تربية الطفل دينيا واخلاقيا 229

ولكننا مع الأسف نلاحظ بعض المربين أو الوالدين الذين يتجاهلون مثل هذه التصرفات الخاطئة من الطفل متوهمين الحرص عليه ، ومتناسين أن استمرار هذه الظواهر يؤدي في نهاية المطاف الى استفحالها وتأصلها في نفسه ، حتى يتعذر القضاء عليها بعدئذ ، فيجب علينا عدم السماح للطفل بأن ينشأ على الطيش والعدوانية ، ولا يكون مهرجاً أو مشاغباً يستهزئ بالآخرين .

  • معرفة الأسباب والإجراءات الواجبة

  • وقبل اتخاذ أي إجراء لإعادة بناء سلوكية الطفل ، يجب السعي أولاً لمعرفة السبب أو الأسباب الكامنة وراء هذا التصرف الخاطئ أو ذاك . فعلينا معرفة الدافع الذي يدعوه الى الكذب او السرقة أو الغضب ، أو ما هو السبب الكامن وراء موقفه اللاأبالى تجاه حدث هام ؟
    يتبين من الدراسات بأن الطفل يعتبر بعض التصرفات الخاطئة نوعاً من اللعب اوالتسلية غير مدرك لمدى قبحها . ومن البديهي أن موقفنا حيال تصرف آخر صادر عن وعي ومعرفة . وحتى بشأن الانحرافات الجنسية فليس لدى صغار السن اي تصور بانها جريمة او انحراف، وواضح جداً إنها ناشئة من جهل الطفل وما تعود عليه من ممارسات خاطئة . وقد يتيسر رفعها من خلال اسداء بعض النصائح والتوجيهات .
    ومن خلال معرفتنا لأسباب السلوك وعلله تتهيأ لنا إمكانية إحداث التغيير الأخلاقي المطلوب عن طريق أتباع السبل الثلاثة التالية :

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 230

    1 ـ عن طريق الأوامر والنواهي التي يصدرها الكبار ، والأشخاص الذين يحبهم الطفل .
    2 ـ عن طريق مخالطة الأتراب والأقران .
    3 ـ عن طريق النضوج الفكري والعقلي .

    وفي جميع الأحوال يبقى المبدأ الأساسي في التربية هو التزام الإعتدال مع إعطاء الأهمية لأنماط التعامل مع الطفل ، وتسليحه بالوعي اللازم ، والمعرفة بمناهج الإصلاح لأنها من المستلزمات المهمة في شؤون التربية .

  • مناهج الاصلاح

  • هنالك مناهج وأصول لابد من أتباعها سواء في البناء الأخلاقي أم في الاصلاح التربوي ، وأهمها مايلي :
    1 ـ المحبة : وهي شيء أساسي في تهيئة الأرضية في التربية الأخلاقية . فحين يلمس الطفل العطف والحنان والمحبة من ذويه ، يتعلق بهم وينشد اليهم ، ويصبح مستعداً للاذعان لأية أوامر او نواه تصدر عنهم . وانطلاقاً من هذه النظرة يتوجب علينا بذل مايمكن من المحبة للطفل لأنها من متطلباته النفسية أولاً ، ولكونها ثانياً من العوامل الفاعلة في تحقيق أهداف المربي .
    2 ـ التنبيه والتذكير : من المستحسن تذكير الطفل دوماً بسلوكه ، وتنبيهه الى الخطأ من أفعاله وان عليه اصلاحها وإلا فستكون النتائج قاسية . ولا

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 231

    تكتفوا بالاشارة الى هذا الموضوع مرة واحدة بل يجب توعيته وردعه باستمرار ، فهو طفل وكثير النسيان ، وتذكيره بين الفينة والأخرى الى تقويم تصرفاته الخاطئة أمر ضروري .
    3 ـ النظرة ذات المغزى : يمكن أحياناً تنبيه الطفل الى خطئه وإعادته الى الطريق الصواب من خلال النظرة المعبرة اليه . فإذا أتى بفعل مستهجن يكفي أن ينظر اليه شزراً وبلا أي كلام ، فمثل هذه النظرة تؤدي دورها في إصلاح سلوكه . ولو أبدى أي عناد لأبويه عبروا له عن انزعاجكم بواسطة نظرة الغضب واستبعدوا طابع اللين والمرونة .
    4 ـ اللوم والغضب : واذا لم تجد معه نفعاً الأساليب المارة الذكر ، يتوجب عليكم حينئذ توجيه اللوم والتقريع اليه ومكاشفته بعيوبه ليتيسر لكم اصلاحه .بل وقد تضطرون ايضاً لهجره وعدم التكلم معه ، بشرط أن يكون في هجركم له درس وتوجيه له أثره البالغ فيه ، وأن لا يستمر طويلاً بل يتحول بعد برهة وجيزة الى مصالحة .
    5 ـ التهديد والإنذار : والخوف من العقوبة رادع ايضاً . ففي بعض الحالات يخشى الطفل من عاقبة الفعل حين تخويفه بالعقوبة التي سينالها جزاء له وفي نفس الوقت يجب الانتباه الى عدم استغلال مشاعره العاطفية وقلبه الرقيق ، بحيث لايجد نفسه محشوراً في طريق مسدود فتؤدي الى

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 232

    ردود فعل سلبية ، كما ويجب عدم تخويفه بالأماكن المظلمة والمرعبة ، فيترك على حياته العاطفية آثاراً سلبية .
    6 ـ العقوبة : حينما نرى أن أياً من الأساليب السابقة لا تجدي نفعاً ، نضطرالى اللجوء الى استخدام العقوبة التي لا ينبغي أن تدخل ـ طبعاً ـ في اطار الضوابط الشرعية الموجبة للدية .
    وعلينا عدم الخروج عن حد الإتزان والإنصاف ، ولا نجعل منه كبش فداء لتهدئة غضبنا . ولا تكون العقوبة بدنية دائماً ؛ بل قد يكون حرمانه من الحياة الجماعية او طرده منها رادعاً مؤثراً ايضاً في هذا الصدد .

  • التأثير السلبي للضغط

  • لاجدال في ضرورة وجود عوامل السيطرة في البيت إلا إننا نرفض أسلوب استعراض القوة من قبل الأبوين والمربي . ويجب ان لا يصل بنا الحال الى الاستبداد في إدارة شؤون الطفل . فكثيراً ما يصاب الأطفال الذين يساسون بأسلوب الإستبداد ويقبلون على الطاعة خوفاً ، بنوع من الكآبة وحدة المزاج ، واذا ما كبروا ووجدوا القدرة على الاستقلال فلن ينقادوا لأحد بأي شكل من الأشكال .
    من المعروف أن الضغوط المتزايدة تشل سعي الطفل وحركته ، وتقتل فيه الرغبة في بلوغ الحرية التي تعتبر الدافع وراء بذله لأقصى جهوده . فقد تنجح الضغوط الكثيرة في لجمه لعدة لحظات أو أيام ، لكنها ستفتح الطريق أمامه تدريجياً نحو التحايل ، والحصول على مخرج منها ، والتوجه نحو

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 233

    الاستقلال و الإعتماد على النفس .
    وعلينا أن ندرك من جهة أخرى ان الله قد جعل من الوالدين والمربين أمناء على الطفل فلا يجوز لهم معاملته من موقع القوة المطلقة ، وانما هم مكلفون بتربية طاقاته الكامنة ، لاوضع أنفسهم وإياه في طريق مسدود من الوجهة الأخلاقية والتربوية . بل ان الحال يتطلب تركيز الجهد على خلق نوع من التآلف والمحبة بينهم وبينه وارشاده نحو الكمال ، ومثل هذا الأسلوب ألطف وأجدى نفعاً .

  • الحنان والتربية الأخلاقية

  • هناك مثل يقول : بطراوة اللسان يمكن استخراج الحية من غارها ، وبدماثة الأخلاق يتيسر ترويض الوحوش فانتم ومن خلال تعاملكم اللطيف تسطيعون الإمساك بزمام الطفل العنيد وقيادته نحو اصلاح سلوكه ، ولم يكن الحديث الوارد عن رسول الله (ص) : « انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق » إلا انطلاقا من هذه الرؤية التي تهتم بدور الرفق وحسن الخلق في البناء الأخلاقي . وأهم عبارة يمكن الإشارة اليها في هذا الصدد هي أن حنان الوالدين والمربي أفضل ضمانة لاتزان عواطف الطفل وانفعالاته ، ولصيانته من الكثير من انواع الإنحراف وردود الفعل المتشنجة .
    يتضمن التعامل العاطفي فائدة أخرى ايضاً وهي عدم تعويد الطفل على قساوة القلب ، بل يقوي في نفسه صفة التواد والتراحم ويؤدي بالطفل في ما بعد الى العيش في ظروف عاطفية سليمة . نحن نعلم طبعاً أن الاهتمام المحض بالجوانب العاطفية والشعورية المجردة للطفل قد يقتل فيه روح

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 234

    التعاون ويتسبب في دفعه الى بعض التصرفات المستهجنة . ولاشك ان الحذر من بروز مثل هذه الحالات يقتضي أيضاً الإلتفات الى أن تأثير المحبة بشكل عام أرجى من تأثير الزجر والعقوبة .

  • حدود طموحاتنا المرجوة

  • وهذه آخر مسألة نطرحها في هذا المجال ، وهي : ما هو مدى طموحاتنا المرجوة من الطفل ؟ والإجابة على هذا التسأول تتطلب تناول الموضوع من جوانب متعددة ،
    يتوقف أهمها على الاجابة على الاسئلة التالية :
    مامقدار المواضيع والمعلومات التي علمناها للطفل ؟ والى أي مدى كنا صادقين معه ؟ والى أي حد بذلنا الجهود لتطهير الأجواء التي يعيش فيها من الأوبئة ؟ وهل أننا لم نخلط بين الأغراض الشخصية والحسابات التربوية في تقديم الآراء الأخلاقية له ؟ وهل كان الدافع في معاقبتنا له أفراغ العقد الشخصية أم أستهدف تربية الطفل ؟
    وما الذي قدمناه للطفل لكي نرتجي منه الآن خيراً ؟ و ... الخ .
    وعلى كل حال فلا ننسى عدم وجوب عقد الأمل على الطفل ؛ فهو طفل ولايمتلك أية عقلية ناضجة ، ولايزال رهين عواطفه ومشاعره ، ومشدوداً الى لذاته الظاهرية . فلا نرتجي منه الإيثار ونكران الذات . وعلينا أن ننتبه الى عدم تعوده على الطباع البذيئة والدلال ، مع عدم التدقيق عليه في كل صغيرة وكبيرة .

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 235

    قد نلاحظ على الأطفال في بعض الحالات صفات سيئة كالبخل والحرص والأنانية واللاأبالية . وعلى الوالدين التعامل مع هذه الخصائص بعقل وذكاء. وينبغي عليهم ، بالإضافة الى مراعاة حريته النسبية ، أن يعلموا بأن تربية الطفل على التحمل والاخلاص والصلاح تحتاج الى فترة زمنية طويلة ، ويجب عند ذاك اغتنام الفرص المناسبة وعدم تفويتها .



    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 236




    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 237



    - 7 -

    التربية والشجاعة الاخلاقية



    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 238




    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 239


    7 ـ التربية والشجاعة الاخلاقية

  • المقدمة :

  • لو نظرنا الى الأخلاق بمنظار شامل وعميق لوجدناها تشمل كافة القواعد والآداب التي تسود السلوك والعلاقات الإنسانية وسبل الحفاظ عليها . فهي تتضمن سلوك الإنسان من ناحية ، والعادات والملكات والفضائل من ناحية اخرى .
    وبعضها يشمل الجرأة والشهامة والرشاد التي تعد من أسمى المزايا الأخلاقية .

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 240




    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 241

  • الجرأة وثمارها :

  • لقد ذكروا ان الجرأة تعاكس الخوف ، والجبن ، فقالوا : الجريء من لا ينهار ولا يتداعى لا في السراء ولافي الضراء ، ويمارس أعمالاً يعجز عنها الآخرون نتيجة خوفهم . والجريء من لا يتنازل عن موقفه عند مايثبت له بالأدلة والبراهين صواب تفكيره واعتقاده . واذا ما ثبت له خطل رأيه فهو يؤوب عنه ويتوب حتى لو لبث فيه عمرا .
    والجريء من يتحمل الصدمات والضغوط من أجل بلوغ الهدف ولا ينتابه الهلع ازاء الآلام والمشقات ، ولا تعيقه آلاف الموانع والعقبات عن السعي والمثابرة .
    وأخيراً فان الجريء هو من لا ينسى هدفه حتى وان كان غارقاً في الصعوبات والمحن ولا يتداعى امامها . ومن علائم الإنسان الجريء أنه دائم البحث عن الحقيقة ، ومتخذاً من العدالة والطهارة والصمود امام الأهواء شعاراً له .
    ان الإنسان الجريء يقاتل من اجل احياء الحق ؛ وقد يغلب ولكنه لا يتزعزع ، فهو ذلك الإنسان الذي يصمد امام سيل الإنتقادات ويستقبلها بصدر رحب .
    والجريء هو ذلك الشهيد الذي وقف مرفوع الرأس وسط الضجيج ولائمة الاعداء . واخيراً فان الجريء والشجاع هو ذلك الإنسان الذي يرى نفسه على حقيقتها بعيداً عن التفاخر والأنانية .

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 242

  • عواقب الجبن

  • لقد ذكرنا ان الجبن يتناقض مع الجرأة ، حيث تتجسد آثاره على هيئة المداهنة والتملق والإستسلام . فالجبان من يبدي للآخرين خلاف ما يعتقد ، وهو الذي يتملق لشخص ويصفه بالفضائل والخصال التي لا يؤمن هو بها . والجبان هو الذي يهز رأسه استحساناً عندما يمدح بدل أن يرفض ، ويغمره السرور عندما يوصف بالفهم ، ويبارك في داخله لمن يمتدح تقواه . وأخيراً فإن من يتكلم وفقاً لأهواء الآخرين ويتحدث ارضاء للناس لا ارضاء لله تعالى وللضمير فهو جبان ورعديد ايضاً .
    فالجبناء يخشون الحقيقة ويهربون منها لكي لا تنكشف سرائرهم وواقعهم أمام الملأ . ولا يراجعون الطبيب كي لا يعرفوا انهم مرضى .
    فالمجتمع يعج باسرى التقاليد المقيتة والأعراف الخاطئة التي تتحكم بهم ، وكثيراً ما توقعهم في قيود الاحراج ؛ فليس لديهم الجرأة والإقدام على التخلص من قيود افكارهم الطبقية والقومية ، والولوج في عالم الحرية ، وذلك لانهم يفتقدون الجرأة . وكثيراً مانراهم يرتدون من الثياب ما يرضي المجتمع ، ويأكلون ، ويشترون البيوت بالقروض او بشتى السبل الأخرى ، ولا يمتلكون الشجاعة اللازمة للخروج من حدود القيود التي فرضوها على أنفسهم .

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 243

  • أسرى الجبن :

  • ما اكثر الناس المدمنين على الخمر ، وغيره من المعاصي ، ولا يمتلكون جرأة التخلي عن أعمالهم ؛ فهم يوكلون تركها الى الغد ؛ وهؤلاء هم الأسرى . اسرى الجبن والخوف ، وفي ميدان العلم والعلماء نواجه اشخاصاً لا يمتلكون جواباً صحيحاً للأسئلة التي تطرح عليهم ، وليس لديهم الجرأة للتصريح بجهلهم بالنسبة للموضوع الذي سئلوا عنه ويقفزون على الجواب ، ويتهمون الناس بالخطأ ، ويضعون العراقيل في طريق الآخرين ، ويسخرون من غيرهم ، ليكون ذلك ستاراً لجبنهم ، ويمكن تشخيص باقي الأسرى كالمرائين والمزيفين والكذابين والمكثرين من مدح أنفسهم .

  • آلية الدفاع أمام الجبن :

  • اننا نتستر احياناً على خوفنا بالمرض ونشعر بالامتنان لحالات المرض التي تداهمنا ؛ لأن هذه الحالة تنقذنا من العذاب الذي يكمن في أعماقنا . فقد لا نملك الثياب الفاخرة التي نرتديها ونذهب الى دعوة فنحتج بالمرض . انه بلاء حقاً فنحن نبرئ أنفسنا من عدم الرغبة في حضور مثل هذه المجالس ، لاسيما الذي يعتبر منا قيمة شخصه في الزي والثياب ، نتيجة لفقدانه القيم والإعتبارات الذاتية . وقد نجهل الصلاة والفرائض وليست لدينا الجرأة على الإفصاح عن ذلك امام المضيف ؛ فنعتذر بأننا لانستطيع النوم في بيوت الآخرين ؛ قائلين : لابد ان نذهب الى بيتنا . وقد لا نهب

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 244

    لمساعدة الفقير ولا نجرؤ على ذكر ذلك امام الآخرين فنتذرع بأن مساعدة الفقير تدفعه الى التكاسل ، ولا نضيف شيئاً على أجرة العامل متذرعين بأنه يصبح مسرفاً وكسولاً .

  • فوائد الجرأة :

  • إن الخطوات الإيجابية التي شهدتها البشرية على مدى التاريخ كانت من قبل الجسورين والشجعان ؛ فاساس كل تطور علمي وحضاري هو تبلور الأفكار التي أفرزت التطورات والثورات التي تتمخض عن البطولات والتضحيات .
    فعندما يبرهن المرء على جرأته وشهامته يترسخ في ذاته مثال العظمة والجلال والقدرة والطهارة الملكوتية ، ويترك بصماته على الكون ، ويسخر الأحداث كما يريد ، ويصبغها بصبغته ، ويوجهها كما يشاء .
    فقادة الفكر والزعماء الكبار تمكنوا من خلال الجرأة التي أبدوها أن يجتازوا العراقيل والمشاكل ، وأن يخلدوا افكارهم في هذا العالم . فكم من الأفكار انتشرت في ظل جرأة الأشخاص ! وما اكثر الذين تجرعوا كأس الموت في هذا السبيل أو نالوا الشهادة . فسقراط تجرع كأس السم في الثانية والسبعين من عمره ولم ينثن كي تبقى فكرته حية . وغاليلو ، وكبرنيكوس ، ولافوازيه .. كانوا من نفس ذلك الطراز.
    اما في حقل علماء الدين ، فهنالك الكثير من اضراب هؤلاء الشهداء ؛ وكثرتهم بالقدر الذي لا يمكن ذكر اسمائهم ، فقد نزل المنشار على رأس النبي زكريا ( عليه السلام ) ووضع رأس يحيى ( عليه السلام ) المقطوع

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 245

    في طست من ذهب ، وسقط علي ( عليه السلام ) شهيدا بسيف الجهل الغاشم ، وسم الحسن ( عليه السلام ) وأنصاره .. كل ذلك من أجل أن تبقى عقائدهم وأفكارهم ، وتحيا الحقيقة خالدة .
    وهكذا فان ما لدينا في الجانب العلمي والمعارف ، والتاريخ والآداب قد جاء من خلال الجرأة .

  • اضرار الجبن :

  • وكما ان كياننا وحياتنا وتراثنا الإجتماعي جاء من خلال الجرأة فإن زوال وضياع معظم قيمنا كان في ظل الجبن . فالجبان يرى نفسه مكبلاً بقيود التبعية .. هذه القيود التي يتصور ان الخلاص منها لا يتحقق الا بالمكر والحيلة والتشبث بالتملق والثرثرة والجبان ضعيف ، يموت مرات ومرات قبل الموت ؛ فهو ميت متحرك ، ومتقنع دائماً بقناع الحيلة والرياء . وقد اعتاد على خلط الإمور على نفسه وعلى الآخرين .. يحب الانعزال ، ويفضل الانزواء ، ويميل الى خلق حواجز بينه وبين الآخرين ، لأنه غير قادر على العيش معهم .
    ان التظاهر بالفضيلة ، والازدواجية بين الفكر والعمل ، وحتى الانتحار ، وبعبارة اخرى كل انواع انعدام الجرأة التي يتصف بها البعض في ان يكونوا صادقين او احياء ما هي الا افرازات لصفة الجبن .
    فضرر الجبناء على المجتمع هو أنهم يحرفون نظام المجتمع عن مسيرته الطبيعية ؛ لانهم في هلع من كل انسان وكل شيء ... يتسابقون على طريق الظلم والعدوان . وقد يسبب الجبن لكنة في اللسان لان الجبان يخاف عندما

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 246

    يريد ان يتحدث ويصاب بالهلع ، وهذا التلكؤ يبقى لديه الى الأبد.

  • انواع الجرأة :

  • يمكن تقسيم الجرأة من الناحية الكيفية والظاهرية الى قسمين : الجرأة المادية او البدنية ، والجرأة الروحية . وانطلاقاً مما طرح في علم النفس ، فإن هذين القسمين لا ينفصلان . فاذا كان الإنسان شجاعاً من الناحية الجسمية فهو شجاع ـ الى حد ما ـ من الناحية النفسية . اما اذا كان شجاعاً من الناحية النفسية ايضاً فذلك خير وافضل.

  • ضرورة تربية صفة الجرأة :

  • قبل الدخول في البحث يجب ان نرى هل من الضروري تربية الناس على الجرأة في عصرنا هذا أم لا ؟ وهل من الصواب تربية الأطفال على الجرأة في ظل الظروف الراهنة والإمكانات المتاحة ؟ ان الجواب على هذا التساؤل سلبي من منظار البعض لأنهم يعتقدون أن هذا الأمر يهيء الأرضية لشقاء وحرمان البشر . ويسود هذا النحو من التفكير بين اتباع المذاهب المادية ، وذلك لأن مسألة الحياة الأخرى غير مطروحة لديهم ، فكل ما يفقدونه يعني عندهم خسارة خرجت من جيوبهم ؛ وشعارهم هوان استغلال مواهب الحياة المتوفرة يتطلب أكل الخبز بثمنه اليوم .
    اما الالهيون فيقولون بأنه لايمكن النيل من الحقيقة لدرء الأذى عن أنفسنا . فان اظهار الجرأة وان كان يسبب الضرر في بعض الموارد ، ولكن من مصلحة الإنسانية القبول بهذا الضرر ، لأن الحياة بجمالها وزبرجها لا

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 247

    تقارن بعار الجبن . ومن ناحية اخرى فان الحاجز الوحيد الذي يقف امام الشر والفساد والإستبداد ويقاومها هو الجرأة والشجاعة .
    فليس من الضرورة ان يكون كل شخص في هذه الدنيا بطلاً وقوياً ، ولكن من الضرورة بمكان ان يكون كل شخص شجاعاً وجريئاً .

  • ضرورة تربية صفة الجرأة على المستوى الفردي :

  • الجرأة ضرورة للإنسان في كل مجالات الحياة . فالطفل الذي يريد أن يكون أميناً وصادقاً ومخلصاً في الحياة لا بد أن يكون جريئاً . والطفل الذي يريد ان يظهر على حقيقته ويبتعد عن الرياء والكذب والمراوغة والخداع والمكر فهو بأمس الحاجة الى الجرأة . وأخيراً ، فالطفل الذي يريد ان يصون شرفه وكرامته ، وان يدافع عن نفسه يجب ان يكون جريئاً . فلا علاقة لتقدم وارتقاء الأمم وافراد المجتمع بتكامل أجسامهم وطولها ، بل بما لديهم من جرأة أخلاقية ؛ لأن اغلب حالات الشقاء والإخفاق ، والأخطاء والفساد المنتشر في المجتمع ناتجة عن ضعف الروح وهوان ارادة الأمة .
    فكثيراً ما نرى في هذه الدنيا اشخاص لديهم مشاريع وأهداف عملاقة اضافة الى الخطط الدقيقة ، الا انهم لايمتلكون الجرأة في تطبيقها .
    وعلى اية حال ؛ فان الجرأة والصلاح من أهم عوامل استقلال الإنسان . ان الذين يريدون ان يكون وقتهم ومالهم ملكاً لهم ولا يكونون ظلاً للآخرين ينبغي ان يكونوا جريئين يفكرون بأنفسهم ويطبقون ما يرونه مناسباً . فالجبان مستسلم امام الميول والأهواء ولا يستطيع الصمود امام الأحداث الطارئة ، بل سرعان ما ينهار في مواجهة الأفكار المباغتة فقد ينتقم من نفسه

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 248

    او ينتحر . وخلاصة الأمر ، فالجبان مخلوق لا قيمة له ، فهو يبيح للآخرين حرية التصرف به كما يشاءون عندما يواجهه ادنى شكل من أشكال الضغوط .

  • ومن الناحية الإجتماعية :

  • تدلل التجارب بأنه كلما ازداد الاقدام والجرأة في المجتمع ، كان المجتمع اكثر حيوية ونبوغاً ، واكثر تطوراً فالمجتمع بحاجة للجرأة كي يستطيع الصمود امام المؤثرات السلبية ، ويحول دون انتشار الشرور والمفاسد . فندرة الأخلاق السامية والفضائل والمكارم في المجتمعات ، وتسلط الاذلاء والمفسدين وقصيري النظر على الآخرين يعود سببه الى فقدان الجرأة . فما لم تكن الجرأة موجودة لا تتضح الحقوق والواجبات ، ولا يندفع الناس نحو الرقي والسمو فاصحاب الجرأة يسرون كسريان الدم والروح في مجتمعاتهم ، وهم اساس كرامة الشعب . فالمسلمون يتأسون بالإمام علي (عليه السلام ) والحسن والحسين (عليهم السلام ) ، وباقي المجتمعات تتاسى بأبطالها ايضاً .
    وباختصار، حينما تتبلور أخلاق المجتمع على اساس الجبن والخوف ، تتغلب السيئات على الحسنات ويتفشى الهوان .

  • في نظر الدين :

  • لم تتقدم الأهداف النبيلة في العالم ، ولم تترسخ الا بعد اصطدامها بالعقبات ثم مواجهتها بالثبات والصمود . فقانون الدين يفرض ان يصمد

    تربية الطفل دينيا واخلاقيا 249

    الأفراد في سبيل الدفاع عن عقائدهم التي أمنوا بها بالرغم من انهم قد يدفعون ارواحهم ثمناً لذلك ، وهذا هو تكليفهم ومسؤوليتهم .
    ان الظلم جريمة والخضوع للظلم جريمة مضاعفة . يقول القرآن الكريم « لايحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم » .(1)
    يجب ان تكون للمظلوم جرأة ، فيصرخ وينادي مجاهراً بالحق في كل مكان وامام كل ظالم . يقول النبي الأكرم ( ص ) : « أفضل الجهاد عند الله كلمة حق امام سلطان جائر » .
    فهؤلاء الذين يعجزون عن بيان الحقيقة هم ـ في الواقع ـ منحرفون عن الحق ، بينما الحقيقة لم يصدر منها أية اساءة ضدنا .

  • في نظر العلم :

  • ان انتشار العلوم والمعارف ، والتعرف على اسرار السماوات والأرض حدث في ظل جهاد وتضحيات واستقامة وشجاعة الرجال العظماء الذين كانوا اكبر من زمانهم وعصرهم . فلقد كان هؤلاء يكافحون العقبات والمشاكل الاجتماعية التي كانت تعترض طريق انتشار واتساع المعارف ، وكان هذا ضرورياً لانتشار العلوم . والعلوم بأمس الحاجة الى شجاعة العلماء الذين يجتهدون في سبيل تحقيق اهدافهم .

    (1) النساء : 128 .

    السابق السابق الفهرس التالي التالي