقه ظلم أكبر .
وعلى أساس هذا الظلم القديم قالت لي أفكاري إن هؤلاء الظالمين اليوم يسلكون طريقا أسسه رجالات كانوا يشكلون حجر عثرة أمام مسيرة الأئمة من آل البيت (ع) حتى إذا ورد جيل المحنة حاليا ، فأراد أن ينظم مشروعا لمعارضة الظلم السياسي في الأمة على قاعدة الظلم نفسه الذي كان سببا في التمكين لهؤلاء الظلمة سؤال غريب ، لكنه واقعي! (2) . ترى تناقضا رهيبا بين تنزيه ظلمة الماضي وتثوير المجتمع على ظلمة الحاضر . فما الفرق بين الماضي والحاضر؟ .
ثم قالوا : (إن هذا ليس دورنا الآني . فيكفي أن نحارب الاستعمار والاستكبار الخارجي وما فات مات .
قلت : هذا جميل . ولكن اعترفوا بي إذا وصححوا رؤيتكم تجاهي ، ثم نتوحد في الثورة والكفاح؟ .

(1) نسبة إلى (الجمهور) .
(2) كنت أتسأل لماذا أحارب هذا الظلم ، وفي فقه الجماعة ما يدعمه وقد قال سعيد حوى في إجاباته (لا نمضي بعيدا عن احتجاجات العصرة من لم يدخل في بيعة الإمام الظالم فالأمر في حقه واسع) ، (أي يجوز الخروج وعكسه أيضا) لكن الأفضل له الدخول والطاعة؟!! .
لقد شيعني الحسين (ع) 61

إنني أكتب هذا الكلام بعد أن حاولت جهدي أن أهمش التاريخ للتوحد في المسؤولية . لقد أفسدوا علي غير مرة أمري . حتى ذلك الأمر الذي لم نكن نريد به سوى مقاومة ظلم الواقع .
كنت كلما طرحت سؤالا على نفسي ، رأيت شيطانا يعتريني ويقول لي : (دع عنك هذا السؤال . فهل أنت أعظم من ملايين المسلمين الذين وجدوا قبلك .
وهل أنت أعلم من هؤلاء الموجودين حتى تحسم في هذه المسألة) .
كنت أعلم أن هؤلاء الملايين لم يطرحوا هذا السؤال على أنفسهم بهذه القوة والإلحاح . وكنت أعتقد رغم ذلك أن المسألة لا تحتاج إلى شهادة أزهرية حتى نحسم فيها . إنها مسألة ظلم بواح . عرفه القاصي والداني من العالم . وهل معرفة الظلم تحتاج إلى عقلية أفلاطونية رفيعة .
ثم لماذا تقولون (ملايين المسلمين) أنا أريد أن تقولوا ملايين (من) المسلمين ، هم أصحاب مذهب السنة والجماعة . لأن الخطاب الأول إذا قيل بهذا اللفظ فهو ينطوي إذا على مزاجية خاصة . هي مزاجية الالغاء لملايين المسلمين غير أهل السنة والجماعة ، وهم من الشيعة الإمامية والزيدية . . في هذا العالم .
قالوا : (لا مع ذلك فأنت صغير ، ولا يجوز على أي حال شق الصف ، ومخالفة الجماعة ، لأن الرسول صلى الله عليه وآله يقول :
(يد الله مع الجماعة)! (وإن أمتي لا تجتمع على ضلالة) .
وعلى كل حال ، فلم تكن هذه الاعتراضات الوسواسية بالتي تردني عن اندفاعي إلى كشف الحجاب عن الحقيقة المخبوءة . لكن شيئا حز في نفسي وهو هذه الكثرة الغالبة . لقد كبرت في عيني . وصعب علي مخالفتها . لولا أن هداني الله . بيد أن شيئا واحدا جعلني أنتصر عليها ولا أبالي . وهي عندما وجدتها جاهلة . واستحضرت (جديتي) التي ورثتها من فكر (الهجرة والتكفير) فهذا الأخير على علاته ، علمني كيف أخالف المجتمع الجاهلي . فهذا احتياط جليل مكنني من الصمود أمام الأمواج البشرية المتدفقة . والتي ليس لها منطق في عالم الحقائق سوى كثرتها .

لقد شيعني الحسين (ع) 62

كنت أطرح دائما على أصدقائي . قضية الحسين المظلوم ، وآل البيت (ع) لم أكن أطرح شيئا آخر . فأنا ضمآن إلى تفسير شاف لهذه المأسي . لأنني وبالفطرة التي أكسبنيها كلام الله جلا وعلا لم أكن أتصور ، وأنا مسلم القرن العشرين ، كيف يستطيع هؤلاء السلف (الصالح) أن يقتلوا آل البيت (ع) تقتيلا! لكن أصحابي ، ضاقوا مني وعز عليهم أن يروا فكري يسير حيث لا تشتهي سفينة الجماعة . وعز عليهم أن يتهموني في نواياي .
وهم قد أدركوني منذ سنين البراءة وفي تدرجي في سبيل الدعوة إلى الله . قالوا بعد ذلك كلاما جاهليا . لشد ما هي قاسية قلوبهم تجاه آل البيت (ع) (3) .
ومن هنا بدأت القصة! .
وجدت نفسي أمام موجة عارمة من التساؤلات التي جعلتني حتما أقف على قاعدة اعتقادية صلبة . إنني لست من أولئك الذين يحبون أن يخدعوا أو ينوموا .
لا ، أبدا ، لا أرتاح حتى أجدد منطلقاتي وأعالج مسلماتي! فلتقف حركتي في المواقف ، ما دامت حركتي في الفكر صائبة . هنا لا أتكلم عن الأوضاع ، الأخرى التي ضيقت علي السبيل . وإعلان البعض غفر الله لهم عن مواقفهم الشاذة تجاه قضية كهذه لا تحتاج إلى أكثر من الحوار! .
إن هذه الفكرة التي انقدحت في ذهني باللطف الإلهي جعلتني أدفع أكبر ثمن في حياتي . وكلفتني الفقر والهجرة والأذى . وما زادني في ذلك إلا إيمانا وإصرارا .
وتذكرت قولة شهيرة للإمام علي (ع) لما قال له أحد شيعته : إني أحبك يا أمير المؤمنين فأجابه : إذا ، فأعد للفقر جلبابا! .
إن هذه الطريق ، طريق وعرة . فيه تتجلى أقوى معاني التضحية . وفيه يكون الاستقرار والهناء بدعا . فأئمة هذه الطريق ما ارتاح لهم بال ولا قر لهم جنان .
لقد يتموا ، وذبحوا ، وحوربوا عبر الأجيال! .

(3) وإن الواحد منهم يكفر كل حكومات مصر ، لما يذكر مقتل حسن البنا ، وسيد قطب . وهم يعلمون أن الذين قتلوا الحسين (ع) وآل البيت (ع) هم أشد كفرا ونفاقا ، لكنهم يتأدبون معهم! .

السابق السابق الفهرس التالي التالي