القرآن الكريم يصف لنا هذه الحالة ويقول عز من قائل : «فلما ان جاء البشير القاه على وجهه فارتد بصيرا قال الم اقل لكم اني اعلم من الله ما لا تعلمون * قالوا يا ابانا استغفر لنا ذنوبنا انا كنا خاطئين * قال سوف استغفر لكم ربي انه هو الغفور الرحيم» .
  
هذه المعجزة الغريبة ، جعلت اولاد يعقوب يعودون الى انفسهم ويتساءلون عنها ويفكرون في ماضيهم الاسود المليء بالذنوب والاخطاء والحسد . ولكن ما اجمل التوبة والعودة الى الله والى طريق الصواب ، حينما ينكشف للانسان خطأه ، وما احلى تلك اللحظات التي يتمكن بها المذنب ويحاول ان يطلب العفو ممن جنى عليه ، ليطهر به نفسه ويبعده عن جادة الخطأ والانحراف وذلك قبل فوات الاوان ... .
 
مع وصول القافلة التي تحمل اعظم البشائر من مصر الى كنعان ، ومع عودة البصر الى يعقوب ، ارتفعت اهازيج الفرح والسرور في بيت يعقوب وذهب عنهم الحزن والاسى ، وتجهز اهل هذا البيت للسفر الى مصر ـ حسب وصية يوسف ـ وتهيأت مقدمات السفر من جميع النواحي ، وركب يعقوب على راحلته وشفتاه لا تهدأ من ذكر الله وتمجيده وتحميده ، وتحركت القافلة نحو مصر تطوي الليالي والايام ، وكانت كل دقيقة تمر عليهم تحسب بيوم لشدة شوق الوصال .
واخيرا تحقق الحلم :
 
ولاحت معالم مصر وابنيتها من بعيد ، بمزارعها الخضراء واشجارها الباسقة ، وعماراتها الشاهقة .
  
 واخيرا تحققت احلى سويعات الحياة ليعقوب عندما دخل على يوسف واحتضنه ، ولا يعلم الا الله ما كانت لديهما من احاسيس في تلك اللحظات الحلوة ، واية دموع انسكبت من عينيهما من الفرح .
 
وعندها التفت يوسف الى اخوته وابويه وقال لهم : ادخلوا مصر ، لانها اصبحت تحت حكم يوسف في امن وامان ، لان يوسف كان قد خرج الى خارج المدينة لاستقبال والديه واخوته .
 
فلما دخلوا القصر رفع ابويه على العرش واكرمهم وقدرهم ، وهم في المقابل شكروا الله وحمدوه وسجدوا لله شكرا وتعظيما .
 
ثم التفت يوسف الى ابيه يعقوب وقال له : «يا ابت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد احسن بي اذ اخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد ان نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي ان ربي لطيف لما يشاء انه هو العليم الحكيم»(1) .
 
انتهت قصة يوسف عليه السلام مع ابيه واخوته بكل دروسها وعبرها التربوية ، وختم الله ليعقوب عليه السلام حياته بالخير والسعادة ، وليوسف عليه السلام بالبركة والملك والسلطان ، ولاخوته بالمغفرة والرضوان ، واجتمعت العائلة الكريمة بعد النجاح من هذا الامتحان الصعب ، تحت شوق واحد وقلوبهم مطمئنة ومملوئة بالايمان والعشق الالهي .
  
روي انه لما مات عزيز مصر زوج زليخا وكان ذلك في السنين الجدبة
 
 وايام المجاعة ، افتقرت امراة العزيز ـ زليخا ـ وهرمت واحتاجت الى المساعدة حتى سألت البعض ، فقالوا لها : لو قعدت للعزيز يوسف وطلبتي منه المساعدة ، قالت : استحي منه ، فلم يزالوا بها حتى قعدت له في الطريق ، فاقبل يوسف في موكبه ، فقامت اليه وقالت :  
الحمد لله الذي جعل الملوك بالمعصية عبيدا ، وجعل العبيد بالطاعة ملوكا .
 
فقال لها يوسف ، وهي هرمة : ألست فعلت بي كذا وكذا ؟ اي ولماذا فعلت كذا وكذا .
 
فقالت : لا تلمني يا نبي الله ، فاني بليت بثلاثة لم يبل بها احد ، قال : وماهي ؟
 
قالت : بليت بحبك ولم يخلق الله لك نظيرا ، وبليت بحسني بانه لم تكن بمصر امراة اجمل مني ولا اكثر مالا ، وبليت بان زوجي كان محصورا بفقد الحركة ـ يعني عنّينا ـ .
 
فقال لها يوسف : ما حاجتك ؟
 
قالت : تسال الله ان يرد علي شبابي ، فسال الله ، فرد عليها شبابها فتزوجها وهي بكر .
  
روي انه كان عمر يوسف لما القي في البئر سبع سنين وقيل : عشر سنين وقيل غير هذا ، ولما اجتمع مع ابيه كان عمره اربعين سنة .(1)
 
وعاش يوسف بعد موت يعقوب عليهما السلام ثلاث وعشرين سنة ، ومات يوسف
 
 وهو ابن مائة وعشرين سنة . (1)  
وروي ان يوسف عليه السلام لما مات دفنوه في النيل في صندوق من رخام ، وذلك انه لما مات تشاجر الناس عليه ، كل يقول يجب ان يدفن في محلته ، لما كانوا يرجون بركته ، وبعد ذلك هموا ان يدفنوه في النيل فيمر الماء عليه ثم يصل الى جميع اراضي مصر ، فيكون كلهم فيه شركاء وفي بركته سواء ، فكان قبره في النيل .
 
وكان قد اوصى يوسف علمائه لما حضرته الوفاة ان ينقلوا عظامه معهم اذا خرجوا مع موسى عليه السلام من مصر الى فلسطين . فلما اراد موسى الخروج من مصر مع علمائه سال عن قبر يوسف ، قالوا له ان عجوز من بني اسرائيل تعلم قبره ، فبعث اليها موسى فاتته فقال : دليني على قبر يوسف ، فقالت : لا اخبرك حتى تعطيني اربع خصال ، تطلق رجلي ، وتعيد الي بصري ، وشبابي ، وتجعلني معك في الجنة ، فكبر ذلك على موسى فاوحى الله تعالى اليه ان اعطها ما سالت ، ففعل ، فانطلقت بهم الى موضع عين في مستنقع ماء فاستخرجوه من شاطئ النيل في صندوق من مرمر ، فلما حملوا التابوت ، طلع القمر واضاء الطريق مثل النهار فاهتدوا به وحملوه(2) معهم ودفنوه مع آباءه في فلسطين .
 
واما يعقوب عليه السلام روي انه عاش مائة وسبعا واربعين سنة ، ودخل مصر على يوسف وهو ابن مائة وثلاثين سنة ، وكان عند يوسف بمصر سبعة عشر سنة ، وقيل : اربعا وعشرين سنة ثم توفي بمصر ، ونقل جسده الى بيت المقدس في تابوت من ساج .
 
 
 
 
  
كان يوسف يبكي من شدة اللكمات والضربات من اخوته ، ولما ارادوا ان يلقوه في البئر اخذ يضحك ، فتعجب اخوته وسالوه عن سبب الضحك فقال :
 
عندما نظرت الى عضلات ايديكم القوية وقواكم الجسدية الخارقة فسررت وقلت في نفسي : ما عسى ان يخشى ويخاف من الحوادث والملمات من كان عنده مثل هؤلاء الاخوة ، فاعتمدت عليكم وربطت قلبي بقواكم ، والآن  وقد اصبحت اسيرا بين ايديكم واستجير بكم من واحد لآخر فلا اجار ، وقد سلطكم الله علي لاتعلم هذا الدرس ، وهو الا اعتمد واتوكل على احد سوى الله عز وجل ، حتى ولو كانوا اخوتي .
  
عندما استقر يوسف في قعر البئر انقطع امله من كل شيء ، وتوجه بكل وجوده الى الله عز وجل ودعاه بهذا الدعاء :
 
«اللهم يا مؤنس كل غريب ، ويا صاحب كل وحيد ، ويا ملجا كل خائف ، ويا كاشف كل كربة ، ويا عالم كل نجوى ، ويا منتهى كل شكوى ، ويا حاضر كل ملأ ، يا حي يا قيوم ، اسالك ان تقذف رجائك في قلبي ، حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك ، وان تجعل لي من امري فرجا ومخرجا ، انك على كل شيء قدير .
  
وقول يوسف لزليخا عزيزة مصر عندما قالت له هيت لك : «قال معاذ الله انه ربي احسن مثواي» علمنا درسا وقال :
  
ان في مثل هذه الظروف الصعبة ، لا سبيل الى النجاة من وساوس الشيطان واغراءاته ، الا بالالتجاء الى الله ، الله الذي لا فرق عنده بين السر والعلن ، بين الخلوة والاجتماع ، فهو مطلع ومهيمن على كل شيء ، وموجود في كل مكان .
  
هناك رواية يستفاد منها انه كان في قصر امراة العزيز صنم تعبده ، وفجاة وقعت عيناها عليه ، عندما ارادت ان تراود يوسف ، فانها احست بالصنم ينظر اليها والى حركاتها الخيانية ، فنهضت في غضب والقت عليه سترا ، فاهتز يوسف لهذا المنظر .
 
وقال : انت ايها الصنم الذي لا تملك عقلا ولا شعورا ولا احساسا تستحي منك العزيزة ! ، فكيف لا استحي من ربي الخبير بكل شيء ، والذي لا تخفى عليه خافية .
 
فهذا الاحساس منح يوسف قوة جديدة ، واعانه على الصراع الشديد في اعماق نفسه بين الغريزة والعقل ، ليتمكن من التغلب على امواج الغريزة النفسية .
  
نحن نعرف ان اعظم الجهاد في الاسلام هو جهاد النفس ، الذي عبر عنه في حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بـ «الجهاد الاكبر» وجهاد العدو الذي عبر عنه ـ بالجهاد الاصغر ـ ، وقصة يوسف ، وما كان من عشق امراة العزيز الملتهب ، واحد من هذه الصور الجهادية بالنسبة الى يوسف عليه السلام .
 
لقد انتصر يوسف عليه السلام في هذا الصراع بوجه مشرق ابيض لثلاثة اسباب :
 
الاول : انه التجأ الى الله واستعاذ به ، وقال : «معاذ الله» .
  
الثاني : لاحظ نعم الله التي لا تحصى والتي انقذته من غيابة الجب الموحشة ، واوصلته الى محيط الامان والهدوء ، وجعلته يفكر في ماضيه ومستقبله ، ولا يستسلم للتيارات العابرة .
 
الثالث : بناء شخصيته وعبوديته المقرونة بالاخلاص التي عبر عنها القرآن الكريم «انه من عبادنا المخلصين» .
 
وهذا درس كبير لجميع الناس الاحرار الذين يريدون ان ينتصرون على عدوهم الخطير في ميادين جهاد النفس .
  
روي عن ابي عبد الله الصادق عليه السلام قال : «جاء جبرئيل عليه السلام فقال : يا يوسف من جعلك احسن الناس ؟ قال : ربي .
 
قال : فمن حببك الى ابيك دون اخوتك ؟ قال : ربي .
 
قال : فمن ساق اليك السيارة ؟ قال : ربي .
 
قال : فمن صرف عنك الحجارة ؟ قال : ربي .
 
قال : فمن انقذك من الجب ؟ قال : ربي .
 
قال : فمن صرف عنك كيد النسوة ؟ قال : ربي .
 
قال فان ربك يقول : ما دعاك الى ان تنزل حاجتك بمخلوق دوني ؟ البث بالسجن بما قلت بضع سنين .
 
وذلك قول يوسف الى صاحبه في السجن عندما خرج : «اذكرني عند ربك» استغاث بالمخلوق دون الخالق .
 
  
في بعض من الاحيان تكون الهزيمة انتصارا ، وهذه الهزائم تكون سبب لانتصار الانسان معنويا وحتى ماديا وتكون سببا لليقظة .
 
فامراة العزيز ـ زليخا ـ اصبحت في عملها مبتلاة باشد الهزائم ، ولكن هذه الهزائم كانت سببا لان تنتبه ويتيقظ وجدانها النائم ، وان تندم على ما فات من عملها ، والتفتت الى ساحة الله ، وقالت عندما التقت بالعزيز يوسف : «الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته ، وجعل الملوك عبيدا بمعصيته» .
 
السعداء هم اولئك الذين يصنعون من الهزائم انتصارا ، ومن سوء الحظ حظا حسنا ، ومن اخطائهم طريقا صحيحا للحياة .
  
لماذا لم يعرّف يوسف نفسه لاخوته ، حتى يقفوا على حقيقة حاله ويرجعوا الى ابيهم ويخبرونه عن مصير يوسف ، وبذلك تنتهي آلامه لاجل فراق يوسف ، وكان قد مر ثمان سنوات على تحرير يوسف من السجن عندما التقى باخوته في المرة الاولى ؟
 
ولماذا لم يبعث يوسف الى ابيه ويخبره بما وصل اليه من عز قبل ان ياتي اخوته .... . ؟
 
حاول جمع من المفسرين الاجابة على هذه الاسئلة ، ولعل احسنها واقربها ، هو :
 
ان يوسف لم يكن مجازا من قبل الله عز وجل في اخبار ابيه ، لان قصة يوسف مع غض النظر عن خصائصه الذاتية كانت ساحة لاختبار يعقوب وامتحانه ، فلابد من ان يؤدي يعقوب امتحانه ويجتاز فترة الاختبار قبل ان
 يسمح ليوسف باخباره . 
  
هناك اقوال مختلفة في انه من هو الشاهد الذي ختم ـ ملف يوسف وامراة العزيز ـ بسرعة واوضح البريء من المسيء بجلاء !
 
قال البعض : هو احد اقارب امراة العزيز ، وكلمة من «اهلها» في «شهد شاهد من اهلها» .. ويقال ان هذا الرجل كان ايضا من مشاوري عزيز مصر وكان معه حينما دخل البيت ، وكان رجل حكيم وعارف بحيث استطاع بسرعة ان يعرف من المعتدي وذلك من قميص يوسف الذي قد من دبر ...
 
القول الآخر : ان الشاهد كان طفلا رضيعا من اقارب العزيزة ، وكان على مقربة من الحادث ، وكان يوسف قد طلب من عزيز مصر ان يحتكم الى هذا الطفل ، فانطقه الله وتكلم ـ كما تكلم المسيح في المهد ... .
 
وهناك احتمالات اخرى ولكن هذان القولان اقوى من البقية والله العالم .
  
الدرس الآخر المهم الذي نتعلمه من قصة يوسف ، هو حماية الله ورعايته الواسعة والطافه الخفية للانسان وفي اشد الحالات ، حيث يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ـ ويكون ذلك القميص المبارك اكبر عون ومدرك للعزيز يوسف عليه السلام ، ذلك القميص الذي يصنع العجائب ، وفيه ثلاث آيات وهي :
 
يكون يوما يفضح اخوة يوسف لانهم جاؤوا اباهم ملطخا بدم كذب وهو غير ممزق «وجاؤوا على قميصه بدم كذب» .
 
ويوما يفضح امراة العزيز ، لانه قد قدّ من قبل : «ان كان قميصه قد من
 قبُل» .  
ويوما آخر يكون واهبا البصر والنور ليعقوب : «اذهبوا بقميصي هذا فالقوه على وجه ابي يأت بصيرا» وعلى كل حال فان لله الطافا خفية ، غير مطلع على عمقها احد ، وحين يشاء الله تتغير المسارح بشكل لا يمكن حتى لاذكى الافراد ان يتنبأ عنها : ...
  
يستفاد من الآية المباركة في قول يوسف عليه السلام عندما اظهر اخوته الندامة له : «يغفر الله لكم» وفي قول يعقوب عليه السلام لابنائه عندما اعترفوا بالذنب وطلبوا منه الاستغفار قال : «سوف استغفر لكم ربي ...» ، يستفاد ان طلب الاستغفار من الآخرين جائز وغير مناف للتوحيد ، ـ كما يتصور البعض ـ بل هو سبيل الى الوصول الى لطف الله سبحانه ، والا فكيف يمكن ليعقوب ان يستجيب لطلب ابنائه في ان يستغفر لهم وان يجيبهم جوابا مثبتا على توسلهم به .
 
وهذا الامر يدل على ان التوسل باولياء الله جائز ... .
  
روي انه لما ارادت امراة العزيز مراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وتشوقه الى نفسها ، وهو يردها ويعضها ، ونحن هنا نذكر هذه المحاورة التي دارت بينهما كي نتعض بها :
 
قالت : يا يوسف ما احسن شعرك ؟ قال : هو اول شيء يبلى اذا مت .
 
قالت : يا يوسف ما احسن وجهك ؟ قال : ربي تعالى صورني في الرحم ، وقال : التراب ياكله .
  
قالت : يا يوسف قد انحلت جسمي بصورة وجهك ؟ قال : الشيطان يعينك على ذلك .
 
قالت : يا يوسف الجنينة قد التهبت نارا قم فاطفئها ؟ فقال : ان اطفاتها فمنها احتراقي .
 
قالت : يا يوسف الجنينة قد عطشت قم فاسقها ؟ قال : فمن كان المفتاح بيده فهو احق ان يسقيها مني .
 
قالت : يا يوسف بساط الحرير قد بسط لك قم فاقضي حاجتي ؟ قال : اذا يذهب نصيبي من الجنة .
 
قالت : يا يوسف ادخل معي تحت الستر فاسترك به ؟ قال : ليس شيء يسترني من ربي تعالى ان عصيته .
 
قالت : يا يوسف ضع يدك على صدري تشفني بذلك ؟ قال : سيدي احق بذلك مني .
 
قالت : يا يوسف ما احسن عينيك ، قال : هما اول ما يسيل في الارض من جسدي .
 
قالت : اما سيدك فأسقيه كاسا فيه زئبق الذهب فيتناثر لحمه ، ويتساقط عظمه ، ثم القيه في استبرق والقيه في المخدع لا يعلم به احد من الناس ، واوليك ملكه قليله وكثيره .
 
قال : فان الجزاء يوم الجزاء .
 
قالت : يا يوسف اني كثيرة الدر والياقوت والزمرد فاعطيك ذلك كله حتى تنفقه في مرضاة سيدك الذي في السماء ...
 
فابى يوسف .
 
  
روي ان يعقوب عليه السلام لما دخل مصر وراى يوسف ومملكته ، فكان يطوف يوما من الايام في خزائنه ، فراى خزانة مملوءة قراطيس بيضاء ، فقال له : يا بني لقد تغيرت بعدي ، لك كل هذه القراطيس وما حملت بطاقة منها تكتب الي كتابا .
 
فقال يوسف : هذه القراطيس كلها لك ، كنت كلما زاد شوقي وكثر حنيني آخذ ورقة حتى اكتب اليك يا ابت فيمنعني جبرئيل ان اكتب اليك فاتركها في هذه الخزانة حتى بلغت هذا المبلغ .
 
فسال يعقوب جبرئيل عن ذلك ، فقال : منعني ربي .
 
فسال الله عن ذلك ، فاوحى الله اليه : لانك قلت اخاف ان ياكله الذئب ، فهلا خفتني ؟ هذه العقوبة لاجل تخوفك من غيري .
  
ومن دعاء يوسف عليه السلام للفرج ، وضع خده على الارض ثم قال :
 
«اللهم ان كانت ذنوبي قد اخلقت وجهي عندك ، فاني اتوجه اليك بوجه آبائي الصالحين : ابراهيم ، واسماعيل ، واسحاق ، ويعقوب ، ففرج الله عنه .
 
فقيل لابي عبد الله عليه السلام : جعلت فداك اندعوا نحن بهذا الدعاء ؟ فقال : ادع بمثله : «اللهم ان كانت ذنوبي قد اخلقت وجهي عندك فاني اتوجه اليك بنبيك نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين والائمة عليهم السلام» ـ فرج عنا يا الله .
 
وكان من دعاء يعقوب عليه السلام ايضا :
 
«يا من لا يعلم احد كيف هو وحيث هو وقدرته الا هو ، يا من سد الهواء بالسماء وكبس الارض على الماء ، واختار لنفسه احسن الاسماء ، ائتني بروح 
 من عندك وفرج قريب» .  
فما انفجر عمود الصبح حتى اتي بالقميص وطرح على وجهه فرد الله عليه بصره وولده .
  
روي عن ابي عبد الله عليه السلام قال : انما ابتلي يعقوب بيوسف انه ذبح كبشا سمينا ، وكان رجل من اصحابه محتاج لم يجد ما يفطر عليه ، فاغفله ، ولم يطعمه ، فابتلي بيوسف ، وكان بعد ذلك كل صباح مناديه ينادي ! من لم يكن صائما ، فليشهد غداء يعقوب ، فاذا كان المساء ، نادى : من كان صائما ، فليشهد عشاء يعقوب .(1)
  
واعلم ان العامة والمنحرفين عقائديا ، نسبوا الى يوسف عليه السلام روايات مختلقة لا يليق للمؤمن نقلها ، فكيف باعتقادها ، واتهموه بانواع التهم لا اطيق ذكرها .
 
نذكر هنا وباختصار الادلة على براءته وعصمته :
 
ان الذين لهم تعلق بهذه الواقعة هم : يوسف عليه السلام ، وامراة العزيز ، وزوجها ، والشهود ، والنسوة ، ورب العالمين ، وابليس ، وكل هؤلاء قالوا ببراءة يوسف من الذنب :
 
1ـ اما يوسف ، فقوله : «هي راودتني عن نفسي» وقوله : «رب
 
 السجن احب الي مما يدعونني اليه» .  
2ـ واما العزيزة ، فقولها : «ولقد راودته عن نفسه فاستعصم» ، وقالت : «الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه» .
 
3ـ واما زوجها العزيز ، فقال : «انه من كيدكن ان كيدكن عظيم» .
 
4ـ واما النسوة ، فقولهن «امراة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا انا لنراها في ضلال مبين» ، وقلن : «حاش لله ما علمنا عليه من سوء» .
 
5ـ واما الشهود ، فقوله تعالى : «شهد شاهد من اهلها ان كان قميصه قد من قبل ...» الآية .
 
6ـ واما شهادة الله بذلك ، فقوله عز من قائل : «كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين» .
 
7ـ واما اقرار ابليس بذلك ، فقوله : «لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين» . فقد اقر ابليس بانه لم يغوه .
 
وبعد هذا نقول لهؤلاء الجهال الذين نسبوا الى يوسف عليه السلام الفضيحة ، ان كانوا من اتباع دين الله ، فليقبلوا شهادة الله بطهارته ، وان كانوا من اتباع الشيطان وجنوده ، فليقبلوا اقرار ابليس بطهارته . !
  
روي انه لما كان يوسف في السجن ، وقال للفتى : «اذكرني عند ربك» . اتاه جبرئيل فضرب بجناحه الارض حتى كشط له عن الارض السابعة .
 
قال له : يا يوسف ، انظر ماذا ترى ؟ فقال : ارى حجرا صغيرا ، ففلق الحجر ، فقال : ماذا ترى ؟ قال : ارى دودة صغيرة ، قال : فمن رازقها ؟ قال : ربي .
 
قال : فان ربك يقول : لم انس هذه الدودة في ذلك الحجر في قعر الارض
 السابعة ، اظننت اني انساك ، حتى تقول للفتى : «اذكرني عند ربك» ، لتلبثن في السجن بمقالتك هذه بضع سنين .  
قال : فبكى يوسف عند ذلك ، حتى بكى لبكائه الحيطان ، فتاذى به اهل السجن ، فصالحهم على ان يبكي يوما ، ويسكت يوما ، فكان في اليوم الذي يسكت به اسوا حالا .
 
 
 
 
 
 
  
قال الله تعالى : «وايوب اذ نادى ربه اني مسني الضر وانت ارحم الراحيمن * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه اهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين»(1) .
  
تتحدث لنا الآيتان عن نبي آخر من انبياء الله العظماء ، وقصة النبي ايوب عليه السلام قصة حزينة ، ولكنها في نفس الوقت عظيمة وسامية وتحمل لنا تجارب وحكم ومواعظ كثيرة في الصبر والتحمل والاستقامة ، وتعلمنا درسا مهما في كيفية الاستقامة امام المشاكل والمصاعب الحياتية ، وكيف ننتصر على ابليس وجنوده .
 
خاصة نحن في زماننا هذا والازمنة القادمة ، حيث نواجه في مسيرة حياتنا الاجتماعية ، والدينية ، والسياسية ، مختلف المشاكل والمصاعب والطرق الشائكة ، فيجب علينا ان نعالجها بحكمة وحنكة وتدبر وصبر ، حتى نتمكن من الانتصار عليها .
 
  
كان ايوب النبي عليه السلام رجلا من الروم ، وكان رجلا طويلا عظيم الراس ، جعد الشعر ، حسن العينين والخلق ، وكان دينه التوحيد والصلاح والاصلاح بين الناس ، وكان اذا اراد حاجة سجد وطلبها ، وكان صابرا محتسبا ، وابتلي باصعب الابتلاءات فصبر وخرج منها منتصرا ناجحا ، وضربت بصبره الامثال ، وسمي »ايوب الصابر« .
 
وهو ايوب بن اموص ، بن رازخ ، »او تارخ« بن روم ، بن عيص ، بن اسحاق ، بن ابراهيم ، وكانت امه من ولد لوط بن هاران عليه السلام .
 
وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبأه وبسط عليه الدنيا ، وكانت له »البثنة«(1) من ارض الشام كلها ، سهلها وجبلها بما فيها ، وكان له فيها من اصناف المال كله من الابل والبقر والخيل والغنم والحمر ، ما لا يكون للرجل افضل منه في العدة والكثرة ، وكان له بها خمسمائة فدان(2) يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد امراة وولد ومال .... .
 
وكان النبي ايوب عليه السلام برا تقيا رحيما بالمساكين ، يتكفل الارامل والايتام ، ويكرم الضيف ، ويبلغ ابن السبيل ، وكان شاكرا لانعم الله تعالى ، مؤديا لحق الله تعالى ... ، وكان نموذجا حيا للصبر والاستقامة .
  
روي عن ابي بصير عن الامام الصادق عليه السلام قال : سالته عن بلية ايوب عليه السلام التي ابتلى بها في الدنيا لاي علة كانت ؟ قال : لنعمة انعم الله عز وجل عليه بها في الدنيا وادى شكرها .
 
  
وكان في ذلك الزمان لا يحجب ابليس دون العرش ، ـ كما كان لقاءه بآدم عليه السلام ـ .
 
فلما صعد ابليس وراى شكر نعمة ايوب عليه السلام ، حسده ، فقال : يا رب ان ايوب لم يؤد اليك شكر هذه النعمة الا بما اعطيته من الدنيا ، ولو حرمته دنياه ما ادى اليك شكر نعمة ابدا ، فسلطني على دنياه حتى تعلم انه لم يؤد اليك شكر نعمة ابدا ، فقيل له : قد سلطتك على ماله وولده ..
 
»كان هذا من اجل ان يوضح البارئ عز وجل اخلاص ايوب عليه السلام للجميع ، ويجعله نموذجا حيا للعالمين حتى يشكروه حين النعمة ويصبروا حين البلاء ، ولذلك سمح البارئ عز وجل للشيطان في ان يتسلط على دنيا ايوب« .
 
عندما اخذ ابليس الاجازة من الله ، انحدر الى الارض ، فلم يبق له مالا ولا ولدا الا اهلكه ، فازداد ايوب شكرا وحمدا .
 
قال ابليس لله عز وجل : فسلطني على زرعه يا رب ، قال : فعلت ، فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق ، فازداد ايوب لله شكرا وحمدا .
 
فقال يا رب سلطني على غنمه ، فسلطه على غنمه فاهلكها ، فازداد ايوب لله شكرا وحمدا .
 
فقال : يا رب سلطني على بدنه فسلطه على بدنه ما خلا عقله وعينه ، فنفخ فيه ابليس فصار قرحة واحدة من قرنه الى قدمه ، فبقي في ذلك دهرا طويلا يحمد الله ويشكره .
 
والخلاصة : فقد كانت النعم تسلب من ايوب عليه السلام الواحدة تلو الاخرى ، حتى ابتعد عنه جميع الناس وعاش منعزلا عنهم خارج المدينة ولم يبقى معه احد سوى امراته ، مع كل هذا كان شاكرا وصابرا ، ويناجي ربه بلسان الشكر والحمد والثناء .
 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||