المراقبات 1


المراقبات
أعمال السَنة

تأليف

الحاج الميرزا جواد آغا الملكي التبريزي
(رضوان الله عليه)


المراقبات 2


المراقبات
ملكي التبريزي
ذوي القربى

الطبعة الاولى

تاريخ 1422 هـ


المراقبات 3

بسم الله الرحمن الرحيم


تـقـريـظ
بقلم آية الله العلامة
السيد محمد حسين الطباطبائي
صاحب تفسير الميزان
بإسمه تعالى

اللهم ربّنا لك الأسماء الحسنى ، والأمثال العليا ، والكبرياء والآلاء ، ربّنا إنّا نحمدك بما حمدت به نفسك ، ونثني عليك بما أثنيت به على نفسك ، ونصلّي على عبدك ورسولك محمد وآله صلى الله عليه وآله وسلم ربنا ونسألك أن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وأن تهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهاب .
فهذه أسطر أعلّقها على كتاب أعمال السنة للعَلَم الحجّة الآية ، المرحوم الحاج الميرزا جواد آقا الملكي التبريزي (قده) ، ولست أريد بها أن أمدح هذه الصحيفة الجليلة ، أو أثني على مؤلّفه العظيم ، فليست هي إلا بحراً زاخراً لا يوزن بمنّ ولا صاع ، ولا هو إلا علماً شامخاً لا يقدّر بشبر أو ذراع ، وكفى بالقصور عذراً وباليأس عن البلوغ راحة ، وإنّما أريد أن أُواجه إخواني من أهل الولاء ، سادتي من أرباب الصدق والصفاء ، بما فيه بعض التذكرة وإنّ الذكرى تنفع المؤمنين .
يا إخواني ! ما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ، وإنّ الدار الآخرة لهي

المراقبات 4

الحيوان ، ولا وظيفة للإنسان في أدون حياتيه ـ إن كان إنساناً ـ إلا التجهّز للأخرى ، وسلوك سبيل القربى فليس عليه إلا سمة العبوديّة ، ورسم الرقيّة
تقريظ

والمذلّة ولا حجاب بينه وبين ربّه ، ولا مناص من المثول بين يديه .
فعليه أن يقف موقف المسكنة ، وينصب من نفسه شاخص العبوديّة ، يقيم وجهه لرب العزّة ، ويستقبل ساحة الكبرياء والعظمة ، ويتقرّب إليه بأسمائه الحسنى ، وصفاته ، ووسائل الدعاء .
ويتوسّل إليه بالمراقبة في مختلف الليالي والأيّام ، والشهور والأعوام ، يتعرّض لنفحات أنسه ، ونسائم قدسه ، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا لها ، ولا تعرضوا عنها .
فهذه لعمري هي سيرة السابقين المقرّبين ، من رفقة هذا الطريق : طريق العبودية ، أعني محمداً وآله الطاهرين ، وسائر النبيّين والصدّيقين ، والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً .
وما بين أيديكم من أحسن ما عمل في هذا الشأن ففيه لطائف ما يراقبه أهل ولاية الله ، ورقائق ما يهجس في قلوب الوالهين في محبّة الله ، وجميل ما يلوح للرائضين في عبادة الله ، نوّر الله مرقد مؤلّفه العظيم ، وأفاض عليه من سحائب رحمته ومغفرته ، وألحقه بنبيّه وآله الطاهرين .
محمد حسين الطباطبائي

المراقبات 5

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤلف

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلم تسليمان الطاهرين وسلم تسليماً .
أقول مخاطباً لنفسي :
إعلم أيّها العبد اللئيم الذميم البطّال إن هذه الأيّام والأوقات التي ولدت فيها إلى أن تموت ؛ بمنزلة منازل سفرك إلى وطنك الأصلي الذي خلقت لمجاورته والخلود فيه ، وإنّما أخرجك ربّك ومالكك ووليّ أمرك إلى هذا السفر لتحصيل فوائد كثيرة ، وكمالات جمّة غفيرة ، لا تحيط بها عقول العقلاء وعلوم العلماء ، وأوهام الحكماء ، من بهاء ونور ، وسرور وحبور ، بل وسلطنة وجلال ، وبهجة وجمال ، وولاية وكمال ، فإن عملت برضاه ، واتّبعت هداه ، وراقبت وصاياه ، حصل لك من منافع هذا السفر أرباحٌ عظيمة ، وفضائل جسيمة ، التي لا يقدر على إحصاء أنواعها ـ فضلاً عن تعداد أفرادها ـ جميع الحاسبين ، ولا يقدّر قدر عظمتها أحد من العالمين ، بل ولا خطر على قلب بشر ، ولم ير منها عين ولم يحك منها أثر .
فإن شئت تقريب هذا المعنى إلى فهمك ، وتصديق هذا المغزى بلبّك ، من طريق المنقول ، ففي كتاب الله ـ جل جلاله ـ أنعم قبول : «فلا تَعلَم نَفسٌ

المراقبات 6

ما أُخفِيَ لَهم من قُرّةِ أعيُن» (السجدة : 17) «وإن تَعُدّوا نعمة الله لا تُحصوها» (إبراهيم : 34) وما في الأخبار المتواترة ، في تضاعف نعم الآخرة ، كل جمعة إلى ما لا نهاية له ، بل وفي حديث المعراج : «أنظر إليهم في كلّ يوم سبعين نظرة ، وأكلّمهم كلّما نظرت إليهم ، وأزيد في ملكهم سبعين ضعفاً» .
وأمّا من طريق المعقول فيكفيك التأمّل في النّعم الدنيويّة الجسمانيّة قياسها بالنّعم الأخرويّة ، والله تعالى ما نظر إلى الأجسام مذ خلقها ، وعالم الآخرة عالم القرب واللقاء .
قال بعض المتألّهة من الحكماء : الأشياء التي في بعض عوالم الآخرة كلّها مملوءة غنىً وحياة كأنّها حياة تغلي وتفور ، وجري حياتها إنّها تنبع من عين واحدة لا كأنّها حرارة واحدة أو ريح واحدة فقط ، بل كلها كيفيّة واحدة فيها كل طعم وإنّك تجد في تلك الكيفيّة طعم الحلاوة والشراب وسائر الأشياء ذوات الطعوم وقواها ، وسائر الأشياء الطيّبة الروائح ، وجميع الألوان الواقعة تحت البصر ، وجميع الأشياء الواقعة تحت السمع ، أي اللحون وأصناف الإيقاع ، وجميع الأشياء الواقعة تحت اللمس ، وجميع الأشياء الواقعة تحت الحسّ ، وهذه كلها موجودة في كيفية واحدة مبسوطة على ما وصفناه ، لأنّ تلك الكيفية حيوانيّة عقليّة تسع جميع الكيفيات التي وصفناها ، ولا يضيق عن شيء منها ، من غير أن يختلط بعضها ببعض وينفسد بعضها ببعض بل كلها فيها محفوظة كأنّ كلاً منها قائم على حدة .
ففكّر يا إنسان أنّك تكون فيما له دخل في مراتب ومنافع هذه الدنيا الدنيّة تعمل في حركاتك وسكناتك كلّها بما هو أنفع لك ، وأجلب لنفعك ، فلا تختار إلا الأرجح في ذلك ، بل تتعب نفسك ، وتضيع وقتك ، في تجويد

المراقبات 7

مطعمك ومشربك ، وتلطيف منامك ، وأنت تعلم أنّه لا يحصل من ذلك التعب إلا تفاوت يسير لا يدوم بل يزول بسرعة ، فكيف لا تفعل ذلك بالنسبة إلى منافع آخرتك التي فيها تفاوت عظيم مع دوام وخلود .
مثلا إذا اشتريت بمالك متاعاً للتجارة ، ثم انتبهت أنّك لو اشتريت مكانه متاعاً آخر لكان نفعه أزيد منه ضعف الأوّل مرّة ، اغتممت من ذلك ، وتأسّفت أسفاً شديداً ، ولمت نفسك لغفلتك عنه ، وعزمت إلى الاستظهار فيما بعد ، ولكن لا تغتمّ ممّا يفوتك في تجارة الآخرة من النفع بسبعين ضعفاً وأزيد ، وإن شئت تصديق ذلك فانظر إلى ما ورد في تضعيف ثواب الأعمال ببعض الكيفيات الخاصة ، الأفراد الخاصّة .
مثلاً صلاتك منفرداً في بيتك ، وصلاتك جماعة في الجامع مع إمام عالم تقي لا سيّما إذا كانت الجماعة كثيرة ، إنّما يزيد تضاعف ثوابها على الألوف ، ومع ذلك أنت تتسامح في اختيار الأنفع والأفضل ، ولا تغتمّ من فوت هذه الجماعة عُشر ما تغتمّ من فوت نفع قليل من منافع التجارة الدنيويّة .
فتأمّل في هذا التّواني لأمر الآخرة ، هل هو إلا من ضعف الإيمان بها ؟
فاحذر أن ينصرم هذا الإيمان الضعيف عند شدائد الأهوال ، لا سيّما عند سكرات الموت ، ويختم لك بسوء العاقبة ، واستعدّ لعقوبة كبر همّ الدنيا من همّ الآخرة ، وتذكّر فيما ورد في ذلك من قوله عليه السلام : «من أصبح وأكبر همّه الدنيا فليس من الله في شيء ، وألزم الله قلبه أربع خصال : همّاً لا ينقطع عنه أبداً ، وشغلاً لا يفرغ عنه أبداً ، وفقراً لا ينال غناه أبداً ، وأملاً لا يبلغ منتهاه أبداً» ولا تغفل عمّا في قوله : «فليس من الله في شيء» فإنّه عقوبة عظيمة ما أعظمها .
وزَن يا عاقل ! هذا الخسران العظيم والشقاوة العظمى في قسطاس

المراقبات 8

عقلك ، مع كلّ ما يتصوّر في هذه الدنيا من الخسران ، فانظر هل بينهما نسبة محدوة ؟ وتفكّر في مصيبتك في زمان المهلة ، ولا تفوّت عن نفسك الفرصة ، وتجهّز ليوم الحسرة والنّدامة وطول مقام يوم القيامة ، وأهوال يوم الطامة ، وابكِ على نفسك التي عوّدتها في هذه الدنيا النعمة والراحة ، من العذاب والنقمة ، ونكال يوم القيامة .
وقل : «يا إلهي وسيدي ومولاي لأيّ الأمور إليك أشكو ، ولما منها أضجّ وأبكي ، لأليم العذاب والشدّة ، أو لطول البلاء والمدّة ، أو من العقرب والحية ، والمقامع والسلسلة» .
لعلّك تأخذ موعظتك من هذه الفكرة ، وتتأهّب لسفرك بالتوبة الصادقة ، تمحو الحسنة السيئة ، فإنّ الرب ودود غفور ، والملك رؤوف شكور يقبل التوبة عن عباده ، ويشكر القليل من حسناته ، بالكثير من مثوباته ، ويمحو الخطيئات ، ويبدّل السيئات بأضعافها من الحسنات .
وقل : يا أيها السفيه العاطل ، والمجنون المماطل ، يا شقيّ الفعال ، ويا قبيح الأعمال ، إلامَ ؟ وحتام؟ أو كيف ؟ أو لماذا هذا التواني والكسل ، والتسويف المطل ؟ بل العصيان والطغيان ، والجحود والكفران ؟ أما ترحم (ضعف) بدنك ، ورقّة جلدك ، ودقّة عظمك ، كيف تطيق مشاهدة هذه الأهوال العظيمة ، والشدائد الفظيعة ؟ كيف يكون حال بدنك الذي حميته من لبس المغزل ، عوّدته القطن والكتّان ، إذا لبس القطران ، ومن مقطّعات النيران ، وصفّد مع الشيطان ، وأُلقي في نار قعرها بعيد ، وحليتها حديد ، وشرابها الحميم والصديد : «يُصبُّ مِن فوق رؤوسهم الحميم * يُصهَرُ به ما في بطونهم والجلودُ * ولهم مَقامِعُ من حديد» (الحج : 19 ـ 21) فياله من شدّة ووبال ما أفظعه ، ومن صبّة عذاب ما آلمه ، وخزي ونكال ما أفضحه .

المراقبات 9

أما كنت في الدنيا تنافس الأقران ، وتحاسد الأشراف والأعيان ، وتفاخر الأغنياء والأعزّة ، وتجرع من الفقر والذل غصّة بعد غصّة ، فكيف بك إذا جيء بك إلى المحشر مصفّداً ، مكبّلاً مغلولاً ، أسود الوجه ، أزرق العينين ، ونظرت مرّة عن يمينك ، وأخرى عن شمالك ، إذ الخلائق في شأن غير شأنك «وجوه يومئذٍ ناضرة * إلى ربّها ناظرة» (القيامة : 22 ـ 23) و«وجوه يومئذٍ مُسفِرَةٌ * ضاحكةٌ مستبشِرَة» (عبس : 38 ـ 39) قد أُلبسوا خلع الأمان ، وتُوّجوا بتاج الملك والسلطان ، وأُحيطوا بملائكة الرحمن وحفّوا بالروح والريحان ، والحور والغلمان .
أما تقول : «وهبني يا إلهي وسيدي ومولاي ، صبرت على حرّ نارك ، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك ، أم كيف أسكن في النار ورجائي عفوك» ؟
وبالجملة إن كنت مؤمناً بالله ورسوله ، والكتاب الذي أنزله على رسوله ، لا بدّ ولا حيلة إلا بالانقلاع عن التهوّن والتهوين ، والتشمّر بكمال الجدّ وغاية السعي ، بذل الجهد والطاقة في علاج هذه المصيبات الجليلة التي أوردتها على نفسك ، ولا تغرّنّ نفسك ولا يغررك بالله الغرور ، ولا يغرّنّك حلمه وأناته ، فإنّ حلمه وإن كان كثيراً ولكن أخذه أيضاً شديد ، أما سمعت ما بلغ به عاقبة المغرورين بحلمه ، أما بلغك ما «فَعَل ربّك بعاد * إرَمَ ذات العِماد * التي لم يُخلَقُ مثلُها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالوادِ * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طَغَوا في البلاد» [الفجر / 6 ـ 11] أما تذكر ما فعل بأصحاب السبت ، حيث ناموا أناسيَّ ، وأصبحوا قردة وخنازير ، وما فعل بأصحاب قرية حيث أمسوا في عافية وأصبحوا في هاوية ، أما تخاف أن يكون حالك مثل حالهم ؟ .
من أين جاء لك الأمان ، من البيات والهوان ؟ وكيف ينام من يخاف من

المراقبات 10

النسمات وقد كان المراقبون من أهل العمل والاجتهاد يتصفّحون في كل يوم وجوههم مرات عديدة ، هل بقيت على حالها أم اسودّت من ظلم المعاصي ؟ وكيف بأهل الإهمال والتناسي ، والمنهمكين في الذنوب والمعاصي ؟ .
فعليك بالبدار والمسارعة إلى مغفرة من ربّك ، وعلاج ما عملته في أمسك ، تجهّز لتعمير رمسك ، فإنّك إن صدقت في التوبة ، واجتهدت في التدارك والأوبة لوجدت الباب مفتوحاً ، والخطأ مصفوحاً ، والرب مقبلاً يمحو الخطيئات ، يبدّل السيئات بأضعافها من الحسنات ، ويوصلك إلى رفيع الدرجات ، يقبلك قبول الأب العطوف ، والأمّ الرؤوف ، والشفيق المشفق ، والمحبّ العاشق ، يكرمك بلطف الخطاب ، ويلبّيك في الجواب ، ويكشف عن بصيرتك الحجاب ، ويلحقك بالأحباب من ذوي الألباب ، وينظر إليك بعين الرحمة ، ويتكلّم معك بالرّأفة ، ويكشف عن جماله النقاب ، ويرفع ما بينك وبينه من الحجاب ، ما يجيبك من الخطاب ويخاطبك بالإكرام في الجواب ، وهو ملك الملوك ، وربّ الأرباب .
العجل العجل ، الربّ رحيم رؤوف ، والسيد عطوفٌ والملك جواد عوّاد ، والإله حنّان منّان ، والحبيب قريب ، والقريب مجيب .
وأبشر يا ذا العقل والتعرف ، والرأي والتصرف ، أنّ الراحل إليه قريب المسافة ، وأنّه لا يحتجب عن خلقه ، إلا أن يحجبهم الآمال دونه ، فدع الأمانيّ والآمال ، فإنّه ذو الجلال والجمال ، والتفضّل والنوال ، والكرم والافضال ، واقصد نحوه وتعال ، فإنّ الحبيب قريب ، والقريب مجيب .
نبّه العقل والفؤاد ، واترك الجحد والعناد . واقصد السيد الجواد ، إله العباد والبلاد ، فهو حاضر باد فإنّ الحبيب قريب ، والقريب مجيب .
واعلمي يا نفس ! إنّك تقدرين على تحصيل قربه ورضاه ، في مدّة يوم

المراقبات 11

وليلة ، بل في ساعة ولحظة ، إن علم منك صدق النيّة ، وخلوص الطويّة ، في ترك ما سواه وقصد لقاه ، فإنّه حاضر ليس بغائب ، وباد ليس بمحتجب ، وظاهر ليس بمستور ، وطالب ليس بمعرض ، ومقبل ليس بمدبر ، ومشتاق ليس بفارغ .
أما سمعت قوله لعيسى بن مريم على نبيّنا وآله وعليه السلام : «يا عيسى كم اُطيل النظر ، وأُحسن الطلب ، والقوم لا يرجعون» .
أما تذكر الحديث القدسي : «لو علم المدبرون عنّي كيف انتظاري بهم ، وشوقي إلى توبتهم ، لماتوا شوقاً إليّ ، لتفرّقت أوصالهم» .
وروي أنّه تعالى يقول :«عبدي بحقّك عليّ إنّي أُحبّك ، فبحقّي عليك أحبّني» . آه آه ، واحسرتا ، وواخسراه ، وواأسفاه ، وواثبوراه ، ووايلاه : «على ما فَرّطتُ في جَنبِ الله وإن كنتُ لَمِنَ الساخرين» (الزمر : 56) لنفسي .
وإن لم تكن أهلاً لهذه الهمّة ، فلا محالة من السعي الجميل ، وترك التضييع والتعطيل ، بالرفق والمدارة ، والتأنّي والمماشاة ، وعوّد نفسك بالخيرات فإنّ الخير عادة ، وحذّرها عن الشرور فالحذر عنها عبادة ، وإيّاك وإيّاك أن تتمحّض للغفلة في كل حالاتك ، فتكون أضلّ من الأنعام ، ومن أراذل العوام . ومن بعض هذا الرفق بأن تراقب أيّام سنتك ، وتعمل ببعض ما ورد في كلّ سنة مرّة .
وأنا أكتب في هذا مجملاً ، أختار من الأعمال الواردة أهمّها ، وأُشير من المراقبات إلى ألزمها .
واعلم علماً يقيناً أنّك لا تقدر على إصلاح الظاهر إلا بإصلاح الباطن ، لأنّ مجاري الأعمال من عين القلب ، والقلب الصالح لا يأتي منه إلا العمل

المراقبات 12

الصالح ، القلب الفاسد لا يجيئ منه إلا الفساد ، فالعمدة والأهمّ إصلاح القلب وهو يتأثّر من الخواطر والملكات السابقة ، والخواطر تنشأ ممّا يحسّ بالحواسّ ، ومن الملكات والمزاج فمن لم يقدر على ذلك كله فلا حيلة ولا علاج ، من الاحتراف بباب اللطف والكرم من اللطيف الكريم ، والربّ الرحيم ، للتوفّق والتأييد والتسديد .
فمن عرف عجزه عن إصلاح نفسه وقلبه بحقيقة المعرفة ، ورأى نفسه مضطرّة إلى رحمة ربّه بحقيقة الاضطرار ، مثل رؤية الغريق هلاكه في البحر العميق ، أو المبتلى بالحريق ، والتجأ عن وجه الاضطرار ، وسلّم نفسه وقلبه وعمله ، ووكّل أمره إلى ربّه ، مع حسن ظنّ بعنايته ، فقد نجا وتخلّص ، وفاز ونال ، إنّه قادر لا يعجز ، وجوادٌ لا يبخل ، وأمين لا يخون ، وقد قيل ـ ونعم ما قيل ـ : لا منتهى للمجاهدة من مكائد النفس والشيطان إلا بمعرفة العجز معرفة حقيقيّة ، والالتجاء إلى الله ـ جل جلاله ـ التجاءً صادقاً .
فكل أمرك ، وسلّم سرّك وروحك ، وقلبك وقالبك ، وإيمانك وعملك إلى ربّك ، فإنّه لا يخونك ولا يجفوك ، وليس بربّ جاف .
ثمّ يفرض نفسه حاضراً بين يدي الله ـ جل جلاله ـ ويقول مخاطباً عن الحضور : أتقول : لا ، ويكون التلفّظ بلفظة «لا» أثقل عليه من الجبال ، ثم يقول : فإن قلت : بلا ، فيا ويلي يا ويلي ، ويا غوثي يا غوثي .
ثمّ يتفكّر في خزي ردّه تعالى له في جميع عوالمه وآثاره ، في عقله وروحه ، قلبه وبدنه ، ثمّ ينوح على ذلك كلّه واحداً بعد واحد ، ويقول : يا ويل عقلي إن حجبه ربّي وسيّدي ، كيف يكون حاله إذا احتبس عن مقام النور ، وشرف الحضور وعن درجة التمكين مطاع ثَمّ أمين ، وصار عابداً للهوى ، ومطيعاً لخنزير الشهوة وخادماً لكلب الغضب ، وحجب عن مجاورة

المراقبات 13

الأطيبين ، وقرب ربّ العالمين ، فمُسخ عن حقيقة ، فصار شيطاناً مفتّناً ، وإبليساً مدلّساً .
ثمّ يذكر ما يصل إلى روحه من النكال ، من ردّ الملك المتعال ، ويقول : فيا ويله إن مُنع عن جوار الله ، والتعلّق بعزّ القدس ، وطُرد عن مجلس الأُنس ، حجب عن العلّيين ، وصار في مهوى دركات السجّين ، وقرن مع الشياطين .
ثم يذكر قلبه ويقول :
«أيا ويح قلب من به مثل ما بيا» :
إذا منع عن ذكر الرحمن ، ومحبّة الحنّان المنّان ، ومال إلى الشيطان ، وعشق هذه الدنيا الدنيّة ، واستهتر في حبّها ، ووقع في جبّها ، وأخلد إلى الأرض : «فَمَثَلُه كَمَثَلِ الكلب إن تَحمِل عليه يَلهَث أو تَترُكه يَلهَث» (الأعراف : 176) واسودّ من ظلم المعاصي واعتاض عن ذكر الله تعالى بالتّناسي ، ومن العلوم بالوسواس ، فطبع عليه ولم يبق له طريق إلى الخلاص .
ثمّ ينوح أجزاء بدنه واحداً بعد واحد ، ويخاطب رأسه فيقول : يا رأسِ ! كيف بك من غضب الرحمن إن عذّبك في الدنيا ، ومسخك برأس القردة والخنازير ، أو سوّد وجهك وفضحك بين العالمين ، أو أعمى بصرك ، أو أصمّ سمعك ، أو أخرس لسانك ، أو شوّه خلقك ، أما رأيت وسمعت رؤوساً كثيرة من العصاة ، غضب عليهم الرحمن ، وعذّبهم بذلك أو بغيرها من المخازي ، أو أرسل إليهم ناراً فأحرقها في الدنيا وساقها بعده إلى نار الآخرة ، أو أخّر أخذك بما بعد الموت ، وما بعد الموت أخزى وأدهى .
فياذا العقل والتعريف ، والرأي والتصريف ، أما تذكر أحوال القبر

المراقبات 14

والبلى والدود والبلوى ، إذا غيّبت في الثرى ، يأكل التراب لحمك ، ويدخل الدود في أنفك ، يجري حديقتك على خدّك ، وتُبدّل من المنظر النظيف ، والجمال اللطيف ، إلى الحطب الكثيف ، فيرمل وجهك في الثرى ، ويقبر في الغبراء ، فيرهقه قتر وذلّة ، وبؤس ومذلّة ، وكسر ومثلة .
فانظر في مرآة عقلك جمال صورتك ، وتأمّل في قبح منظرك وشوهتك ، خذ من هذه السوانح موعظتك ، ثم اعطف عنان فكرك في عذاب الآخرة الجحيم ، وتدبّر في الحميم ، الذي يصبّ على رأسك : «يُصهَرُ به ما في بطونهم والجُلود * ولهم مقامع من حديد» في نار حرّها شديد ، وقعرها بعيد ، وحليتها حديد ، وشرابها ا لحميم والصديد .
وبالجملة ينوح على أعضائه واحداً بعد واحد ، ويذكر ما يفعل بها إن كان من أهل العذاب ، وإن شاء أن يجعل نوحه كل ليلة بواحد منها ، وإن شاء يقرأ في بعض الليالي ما رواه الزُهريّ من نوح السجاد عليه السلام على نفسه بالنثر والشعر .
ويجعل ليلة من لياليه ـ أيضاً ـ ينوح فيها على (قلّة) حيائه ، فيذكر أولاً من جميل صنع الله عليه ، وطول أناته ، وحسن طلبه ولطفه ، في دعوته إلى خلوته وقربه مجلس أنسه ، ثم يذكر معاملته مع هذا الرب الجليل ، ويتأمّل فيما يجب عليه في قبال هذه الكرامات العظيمة ، ويندب وينوح على مروءته ، وحيائه ووفائه ، يقول : فواسوأتاه وواخجلتاه ، من افتضاحي وقلّة حيائي ، هذا ربّي وسيّدي ومنعمي ، ملك الملوك ، جبّار الجبابرة ، أكرم الأكرمين ، هو يدعوني إلى ذكره ، ومجالسته والأنس معه ، وهو ملك الملوك ، أغنى الأغنياء ، وإله الأرض والسماء ، وأنا أستثقل من قبول هذه الكرامات العظيمة ، وأنا أذلّ الأذلاء ، فقير من كل الجهات ، بل فقر محض ، لا شيء ،

المراقبات 15

مفلس ، مرهون بنعمه ، موجود بعنايته ، حيٌّ بحياته ، مرزوق بنعمته ، قصّر جان في خدمته .
كيف ؟ لولا حلمه عنّي وقد أمهلني وشملني بستره ، وأكرمني بمعرفته ، وهداني السبيل إلى طاعته ، وسهّل لي المسلك إلى كرامته ، وأحضرني سبيل قربته ، وتحبّب إليَّ بنعمته ، وأرسل لدعوتي إلى مجلس كرامته ، والاستئناس بمناجاته ، أكرم خلقه عنده ، وأحبّ عباده إليه ، ولم يقنع في إكرامي بنعمة دون أخرى ، بل كرامة فوق كرامة ، حتى أعزّني بإرسال ملك في كل ليلة إلى دعوتي ، كان جزاؤه منّي أن كافأته عن الإحسان بالإساءة ، وقبح المعاملة ، حريصاً على ما أسخطه ، سريعاً إلى ما أبعد عن رضاه ، مستبطئاً لمزيده ، مستسخطاً لميسور رزقه ، مستفيضاً لجوائزه بعمل الفجّار ، كالمراصد رحمته بعمل الأبرار ، أتمنّى عليه العظائم كالمدلّ الآمن من قصاص الجرائم .
فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، مصيبة عظم رزؤها ، وجلّ عقابها ، فما أقبحني وألأمني ، وما أفضحني وأشنعني ، وأقلّ حيائي ، وأعدم وفائي ، حين جاهرته بالكبائر ، مستخفاً عن أصاغر خلقه ، فلا راقبته وهو معي ، ولا راعيت حرمة ستره عليَّ .
آه واسوء صباحاه ، بأيّ وجهٍ ألقاه ، بأيّ لسان أُناجيه ، وقد نقضت العهود والإيمان بعد توكيدها ، ودعوته حين دعوته وأنا مقتحّم في الخطايا ، فأجابني وهو غنيٌّ عنّي ، وسكتُّ عنه فابتدأني ، ودعاني فلم أُجبه ، وأقبل عليَّ فأعرضت عنه ، واسوأتاه واقبيح صنيعاه ، أيُّ تغرير غرَّرت بنفسي ، فيا لله من هذه العظائم الفظيعة ، والأحوال الشنيعة الفجيعة .
فوعزّتك وجلالك يا سيدي ومولاي ، ويا ملجئي ومنجاي ، لو كان لي جلد على عذابك ، وقوّة على انتقامك ، ما سألتك العفو عنّي ، بل دعوتك إلى

المراقبات 16

عذابي وعقابي ، سخطاً على نفسي (ولؤمها) كيف عصتك بعد هذه الكرامات الجليلة ؟ وأقبلت عليها وأعرضت مدبرةً عنك بعد هذه الألطاف الجميلة ، ويا سبحان هذا الربّ الودود ، ويا سبحان هذا الحلم العظيم ، ويا سبحان هذا اللطف الألطف ، فقد فتح لأمثالي من العصاة اللئام ، والطغاة المِلام باب التوبة . ولم يمنعه عن الأوبة ، ووعد التائب القبول ، وعفا عن السيئات ، وبدّلها بأضعافهم من الحسنات .
وبالجملة يكون جدّه في إظهار حقيقة جناياته ، وما يعرفه من كرامات ربّه ، يكثر حسراته ، ووجده وبكاؤه فيؤثّر في نزول الرحمة ، وشمول الكرامة .
ثمّ إنّه من أهم المهمّات أن يتوسّل في آخر كل ليلة بخفراء الليلة ، وحماة الأمة من المعصومين عليهم السلام ويسلّم عليهم ويسألهم أن يشفعوا له عند ربّه بالقبول وبتبديل السيئات بالحسنات ، و(أن) يجعلوه من همّهم ، وحزبهم ودعاتهم ، يرغبوا إلى الله في أن يرضى عنه ويقبله ويلحقه بهم ، ويجعله من شيعتهم المقرّبين ، أوليائهم السابقين السالفين .

* * *



الفهرس التالي التالي