معرفة النفس 91


الفصل الرابع

القلب حرم الله


معرفة النفس 92




معرفة النفس 93

عن الامام الصادق ( عليه السلام ) : « القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله » (1) .
هنالك ثلاثة ابعاد في شخصية الانسان المؤمن تعكس ايمانه بالله عز وجل ، ومدى تدينه ، وتتفاوت هذه الابعاد في القوة من شخص لاخر .
وهذه الابعاد هي :
1 ـ البعد العقلي « العلمي ) .
2 ـ البعد السلوكي « العملي » .
3 ـ البعد النفسي « المعنوي » .
* ماذا تعني هذه الابعاد ؟


ـ البعد العقلي .. ويعني ان يكون ايمان الانسان وتدينه قائماً على اساس عقلي وادلة علمية مستوحاة من القرآن واحاديث الرسول وآل البيت ( عليهم السلام ) ومن الطبيعة والسنن الكونية ، والتي عبرها يستطيع الرد على المبطلين والملحدين .
ـ البعد السلوكي .. ويعني الممارسات الدينية والطقوس العبادية التي

(1) الري شهري : ميزان الحكمة : ج 2 ص 212 .
معرفة النفس 94

يمارسها الانسان المتدين من صلاة وصيام والتزام بالاحكام في مختلف ـ المجالات ، وقد تكون هذه السلوكيات العبادية على اساس علمي كما مضى او على اساس تقليدي وراثي او توافق اجتماعي .
ـ البعد النفسي ... وهذا البعد والذي سوف نتناوله بشيء من التفصيل يحتاج منا الى تعريف النفس ولو باختصار ، ويقصد بالنفس هنا الدائرة الداخلية في كيان الانسان والتي تتمركز فيها العواطف والمشاعر والاحاسيس السلبية منها والايجابية اللذيذ منها والمؤلم .
وعلى هذا فان هذا البعد يختلف عن البعدين الاخرين وهو اهم منهما لانه الحصانة لهما . ذلك ان البعد الاول المستند على ادلة علمية لايمكنه ان يحصن الانسان من الانحراف لان جل الانحرافات التي تصيب الانسان مصدرها النفس وليس العقل .
كما ان البعد السلوكي للتدين والذي ربما يكون باعثه تقليلد الاباء والمحيط الاجتماعي هذا البعد قد ينهار عندما ينتقل الانسان الى محيط آخر ، بينما البعد النفسي والذي يعني تفاعل المشاعر والاحاسيس مع وجود الله ، مثل الحب والبغض والخوف والرجاء والرضا والغضب ، والهيام والشوق والمناجاة ، هذه المشاعر هي ركيزة الايمان والتدين والمناعة ضد الغواية والانحراف والسلاح الذي يشهره الانسان المؤمن في وجه الشيطان والاغراءات الدنيوية .
* نوعية التدين عند المجتمع


بالرغم من ان ابعاد التدين الثلاثة في شخصية الانسان المؤمن تتفاوت من حيث القوة والضعف من انسان لاخر ، فهناك من يبرز البعد العقلي في شخصيته دون البعدين الاخرين ، وآخر يبرز البعد السلوكي دون البعد

معرفة النفس 95

العقلي والنفسي وهكذا .. غير ان اكثر مجتمعاتنا جل افرادها المتدينين يبدو في شخصياتهم البعد العقلي والسلوكي بينما ينحصر البعد النفسي للتدين في مجموعات البعد العقلي والسلوكي بينما ينحصر البعد النفسي للتدين في مجموعات وفئات قليلة من المجتمع ، وهذا ما يلاحظ في المناقشات التي تدور في المجالس والخطب التي تلقى من على المنابر والكتابات التي تصدر انما تدور حول الادلة العلمية والعقلية لاثبات وجود الله ، وكذلك يبدو الجانب السلوكي بشكل واضح ، بينما يكاد يختفي التفاعل النفسي مع تلك الحقائق الالهية والسلوكيات العبادية .
اذ يؤمن الانسان ـ مثلاً ـ بوجود اسرار الطبيعة والسنن الكونية الا ان هذا الايمان لا يخرج عن الاطار النظري ليدخل في الاطار النفسي كلا ، بل يبقى بعيدا عن التفاعل النفسي ، تماماً مثل ذلك الانسان الذي يخضع لحكومته نظرياً وسلوكياً غير انه غير خاضع نفسياً وشعورياً لها .
وقد اشار الله سبحانه وتعالى الى هذه الحقيقة في كتابه الكريم حيث قال : « ولئن سألتهم من خلق السموات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى تؤفكون »(1) «ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فاحيا به الارض بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل اكثرهم لا يعقلون » (2) « ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون » (3) « وجحدوا بها واستيقنـتها انفسهم ظلما وعلوا » (4) .
اذن المشكلة ليست في الايمان العقلي بل هي في الايمان النفسي والخضوع لتلك الحقائق والتفاعل معها حيث ان الادلة

(1) سورة العنكبوت : ـ 61 .
(2) سورة العنكبوت : ـ 63 .
(3) سورة الزخرف : ـ 87 .
(4) سورة النمل : ـ 14 .
معرفة النفس 96

التي تثبت وحدانية الله وملكيته وحاكميته لا يمكن لاحد عاقل ان ينكرها ولكنه ينكمنه ان لا يتفاعل معها ، فلهذا لا عجب ان نرى كثيراً من المسلمين لا ينكرون وجود الله عقلاً ومنطقاً الا انهم لا يتفاعلون مع هذا الايمان العقلي ولا ينعكس على مشاعرهم وتصرفاتهم .
* التفاعل النفسي مع الدين :


من هنا لابد من التفاعل النفسي مع الدين وتحكيمه في عواطفنا ومشاعرنا فيكون الله عز وجل حاضراً امام اعيننا وفي نفوسنا دائماً لكيلا نغفل ونتيه ، اذ ان حضور الدين في مشاعر الحب والخوف والرضا والغضب والرغبة والكره تنمي في شخصية الانسان المقاومة ، بينما خلو المشاعر من التدين يؤدي الى سهولة انحراف الانسان ، وهذا الامر هو سبب انحراف قطاع واسع من ابناء المجتمع ورفضهم للتضحية في سبيل الله ، فالتضحية انما تتأتى عبر التفاعل مع الله سبحانه وتعالى والاشتياق لملاقاته كما ان الاغراءات والضغوط التي يواجهها الانسان او المجتمع في حياته ليست فكرية عقلية وانما هي في غالبها نفسية روحية ، فحينما اراد الماركسيون ابعاد الامة عن دينها بطرح الشبهات الفكرية والنظريات العقلية لمن ينجحوا في التأثير على على قطاع صغير من الامة ، ولكن الغربيين الرأسماليين كانوا اكثر نجاحاً لانهم عملوا على اضعاف التدين في نفوس ابناء الامة بأساليب اليموعة والانحلال وتشجيع الروح المادية والمصلحية والتوجيهات الدنيوية .
ومشكلة التوجيه الديني الموجود في مجتعاتنا اضافة الى قلته ومحدوديته انه كان وما زال يركز على تعميق التدين في عقلية المجتمع ويطرح الادلة العقلية والبراهين النقلية على احقية الاسلام وضرورته ووجود الله و و ... ، وهذا

معرفة النفس 97

ما يلاحظ بصورة جلية في الكتب والخطابات الاسلامية ، بينما اغفل الجانب المهم في شخصية المجتمع وهو الجانب النفسي وتعميق التدين في روح المجتمع ، مما مكن الاستعمار من غزو بلادنا ، فمع ان الجميع متفق على ضرورة محاربة الاستعمار ومقاومته الا اننا نقبل كل ما يرد الينا منه ونتفاعل معه نفسياً وذلك لزوال المانع النفسي والتدين المعنوي في كياننا .
* الروح الدينية للشعب الايراني :


المجتمع الايراني المسلم يتميز بتدينه النفسي وهذه الميزة هي التي جعلته ينتصر قبل غيره من المجتمعات الاسلامية الاخرى ، ذلك لان ايمانه النفسي يدفعه للالتفات حول القيادة الشرعية وللشهادة والتضحية في سبيل الله . ويعود سبب ذلك الى الموجهين الدينيين في ايران ، فقد كانور يركزون على الجانب الروحي ويشوقون الناس لله ويوثقون علاقتهم به وبأهل بيت الرسالة صلوات الله وسالمه عليهم ، الى درجة ان بعضهم كان الطابع العام لخطاباته تذكير الناس بالله سبحانه وتعالى وبالاخرة ... ومن البارزين في هذا المجال آية الله الشهيد السيد عبد الحسين دستغيب رحمة الله عليه ، حيث كان له مجموعة من الكتب والخطابات حلو القيامة والحساب والشفاعة والتقوى والشيطان والبكاء من خشية الله ... الخ (1)

(1) هو نجل المرحوم العلامة السيد حكيم دستغيب ، ولد الشهيد في عام 1333 هـ بمدينة شيراز من عائلة دينية ، غادر الى النجف بعد ان اتم دراسة مرحلة السطوح لاكمال دراسته ثم عاد الى شيراز .
ومنذ ان عاد الشهيد الى مدينة شيراز بدأ بتنفيذ خدماته الدينية والسياسية ، فنفث روح التدين في نفوس قاطبة سكان محافظة فارس واشعل في نفوسهم حماساً دينياً .
وفي عام 1382 هـ بدأ نضاله السياسي ضد النظام الشاهنشاهي المقبور حيث تزامن ذلك مع جهاد الامام الخميني .
بعد حوادث 15 خرداد عام 1382 هـ القي القبض عليه واطلق سراحه بعد فترة وجيزة ، ولكنه اعيد الى السجن مجدداً في عام 1384 هـ ثم اطلق سراحه ، ولقد زاول الشهيد نشاطاته السياسية والدينية طيلة =
معرفة النفس 98

وهذه المجموعة الروحية القيمة منتشرة بين صفوف المجتمع الايراني ، اضافة الى هذه المواضيع كان الشهيد يشارك في دعاء كميل ويتفاعل مع الدعاء ويبكي ما يؤثر في نفسية المستمعين ويأخذون بالبكاء معه ، ولذلك لا عجب ان نرى الادعية اصبحت محبوبة عند الشعب الايراني ، حيث يتزاحمون رجالاً ونساءاً واطفالاً على مجالس دعاء كميل في ليلة الجمعة مع تقلب الطقس والمناخ سواءاً كان الجو صيفاً او برداً او حتى ممطراً من اجل الاستماع للدعاء بخشوع وبكاء وتهجد ونحيب بالرغم من انهم يقرأونه باللغة العربية ، وكذلك هذا الامر ينحسب على قراءة الزيارات للائمة عليهم السلام اذ تجدهم في قراءتها متذللين دموعهم ممتزجة بصيحاتهم .
ولاتزال مجالس دعاء كميل ليالي الجمع معلماً من معالم التحول الاسلامي في ايران وكل زائر يأتي الى ايران ويشارك في هذه المجالس يبدي دهشته وتأثره بذلك الجو الروحي الرائع .
يقول احد المتأثرين بتلك الاجواء الروحية :
« زرت طهران في فصل الشتاء وكنت سمعت عن الاجواء الروحانية الخاشعة في مجالس دعاء كميل ليلة الجمعة ، وهو دعاء مناجاة علمه الامام

= 40 عاماً باذلاً قصارى جهده في بث العقيدة والجهاد واليقظة الروحية والنفسية وقد فرضت السلطة الاقام الجبرية عليه في عام 1389 هـ ولكن الجماهير رفعت ذلك الحصار عنه .
وبعد انتصار الثورة انتخب الشهيد من قبل اهالي محافظة فارس عضواً في مجلس الخبراء لصياغة الدستور وبعدها عين اماماً لصلاة الجمعة في مدينة شيراز وقد قال عنه الامام الخميني : « انه بحق معلم الاخلاق ومهذب النفوس » .
صدر الشهيد مؤلفات كثيرة منها : النبي والقرآن ، آداب من القرآن ، قلب القرآن ، العبودية سر الخليقة ، صلاة الخاشعين ، القلب السليم ، الذنوب الكبيرة ، المعاد ، المعراج ، جنة الخلود ، النفس المطمئنة ، وكذلك في تفسير القرآن ...
استشهد على يد المنافقين بينما هو ذاهب الى صلاة الجمعة في 21 / ربيع الاول / 1401 هـ .
ـ انظر الذنوب الكبيرة للشهيد دستغيب .
معرفة النفس 99

علي ( عليه السلام ) لكميل بن زياد النخعي رحمه الله ويعقد المسلمون في ايران مجالس لقراءته ليلة الجمعة .. وتأسفت عندما حلت ليلة الجمعة وكان البرد شديداً والثلج غزيراً لان ذلك سيمنع من انعقاد المجلس ، ولكن قيل لي ان المجلس لا يتعطل والناس يقصدونه في كل الظروف !
اتجهنا الى مدرسة الشهيد مطهري في وسط طهران فرأينا ان حركة السير تزداد كلما اقتربنا من المكان .
ترجلنا بعيداً عن المدرسة لانهم اخلوا الساحة والشوارع المحيطة بها من السيارات كان قراءة الدعاء قد بدأت والناس ملؤوا المدرسة بمسجدها الكبير وساحاتها الواسعة وامتدوا الى الخارج وجلسوا في الساحة والشوارع يتقون تساقط الثلج بما يتيسر من مظلة او غطاء للراس او معطف ، ويقرؤون الدعاء ! .
هل يصدق الناس في العواصم الباردة ان الالوف او عشرات الالوف من الطهرانيين يخرجون من بيوتهم في مثل هذا الجو ويجلسون في الشوارع ساعتين تحت الثلج لقراءة الدعاء ؟ !
نعم تحت الثلج ، وفوق الثلج ايضا ، فقد رأيتهم يجلسون على ما تيسر لهم : بساط عادي او مفرش من السيارة او معطف يجلس عليه اثنان ويغطيان رأسيهما بالمعطف الاخر ، او قطعة نايلون او كارتون .. وبعضهم يجلس القرفصاء .. ! والكل باتجاه القبلة يتابعون فقرات الدعاء مع القارىء ، وتشعر انهم يحفظونها ويفهمون معناها ، او يتابعون الموضوعات التي يطرحها القارىء بالفارسية تعقيباً على مفاهيم الدعاء .. او يأخذ الواحد منهم بالبكاء فينطلق في التضرع الى ربه عز وجل يطلب منه المغفرة ويطلب حاجاته .. ثم يعود الى متابعة الدعاء ..

معرفة النفس 100

وقد خلف شاب في حوالي الثلاثين من عمره ، كان جالساً ويرتدي معطفاً يغطي رأسه ، وتحاشيت ان يشعر بوجودي حتى لا ازعجه في دعائه .. ولكنه كان في حالة لا يشعر معها بالثلج المتساقط على رأسه وبعض وجهه ولا يشعر بأحد .. كان منفصلاً عن متابعة الدعاء مع القارىء ويتكلم مع الله تعالى ويبكي مع الله تعالى بكل وجوده ويتوجه اليه بكل مشاعره ، وان الكلمة الواحدة تخرج من صدره وجوداً حياً يحمل من اجزاء روحه وينبض بها ؟
سمعته يقول : خدايا ، اي الهي ويطلقها نداءاً عميقاً حزيناً طويلاً .. وينفجر بعدها بالبكاء .. ثم يمسك يكاءه ويواصل دعاءه .. فهمت منه انه يقول : الهي انت رحيم محب .. وانا بعيد عنك .. ذنوبي .. ليلة الجمعة .. العفو .. جئت اليك .. اريد منك التوفيق .. النجاة من النار .. الشهادة ..
وفي داخل مسجد المدرسة كان المشهد اعظم واكثر تأثيراً .. فعندما يصل القارىء الى مقاطع يرددها الحاضرون معه مثل : يا رب يا رب يا رب ، او يا رب ارحم ضعف بدني ، عن النار .. يتجاوب الدوي والدموع الى عنان ، السماء .. وعندما يطلب القارىء عنهم طلباً من الله تعالى فيرفعون ايديهم واصواتهم بقولهم ( الهي آمين ) تشعر بعبودية المسلمين الضارعة الراغبة ... (1) .
والواقع ان هذه الاجواء الروحية هي مخزون الثورة الاسلامية وعامل

(1) الممهدون للمهدي : ص 248 ـ 251 .
معرفة النفس 101

الانتصار القوى ، وهو نفسه الذي يدفعهم الى التضحية والجهاد والنفير الى الجبهات اذ تجد الواحد منهم يصاب في الجبهة بجراج بليغة ويوشك ان يلفظ انفاسه الاخيرة وهو يهتف بالله وباسماء اولياء الله على ماذا يدل هذا ؟ او ليس على التفاعل النفسي العميق مع الايمان ؟
وذات العامل هو الذي مكن الثورة الاسلامية من البقاء رغم المؤامرات والاغتيالات والتفجيرات والاعلام المضاد والحرب ، ذلك ان الشعب يعيش الاخرة ويتفاعل مع ايمانه ولم يكن سبب هذا الصمود في الوقع ارتفاع مستوى الوعي والعلم والمعرفة فقد لا يكون مستوى وعي الشعب الايراني ومعرفته ارفع من بقية المجتمعات الاسلامية ولكن لا ريب ان مستوى تدينه وصل الى مستوى رفيع جداً .
وموسم الحج فرصة مناسبة لكي يشاهد المسلمون الوافدون من مختلف اقطار العالم الاسلامي مظاهر هذه الروحية الدينية للشعب الايراني حيث يقيمون مجالس دعاء كميل ليالي الجمع عند البقيع في المدينة المنورة وفي المسجد الحرام بمكة المشرفة .
اذن اذا اردنا ان نزرع روح التضحية في نفوس شعوبنا وندفعهم للجهاد والعمل في سبيل الله فلا يكفي ان نعطيهم فكراً وعلماً وثقافة وانما يجب ان نزرق في نفوسهم روح التدين ونمزج نفوسهم بحب الله سبحانه وتعالى لان هذا هو الذي يضمن الالتزام بالدين ويدفع الانسان الى التضحية من اجله وهو المسلك الى الثورة والانتصار .
* توثيق العلاقة بالله :


ولكي نوثق علاقتنا النفسية بالله سبحانه وتعالى لابد من اسكان حب الله في قلوبنا دون سواه بأن نجعل له حضوراً دائماً في نفوسنا وفي مخليتنا ونتشوق

معرفة النفس 102

للقائه لان المحب يشتاق ويوله لحبيبه ، ولتقريب الفكرة نضرب مثلاً .
لا ريب انك عندما تفارق اهلك او اصدقائك الاعزاء دون سابق عادة سوف تتذكرهم دائما وتتصور المشاهد اللطيفة بينك وبينهم وتتخيل اشكالهم في ناظريك ويكون لهم حضور دائم في نفسك وشعورك ، كذلك الاب الذي يترك اولاده لمدة طويلة بعيدين عنه او الشخص الذي يترك بلاده لفترة مديدة من الزمن يتشوق ويحن لها اليس كذلك ؟ .
فكما هو حاصل في الحياة العادية مع من نحب كذلك يحب ان تكون علاقتنا بالله سبحانه وتعالى وبدرجة اعلى .
بل نجعلها في صدارة شؤننا لانه ربنا والمنعم علينا وهو الذي يثيبنا ويجازينا وما الاشياء التي نحبها في الدنيا الا جزء بسيط من نعمه التي لا تعد ولا تحصى .
يقول تعالى : « والذين آمنوا اشد حباً لله » (1) ويقول ايضاً : « فاذكروا الله كذكركم آبائكم او اشد ذكرا » (2) .
* دلائل محبة الله :


ان حب الله ليس شيئاً خفياً وانما له ظواهر وحقائق وانعاكاسات على جوارح الانسان وبها يعرف الانسان هل هو محب ام لا ؟ هل يحب الله ام يحب غيره ؟ فما هي هذه الدلالات التي تعرف بها اننا نحب الله دون سواه ؟
1 ـ استقرار حب الله :


في قلب الانسان دون غيره وابعاد جميع الميول والانشدادات الدنيوية عن قلبه واعطاء القيمة العليا لرضا الله سبحانه وتعالى ، وقد صرح القرآن
(1) سورة البقرة : ـ 165 .
(2) سورة البقرة : ـ 200 .
معرفة النفس 103

الكريم بذلك وقال : « قل ان كان آباؤكم وابناؤكم واخوانكم وازواجكم وعشيرتكم واموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين » (1) .
وفي الحديث عن الامام الصادق ( عليه السلام قال : « لا يمحض رجل الايمان بالله حتى يكون الله احب اليه من نفسه وابيه وامه وولده واهلـه ومن الناس كلهـم » (2) .
اذن عندما نجد ان احد تلك الامور الدنيوية مسيطرة على نفوسنا بشكل يزاحم الشوق لرضا الله فلا بد ان نشك في حبنا لله لان « دليل الحب ، ايثار المحبوب على من سواه » (3) كما قال الامام الصادق ( عليه السلام ) ، وعنه ايضا « القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله » (4) .
وعن الرسول ( صلى الله عليه وآله والائمة ( عليهم السلام ) الى ان حب الله وحب الدنيا لا يجتمعان في قلب واحد ابداً فعن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « حب الدنيا وحب الله لا يجتمعان في قلب ابداً » (6) .
وعن الامام علي ( عليه السلام ) قال : « كيف يدعي حب الله من سكن قلبه حب الدنيا » (7) .

(1) سورة براءة : ـ 25 .
(2) ميزان الحكمة : ج 2 ص 212 .
(3) نفس المصدر : ج 2 ص 209 .
(4) (5) نفس المصدر : ج 2 ص 213 .
(6) (7) نفس المصدر : ص 228 .
معرفة النفس 104

وعنه ايضاً ( عليه السلام ) « كما ان الشمس والليل لا يجتمعان كذلك حب الله وحب الدنيا لا يجتمعان » .
وفي دعاء للامام زين العابدين ( عليه السلام ) : « اللهم اني اسئلك ان تملأ قلبي حباً لك » (1) .
وفي دعاء للرسول ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم اجعل حبك احب الاشياء الي ... » (2) .
وعنه ايضاً : « اللهم اني اسئلك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يبلغني حبك ، اللهم اجعل حبك الي من نفسي واهلي ومن الماء البارد » (3) .
2 ـ مناجاة الله وذكره بخضوع :


فمن يحب شخصاً فانه دعائماً يذكره الايام التي قضاها معه ، واذا ما كان ذلك الانسان شديد المساعدة له فانه يتذكره ايضا في المشاكل والملمات والحاجات ، كذلك من يحب الله سبحانه وتعالى فانه لابد ان يكون ذاكراً له دائماً ومعدداً نعمته عليه ومناجياً له حين الازمات والعقبات والنكبات مسبحا له ومقدساً وممجداً ومكبراً ولائذاً له دون سواه لان الاسباب بيده والخلائق عباده .
لذلك ترى شغله الشاغل هو ذكر الله .
وفي الحديث عن الامام علي ( عليه السلام ) : « من احب شيئاً لهج

(1) (2) (3) نفس المصدر : ص 214 .
معرفة النفس 105

بذكره » (1) .
وعن الامام الصادق ( عليه السلام ) : « فيما اوحى الله تعالى الى موسى ( عليه السلام ) كذب من زعم انه يحبني فاذا جنه الليل نام عني ، اليس كل محب يحب خلوة حبيبه ؟ ! ، ها انا ذا عمران مطلع علي احبائي ، اذا جنهم الليل حولت ابصارهم من قلوبهم ، ومثلت عقوبتي بين اعينهم ، يخاطبوني عن المشاهدة ويكلموني عن الحضور ، يابن عمران هب لي من قلبك الخشوع ومن بدنك الخضوع ومن عينك الدموع في ظلم الليل وادعني فانك تجدني قريباً مجيباً » (2) .
وعن الامام الصادق ايضاً : « حب الله اذا اضاء على سر عبد اخلاه عن كل شاغل وكل ذكر سوى الله عنده ظلمة والمحب اخلص سراً لله واصدقهم قولاً واوفاهم عهداً وازكاهم عملاً ، واصفاهم ذكراً واعبدهم نفساً تتباهى الملائكة عند مناجاته وتفتخر برؤيته ، وبه يعمر الله تعالى بلاده ، وبكرامته يكرم عباده ، يعطيهم اذا سألوا بحقه ويدفع عنهم البلايا ، برحمته فلوا علم الخلق ما محله عند الله ومنزلته لديه ما تقربوا الى الله الا بتراب قدميه » (3) .
وعن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : « علامة حب الله تعالى حب ذكر الله ، وعلامة بغض الله تعالى بغض ذكر الله عز وجل » (4) .
وعن الامام علي ( عليه السلام ) : « القلب المحب لله يحب كثيراً النصب لله ، والقلب اللاهي عن الله يحب الراحة ، فلا تظن يابن آدم ! انك تدرك رفعة البر بغير مشقة فان الحق ثقيل مر ... » (5) .
وفي دعاء كميل فقرات تعلم الانسان كيف يطلب من ربه ان يوصله الى

(1) نفس المصدر : ص 209 .
(2) (3) بحار الانوار : ج 70 ص 15 .
(4) (5) ميزان الحكمة : ج 2 ص 226 .
معرفة النفس 106

قمة الخشوع والتبتل .. « واجعل اوقاتي من اليل والنهار بذكرك معمورة » ، « واجعل لساني بذكرك لهجا وقلبي بحبك متيما » .
3 ـ الانقياد لاوامر الله :


ان الانسان المحب لله سبحانه وتعالى والقريب منه لايمكن ان يعصيه او يخالف احكامه ، وانما ينقاد لاوامره انقياد العارف بقدر الله سبحانه وتعالى .
وفيما اوصى الله تعالى الى داود ( عليه السلام ) : « يا داود من احب حبيباً صدق قوله ومن رضى بحبيب رضى فعله ، ومن وثق بحبيب اعتمد عليه ومن اشتاق الى حبيب جد في السير اليه » (1) . وفي الحديث « من آنس بحبيب قبل قوله ورضى فعله » (2) .
وعن الامام الصادق ( عليه السلام ) : « ما احب الله عز وجل من عصاه ثم تمثل فقال :
تعصي الاله وانت تظهر حبه هذا محال في الفعال بديـع
لو كان حبك صادقاً لاطعتـه ان المحب لمن يحب مطيع

4 ـ الشوق لله والتضحية في سبيله :


كما ان الانسان المحب لاخر لابد وان يشتاق للقائه والاجتماع به ويستعد لذلك اللقاء ويعمل قصارى جهده من اجل انجاح ذلك اللقاء ولو كلفه الكثير من المصروفات والعناء ، كذلك من يحب الله فانه يشتاق الله ويرغب في ملاقاته ، ولذلك تجده يعد للآخرة ويزرع لما بعد الحياة ليلقي الله سعيداً ولذلك ايضاً هو يشتاق الى لقاء الله ولايخاف من الموت .

(1) (2) المصدر السابق .
معرفة النفس 107

ان احد الاولياء يوصي اصدقائه بان يهنؤه عن موته لقدومه على الله سبحانه فيقول :
اذا ما صار فرشي من تراب وبت مجاور الرب الرحيـم
فهنوني اصحـابي وقولـوا لك البشرى قدمت على كريم

وفي الدعاء للامام الصادق ( عليه السلام ) : « سيدي انا من حبك جائع لا اشبع ، ان من حبك ظمآن لا اروى ، واشوقاه الى من يراني ولا اراه ... » (1)
وفيما اوصى الى داود ( عليه السلام ) : يا داود : ذكري للذاكرين وجنتي للمطيعين وحبي للمشتاقين وانا خاصة للمحبين » (2) .
وفي الدعاء للامام زين العابدين ( عليه السلام ) ؛ « اللهم اني اسئلك ان تملأ قلبي حباً وخشية منك وتصديقاَ لك وايماناَ وفرقاَ منك ، وشوقاً اليك » (3) .
وفي الدعاء ايضا للرسول ( صلى الله عليه وآله ) : « اللهم اجعل حبك احب الاشياء الي واجعل خشيتك اخوف الاشياء عندي واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق الى لقائك » (4) .
ان الانسان المؤمن الذي يحب الله قد يلاقي اذى كثيراً في جنب الله ويكابد المشاق والمعاناة ولكنه مع ذلك يشعر ان ذلك الاذى له لذة كبيرة جداً تنسيه التعب اكثر لذة من ذلك الاب الذي يعمل من اجل ان يصرف على

(1) (2) (3) (4) ميزان الحكمة : ج 2 ص 213 .
معرفة النفس 108

عياله ويرتاح لذلك .
والتاريخ ينقل لنا نماذج فذة احبت الله فامتلكها الشوق للقائه واستقبلت الآلام والاخطار بسرور وارتياح في سبيل الله ، فهذا عمار بن ياسر ( رضوان الله عليه ) في يوم صفين وهو يخوض غمرات الحرب كان يخاطب الله سبحانه وتعالى قائلاً : « اللهم انك تعلم اني لو اعمل رضاك في ان اقذف بنفسي في هذا النهر لفعلت ، اللهم انت تعلم اني لو اعلم ان رضاك في ان اضع ظبة سيفي في بطني ثم انحني عليه حتى يخرج من ظهري لفعلت ، اللهم اني اعلم مما علمتني اني لا اعمل عملا صالحا هذا اليوم هو ارضى من جهاد هؤلاء الفاسقين ، ولو اعلم اليوم عملاً هو ارضى لك منه لفعلته » (1) .
وآخر في معركة كربلاء وهو عابس بن ابي شبيب الشاكري قبل ان يلج المعركة كان يقول للامام الحسين ( عليه السلام ) : « يا ابا عبد الله اما والله ما امسى على ظهر الارض قريب ولا بعيد اعز علي ولا احب الي منك ، ولو قدرت على ان ادفع عنك الضيم والقتل بشيء اعز علي من نفسي ودمي لفعلته ، السلام عليكم يا ابا عبد الله ، اشهد الله اني على هديك هدي ابيك » .
ثم مشى بالسيف مصلتاً نحوهم ـ نحو الاعداء ـ وبه ضربة على جبينه قال ابو مخنف : حدثني نمير بن وعلة عن رجل من بني عبد من همدان يقال له ربيع بن تميم شهد ذلك اليوم ، قال : لما رأيته مقبلاً عرفته ، وقد شاهدته في المغازي وكان اشجع الناس ، فقلت : ايها الناس هذا اسد الاسود ، هذا ابن ابي شبيب لايخرجن اليه احد منكم ، فاخذ ينادي الا رجل لرجل ! . فقال عمر بن سعد ارضخوه بالحجارة قال : فرمي بالحجارة من كل جانب

(1) حليف مخزوم : ص 240 .
معرفة النفس 109

فلما رأى ذلك القى درعه ومغفره ، ثم شد على الناس ، فوالله لرايته يكر اكثر من مائتين من الناس ، ثم انهم انعطفوا عليه من كل جانب فقتل » (1) .
وثالث في معركة بدر الكبرى وهو معاذ بن عمرو بن الجموح كان يبارز ابا جهل وعندما ضربه ضربة اطاح بها رجله من الساق اخذت ابنه عكرمه الحمية فضرب معاذ على عاتقه فطرح يده من العاتق وبقيت معلقة بجلده فذهب يسحبها بتلك الجلدة ولما آذته وضع عليها رجله ثم تمطى عليها فقطها . وواصل القتال ، فهل كان ذلك يؤلمه ؟ كلا انه كان يتلذذ بهذا الاذى بحبه لله .
وهذا الامام الحسين ( عليه السلام ) الذي يتجسد فيه حب الله بكل ابعاده قد قدم في يوم عاشوراء كله اهله واصحابه في سبيل الله ، بل وقد اعز ابن له وهو علي الاكبر الذي كان يحبه حباً جماً الا ان حب الله كان هو الاكثر على شخصيته ، وحتى طفله الصغير قدمه قرباناً في سبيل الله ، فحينما اصابه سهم مشؤوم من قبل الاعداء وهو على صدره تلقى الحسين دم وليده بيده ورمى به نحو السماء وهو يقول : « هو علي ما نزل بي انه بعينك التي لا تنام »
وهو القائل في آخر لحظة من حياته وهوعلى رمضاء كربلاء والدماء تنزف من جسمه الشريف :
تركت الخلق طراً في هواك وأيتمت العيال لكي اراك
فلو قطعتني في الحب أرباً لما مال الفؤاد الى سواك

(1) عابس ابن ابي شبيب الشاكري : ص 22 ـ 23 .
معرفة النفس 110

5 ـ بغض الكافرين والمفسدين :


ومن دلائل حب الانسان لربه انه يبغض من يبغضه الله سبحانه وتعالى ، فعن الامام الصادق ( عليه السلام ) : « طلبت حب الله عز وجل فوجدته في بغض اهل المعاصي » (1) .
وعن الامام الباقر ( عليه السلام ) : « ... اعلم رحمك الله انا لاننال محبة الله الا ببغض كثير من الناس ولا ولايته الا بمعاداتهم ... » (2) .
وقال تعالى في كتابه الكريم : « لاتجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الاخر يوآدون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم وابناءهم او اخوانهم او عشيرتهم اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتاها الانهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه اولئك حزب الله الا ان حزب الله هم المفلحون » (3) .
6 ـ مساعدة المؤمنين :


الانسان الذي يحب الله سبحانه وتعالى فانه يحب عباده المؤمنين ، فكما اننا في حياتنا الاجتماعية نكرم ابناء واقرباء اصدقائنا واعزتنا فكذلك يجب ان نكرم المؤمنين من عباد الله اكراماً لله وتقديراً للايمان به .
وقد وردت احاديث كثيرة توضح اهمية مساعدة الفقراء والمحتاجين من المؤمنين وقد اعتبر الله الانسان المعين للعباد من افضل عباده واحبهم واقربهم اليه ، فعن الامام الصادق ( عليه السلام ) : « الا وان احب المؤمنين الى الله من اعان المؤمن الفقير من الفقر في دنياه ومعاشه ، ومن اعان ونفع ودفع

(1) ميزان الحكمة : ج 2 ص 216 .
(2) المصدر السابق : ج 2 ص 215 .
(3) سورة المجادلة : ـ 22 .
معرفة النفس 111

المكروه عن المؤمنين » (1) .
* بين الحب والخوف ..


وهناك فرق شاسع بين حب الله والخوف منه ، بين ان يحب الانسان ربه سبحانه وتعالى لذاته ولصفاته ولاهليته ، وبين من يعبد الله خوفاً من ناره او طمعاً في جنته .
وقد صنف الامام امير المؤمنين ( عليه السلام ) العباد على انواع ثلاثة فقال :
« ان قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار ، وان قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وان قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الاحـرار وهي افضل العبادة » (2) .
وروى ان عيسى ( عليه السلام ) مر بثلاثة نفر قد نحلت ابدانهم وتغير الوانهم فقال لهم ما الذي بلغ بكم ما ارى ؟ فقالوا : الخوف من النار فقال حق على الله ان يؤمن الخائف ، ثم جاوزهم الى ثلاثة اخرى ، فاذا هم اشد نحولاً وتغيراً ، فقال لهم : ما الذي بلغ بكم ما ارى ؟ فقالوا : الشوق الى الجنة ، فقال حق على الله ان يعطيكم ما ترجون ، ثم جاوزهم الى ثلاثة اخرى ، فاذا هم اشد نحولاً وتغيراً ، كأن على وجوههم المرايا من النور ، فقال : ما الذي بلغ بكم ما ارى ؟ قالوا : حب الله عز وجل فقال انتم المقربون » (3) .
عن الامام الرضا ( عليه السلام ) : لم لم يخوف الله الناس بجنة ونار

(1) ميزان الحكمة : ج 2 ص 218 .
(2) ميزان الحكمة : ج 6 ص 17 .
(3) جامع السعادات : ج 3 ص 151 .
معرفة النفس 112

لكان الواجب عليهم ان يطيعوه ولا يعصوه لتفضله عليهم واحسانه اليهم ، وما بداهم به من انعامه الذي ما استحقوه » (1) .
الامام علي ( عليه السلام ) يقول مخاطباً ربه عز وجل : « وعزتك وجلالك ما عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك ولكن وجدتك اهلاً للعبادة فعبدتك » (2) .
اذن هناك فرق كما اوضحته الاحاديث والروايات بين الحب وبين الخوف والطمع ، اذ ينطلق الحب من العلاقة القوية والمتينة والمعرفة الثاقبة بالله سبحانه وتعالى بغض النظر عن الجنة والنار فيصبح الخضوع لله سبحانه والالتزام باوامره هواية ولذة وليس واجباً وتكليفاً فحينما تستضيف حبيباً عزيزاً على قلبك فانك تبذل كل جهد ممكن لخدمته وضيافته دون احساس بالتعب او الانزعاج بل ترتاح نفسيا بذلك وتشكره لانه اتاح لك فرصة خدمته اليس كذلك ؟ وهكذا احباء الله يلتذون بخدمته ويبحثون عن فرص طاعته ولا يشعرون بالملل والتعب من طل العبادة ونصبها وفي هذه المرتبة حتى لو ضمن المحب لله الجنة وتأكد من نجاته من النار فانه لن يتوقف او يخفف من عبادته لربه ، فرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حينما سئل عن سبب كثرة عبادته مع ان الله قد غفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه ؟
قال : اولا اكون عبداً شكورا ؟ .. وقديما قال الشاعر :
واذا حلت الهداية قلباً نشطت للعبادة الاعضاء

(1) (2) ميزان الحكمة : ج 6 ص 18 .
معرفة النفس 113

الامام الصادق ( عليه السلام ) : « الحب افضل من الخوف » (1) .
ومما جاء في صحيفة ادريس : « طوبى لقوم عبدوني حباً واتخذوني الها ورباً وسهروا الليل ، وادوا النهار طلبا لوجهي ، من غير رهبة ولا رغبة ولا لنار ولا جنة بل للمحبة الصحيحة والارادة الصريحة والانقطاع عن الكل لي » (2) .
* هل تريد ان يحبك الله ؟


قد يسأل شخص ، كيف اعرف ان الله يحبني ؟ والجواب ان الله لن يحبك الا اذا اخلصت حبك له وهاك ستة احاديث ان طبقتها احبك الله ..
(1) « فيما اوحى الله تعالى الى داود » يا داود ! ابلغ اهل ارضي اني حبيب من احبني وجليس من جالسني ومونس لمن آنس بذكري وصاحب لمن صاحبني ومختار لمن اختارني ومطيع لمن طاعني وما احبني احد اعلم ذلك يقيناً من قلبه الا قبلته لنفسي ، واحببته حباً لا يتقدمه احد من خلقي ، من طلبني بالحق وجدني ومن طلب غيري لم يجدني ، فارفضوا يا اهل الارض ، ما انتم عليه من غرورها وهلموا الى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي وآنسوني اؤنسكم واسارع الى محبتكم » (3) .
(2) وعن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : « الخلق عيال الله فاحب الخلق الى الله من نفع عيال الله ، وادخل على اهل بيت سروراً » (4)
(3) وعن الامام علي ( عليه السلام ) : « ان من احب عباد الله اليه

(1) ميزان الحكمة : ج 2 ص 214 .
(2) بحار الانوار : ج 95 ص 467 .
(3) ميزان الحكمة : ج 2 ص 222 .
(4) ميزان الحكمة : ج 6 ص 219 .
معرفة النفس 114

عبداً اعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه » (1) .
(4) وعن الامام الصادق ( عليه السلام ) قال : « اذا تخلى المؤمن عن الدنيا سما ووجد حلاوة حب الله وكان عند اهل الدنيا كأنه قد خولط وانما خالط القوم حلاوة حب الله فلم يشتغلوا بغيره » (2) .
(5) وسأل رجل رسول الله ( صلى الله عليه وآله فقال : « احب ان اكون من احباء الله ورسوله ؟ قال : احب الله ورسوله وابغض مابغض الله ورسوله » (3) .
(6) وعن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : « وجبت محبة الله على من اغضب فحلم » (4) .
* كيف تتحبب الى الله تعالى :


والان كيف يتحبب الانسان لربه ؟ وما هي الاساليب والممارسات التي تدخله في حظيرة حب الله ؟ .
بالاضافة الى ما سبق نؤكد على الامرين التاليين :
1 ـ الدعاء ..


فهو المعراج الى حب الله سبحانه وتعالى والتقرب اليه ، ذلك ان الدعاء من احب الاعمال الى الله ، فعن الامام على ( عليه السلام ) : « احب الاعمال الى الله عز وجل في الارض الدعاء » (5)

(1) ميزان الحكمة : ج 2 ص 218 .
(2) (3) نفس المصدر : ص 216 .
(4) نفس المصدر : ص 15 .
(5) ميزان الحكمة : ج 3 ص 245 .
معرفة النفس 115

ولا بد ان نقرأ الادعية التي تحببنا الى الله وتذكرنا بنعم الله ورحمته ونتدبر فيها ، ونشير في هذا المضمار الى الصحيفة السجادية التي هي بحق وسيلة عظيمة للتقرب الى الله سبحانه وتعالى ، ففي مناجاة الخائفين يقول الامام زين العابدين ( عليه السلام ) :
« الهي اتراك بعد الايمان بك تعذبني ام بعد حبي اياك تبعدني ام مع رجائي لرحمتك وصفحك تحرمني ام مع استجارتي لعفوك تسلمني حاشا لوجهك الكريم ان تخيبني .. » ثم يقول : « الهي لا تغلق على موحديك ابواب رحمتك ولا تحجب مشتاقيك عن النظر الى جميل رؤيتك » .
وفي مناجاة المريدين يقول :
« والحقنا بعبادك الذين هم بالبدار اليك يسارعون وبابك على الدوام يطرقون واياك في الليل والنهار يعبدون وهم من هيبتك مشفقون الذين صفيت لهم المشارب وبلغتهم الرغائب وانجحت لهم المطالب وقضيت لهم من فضلك المآرب وملأت لهم ضمائرهم من حبك ورويتهم من صافي شربك فبك الى لذيذ مناجاتك وصلوا ومنك اقصى مقاصدهم حصلوا » .
وفي مناجاة العارفين يقول :
« الهي قصرت الالسن عن بلوغ ثنائك كما يليق بجلالك وعجزت العقول عن ادراك كنه جمالك وانحسرت الابصار دون النظر الى سبحات وجهك ولم تجعل للخلق طريقا الى معرفتك الا بالعجز عن معرفتك ، الهي فاجعلنا من الذين ترسخت اشجار الشوق اليك في حدائق صدورهم واخذت لوعة محبتك بمجامع قلوبهم فهم الى اوكار الافكار يأوون وفي رياض القرب والمكاشفة يرتعون ومن حياض المحبة بكأس الملاطفة يكرعون وشرايع المصافات يردون قد كشف الغطاء عن ابصارهم وانجلت ظلمة الريب عن

معرفة النفس 116

عقائدهم وضمائرهم وانتفت مخالجة الشك عن قلوبهم وسرائرهم وانشرحت بتحقيق المعرفة صدورهم وعلت لسبق السعادة في الزهادة هممهم وعذب في معين المعاملة شربهم وطاب في مجالس الانس سرهم وامن في مواطن المخافة سربهم واطمأنت بالرجوع الى رب الارباب انفسهم وتيقنت بالفوز والفلاح ارواحهم وقرت بالنظر الى محبوبهم اعينهم واستقر بادراك السؤل ونيل المأمول قرارهم وربحت في بيع الدنيا بالاخرة تجارتهم ، الهي ما الذي خواطر الالهام بذكرك على القلوب ...
وفي مناجاة الزاهدين يقول :
« واغرس في افئدتنا اشجار محبتك واتمم لنا انوار معرفتك واذقنا حلاوة عفوك ولذة مغفرتك ... » .
وكم هو رائع دعاء الافتتاح انه قطعة فريدة من الثناء والمدح تكرس في نفس الانسان حب الله والشوق اليه تستحق ان تكتب بماء الذهب .
« فلم ار مولى كريما اصبر على عبد لئيم منك علي يا رب انك تدعوني فأولي عنك وتتحبب الي فأتبغض اليك وتتودد الي فلا اقبل منك كأن لي التطول عليك ثم لم يمنعك ذلك من الرحمة لي والاحسان الي والتفضل علي بجودك وكرمك .. » .
فعلينا ان نقرأ الادعية المروية عن المعصومين ( عليهم السلام ) ونناجي الله سبحانه وتعالى بها ونتأمل فقرات الادعية ونتدبر فيها ونعايشها فانها تراث عظيم علمنا به ائمتنا ( عليهم السلام ) اللغة التي يجب ان نتفاهم بهما مع الله ، لان الانسان يعجز ان يدعو ربه كما يليق بالرب العظيم ، واقرب مثال لذلك تعالى الله عن الامثال انك عندما تريد ان تذهب الى شخصية مهمة قبل ان تذهب تسأل الاخرين عن كيفية التحدث وماذا تقول له ؟ وكثير من

معرفة النفس 117

الناس كما تعلمون عندما يريد ان يكتب رسالة الى حاكم او سلطكان فانه يكتبها بعد تمعن وتفكير او يستعين بمن يعرف كيفية كتابة الرسائل الرسيمة حيث انها تحتاج الى لفاظ مهذبة وموزونة وكلام مضبوط ، والائمة ( عليهم السلام ) يعلموننا كيفية التخاطب مع الله ومناجات الرب سبحانه وتعالى ، فلنتدبر فيها ، فانها تكرس في نفوسنا حب الل وتقديره .
2 ـ النوافل وقيام الليل :


اواخر الليل وقرب الفجر من الذ اوقات النوم والراحة ، فحتى الذين يسهرون اوائل الليل لا يستطعيون مقاومة جاذبية النوم اواخره ، اما النائم فعمق نومه وذروته يكون في هذه الفترة ...
ولا يغادر الانسان فراش نومه ويتخلى عن راحته في هذا الوقت الا لامر لازم ومهم كالام التي تهب لارضاع طفلها ورعايته مقاومة اغراء الراحة وجاذبية النوم ويعتبر ذلك من المظاهر المهمة لعطف الامومة والتضحية من اجل الولد .. او حينما يحدث شيء طارىء للانسان يضطره للسهر في ذلك الوقت ..
ولكن الانسان المؤمن يقوم من طوعه واختياره تاركاً نومه وراحته ليس استثناء وفي بعض الليالي وانما هو برنامجه الليلي الثابت .. فحين يغط الناس في سبات عميق ويلف الظلام الحياة والاشياء ويسيطر الهدوء والسكون على الاجواء وقبل ان تبدأمعركة خطيوط نور الفجر مع ظلمة الليل يكون المؤمن على موعد مع الله للخلوة به ومناجاته ..
انه لقاء الهي خاص لا يحظى به الا المحبون لله الصادقون في حبهم .. وهل يكون صادقاً في حبه من يرفض اللقاء والخلوة بحبيبه .. يقول الله تعالى في حديث قدسي اوحاه الى نبيه موسى بن عمران ( عليه السلام ) :

معرفة النفس 117

« يا ابن عمران ! لو رأيت الذين يصلون لي في الدجى ، وقد مثلت نفسي بين اعينهم ، وهم يخاطبوني ـ وقد جليت عن المشاهدة ـ ويكلمونني ـ وقد تعززت عن الحضور ـ .
يا ابن عمران ! كذب من زعم : انه يحبني ، فاذا جنه الليل نام عيني ، اليس كل محب يحب خلوة حبيبه ؟ (1) .
ولصلاة الليل وقيام السحر فضل كبير وشأن عظيم تتحدث عنه الايات والروايات وهذه لقطات منها :
ـ قال تعالى : « ان ناشئة الليل هي اشد وطأ واقوم قيلا » (2) ،
فقد يكون سهلاً على الانسان في غمرة نشاطه اليومي اداء عدة ركعات ولكن ان يفارق فراش نومه في اعز اوقات الراحة والنوم ليؤدي صلاة الليل انها اشد وطأ على النفس وهي بذلك اصدق مظهر للايمان .
ـ ومن ابرز صفات المتقين التي استحقوا بها نعيم الجنة احياء الليل بالعبادة ومناجاة الله في السحر يقول تعالى :
« ان المتقين في جنات وعيون * آخذين ما آتاهم ربهم انهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالاسحار هم يستغفرون » (3) .
ـ وعن النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « خير وقت دعوتم الله فيه الاسحـار » (4) .

(1) كلمة الله : ص 270 .
(2) سورة المزمل : ـ 7 .
(3) سورة الذاريات : 15 ـ 18 .
(4) سفينة البحار : ج 1 ص 604 .
معرفة النفس 119

ـ وعنه ( صلى الله عليه وآله ) : « ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل خير له من الدنيا وما فيها ولولا ان اشق علي امتي لفرضتها عليهم » (1) .
ـ وقال ( صلى الله عليه وآله ) : « عليكم بقيام الليل فانه دأب الصالحين قبلكم وان قيام الليل قربة الى الله تعالى وتكفير للذنوب ومطردة للداء عن الجسد ومنهاة عن الاثم » (2) .
فالله الغفور الرحيم ينظر الى عبده قائماً بين يديه في جنح الظلام يسأله العفو عن ذنبه الا يغفر له ؟ بلى ان قيام الليل تكفير للذنوب وخلافاً لما يظنه الانسان من اصابه جسمه بالتعب والعناء لقيام الليل فان الحديث الشريف يعتبره سبباً للصحة وازالة المرض « مطردة للداء عن الجسد » ومن يغسل قلبله بالتوبة كل ليلة بين يدي الله ويحاسب نفسه على ماعمل هل يقترب نحو الاثام والذنوب ؟ كلا ان قيام الليل منهاة عن الاثم .
وفي وصيته ( صلى الله عليه وآله ) لابي ذر الغفاري ( رضوان الله عليه ) قال : « وصل ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور » (3) .
ان يعمر ظلام الليل بعبادة الله ويشق سكونه الموحش بمناجاة الله فان الله الكريم سيكافئه بانارة قبره ورفع الوحشة عنه هناك .. فهل فكرنا في ظلمة قبورنا ووحشتها ؟ وهل نسعى لاضاءة الشموع في لحودنا ؟ ولتوفير اجواء المسرة والانس فيها ؟ ان كل ركعة نصليها في جوف الليل في حياتنا نوقد بها شمعة نور في قبورنا .. وان كل مناجاة تخشع بها قلوبنا في عتمة السحر ستصبح منبع راحة وهناء لنا تحت طبقات الارض بعد الموت ..
ـ ولمحبة الله لعبده المؤمن ورغبته في لقائه فانه يوجه له العتاب الشديد ان

(1) المحجة البيضاء : ج 1 ص 388 .
(2) (3) المصدر السابق : ص 389 .
معرفة النفس 120

تغيب ليلة عن حضور اللقاء .. كما يعاتب الواحد منا صديقه العزيز عليه ان تأخر عن اجابة دعوته .. فقد روى ان نبي الله يحيى بن زكريا ( عليه السلام ) شبع ليلة من خبز شعير فنام عن ورده حتى اصبح فاوحى الله اليه : يا يحيى اوجدت داراً خيراً لك من داري ؟ اوجدت جواراً خيراً لك من جواري ؟ .
فوعزتي يايحيى لو اطلعت الى الفردوس اطلاعة لذاب شحمك ولزهقت نفسك اشتياقاً ، ولو اطلعت الى جهنم اطلاعة لذاب شحمك ولبكيت الصديد بعد الدموع ولبست الحديد بعد المسوح » (1) .
ـ ولا يكفي المؤمن بقيامه هو وحده بل يشجع عائلته على قيام ليشركهم في برنامجه الروحي ، وليريبهم على العبادة والخضوع يقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « من استيقظ من الليل وايقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات » (2) .
ـ واذا كان مقياس الوجاهة والشرف في دنيا المادة القدرة المالية للانسان وقربه من مواقع السلطة والحكم فان مستوى شرف المؤمن ووجاهته عند الله مدى تبتله لله في جوف الليل فقد قال جبرئيل ( عليه السلام ) في موعظته لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « شرف المؤمن صلاته بالليل » (3) .
ـ روى فضيل بن يسار عن الامام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : « ان البيوت التي يصلي فيها بالليل بتلاوة القرآن، تضيء لاهل السماء كما تضيء نجوم السماء لاهل الارض » (4) .
ما اعظم كرم الله واجل لطفه انه يدعونا لعبادته ثم يوفقنا لاداء تلك

(1) (2) (3) المصدر السابق : ص 390 .
(4) المصدر السابق : ص 392 .
معرفة النفس 121

العبادة ثم يجعل لتلك العبادة التي دعانا لها ووفقنا بمنه اليها قيمة وفضلاً عظيماً فسبحان الرب الكريم ..
اما لماذا يكون لقيام الليل هذا الفضل العظيم والعطاء الكبير فيمكننا استنتاج النقاط التالية :
اولاً : ان قيام الليل يوفر للانسان افضل فرصة لمحاسبة ذاته ولمراجعة اعماله ولاتخاذ القرارات الصائبة .
ثانياً : هدوء الليل وسكونه يساعد الانسان على الخشوع والتوجه الخالص لله دون ان تستقطب اهتماماته المشاغل الاخرى .
ثالثاً : انه انتصار لارادة الانسان على شهواته التي تدعوه الى الراحة والكسل وتدريب للنفس على الاستجابة لاوامر الله مهما كان الظروف .
ولكن كيف يتوفق الانسان للحصول على هذا الفضل والشرف وما هي العوامل التي تساعد الانسان لكي ينال هذا الوسام العظيم ؟
1 ـ التوجه الالهي : حينما تسيطر المادة على نفس الانسان وتفكيره ويهيم بمكاسبها ولذاتها فان ذلك سيكون على حساب الجانب المعنوي والروحي مما يضعف اندفاع الانسان نحو العبادات اما اذا كان قلبه مطمئناً بذكر الله ونفسه متوجهة الى عظمته فان العبادة وقيام الليل سيكون جزءاً لا يتجزأ من برنامج حياته بل تصبح اعز برامج حياته لديه .
فالمؤمنون الذين اطمأنت قلوبهم بذكر الله وانشرحت لانوار قدسه يجدون في العبادة وقيام الليل لذة لاتعد لها لذة ومتعة تتضاءل دونها كل شهوات الدنيا ومتعها .
قال احدهم : اذا غربت الشمس فرحت بالظلام لخلوتي بربي واذا

معرفة النفس 122

طلعت حزنت لدخول الناس علي .
وقال آخر : اهل الليل في ليلهم الذ من اهل اللهو في لهوهم ولولا الليل ما احببت البقاء في الدنيا .
وقال بعض العلماء : لذة المناجاة ليس في الدنيا ، انما هو من الجنة اظهرها الله لاوليائه لايجدها سواهم .
فلنتوجه الى الله ولنعمر قلوبنا بحبه وعشقه والشوق الى رضوانه . ولنهتف دائماً وابداً بالفقرات الواردة في اواخر دعاء كميل :
« واجعل لساني بذكرك لهجا ، وقلبي بحبك متيما » .
2 ـ معرفة فضل صلاة الليل وقيامه من خلال الايات والروايات وكلمات الاولياء وسيرة الصالحين .. ففي قضايانا المادية نحن ندرك اثر الدعاية والتشجيع في ايجاد الرغبة نحو الامور والاشياء وكذلك الحال في القضايا الروحية المعنوية على الانسان ان يرغب نفسه بالاطلاع الدائم على الاحاديث والنصوص التي تذكر فضل الاعمال الروحية والعبادات الالهية .. ويجب الاستفادة من مختلف الوسائل لتشويق الناس الى العبادة ..
3 ـ خفة المعدة : فاذا تناول الانسان طعاماً كثيراً او ثقيلاً فان سيطرة النوم عليه ستكون اكثر .. اما اذا نام خفيف المعدة فيستطيع النهوض واليقظة بسهولة .. قال احد العباد لتلاميذته : « لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فترقدوا كثيراً فتخسروا عند الموت كثيراً » .
4 ـ قراءة حياة الاولياء ومواقف تهجدهم في جوف الليل لتشجيع الانسان على الاقتداء بهم وتقليدهم في عبادتهم ومناجاتهم ولنذكر موقفاً واحداً من المواقف التي سجلتها لنا ذاكرة التاريخ لعبادة احد الاولياء الطاهرين وهو الامام زين العابدين علي بن الحسين ( عليه السلام ) :

معرفة النفس 123

يقول طاؤوس الفقيه : « رأيت علي ابن الحسين يطوف بالكعبة من العشاء الى السحر ويتعبد ، فلما لم ير احدا رمق السماء بطرفه وقال :
« الهي غارت نجوم سماواتك ، وهجعت عيون انامك ، وابوابك مفتحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد ( صلى الله عليه وآله ) في عرصات القيامة .
ثم بكى وقال :
« وعزتك وجلالك ما اردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك اذ عصيتك وانا بك شاك ، ولا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرض ، ولكن سولت لي نفسي ، واعانني على ذلك سترك المرخي به علي ، فالان من عذابك من يستنقذني ؟ وبحبل من اعتصم ان قطعت حبلك عني ؟ فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يديك ، اذا قيل للمخفين جوزوا ، وللمثقلين حطوا ، امع المخفين اجوز ؟ ام مع المثقلين احط ؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم اتب ، اما آن لي ان استحي من ربي ؟ !
ثم بكى وانشأ يقول :
اتحرقني بالنار ياغاية المنى فاين رجائي ثـم اين محبــتي
اتـيت باعمال قباح زرية ومافي الورى خلق جنى كجنايتي

سبحانك تعصى كأنك لاترى ، وتحلم كأنك لم تعص ، تتودد الى خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة اليهم ، وانت ياسيدي الغني عنهم . ثم خر الى الارض ساجداً .

معرفة النفس 124

قال طاؤوس : فدنوت منه وشلت برأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خده ، فاستوى جالساً وقال :
من الذي اشغلني عن ذكر ربي ؟
فقلت : انا طاؤوس يا ابن رسول الله ماهذا الجزع والفزع ؟ ونحن يلزمنا ان نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون ، ابوك الحسين ابن علي ، وامك فاطمة الزهراء وجدك رسول الله ؟ !!
فالتفت الي وقال : هيهات هيهات يا طاؤوس دع عنك حديث ابي وامي وجدي خلق الله الجنة لمن اطاعه واحسن ، ولو كان عبداً حبشياً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشياً اما سمعت قوله تعالى : « فاذا نفخ في الصور فلا انساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون » ؟ والله لا ينفعك غدا الا تقدمة تقدمها من عمل صالح (1) .
* ماذا نجني من حب الله ؟


اذا توثقت عرى المحبة بين العبد وربه فاز العبد بسعادة الدنيا والاخرة ، فقلبه يصبح نقياً وروحه صافية وطاهرة وتفكيره صائباً واعماله موفقة وارادته قوية هذا في الدنيا اما في الاخرة فلا يمكن وصف مايناله من خير وسعادة .. ونكتفي بالحديثين التاليين لمعرفة نتائج محبة الله سبحانه وتعالى .
فعن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ما تحبب الى عبدي بشيء احب الي مما افترضته عليه وانه يتحبب الى بالنافلة حتى احبه ، فاذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، اذا دعاني اجبته ، واذا سألني

(1) البحار : ج 46 ص 81 .
معرفة النفس 125

اعطيته » (1) .
وعن الامام الصادق ( عليه السلام ) : « ان اولى الالباب الذين عملوا بالفكرة حتى ورثوا منه حب الله فان حب الله اذا ورثه القلب واستضاء به اسرع اليه اللطف ، فاذا نزل اللطف صار من اهل الفوائد ، فاذا صار من اهل الفوائد تكلم بالحكمة واذا تكلم بالحكمة صار صاحب فطنة » (2) .
* الذين يحبهم الله سبحانه


هناك صفات معينة للاشخاص الذي يحبهم الله سبحانه وتعالى ويجلهم ، وقد عددها القرآن الكريم ، نذكرها اتماما للفائدة ومعرفة لتلك الصفات من اجل ان نتحلى بها ونتقمصها في شخصياتنا .
فما عسى ان تكون هذه الصفات ؟
قال تعالى :
« ان الله يحب المحسنين » (3) .
« ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين » (4) .
« فان الله يحب المتقين » (5) .
« والله يحب الصابرين » (6) .
« ان الله يحب المتوكلين » (7) .

(1) البحار : ج 70 ص 22 .
(2) البحار : ج 70 ص 25 .
(3) (4) سورة البقرة : ـ 195 / ـ 222 .
(5) (6) سورة آل عمران : ـ 76 / ـ 146 .
(7) سورة آل عمران : ـ 159 .
معرفة النفس 126

« ان الله يحب المقسطين » (1) .
« ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص »(2) .
* الذين لايحبهم الله سبحانه


كما ان هناك صفات سيئة يحرم الانسان بسببها من حب الله تعالى عدد القرآن الحكيم منها :
« ان الله لايحب المعتدين » (3) .
« والله لايحب كل كفار اثيم » (4) .
« والله لايحب الظالمين » (5) .
« ان الله لايحب من كان مختالاً فخوراً »(6) .
« ان الله لايحب من كان خواناً أثيما »(7) .
« والله لايحب المفسدين » (8) .
« انه لايحب المسرفين » (9) .
« ان الله لايحب الخائنين» (10) .

(1) سورة المائدة : ـ 42 .
(2) سورة الصف : ـ 64 .
(3) (4) سورة البقرة : ـ 190 / ـ 276
(5) سورة آل عمران : ـ 57 .
(6) (7) سورة النساء : ـ 36 / ـ 107 .
(8) سورة المائدة : ـ 64 .
(9) سورة الانعام : ـ 141 .
(10) سورة الانفال : ـ 58 .
معرفة النفس 127

« انه لايحب المستكبرين » (1) .
« ان الله لايحب الفرحين » (2) .
* تشجيع الناس على حب الله


من اجل ان يطبق الناس التعاليم الالهية وينقادون الى توجيهات الله سبحانه وتعالى ويضحون من اجله فلا بد ان نحبب الله لهم ونغرس حبه في افئدتهم حتى ينطلقوا بزخم عظيم الى العمل والجهاد وبرغبة وشوق ، وقد وردت احاديث كثيرة تحثنا على تحبيب الناس الى الله سبحانه وتعالى وتشجيعهم ودفعهم نحو الاقتراب منه سبحانه .
فعن الامام الرضا عن آبائه ( عليهم جميعاً السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) اوحى الله عز وجل على نجيه موسى : احببني وحببني الى خلقي ! قال : يا رب هذا احبك فكيف احببك الى خلقك ؟ قال اذكر لهم نعماي عليهم وبلاي عندهم ، فانهم لايذكرون او لايعرفون مني الا كل الخير » (3) .
وعن ابي جعفر ( عليه السلام ) قال : اوحى الله تعالى الى موسى ( عليه السلام ) : احببني وحببني الى خلقي قال موسى : يارب انك لتعلم انه ليس احد احب الي منك فكيف لي بقلوب العباد ؟ فاوحى الله اليه فذكرهم نعمتي وآلائي فانهم لايذكرون مني الا خيراً » (4) .
وعن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : قال الله عز وجل لداود ( عليه السلام ) : احببني وحببني الى خلقي ! قال رب نعم انا احبك فكيف احببك الى خلقك ؟ قال : اذكر ايادي عندهم فانك اذا ذكرت ذلك لهم احبوني (5) .

(1) سورة النحل : ـ 23 .
(2) سورة القصص : ـ 76 .
(3) (4) البحار : ج 70 ص 18 .
معرفة النفس 128

لابد من تذكير الناس بنعم الله التي ينسونها في غمرة تمتعهم بها وهذه رسالة يجب ان يقوم بها كل محب لله سبحانه وتعالى ، فلا يكفي ان نتحدث في خطاباتنا وكتاباتنا عن الجانب العقلي والنظري للدين واحقيته ، وليس فقط نتحدث للناس عن القضايا السياسية والاحداث اليومية بل نتحدث لهم ايضا عما يحبب الله لهم ونعرفهم واجباتهم تجاه باريهم ومصورهم وعن مصيرهم وآخرتهم .



السابق السابق الفهرس التالي التالي