تربية الطفل دينيا واخلاقيا 323

  • مسألة القيم :

  • على هذا الاساس ، من الضروري ان نوضح حدود البحث أولاً من حيث المعنى والمفهوم ، ونرى ماهي الجوانب التي ينبغي بحثها منه .
    يمكن القول في تعريف القيم أنها الشيء الذي يدلل على أهمية وقيمة امر مهم من ناحية التقدم والتأخر ؛ او يمكن القول ان القيمة نوع من المعايير والملاكات لتشخيص الثمن المادي اوالمعنوي للأشياء ـ وعلى اساس ذلك يتحرك المرء نحو العمل والاجتهاد ويسعى في نيلها .
    فنحن نهتم بموضوع القيم في اعداد الثياب والطعام والمنزل ـ واختيار الفرع الدراسي ، والزوج ، والعبادة ، والخدمة ، والحرب والسلم ، وفي جميع الأمور المتعلقة بحياتنا ؛ فندرك من خلال ذلك قيمة اي امر ، كما اننا نقوم بنفس العمل حين محاولتنا المفاضلة بين أمرين متساويين في الظاهر ؛ لنعرف ايهما اكثر قيمة فنجتهد في نيله .
    وحتى لو اننا انهمكنا في اصدار الاحكام على مسألة ما من حيث حسنها او قبحها وخطأها او صوابها ، فاننا منهمكون في الحقيقة بتعيين قيمتها مستهدفين من وراء ذلك معرفة مدى القيمة الحقيقة .او عندما نقول بوجوب تربية الطفل على هذا النمط ، وضرورة الابتعاد عن ذلك الاسلوب التربوي وتحاشيه ، فمعنى ذلك اننا نثمن الاسلوب الذي نرتضيه ونحبذه .
    والمسائل المطروحة بخصوص القيم هي هل أنها عينية ام حقيقية ؟ وهل انها فردية ام اجتماعية ؟ مطلقة ام مقيدة ؟ وهل هي امور اعتبارية ونسبية ام

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 324

    مطلقة ؟ وهل منشأها العقل ام الذهن ؟ أم التجربة ام العاطفة ؟ و... الخ .
    ونحن لا نتطرق هنا الى جميع البحوث سوى بالقدر الذي يقتضيه الموضوع .
    ان اساس التفكير في القيم منبثق عن الرغبة في الاختيار فنحن نريد ان نرى ماهو الامر والمسألة التي يجب اتباعها وما هي الجوانب التي يجب الاهتمام بها ؟ وأي الأعمال اكثر قيمة بالنسبة لنا ؟ واي اسلوب يجب اتباعه بحيث يكون اقرب الى القيمة والمنفعة ؟

  • منشأ القيم :

  • ففي نظر التربية والمربي ، من الضروري معرفة منشأ القيم ، لأجل ايجاد المنهج الذي نسير وفقاً له ومعرفة ماهي المواقف التي يجب اتخاذها على اساس ذلك ؟ حتى نصل في هذا البحث الى ضرورة انبثاق القيم من أحد المصادر التالية :
    1ـ عقل وفكر الانسان : الذي هو حصيلة التجارب والرؤى والنظرة الكونية ، وسعة الفكر او محدوديته ، وكيفية فهم الفرد للقيم ، والفلسفة العامة السائدة على الأرض ،وتاثرها بالسلوك الاجتماعي والاحداث الطارئة ، ونمط التربية والوضع الاقتصادي والرؤية الاجتماعية و ... الخ .
    ولو اننا اردنا الاستفادة من مثل هذا المصدر وجعله قاعدة نشيد عليها بناءنا التربوي فلن ينتج عنه سوى الدماء والفوضى والاضطراب والشقاء .
    فاذا تقرر ان يتربى كل شخص على اساس اهوائه وميوله ، فلن يكون هناك سلم ولا استقرار .

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 325

    2ـ الفلسفات الاجتماعية السياسية : ويتلخص الرأي هنا بعدم قبول الافكار الجماعية او الفردية التي يعرضها اصحاب المذاهب والمشارب والفلاسفة من امثال الماركسية اوفلسفة هيجل ، او الأراء الشخصية لابن سينا ، او الغزالي ، او الملا صدرا وغيرهم فهذه الافكار لاتتسم بالأصالة من الوجهة التربوية ، وذلك للاسباب التالية :
    ـ ان الآراء والنظرات الشخصية محدودة .
    ـ عدم امتلاكهم للرؤية المستقبلية وجهلهم بالماضي الذي يجب ان يكونوا على دراية تامة به . فالانسان لا يعدو الا ان يكون حلقة وصل بين الماضي والمستقبل.
    ـ عدم اطلاعهم على جميع ابعاد وجود الانسان ؛ ولهذا فلا يمكن ان تكون آراؤهم قطعية .
    ـ ان اغلبهم ذائبون في قوقعة حب الذات وعبودية النفس وهذا يحجب عنهم رؤية الآخرين .
    ـ وقع بعضهم تحت تأثير المنصب والقوة ، وهذا بمثابة الساتر الذي يغطي ابصارهم .
    ـ واخيرا ، فهم غير مصونين من الخطأ والزلل ، سيما وان تفكيرهم لا يتجاوز المقطع الزماني والمكاني .
    3 ـ الدين والوحي :حيث يعتبر المصدر الوحيد والقاطع لتعيين القيم ، لانها موضوعة ومنزلة من قبل خالق البشر وصانع الكون والذي لايرتجي

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 326

    منه سوى الخير .
    وعلى هذا الاساس ، فاننا نضفي اصالة على هذه الجوانب في التربية ونعتبرها مصدراً نستلهم منه القيم .
    ولابد ان نعلم ـ في نفس الوقت ـ ان المصادر الاخرى التي نطرحها كالظروف الاجتماعية والاوضاع النفسية وتداعي الافكار ، والاسس المنطقية للرسوم والتقليد وتشريعات مجالس النواب وآراء اصحاب السير والسلوك ، والتي لايحظى اي منها بالاصالة .. يمكن ان نستلهم منها بعض الافكار شريطة . ان لا تتعارض مع احكام الدين .

  • التربية والفضيلة :

  • لا شك ان التربية يجب ان تستبدل القيم السقيمة بالقيم السليمة ، فتنقل كل ماهو جميل الى الاجيال ، وتشخص مفاسد وعيوب كل مجتمع ، وتعلم الناس بكل ما ينبغي أخذه ، وما يجب رفضه .
    ان الاهداف التربوية يمكن ادراكها من خلال القيم المخبوءة في الأفكار التربوية . وعلى العكس من ذلك ، يمكننا ادراك القيم الموجودة في كل مجتمع من خلال الاهداف التربوية والمناهج والمضامين الدراسية والنظام التربوي والاساليب المستخدمة في التربية وكيفية التعامل مع التلميذ .
    ونحن في المجال التربوي نسعى لدفع الافراد الى التحرك صوب الاهداف المنشودة ، مع الاخذ بنظر الاعتبار القيم المستهدفة من ذلك التحرك . ويجب ان تنصب الجهود على ان نجعل من افراد المجتمع مظهراً لتجسيد القيم الدينية السليمة .

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 327

    وفي الحقيقة ، فاننا نربي ابناءنا على رعاية القيم المقبولة لديهم ونعدهم لمسيرة تكون فيها الغايات والاهداف واضحة المعالم ، وكيفية السير والسفر في هذا الطريق واضحة ، وقائمة على اساس القيم ، وكذلك طي الطريق مع التمسك بالاهداف التي تقدم على اساس القيم المنشودة لذلك ، مثل السلم والحرب ، الهدام او البناء ، والشعور بالمسؤولية او تجاهل الامور .

  • اهمية القيم :

  • ان الانسان يستثمر القيم دائماً كمعيار لجميع الاعمال والتصرفات ويعتبرها ميزاناً لكلامه وكلام غيره ، ومقياساً لترجيح امر على آخر .
    ان جميع امور حياتنا من العمل والزواج والدراسة والعلاقات الفكرية خاضعة للتقييم . فالقيم تضفي صبغة على الحياة وتدفعنا الى اصدار الآراء والاحكام وعلى اساسها تبنى كل مشاريعنا واعمالنا . وتتأطر بإطارها مشاعرنا واعتقاداتنا وأفكارنا.
    فنحن نستطيع من خلال القيم ان نعلم الافراد ماهي الضرورة في وجوب تقبلهم المسؤولية ، ولماذا يجب عليهم مراعاتها ، والالتزام بها ؟ لماذا يجب ان يعملوا ، ويتعلموا ، ويتحلو بالأدب ؟ وأخيراً : فانها على قدر من الاهمية يمكن الادعاء ان القيم اذا تداعت في مجتمع ما فان ذلك المجتمع يتراجع القهقرى وتسود الفوضى والارتباك وتتشابك فيه مفاهيم المعروف والمنكر .

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 328

  • انواع القيم :

  • تقسم القيم الى قسمين : المطلقة والمقيدة .
    والمقصود من القيم المطلقة هي تلك القيم التي تمثل القاعدة والاساس للحضارة الواقعية البشرية . ومن اجل بلوغها يضحي الانسان بالكثير ، ومنها الحقيقة ، والاخلاص ، والجمال ، والعلم ، والعدالة ، والاخلاق والدين ؛ ومن اجلها يترك الانسان سلامته الشخصية وزوجته ، واطفاله ، وماله ، وحياته ، ويتجه نحو التضحية والشهادة .
    والمقصود من القيم المقيدة ( او النسبية ) هي التي تؤمن السعادة الشخصية للفرد . أو تؤثر في توفير احتياجات مجموعة من الناس ، ويحتاجها الانسان من اجل مواصلة حياته ، ويسعى للحصول عليها والقيم المطلقة مرتبطة بالدين او بالفلسفة العامة ، وتقوم القيم المطلقة على اساس من الضوابط العقلية ، وتؤيدها التقاليد والأعراف ويجب التركيز من خلال التربية على نشر القيم المطلقة وتقييد القيم المقيدة بضوابط وشروط معينة .
    وقد تكون القيم في نظرة اخرى عالمية او اقليمية ، كالأمانة والصدق والدفاع عن شرفه القيم العالمية ، بينما تعتبر خدمة الضعفاء والمعوزين عملاً ضعيفاً او اقليمياً . بل يمكن ان تعتبر مساعدة الفقير في بعض المناطق خيانة له .
    وعلى هذا الأساس يمكن ان تكون القيم فردية او جماعية او نفسية او دينية او سياسية او اقتصادية او ثقافية ، ثابتة او متغيرة .

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 329

    وهنالك بحوث فلسفية بخصوص كل منها ، وما مطروح في التربية في نظرنا هو ما يستند الى القيم التي يؤيدها الدين والضوابط الدينية . وبالطبع ،
    فان بقية القيم ـ بالرغم من اتصافها بالقومية الا انها مرفوضة ، كالقفز على النار يوم الاربعاء الذي يصادف يوم الثالث عشر من الشهر الاول ، وغير ذلك .

  • درجات الفضائل :

  • لا تتساوى جميع الفضائل الموجودة في المجتمع او العقيدة من حيث القيمة التي تعطى لها . فالمساواة ـ مثلاً ـ هي فضيلة ، الا ان المواساة قيمة عليا ؛ والايثار قيمة اعلى منها . ومساعدة الفقيرة حسنه ، الا ان اقتلاع جذور الفقر أحسن . والتصدي للفاسد واجب لكن مكافحة بؤر الفساد اكثر اهمية وقيمة .
    ان المذاهب والمجتمعات تتشابه في الظاهر في ترتيبها لدرجات القيم ، فيعتبرون بعضها اكثر اهمية ؛ وهذا الامر يبرز تماماً في مجال الطعام والثياب والمسكن والعبادة وخدمة الناس والتعاون والتضحية ، وكذلك في الآداب والتقاليد والشعائر .
    ففي الاسلام . مثلاً ـ تعتبر صلاة الليل والاذكار والدعاء فضيلة ، ودفع الخطر عن المؤمن فضيلة اخرى ، الا ان الثانية اكثر اهمية في مقام التسلسل. ففي الحالات الضرورية يجب ترك صلاة الليل وانقاذ حياة المؤمن .
    فنحن نسعى من خلال التربية الى مراعاة الأولويات في سلم الفضائل ، وكذا الاهتمام بالدرجات في بيان القيم . فلا ننسى في تعريفنا لكل مسألة ان

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 330

    هنالك ثلاث درجات هي المهم والاهم والاكثر اهمية . كما اننا نعين الجانبين السلبيين للقيم ـ المكروه والحرام ـ ونتجنب الانتقال من الواقع الفاسد الى الأفسد .

  • تغيير وتبدل الفضائل :

  • ان القسم الأعظم من فضائل الانسان لا سيما في المجتمعات غير الدينية تمر في حالة تغير وتبدل . وهذا التغير يحدث بسبب تغير الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع .
    وبالطبع ، فان القيم المطلقة ثابتة ولايحصل فيها تغيير وتبدل من ناحية الاصالة ، الا ان الاختلاف يحصل في الفهم والتطبيق حيث تؤثر نتائج ذلك في القيم .
    ومن ناحية اخرى ، فان نوع القيم يتغير تبعا لفقر الانسان وغناه ، فما دام الانسان فقيراً فهو يتبع نوعاً من القيم ، وعندما يصبح ثرياً يفكر بنوع آخر من القيم التي تتناسب وطبقته . وكذلك فان الذين يعيشون في مجتمع ما ، يقدسون القيم التي يحترمها ذلك المجتمع . واذا ما انتقلوا الى مجتمع اخر ، اختاروا القيم التي تؤمن بها الجماعة التي انتقلوا اليها .
    وهناك ظروف تؤثر في هذا الامر كالحرب والسلم والاختراعات الحديثة والتقدم والانتقال من الزراعة التقليدية الى الصناعة ، وبروز التغيرات التاريخية في المجتمع البشري والتجارب الحديثة .
    ولابد من وجود الرقابة على نوعية القيم الجديدة ، من الوجهة التربوية على الأقل ، لغرض تحديد نوع القيم التي يجب حجبها ، والقيم الاخرى

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 331

    السليمة التي لاضرر في دخولها الى ميادين الحياة الاجتماعية .

  • العوامل المؤثرة في القيم :

  • بناء على ذلك ، يمكن القول ان هنالك عدة عوامل تؤثر في قيم اي مجتمع او جماعة من الناس ، وهي عبارة عن :
    ـ السن : فلكل سن مقتضياته الخاصة ، وينجذب افراده لقيم خاصة . فالطفل يصبو الى الشيء الذي يهرب منه غيره .
    ـ التكامل : والمراد به التكامل الجسمي او النفسي او الفكري ، فقصير النظر يسعى الى نوع من القيم خلافاً لمن يمتلك سعة فكرية وبعداً في النظر . كما يؤثر الضعف او القوة الجسدية ووجود المعنويات اوعدمها في هذا الأمر .
    ـ الوضع الثقافي : فأعضاء العائلة التي تتمتع بمستوى ثقافي متدن ليسوا كافراد العائلة التي تتحلى بثقافة متطورة .
    ـ الوضع السياسي : فالمجتمع الذي يعاني من الأزمات يعيش قيماً خاصة غير قيم المجتمع الذي يعيش الانفتاح .
    ـ فلسفة الحياة : فيؤثر نوع الفلسفة التي نختارها لحياتنا في نوع القيم التي نحبذها .
    ـ الحاجة : فالحاجة ـ بمعناها العام ـ تؤثر في القيم التي ينشدها الأفراد .
    ـ التغييرات : بالمعنى العام للكلمة وتشمل الاجتماعية منها والسياسية بل وحتى البيئية والمناخية .
    وعلى هذه الشاكلة ، فهنالك الكثير من العوامل الاخرى التي ذكرت

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 332

    بشكل عام ، والتي تؤثر في القيم ، وتضع المربي امام مسائل معقدة في هذا المجال ، وفي السيطرة على القيم . ولاشك ان كثرة العوامل تؤدي الى شدة المواقف وصعوبتها والى مضاعفة عمل المربي .

  • الحياة والقيم :

  • يسعى ابناؤنا ـ منذ السنوات الأولى للتمييز والمراحل الاولى للبلوغ ـ الى معرفة فلسفة الحياة وعللها ، وبالطبع فانهم لايعرفون القيمة الحقيقية والثمن الواقعي للحياة . وحتى انهم يعتبرون الانسان أعلى مرتبة من الحيوان ، الا انه اقل درجة من الانسان الحقيقي ، وهم يسندون في ذلك الى مزاياه المادية لا المعنوية .
    فهم يشعرون في هذه السنوات بأن امامهم مسائل جديدة واسئلة يجب الاجابة عليها ، ولاعلم لهم بأصل الحياة وهل يقوم على اللذة ام المصلحة ؟ ولا يدرون على من يستندون ؛ على الواقع ام على الحقيقة ؟ حتى ان بعضهم يتصور الحياة شيئاً تافهاً لامعنى له وقضية لا تستوجب الاهتمام .
    وتقوم عقائدهم وافكارهم على اساس الجوانب التجريبية كما تتجانس مع ما يقال ويسمع ؛ فهم يريدون ان يحصلوا بين هذا وذاك على شيء ما ، وهم بحاجة ماسة للدليل في اختيار الفلسفة الحياة ومعرفة قيمتها . وقد تحرفهم الغفلة عن جادة الصواب او تجرفهم الى واد آخر .
    وهم يحددون توجهاتهم على اساس الحكم الذي يصدره الوالدان والمربون على القيم ، يفكرون مع انفسهم هل يتقبلون اللذة ام يجتنبوها ؟ ويولون اهمية للاهداف التي نختارها لهم ، وتنفذ الى جميع زوايا حياتهم

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 333

    واذهانهم ، ويرون من الضروري ان نضم بين ايديهم الموازين اللازمة باعتبارنا مربين لهم ، كي يستطيعوا تحديد الفضائل التي يحتاجونها ويختارونها .

  • مصدر استلهام القيم :

  • ان الاجابة واضحة عن المصدر الذي يأخذ أبناؤنا منه قيمهم ؟ فهنالك ثلاثة مصادر للقيم بالنسبة لهم ، وهي
    1 ـ الاسرة : وهي اقوى واهم مصدر للقيم بالنسبة للابناء فالطفل ، وخصوصاً في المراحل الاولى من حياته يتعلم كل شيء من العائلة ، فهو يتعلم ما يقوله الوالدان حسناً كان ام سيئاً . ان اهمية دور العائلة في تركيز القيم لدرجة يمكن القول انها تحافظ على اعتبارها حتى نهاية العمر .
    فالعائلة التي تعيش حياة مادية ، وتسيطر على الوالدين حالة اللاابالية وانعدام الدين ، والاسرة التي تسودها القيم المتضادة والمتناقضة ... يعيش اطفالها حالة من الضياع والانحراف ويقضون حياتهم على هذه الشاكلة حتى يحل اليوم الذي تتوفر فيه امكانية البحث والتقييم بالنسبة لهم في محيط آخر ، فيعودون الى جادة الصواب .
    2 ـ المدرسة : فبالنسبة للابناء الذين بلغوا سني الدراسة تطرح مسألة المعلم والمدير والمرشد والمستخدم . فاذا كانت مناهج المدرسة استمراراً لنمط التربية في البيت فلن تحصل اية مشكلة ، اما اذا كانت هنالك اختلاف وتعارض ،فلن يجني الطفل غير الضياع .
    فطريقة سلوك المعلم واسلوب تدريسه وطرق الاصلاح والبناء التي

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 334

    يتبعها ، والاوامر والنواهي التي يصدرها المدير والمعاون ، ونوعية التصرفات التي يشاهدها من زملاء المدرسة ، والمضامين التي تحملها الدروس ، والاهداف التربوية ، او قل النظام السائد بشكل عام و .. تعتبر كلها وسطاً ناقلاً للقيم الخاصة بالطفل ، والتي قد تكون بمجموعها عاملاً في بناء او تدبير شخصيته . ولا ننسى ان زيادة تسلط ونفوذ اي من العائلة والمدرسة يؤدي الى رجحان كفة القيم التي تطرحها الجهة الاكثر نفوذاً وتاثيراً .
    3 ـ المجتمع : والمراد به الثقافة التي تسود ابناء المجتمع . وتطرح فيه مسألة الفن والادب والاعراف والتقاليد والعالم والفكر والسنن و ...
    فهذه الاجواء والمفاهيم تنتقل الى الابناء من افراد المجتمع ، وبالخصوص رهط الزملاء . ويجب ان تخضع للضوابط . فابناؤنا معرضون لتأثير افكار الآخرين وايحاءاتهم منذ بلوغهم سن التمييز ، حيث تؤثر فيهم وسائل الاعلام من صحف ومجلات وكتب وبرامج اذاعية وتلفازية ... ولا يقل مدى تأثيرها عن الدور الذي تؤديه العائلة .

  • مراحل بلورة القيم :

  • هناك فرق في انواع القيم التي يتقبلها الافراد في مراحل الحياة المختلفة . فكثير من القيم المعتبرة في مرحلة ، تناقض القيم المعتبرة في غيرها .
    فالدمى بالنسبة للطفل قيمة ، لكنها ليست كذلك بالنسبة للسياسي العجوز وكذا الحال بالنسبة للركض العبثي وغيره من الاعمال الاخرى غير الهادفة .
    1ـ في مرحلة الطفولة :


    لاغلب القيم الشائعة في هذه السنين طابع مادي وحسي وذوقي ولمسي . فالشيء الذي يحظى بقيمة لدى الاطفال هو ما

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 335

    يمكن تذوقه والتلذذ به كالطعام والشراب والرضاعة .
    ومن غير المعقول ان نتوقع منه شيئاً يتسم بالاخلاص والتضحية والايثار والمساواة والمواساة و ... فمنطقهم هو منطق يتعلق بذواتهم ، وعقائدهم مزيج من عقائد الوالدين وثقافة المجتمع والتعاليم الرسمية والتجارب الشخصية ونظرتهم الطفولية للعالم . وان عمرهم وعقلهم وتجربتهم لا تسمح لهم بالتفكير بما وراء المادة ، ونظرتهم لاتتجاوز حدود المأكل والملبس . وبالطبع فان تاثير الكبار عليهم قوي للغاية ؛ وفي بعض الاحيان يجبرون انفسهم على اتباع ما يؤمرون به .
    2ـ مرحلة المراهقة :


    ان موقفهم ازاء القيم بنحو يمكن القول عنه انهم يرون ان كل قيمهم معرضه للخطر والتشكيك، وهم يسعون الى تقييم انفسهم ليروا ماهيتهم ومدى قدرتهم .
    من الضروري اعانة الشاب لمعرفة الحقيقة وطلبها ، وكذلك لمعرفة معنى ومفهوم الحياة . وهي صعبة في نفس الوقت ؛ لانه كثيراً ما يلاحظ انهم لا يفرقون بين الوهم والخيال ، والواقع والحقيقة ، أو لا يرون تمايزاً بينها . وان حكمهم على الامور سطحي ، حتى ان أغلبهم يتبعون رأي الاكثرية في تقبلهم للدين والتعاليم ؛ فهم مع الاكثرية اين ما كانت ، وذلك ما يجعلهم يشعرون بمزيد من الأمان .
    انهم يشعرون في هذه السن بالحاجة الى الدين ويتقبلون القيم الدينية بكل بساطة ، حتى انهم اكثر تحملاً من الآخرين ازاء التعاليم الدينية وقيمها .

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 336

    ويتمكنون ببساطة من أقلمة أنفسهم مع ضوابط الحياة الدينية .
    فمن خلال استثمار هذه الارضية الشعورية والعاطفية يمكن تعليمهم طريق الحياة وتعبيد طرق الحياة المعنوية أمامهم .
    3ـ في مرحلة الكهولة :


    ان المرء في هذه المرحلة يصل الى وضع يكون فيه محص الدنيا الى حد كبير ، وصار لديه فهم لمسائل الحياة ، ويستطيع ان ينال قيمه الشخصية والنسبية وان يحفظها من الأخطار ، ويستقيم تفكيره ، وتتجذر لديه اغلب التصرفات حتى تصبح كالعادة المغروسة .
    ودور الايحاء مهم لديه من اجل انتقال القيم ، ولكن بشرط ان تقترن بالمنطق والاستدلال ، وهو ليس في وضع يسمح له بقبول اية عقيدة والاستسلام لها من غير تمحيص . فهو لايمكن النفوذ الى داخله واقناعه بسهولة بهذا الرأي وذاك .
    وهنالك مسألة تجدر الاشارة اليها وهي ان معتقداته وأفكاره السابقة ونمط مساره في الحياة ، والذي أخذ قالبه فيه وبلور شخصيته في ظل توجيهات الوالدين والمدرسة والزملاء والاقران ، وجعله يبدو وكأنه لا امل في اصلاحه أو اعادة صياغته ؛ ولكن لا ينبغي عقد الأمل على احتمال اقتناعه بقبول القيم ؛ وهذا هو احد الاسباب في عدم نجاح دعوة الانبياء في عصرهم .

  • عمل المربي فيما يخص القيم :

  • باعتبارنا مربين نصبوا من خلال التربية الى نقل القيم والقواعد والاعراف

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 337

    والأداب المنشودة ، والادلة والشواخص الاجتماعية ، الى ابناء المجتمع ، ونعلمهم نوع القيم المطلوبة ؛ فيجب الايحاء اليهم بالقيم الموجودة عن طريق التربية . وهذا هو واجب جميع المربين والمعلمين . ولكن من الضروري الانتباه الى هذه النقاط في سبيل بلوغ هذا الهدف .
    1ـ معرفة القيم :


    فأول مسألة بالنسبة للمربي في هذا المجال هي ان يعرف القيم بما في ذلك القيم الموجودة وكذلك المطروحة في ديننا ، والتي لايتم التطرق اليها في المجتمع .
    فلا شك في وجوب بحث وتقييم الكثير من القيم ، وهل أنها قائمة على أساس موازين الدين الذي نرتضيه أم لا ؟ وحينذاك تتجلى تلك القيمة في التربية ، وكذلك من الضروري ان نرى ما هي الامور المطروحة في ديننا مما لا وجود لها في المجتمع ونقلها الى الطفل من خلال توجيهنا له .
    كما يجب على المربي معرفة ما اذا كانت القيم عينية أم ذهنية ؟ وما هو الخاص منها وما هو غير الخاص ، وايها ثابت وايها يتغير ، وما هو تسلسل القيم ودرجاتها .
    وهل ان القيم الراهنة والسلوك صحيحة ام خاطئة ؟ وما هو معيار حسنها وقبحها ؟ وهل انها تستند الى العلة ام التجربة ؟ أم العلم ام الدين ؟
    فلا جدال في عدم امكانية اتخاذ القرار بشأن تربية الأفراد بدون معرفة القيم ، ولا يمكن اعدادهم للانسجام مع هذا العالم المتغير من غير معرفة نوع الشخصية التي نصبوا اليها . وما هو الفرد الذي يجب اعداده لهذا العالم الجديد .

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 338

    2ـ معرفة نمط الأفكار :


    والمسألة الثانية بهذا الخصوص هي معرفة نمط الأفكار . فنحن نعلم ان الأفكار الملقاة الى الافراد تتفاوت وتتنوع على مدى مراحل الحياة ، فالبعض قد تقبل المسائل عن طريق الالحاح والاكراه ، والبعض الآخر عن طريق المنطق والاستدلال، وبعض عن طريق العلم والعمل . فلكل من هذه القيم موطأ قدم في نفوسهم .
    ان الجيل الصاعد ، وابتداء من الطفل والصبي والشاب ، ليسوا في مرحلة من النضج تؤهلهم لاتقان فهم القيم واتخاذ القرار بشأنها فكل واحد منهم يتقبل قيماً معينة وله رأيه الخاص بها . فبعضهم يصبوا الى القيم المطلقة ، والآخر يؤمن بالقيم المقيدة ، أو الثابتة ، أو المتغيرة ، الاقليمية او المحيطية .
    وتختلف عاقبة الأمر بالنسبة للحياة التي يرتضونها على مدى مراحل العمر المختلفة . فالبعض يحبذ نظام التسلط وأعمال العنف ، وجماعة تحبذ المنطق والاستدلال . وبعض يفضل نمط التحلل ، فيتقبلون الحياة المطلقة ويعتبرونها ذات قيمة . واحياناً تكون الدنيا بالنسبة لهم ذات طابع مكاني وشخصي ومحلي .
    وصفوة القول هي انه لا يمكن تلقين القيم وكيفية نقلها الى جيل الاطفال واليافعين والشباب والكبار ما لم يتم التعرف بدقة على اساليب التفكير ، ولا يمكن الاطمئنان من نجاحنا في أمر التربية من دونه .
    2ـ معرفة الرغبات والعواطف :


    فالقيم وكيفية انتقالها أو قبولها يرتبط

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 339

    بميول وعواطف الانسان ، وتتغير بتغير أي منها .
    فأنتم تعلمون ان نوع الرغبات والعواطف تختلف لدى الافراد وعلى الاقل على اساس الجنس ؛ فهي تختلف بين الذكور والاناث فكل منهم له رغبات وعواطف في مراحل من حياته تتباين مع ما لدى الآخرين .
    ولأبنائنا مآرب خاصة بهم في كل مرحلة من العمر ؛ فمثلاً منتهى امل الطفل في سن الخامسة هو نيل بعض الحلويات والمرطبات ولا امل لدى الشاب اهم من الحصول على زوجة وبيت . ومطمح الكبار هو بلوغ الدرجة والرتبة والثروة والجاه .
    وعلى هذا الأساس ، فإن المآرب والعواطف لدى الأفراد تتغير على الدوام ، فعواطفهم وتفاعلاتهم غير ثابتة ، بل تغدو و تروح من مكان الى آخر كأمواج البحر . والمهم في الموضوع هو معرفة هذه المتغيرات عند الناس ، لانها تمثل ارضية الميول عندهم .
    فلاشك ان الكثير من اسس الرغبة والعلاقة العاطفية الموجودة في العقائد والتصورات تتدخل ـ بالنتيجة ـ في القيم ، فتقويها أو تضعفها .
    فعلى الوالدين معرفة هذه الحالات والكيفيات لدى الاطفال ، واخذها بنظر الاعتبار في نقل القيم ؛ وحسب المثل العامي : يقيسون الحجم ثم يشرعون بخياطة الملابس المتناسبة مع ذلك المقياس .
    4ـ معرفة العقيدة الأفضل :


    ان التربية لا تحصل في الفراغ ولا تقوم على اساس المآرب او الآراء الفردية ، فكل شخص يقوم بتربية ابناء المجتمع على اساس دين ومعتقد . فمنذ الخطوات الاولى في هذا المجال

    السابق السابق الفهرس التالي التالي